رواية أبناء هارون للكاتبة شروق حسن الفصل الثالث والعشرون
تشعر بأنك في متاهة ويخنقك الهواء من حَولِك، تحتبسك الجدران الضئيلة وتبدأ بالتشكُل من جديد، وكأنك قطعة من الصلصال تتكون حسب البيئة المُحيطة بها، جمادٌ ليس له القدرة على البوح أو الصراخ، ممنوعٌ من الحديث أو البكاء، وكأنك اعتدت الخذلان وبات البوح أمر غير مرغوب به.
عقب ما حدث، وبعد تعالي صوت صرخات بدور بطريقة مُخيفة أفزعت جميع مَن بالمنزل والمنازل القاطنة بجانبهم؛ اتجهوا مُسرعين إلى المشفى، ولحق بهم هارون وزوجته وجميع أبنائه، القلق والخوف مُرتسم على أوجه البعض، والتوعد يأخذ مجراه على البعض الآخر، آخر ما توقعوه هو قدومهم في منتصف الليالي لإحدى المشافي بعد أن أخبرهم أحد الجيران بما حدث، أصر عوض ومروان على الذهاب معهم، بينما تم ترك جميع النساء بالمنزل عدا حنان التي رفضت رفضًا قاطعًا أن تظل دون الإطمئنان على ابنتها.
وصلوا إلى المشفى وصعدوا إلى غرفة العناية بعدما سألوا موظف الاستقبال عنها، ليجدوا عادل ووالدته وشقيقته يقفون أمام غرفة العناية بقلق، وما إن رآه يعقوب ؛ حتى اتجه إليه مُسرعًا وأحكم قبضته على عنقه بعد أن صدم ظهره بالحائط الرخامي العريض وهمس بفحيح:
أقسم بالله العظيم أختي لو جرالها حاجة ما هيكفيني فيك عُمرك.
جحظت عيني عادل بصدمة وانحبست الأنفاس داخل رئتيه ولم يقدر على إخراجها، مما جعل الدماء تتجمع بغزارة واتضح ذلك على تقاسيم وجهه، حاولت هالة إبعاده عن ابنها وهي تصرخ به بالسباب واللعان، وحينما لم تفلح نظرت إلى هارون تستنجد به بصراخ: ابعد ابنك عن ابني يا حج هارون.
وكأن هارون في تلك اللحظة كان راضيًا عما فعله ابنه، رمقها بنظراتٍ بانت مُحتقرة قبل أن يُوجهها إلى يعقوب ويأمره بصرامة:
سيبه خلاص يا يعقوب.
وآخر ما أراده يعقوب هو تركه، لكنه خضع في النهاية لأمر والده احترامًا له وابتعد دافعًا إياه باشمئزاز وكأنه حشرة لا قيمة لها، اتجهت ريناد لمُساندة شقيقها مع والدتها ونظرت ل يعقوب بعدم رضا وهي تُصيح به باستنكار:
عادل ملهوش ذنب باللي حصلها، هو كان قاعد معانا تحت لما سمعنا صوت صريخها فجأة من فوق، ولما طلعنا بسرعة عشان نشوفها لقيناها واقعة على الأرض وسايحة في دمها.
ضربت حنان على صدرها بصدمة مُردفة بعدم تصديق: يا حبيبتي يا بنتي! عملتوا فيها إيه!
تسائلت حنان بالأخيرة ببكاء، فأجابتها هالة بغلظة وهي تُطالع الجميع بحقد دفين:
ما قالتلك معملناش فيها حاجة، ولا هو رمي جتت وخلاص.
هاجمها عمران بحديثه وهو يقترب منها على بغتة صارخًا: ما تحترمي نفسك يا ست أنتِ بدل ما أعمل حاجة مش هتعجبك.
رمقته هالة بتحدٍ رغم أوردتها التي ترتعد بداخلها:.
إيه هتضربني؟ أبوك الحج هارون علمك تمد إيدك على واحدة قد أمك.
تجعد وجه عمران باشمئزاز وأجابها بنفور: أنتِ متطوليش تكون في مقام أمي أصلًا.
جذبه حمزة للخلف وأشاح بنظره بعيدًا عنهم بعد أن رمقهم بسهامٍ حادة من عيناه، ومن ثَم همس لشقيقه:
إهدى كدا لحد ما أختك تفوق وبعد كدا هنتصرف على رواقة.
نفخ عمران بسخط ووقف بجانب والدته حتى يقوم بتهدئة جزعها ولو قليلًا، بينما بادر اتجه نحو أبيه الشاحب وجهه بخطورة وكأنه على وشك فقد أنفاسه وأردف بخوف: تعالى أقعد يا حج لحد ما الدكاترة يطمنونا عليها.
فقد قدرته للإعتراض، ولم يجد بُدًا سوى الموافقة، لذلك استند على ذراعيه بواسطة قدميه الواهيتين ثم ارتمى بثقل جسده على المقعد الموضوع أمام غرفة العناية، جالسٌ بالخارج بينما فؤاده يقبع مع فلذته النائمة بالداخل، يكاد يشعر به بأنه سيقف من شدة الخفق، طالعه مصعب بشفقة، واتجه ليجلس جانبه وربت على ذراعه بحنانٍ وهو يهمس له:
متقلقش يا بابا، أختنا قوية وهتطلع منها بإذن الله.
طالعه هارون بتمني رغم الثبات الواهي الذي يرسمه على وجهه، بينما بادر تركهم يقفون في أماكنهم واتجه نحو عادل حتى وقف بالجانب منه وهمس بشر:
إدعي ربنا أختي تطلع منها بخير، عشان لو جرالها حاجة هعجزك.
نظر إليه عادل بنفور، فيما أكمل بادر بابتسامة باردة:
عارف لو طلعت منها بخير؟ هعجزك برضه.
هز عادل رأسه نافيًا مُجيبًا إياه باستنكار:
بقولك معملتش ليها حاجة، انتوا عايزين تلبسوني أي مصيبة وخلاص؟
إما نشوف يا عادل، إما نشوف.
وبرغم من أن الأخير لم يفعل شيء، إلا أن داخله بذرة من القلق التي تنبت تدريجيًا وهو يرى نظراتهم المُشككة تجاهه، زفر بضيقٍ ثم عاد بأنظاره نحو غرفة العناية مُنتظرًا الطبيب الذي سيخرج منها ليُطمئنهم على صحتها.
عاد مروان من الأسفل حاملًا عُلبة صغيرة من العصير المُعلب، ثم ربت على كتف هارون أثناء قوله الحنون:
خُد يا عمي اشرب العصير دا عشان تقدر تُصلب طولك.
اعترض هارون في البداية، لكن تحت إصرار شقيقه عوض اضطر إلى ارتشاف بضعة قطرات منه حتى يسترد روحه الهاربة، اقتربت منه حنان وجلست جانبه بصمت والعِبرات لم تجف من مقلتيها، وبالرغم من ذلك واسته بقولها خوفًا عليه:
خير إن شاء الله يا حج، متتعبش نفسك عشان صحتك.
ضمها هارون لصدره ورفع أنظاره الراجية للأعلى وكأنه يُناجي المولى عز وجل، هو يجلس هُنا معهم بجسده، لكن فؤاده بالداخل مع ابنته الحبيبة، فلذة كبده ومعشوقته الصغيرة، ورغمًا عنه تسللت الدموع إلى عينيه فتمتم برجاء:
يارب.
وعلى الجانب الآخر، تجمعت ذكرى مع زهراء ورحمة وانضمت إليهم مؤخرًا نعيمة التي قالت:
اهدوا إن شاء الله خير.
رفعت زهراء أنظارها إلى والدتها وتمتمت بقلق:
خير إزاي بس يا ماما؟ دا محدش فيهم بيرد على تليفونه خالص، أنا خايفة بدور يكون حصلها حاجة.
ردعتها نعيمة عن قولها بجزع:.
فال الله ولا فالك يا بنتي متقوليش كدا، هما بس هتلاقيهم مشغولين مش أكتر، وبعدين كفى الله الشر لو كان حصل حاجة وحشة كان حد اتصل بينا وبلغنا.
وتلك المرة دعمت رحمة حديث والدتها وأضافت عليه بقولها المُتمني:
معاكِ حق يا ماما، ربنا يقومها لينا بالسلامة وترجع كويسة من تاني.
نظرت إليهم ذكرى واستأذنت منهم قبل أن تبتعد عنهم بعدة خطوات:
طيب أنا هقف في البلكونة وهحاول أكلم يعقوب من تاني عشان مفيش شبكة هنا.
تابعتها زهراء بعينيها وهي تبتعد، فنكزتها شقيقتها بضجر وهي تهتف:
اتلمي بقى، من ساعة ما قعدتي وأنتِ هتاكلي البت بعينك.
انزوى حاجبي زهراء أثناء مُطالعتها ل رحمة بعدم رضا، ثم هتفت وهي تعود بأنظارها إلى ذكرى التي جلست على أحد المقاعد بالمشرفة وتعبث بهاتفها:
مش عارفة أحبها يا رحمة، أو مش عارفة أحدد موقفي ناحيتها إيه بالظبط، هل هو غيرة، كُره، مش عارفة.
استغلت رحمة انشغال والدتها بعيدًا عنهما، وأمسكت بكف زهراء تضغط عليه بدعم وقالت:
لأ أنتِ مش غيرانة منها ولا بتكرهيها، أنتِ بس بتحاولي تشوفي فيها إيه أحسن منك عشان يعقوب يتجوزها هي وأنتِ لأ.
وكأنها عرتها أمام نفسها بحديثها هذا، كل كلمة تنطق بها صحيحة مئة بالمئة ولا يوجد عليها شائبة، زفرت زهراء بإنهاك وأنظارها تهبط نحو الأسفل بألم، فيما أكملت رحمة نُصحها لها قائلة:.
أقولك حاجة كمان؟ أنتِ مبتحبيش يعقوب، أنتِ بس مش قادرة تتخيلي إنه إزاي رفضك فعقلك بيصورلك إنك مش هتقدري تعيشي من غيره.
كادت زهراء أن تعترض، فقاطعتها رحمة بقولها:
وحتى يا ستي لو بتحبيه فعلًا، فأنتِ لازم تنسيه وتشوفي نفسك بقى، شوفي بدران اللي من ساعة اللي حصل ما بينكم وأنتِ عمالة تفركي وتتنططي وراه عشان يكلمك من تاني.
رمقتها زهراء بضجر ومن ثَم دفعتها بعيدًا وردفت بغيظ:.
علي فكرة أنا اللي متجاهلاه، وبعدين براحته أصلًا هو أنا هجري وراه؟
رفعت رحمة طرف شفتيها باستنكار وكأنها تقول لها أعليَّ تصديقك! ، وبعدها لوت شفتاها وتمتمت بعدم اقتناع:
لأ من الناحية دي أنا مصدقاكِ متحلفيش بس.
طالعتها زهراء بضيقٍ لكشفها أمرها، ثم تمتمت بغيظ:
طيب غوري بقى وروحي شوفي أمك بتعمل إيه.
وعلى بُعدٍ قريبٍ منهم، هاتفت ذكرى شقيقها إلياس لتُخبره بما حدث، ولم ترى معالم وجهه الجزعة والتي كساها الهلع عقب ما رمته على أذنيه، وقبل أن تُغلِق معه تحدثت برجاء:
أول ما توصل يا إلياس كلمني وطمني بالله عليك، متعملش زيهم محدش فيهم بيرد وسايبينا على أعصابنا هنا.
طيب طيب اقفلي دلوقتي ولما أوصل هكلمك.
تمتم بها بإيجاز مُسرعًا قبل أن يُغلِق الهاتف ويهب من مكانه مُتجهًا نحو خزانته لانتقاء ملابسه دون حتى أن يرى ماذا أخذ، ثم ارتداها على عجالة وهرول للخارج راكضًا مُستعينًا بدراجة جنة النارية ليصل إلى المشفى التي وصفتها له ذكرى في أسرع وقت.
رفعت ذكرى عيناها إلى السماء الحالكة ترمقها بحزنٍ جلي ظهر على تقاسيم وجهها الخمري، وأغمضتهم وظلت تدعو داخلها برجاء، وبعد فترة ليست بالقصيرة، استمعت إلى صوت أنثوي يأتي من جانبها يقول بتردد بان في نبرته:
متقلقيش أكيد هتبقى كويسة بإذن الله.
طالعت الجالسة أمامها باستغراب، فابتسمت بتوتر وهي تمد كفها إليها في نية لتحيتها:
أكيد متعرفينيش غير معرفة سطحية، أنا زهراء بنت أخو عمي هارون.
صافحتها ذكرى لكن كانت ترميها بنظراتٍ مُستغربة، فالجالسة أمامها دائمًا ما كانت تُحدجها بتعالي أحيانًا واشمئزاز أحيانًا أخرى، وتارةً تجد عيناها تشتعلان بغيرة أنثوية تعلمها جيدًا عِند رؤيتها، وقدومها لها في حد ذاته غريب، لاحظت زهراء نظراتها فحمحمت بحرج وهي تبتسم بتوتر:
أنا عارفة إني كنت سخيفة معاكِ الأيام اللي فاتت ومكُنتش ألطف حاجة، بس أُعذريني كنت مضغوطة شوية فتلاقيني مكُنتش طايقة حد وقتها.
كانت تتلاشي النظر إلى ذكرى أثناء حديثها، وكأنها شعرت بسخافتها وفداحة أمرها، فما كان على ذكرى سوى أنها ابتسمت لها بود وردت قائلة بلُطف:
ولا يهمك أنا مش زعلانة، كُلنا بيجي علينا فترة مذ بنكون طايقين فيها حد فأنا عذراكِ.
بادلتها زهراء الإبتسامة بامتنان، ومن هُنا قررت أن تُغير مجرى تفكيرها وحياتها كُليًا، قررت أن ترى المُستقبل بمنظورٍ آخر وبأعيُن أخرى، قررت أن تُعطي جَميع مَن يحبونها فرصة لتحيا!
لم يكن الطريق هو اختيارنا، ولم تكن القلوب هادئة يومًا، بل أُجبرنا أن نَعِش حاضرنا، وأُرغمنا على حياةٍ لم تكن بخاطرنا، لربما الإنجاز الوحيد الذي اكتسبته هو مُلاقاتك، رغم عُسر الطريق وأشواكه، ونفض الفؤاد وآلامه، وتَقَلُّب معيشتنا بسيانه.
وصل إلياس إلى المشفى مُسرعًا بعد أن التهم الطُرقات بإطارات الدراجة النارية، لم يتركه عقله ولو دقيقة، بل ظل يُصوِّر له أبشع ما يُمكن تصوره، صعد للأعلى بعد أن أرشده موظف الإستقبال، لينتفض فؤاده بعنف حينما اقترب منهم ورأى الطبيب الذي خرج لتوه من العناية يقول بأسف:.
بصعوبة بالغة قدرنا نوقف النزيف اللي جالها، سبب الإجهاض لحد دلوقتي مش واضح، الجنين في بطنها كان متفتت بالمعنى الحرفي وكإن حد مقطعه! ومفيش أي إعتداء خارجي على جسمها.
وقعت كلماته على أذن الجميع وكأنه صفعاتٍ مؤلمة تهبط على أجسادهم من لذوعتها، اقترب إلياس أكثر بأقدامٍ حاربت للسير حتى توقف بجانب بدير الذي ارتعش جسده للحظات، وأول مَن خرجت من صمتها هي حنان التي تحدثت بصوتٍ مكتومٍ غير مُصدق:.
وبنتي عاملة إيه دلوقتي يا دكتور؟
طالعهم الطبيب بشفقة ومن ثَم ثبَّت أنظاره على حنان وتحدث بعملية:
الأربعة وعشرين ساعة اللي جايين هُما اللي هيحددوا حالتها هتبقى عاملة إزاي، ادعولها ربنا يعديها منها على خير.
تمتم بجُملته الأخيرة وبعدها تركهم وغادر، أفكارهم تعصف بهم، وقلوبهم في حالة إستنكار شديدة، خيَّم الصمت على الجميع فترة لا بأس بها، حينئذٍ استدار لهم هارون وتحدث بصرامة لا نقاش بها:.
خُد أمك وإخواتك يا يعقوب وارجعوا على البيت، مش عايز حد هنا.
ظهر التهجم والإنكار على وجوههم، فيما تحدثت حنان باعتراضٍ ونفي مُغلف بالبكاء:
لأ يا حج أنا مش هسيب بنتي لوحدها، مش همشي من هنا غير ورجلي على رجليها.
سدد لها هارون نظرة صارمة وتحدث بحدة مُخفيًا خلفها حُزنه الشديد:
اللي قولته يتنفذ يا حنان مش هعيده تاني.
هبطت دموعها بأسى، وتعالت شهقاتها خوفًا وجزعًا على فلذة كبدها، والآن أحست بذلك الشعور المرير، حينما تمتد يد أحدهم ليجتز فؤادها من بين أضلعها بالقوة، شعرت بانسحاب روحها وتفتُت خاطرها، أحست بكلِ ما هو سيء وكل ما هو أليم.
استدار هارون يُعطيه ظهرها حتى لا يتأثر بحالتها تلك، أغمض عيناه بألمٍ يعصف بكيانه قبل أن يستمع إلى صوت يعقوب يتحدث بصوتٍ هاديء لوالدته وهو يُجبرها على السير معه:.
تعالي ياما معايا والدكتور طمنا عليها أهو، وإن شاء الله بكرة هتكون أحسن، لكن قُعادك هنا مش هينوبك منه غير وجع القلب.
ساعده عمران في إسناد والدته إلى الخارج ومعهم بدران الذي أخذ عوض ورحل معهم، بينما بدير اقترب من هارون وسأله بصوتٍ مكتومٍ به غصة مريرة:
متأكد مش عايز حد معاك يابا؟
هز أبيه رأسه نفيًا دون أن يتحدث، فتنهد بدير بأسى قبل أن تقوده قدماه نحو الخارج دون حتى أن يُحايل والده كما اعتاد! طالع حمزة شقيقه بادر بقلق ونظر في أثر بدير الراحل، فما كان عليه سوى أن يجذب ذراع بادر نحو الخارج بعد أن همس له بقلق:
تعالى معايا، أخوك شكله ناوي على مُصيبة.
وبالفعل اتجهوا معًا ليلحقوا ب بدير الذي رحل ومعالم القسوة ترتسم بوضوح على تقاسيم وجهه الصلبة، ولم يتبقى في الساحة سوى مصعب وإلياس، استدار لهما هارون وتحدث بحدة:
أنا مش قولت مش عايز حد هنا؟
أنا عايز أشوفها قبل ما أمشي.
كان رجاءً أكثر من طلبًا صعد من فاهِ إلياس الذي يُطالع الغرفة المُحتجز بها بدور بعجزٍ، الأمر أشبه بتركه لروحه تذهب هباءًا دون أدنى مُحاولة، وقبل أن تأتيه إجابة هارون أتته إجابة عادل الذي رد عليه بغِل:
عايز تشوف مين أنت اتجننت؟ وتشوفها بصفتك مين من الأساس؟
لأ راجل أوي.
ثلاث كلمات تمتم بها إلياس مُتهكمًا قبل أن تُسيطر عليه انفعالاته وموجة غضبه الجامحة، فاقترب منه على بغتة وسدد له لكمة قوية عرفت الطريق إلى فكه لتتسبب في نزيف أسنانه، تأوه عادل بعنف وجاء ليأخذ بثأره ولكمه؛ لكن وجد كف مصعب تُعيق حركة يده وصوته يصعد بفحيح قائلًا:
راجل إعمل حركة كمان وأنا هكسحك، ورب مُحمد أنا ما فيه حاجة مانعاني عنك دلوقتي غير أختي المرمية جوا دي، غير كدا أنا كنت حوَّلت حياتك لجحيم.
أنهى كلماته ودفعه بعيدًا باشمئزاز قبل أن يأخذ إلياس معه ويتجه نحو الخارج، تاركين نظرات عادل وهالة تتبعهم بحقد، فتابع وصلة تحديقهم هذه صوت هارون الذي صعد قائلًا:
خُد أمك وأختك وغور من وشي دلوقتي.
بس يا حج أن.
كان يعترض بغضب، فقاطعه صوت هارون الذي فاقه غضبًا وحقدًا:
قولت غور من وشي دلوقتي أحسنلك، أنا مش ضامن نفسي ممكن أعمل فيك إيه وأنا في حالتي دي.
استشعر عادل الخطر في نبرته، وبالفعل أخذ والدته وشقيقته ثم اتجه خارج المشفى بأكملها، فلم يتبقى سوى هارون الذي اقترب من باب الغرفة ناظرًا من زجاجها المُستدير إلى جسدِ ابنته المُوصل بالأسلاك، تسللت الدموع خِلسة إلى مقلتيه، وظلت نظراتِ الحسرة مُعلقة بها طيلة الوقت.
غضبه مُتصاعد كالجحيم، دمائه تغلي بانفعال، وكأنه ظل تحت ضغطٍ مُتواصل حتى كاد أن ينفجر، عيناه جاحظتان تعكس حدة شعوره، ويداه تَطال كل ما تطاله حتى أوشك تدمير كل شيء بالمنزل، توقف بدير عن جنونه عندما شعر بأخيه بادر يُكبِّل حركته من الخلف وهو يصرخ به في غضب:
إهدى أنت بتعمل إيه؟ اتجننت.
قاومه بدير صارخًا بانفعال وهو يتحرك كالثور الهائج بين ذراعيه:.
سيبني يا بادر، قسمًا بالله لهكسر البيت دا فوق دماغه، والله لهخليه يدوق نفس اللي هي داقته.
وتلك المرة توقف أمامه حمزة وأمسك به من تلابيبه يُعنفه بانفعال:
مش هو اللي عملها وأديك سمعت كلام الدكتور، اتنيل واصبر لحد ما أختك تشوف ونسمع منها إحنا بنفسنا و...
ولو مفاقتش!
نطق بها بدير بانهيار وهو يتلوى بين يدي شقيقه الآخر، هبطت دموعه رغمًا عنها وهو يتسائل بها، ليُزعزع ثبات حمزة عقب قوله واقترب منه وهو يقول بصوتٍ مُهتز:
هتفوق.
ابتلع بادر غصته المريرة العالقة بحلقه، وترك بدير عندما شعر بهدوئه، فيما جذب حمزة. بدير لأحضانه يُعانقه بقوة مُواسيًا إياه، وللحقيقة هو لا يعلم مَن الذي يُواسي الآخر بذلك العناق!
قاطع خلوتهم دخول هالة للمنزل، والتي ما إن رأتهم حتى لطمت على صدرها صائحة بعدم تصديق:
يالهوي! إيه اللي انتوا عملتوه دا؟ أنا هوديكم في ستين داهية.
استدار لها بدير يُطالعها عن كُثب وعيناه تُطلِق شررًا ودَّ لو يحرقها به، وذلك قبل أم يهتف بحقد:
الداهية دي اللي هتاخدك أنتِ وابنك لو أختي جرالها حاجة.
دخل عليهم عادل الذي رأى حالة الفوضى التي عمت المكان، فاعتذر منه بادر بتهكم:.
معلش بقى يا عادل يا حبيبي، أصل بعيد عنك المكان اللي يشهد هزيمة أختي لازم يتطربق فوق دماغ صحابه.
فأضاف حمزة ساخرًا:
وللأسف صحابه مكانوش موجودين، بس ملحوقة المرة الجاية.
ومن بعدها لم يعطوه أي فرصة للرد وانطلقوا تاركين المنزل، نظرت هالة للفوضى العارمة التي أحدثوها، ثم استدارت إلى ابنها وسألته بعينين تَطلقان شررًا:
أنت هتسيبهم يعملوا اللي هما عايزينه كدا؟ هتسيبهم يمشونا على هواهم.
مسد عادل على جانب فمه ثم تمتم بوعيد:
الصبر ياما الصبر، خليهم يعملوا ما بدالهم، بس ميجوش يزعلوا من ردة فعلي بقى.
تمددت حنان بإنهاكٍ على فراشها بعد أن شعرت بالدوار يجتاح رأسها، مسد يعقوب على رأسها بحنان ثم انحنى بجسده يُقبِّل جبينها بحبٍ وبعدها همس مُمازحًا إياها:
ارتاحي يا ست الكل دلوقتي عشان تصحي فايقة وتشوفي بنتك اللي قاصدة تخضنا عليها على طول دي.
ابتسمت حنان بوهنٍ، لكن رغمًا عنها تشكلت الدموع داخل مقلتيها وهي تطلب منه برجاء:
ادعي لأختك ربنا يقومها بالسلامة يا يعقوب، متنسهاش.
قبَّل رأسها مرة أخرى وهو يقول بحنين:
بدور متتنسيش ياما، بدور دي بنتي مش أختي.
طالعته بعينين ملأهما الدمع، فربت على كفها بخفة قبل أن يقول وهو يهب من مكانه جانبها:
هسيبك ترتاحي أنتِ وكل شوية هاجي أطل عليكِ وأشوف لو كنتِ عايزة حاجة.
تفوه بها ثم تركها وغادر من الغرفة بقلبٍ وجل، يشعر في تلك اللحظة بأنه يحمل على كاهله كل أعباء الحياة، الجدران تضيق به والأنفاس تكثر من حوله وأنفاسه هو تتدرج وتقل هويدًا، قابلته ذكرى فقرأت في عينيه التيهة، أمسكت بكفه كصغيرٍ يحبو واتجهت به نحو أحد الغُرف وأغلقتها خلفه، وهو سار معها كاليتيم، أجلسته على الفراش ببطئٍ وجلست هي بجانبه، وذلك قبل أن تضم رأسه إلى صدرها وتُربت على ظهره بحنانٍ وكأنها تُواسيه.
التمعت عيناه بدموعٍ حاول إخفاؤها أمام والدته وأخواته قدر المُستطاع، لكن الآن قدرته تلاشت وتبدد قناع قوته الواهية وبكى بدون صوتٍ في أحضانها، دفنت ذكرى أصابعها بين خصلاته، وبعد فترة من الصمت همست له قائلة:
هتبقى كويسة متخافش.
بدور.
همس بها بتيهة وكأنه يحث ذاته على المقاومة أكثر وألا ينهار، هو الآن موضوع على نيرانٍ صاهرة، لا يعلم أيركض لينال راحته، أم يظل ثابتًا لتقضي على الباقي من قوته؟ لكن المُتأكد منه بأن قوته قد خارت، والذي يرتديه ما هو إلا قناعٍ واهٍ يخفي خلفه شقوقًا وتصدعات عِدة.
فعادت ذكرى لتُطمئنه من جديد بقولها:
هي كويسة يا يعقوب، المهم أنت متضعفش، إخواتك متقويين بيك أنت مينفعش تتهزم بالسهولة دي.
أخرجت رأسه من أحضانها فرأت تلك الدموع المُتحجرة داخل مقلتيه، مدت أصابعها لتمسح عِبراته المُتعلقة بأهدابه، ثم أحاطت وجهه بكفيها وهي تقول بحنانٍ بالغ شعرت حِياله بأنها تُحادث طفلًا:
وبعدين مين اللي هياخد باله من متامتك؟ مش أنت! يبقى لازم تكون أقوى من كدا، وبعدين متخافش أنا هفضل معاك دايمًا ومش هسيبك، وأنا متأكدة والله العظيم إن بدور بكرة هتبقى زي الفل وهتقول ذكرى قالت.
كلماتها كانت كالمصل المُعالج لآلامه، لم يتوقع منها وقفةً كتلك معه، ظن بأنه سيعود فيجدها نامت بعد أن أنهكها التعب، لكن وجدها أول مَن تُقابله ونظراتها كانت تدور عليه بقلقٍ بالغ، أخرج زفرة حارة من بين شفتيه وكأنها كانت مكتومة لعدة سنوات، فبادر هو بالحديث بكل حنينٍ عن شقيقته:.
بدور دي كانت أول فرحة للعيلة، أنا لسه فاكر فرحتنا كلنا لما عرفنا إن أمي حامل في بنت، كان وقتها أنا عندي تسع سنين، أول حد شالها كنت أنا، كنت طفل وبعاملها كأنها بنتي، مصروفي كنت بديه ليها، ولما تمت السنتين كان عندي وقتها 11 سنة، فاكر لما فضلت شهرين أحرم نفسي من المصروف عشان أجيبلها عروسة تفرحها، كنت بشوف صحابي وإخواتي بيشتروا اللي نفسهم فيه وبمنع نفسي عن كله علشانها هي بس، شعرها أنا اللي كنت بضفره ليها، أكلها أنا اللي كنت بأكله ليها، بإيدي أنا اللي وديتها أول يوم مدرسة مع أبويا، كبرت قدام عيني سنة ورا سنة لحد ما سلمتها لعريسها بإيدي، صعب عليا بعد دا كله أشوفها في الحالة دي، صعب أشوف بنتي في المستشفى وأنا قاعد هنا عاجز مش عارف أعملها حاجة.
لم يستطيع أن يتمالك نفسه أكثر وهبطت دموعه بغزارة على بشرة وجهه الجافة التي اخترقتها العبرات، شاركته ذكرى دموعه ولم تجد ما يُقال سوى أنها احتضنته بكل قوتها، وهو أحاط بخصرها دافنًا وجهه بين ثنايا عنقه ليكتم شهقاته المُعبرة عن حزنه، أما هي؛ فلم تتخيل أن زوجها بكلِ هذا الحنان، الحب، والأُلفة، شهقت باكية بألم بعد أن شعرت بجسده ينتفض أثر البكاء، فربتت على ظهره بحبٍ وهمست له بحزنٍ دفين:.
واللهِ هتبقى كويسة، كفاية عياط.
مرت دقائق أخرى وهما على حالتهما تلك، الصمت يعم من حولهم إلا من صوت شهقاتهم الخافتة، فقرر يعقوب قطع ذلك الصمت وخرج من أحضانه مُجففًا دموع وجهه بفوضوية، وظلت هي تُتابعه بعينين كساهما الحزن، اقترب منها يلثم جبينها بهدوء قبل أن يهمس لها:
حقك عليا قرفتك معايا.
وحتى لم يجعلها ترد، بل ترك لها الغرفة واتجه نحو الشرفة ليُخفي ضعفه وآلامه التي عبَّر عن جزءٍ صغير منها، والجزء الأكبر يقبع داخل صدره يرفض البوح به، ظنها ستظل مكانها، لكنها اتبعته حتى توقفت بجانبه، نظر إليها بصمتٍ لثوانٍ حتى تسائل بيأس:
عايزة إيه يا ذكرى دلوقتي؟
قررت مشاكسته قليلًا لتُنسيه همه، فضربت كتفها بخاصته قبل أن تقول بعبث:
حِبني.
استطاعت سرقة ابتسامة صغيرة منه بالفعل، فوجدته يقول بعدها بكلماتٍ ذكرتها بها سابقًا:
طب ما تحبيني أنتِ الأول!
زوت ما بين حاجبيها حتى قالت:
طب ما أنا بحبك.
رفع حاجبيه مُنتظرًا بقية حديثها، حتى أكملت بالفعل قائلة بضحك:
زي أمي.
ضحك بخفة فتسائلت هي بغيظ أثناء مُطالعتها له بضيق:
بتضايق صح!
أجابها نفيًا بمكر:
لأ مش بتضايق، أنتِ عايزاني أحبك بجد ولا إيه؟
صُدمت من حديثه الذي أتى فجأة وعلى بغتة، ابتلعت ريقها بصعوبة وتلعثمت وارتبك كيانها، فتعالت ضحكاته وهو يدفعها نحو الداخل بيده:
ادخلي يا ذكرى، ادخلي نامي الله يكرمك.
وبالفعل لم تُكذِّب خبرًا، وإنما هرولت إلى الداخل وتدثرت أسفل الفراش لتُخفي نظراتها المُرتبكة عنه، هز يعقوب رأسه بيأسٍ وعاد لينظر إلى السماء مُجددًا، ثم أخرج تنهيدة حارة أتت من أعمق نقطة في فؤاده، ليستمع إلى حديثها المُغتاظ من الداخل وهي تتحدث بضجر:
لو سمعتك بتنفخ تاني هقوم أقعد معاك وهقرفك في عيشتك، أنا قولتلك أهو.
لوى شفتاه باستنكار وهمس لذاته ساخطًا:.
حتى النفخ منعتوه عننا؟ دا حسبي الله ونعم الوكيل في الظالم بقى.
وقفت زهراء أمام بدران بعد أن أتى من الخارج ثم تسائلت بعينين قلقتين:
بدور عاملة إيه دلوقتي يا بدران؟
تنهد باختناق قبل أن يُجيبها بجهل:
مش عارف، الدكتور قال هنطمن عليها بعد 24 ساعة.
طالعته بحزنٍ وازداد حينما راقبت معالمه المُتشنجة من التعب والإنهاك، لذلك زوت ما بين حاجبيها بحذر وهي تسأله:
طيب أنت كويس؟
كان مُتحاشيًا النظر إليها يُحاول بقدر الإمكان تجاهلها، حتى باغتته بسؤالها فثبَّت أنظاره على عينيها التي تُطالعانه بقلق، لأول مرة يرى قلقها هذا، لأول مرة يشعر باهتمامها له، لكن لسوء حظه أتت مُعاملتها تلك في الوقت الغير مُناسب، فهرب بنظراته منها وتحدث بلامبالاة:
الحمد لله.
كسى الحزن محياها، وودت لو تعتذر له الآن ألف مرة عن ما تسببت به من ألمٍ له، لكنها أجلته لوقتٍ لاحق وتحدثت بنبرة غلبها الرجاء:.
طيب لما تحتاج حاجة قولي وأنا هعملهالك، أنت باين عليك تعبان و.
قاطعها بهدوءٍ وأد الأمل داخلها:
تسلمي يا بنت عمي، أمي ومرات أخويا موجودين لما أعوذ حاجة هطلبها منهم، عن إذنك.
تمتم بحديثه ثم غادر وتركها مُتجهًا نحو غرفته وأغلقها خلفه، تابعت أثره بأعيُن نادمة حزينة، وكان هذا آخر شيء رآه بدران منها قبل أن يُغلق باب غرفته بسرعة ويهرب من سطوتها عليه.
جفى النوم الجفون، ورفع الليل ستار ظُلمته ليحل محله نور الصباح، ومع بزوغ أول شعاع من النور اتجه الجميع إلى المشفى للاطمئنان على بدور، وهُم الآن واقفون أمام الطبيب الذي أخبرهم بابتسامة عملية:
ال 24 ساعة لسه معدوش، بس عامةً هي مؤشراتها كلها سليمة وبنسبة كبيرة ممكن تفوق النهاردة بالليل أو بكرة الصبح.
شقت الابتسامة أوجه الجميع واستطاع الطبيب الاستماع إلى صوت تنهيدتهم المُعبقة بالراحة، احتضن يعقوب والده الذي شعر بأن الحيوية تعود لوجهه من جديد، بينما عمران منع والدته بصعوبة من إطلاق الزغاريد المُهللة في المشفى، طالعهم الطبيب بضحكة طفيفة قبل أن يردف بجدية:.
بس طبعًا وجودكم كلكم هنا مش هينفع، مسموح بواحد اللي يفضل هنا في المستشفى عشان منزعجش باقي المرضى، ولو مش عايزين تسيبوها ممكن تتفضلوا تقعدوا تحت في كافتيريا المستشفى عشان الدوشة بس.
لم يكف لسان حنان عن الدعاء له، وبالفعل هبط الجميع إلى الأسفل وجلسوا على طاولة كبيرة ضمتهم جميعًا، اتجهت ذكرى التي أصرت على القدوم إلى هنا وجلست بجانب هارون وتحدثت بحسم:.
اسمع إما أقولك بقى يا حج! غيابك عن البيت مش هيتكرر تاني إحنا معندناش رجالة تبات برا بيوتها، واتفضل كُل الأكل اللي أنا عملتهولك عشان صحتك كدا أومال.
طالعها الجميع بضحك، فيما هتفت حنان مُستنكرة بغيظ:
هي مين دي اللي عملت الأكل؟ أومال مين اللي كانت واقفة في المطبخ طول الليل تجهز فيه؟
ردت عليه ذكرى بضجر:
ما أنا اللي فرغته وحطيته في الأطباق!
تعالت ضحكات هارون عاليًا على مشاكسة كُلًا من حنان وذكرى، فالتقط منهم علبة الطعام وتحدث مُرضيًا الطرفين:
خلاص تسلم إيديكم انتوا الاتنين، بس أنا مش جعان دلوقتي.
وقبل أن تعترض إحداهما، تحدث عمران بالنفي:
لأ يا حج مفيش الكلام دا، إحنا سمعنا كلامك إمبارح يبقى أنت كمان تسمع كلامنا وتاكل علشان صحتك.
ومع إصرارهم تناول عدة لُقيمات بالفعل وهُم يتبادلون أطراف الحديث، بعد أن غزت الراحة أفئدتهم واطمئنوا قليلًا على صحة بدور التي تتحسن تدريجيًا.
كان الجميع غافلًا عن ما يحدث بالأعلى، وذلك حينما تسلل إلياس من المرضى ودلف إلى غرفتها خِلسة للاطمئنان عليها، نظر خلفه بحذر قبل أن يُغلِق باب العناية خلفه، ومن ثَم اتجه نحو فراشها ليجد جسدها الهزيل مُوصل بالأسلاك، وأنبوب الأكسجين يخترق أنفها وفمها، جذب مقعدًا خشبيًا كان موضوعًا على الجانب، ثم جلس عليه مُتحدثًا بابتسامة صغيرة وهو ينظر لتقاسيمها:
بتختبري غلاوتك عندنا ولا إيه يا ست حلويات؟
تحكمت به غصته وشعر برغبة عارمة في البكاء وهو يراها مُتسطحة هكذا دون حول لها ولا قوة، دلَّك عيناه من الدموع ثم تحكم بذاته وهو يستطرد حديثه قائلًا بابتسامة جريحة:
مكونتش عارف إنك غالية عندي أوي كدا، فكرت إنه مجرد إعجاب ومع الوقت ممكن يروح لحاله، بس الحقيقة اللي مش هقدر أنكرها إني حبيتك.
دمعة قررت الخروج عن النص والهبوط على وجنته، تسيل وتتدلل ببطيء وكأنها تتلذذ بترك وصمتها على خده، فأزاحها وهو يُضيف:.
حبيتك وأنتِ متدشدشة ومتنيلة على عينك والدنيا بتلطش فيكِ يمين وشمال.
ابتسم بخفة وأخرج صوتًا ضاحكًا من بين شفتيه وهو يتخيل ردة فعلها إن استمعت لِمَ يقوله، بالطبع ستُحدثه بطريقة سوقية ووقحة كما اعتاد منها، هبَّ من مكانه عندما قضى وقتًا لا بأس به يتطلع إليها بحنينٍ واشتياق، قبل أن يُقرر الرحيل قبل رؤية أحدهم له.
لن تكف المصائب في مُلاحقتك مهما هربت، ستشعر بأنك تدور في حلقاتٍ أبدية لا نهاية لها، وإن نجوت منها؛ فلن تنجو من الأخرى، فالحياة كما الحُفرات، تخرج من واحدة لتُحشر في الأخرى حتى تُعلِن هزيمتك وترفع رايتك البيضاء مُبديًا استسلامك.
استأذنت منهم ذكرى في الذهاب لجلب زجاجة من المياة، ورفضت ذهاب يعقوب معها لرؤية التعب واضحًا على محياه، مُتعللة بأنها ستأتي بسرعة ولن تتأخر، حملت حقيبتها واتجهت نحو الخارج، وسارت لمدة خمس دقائق تقريبًا حتى وصلت إلى سوبر ماركت كبير مُتخصص في بيع الأغذية المُعلبة وزجاجات المياه المعدنية، تناولت ما تناولته من احتياجات ودفعت ثمنهم، ثم غادرت المحل على عجالة.
كانت مُنشغلة في النظر إلى محتويات الحقيبة، حينما صرخت بفزع بعد أن شعرت بأحدهم يجذبها لأحد الجوانب ويُكمم فاهها ليمنع خروج أي صرخة منها، جحظت عيناها بهلع، وارتعشت أطرافها عندما وجدت فادي يقف أمامها بابتسامته المقيتة ويتحدث بصوتٍ غلبه الغِل:
دا أنتِ طلعتي مقضياها وعايشة حياتك بجد بقى!
سرت البرودة في جسدها، وحاولت دفعه وإبعاد لمساته المُصيبة للإشمئزاز عنها، لكن مُحاولاتها الضعيفة لم تنفع معها، وابتعد هو بإرادته تاركًا مسافة لا تُذكر بينهما، احتدت عيناها بحقدٍ وسألته بحدة وهي تدفعه بعيدًا عنها:
عايز مني إيه يا فادي؟ مش كفاية لحد كدا؟ عايز مني إيه تاني؟
حاول استعاطفها بقوله الراجي:
عايزك يا ذكرى، عايزك ترجعي ليا من تاني ونعيش مع بعض.
احتلت شفتيها ابتسامة قاسية وهي تُردد بعدم تصديق:.
نعيش مع بعض؟ أنت صدقت نفسك يالا ولا إيه؟ هي تكية أبوك وأنا معرفش؟
وقاحة جديدة كُليًا تعلمتها مؤخرًا من جلستها مع يعقوب وأخواته، تتحدث بنفس طريقتهم تقريبًا وهذا ما أدهشها، وأدهش الماثل أمامها والذي تسائل بتشنج:
أنتِ بقيتي بتتكلمي كدا ليه؟ هو أنتِ قاعدة مع شوية عيال صايعة وأنا معرفش.
أجابته بنبرة مُهينة وهي تُطالعه باشمئزاز:
شوية العيال دول أرجل منك.
نفذ صبره، وتفاقم غضبه، وأضحى لا يُسيطر على انفعالاته واتضح ذلك حينما اقترب منها مُمسكًا بها من خصلاتها أسفل حجاب راسها، ثم شدد من الضغط عليه تحت تأوهها وهمس بفحيح مُتوعدًا:
أنا مش هحاسبك على كلامك دا دلوقتي، بس أنتِ بالذات ليكِ روقة معايا، أنا مش جايلك عشان كدا، جاي أقولك إني عايز أقابلك بكرة في نفس المكان اللي كنا بنتقابل فيه.
حاولت استجماع قوتها الهاربة وأجابته برفض:.
مش هاجي، مش هاجي يا فادي وأعلى ما في خيلك اركبه.
ارتسمت ابتسامة جانبية على جانب فمه وتحدث قائلًا:
لأ هتيجي يا ذكرى، هتيجي بدل ما أنا اللي هجيلك ووقتها هكشف كل المستور وهفضحك قدام العيلة كلها.
استطاع وبمهارة ذئب دنيء أن يُزعزع ثباتها، اهتزت نظراتها بخوفٍ تزامنًا مع إرتسام ابتسامة ظافرة على ثغره وهو يبتعد عنها، ومن ثَم أضاف برضا:.
أيوا كدا، عايزك مُطيعة وعسولة كدا على طول علشان مزعلش منك، سلام يا زوزو، نتقابل بكرة بقى في المكان اللي اتفقنا عليه.
تفوه بكلماته وأعطاها ظهره ثم رحل، تاركًا إياها تنظر لأثره بقهرٍ ودموعها تهبط بأسى على قدرها الذي يضعها دائمًا في مواقف عادةً ما تكون فوق مستوى تحمُلها، وببكاءٍ عنيفٍ تمتمت:
بكرهك.
لم يكن الابتعاد هو اختياري، بل كان إجبارًا بعد عناء، وعينًا جفت من البكاء، وليالٍ قضيتُها في أسى، ودارًا هجرتُها بعد ذُلٍ وأسى.
وقفت تسنيم في المطبخ الخاص بمنزل هارون تُساعد نعيمة على تحضير الطعام للرجال القادمين ليلًا، طالعتها نعيمة بضحك لِمَ تفعل من بلاهة وتحدثت مُمازحة:
أنتِ كدا هتجيبلهم تلبُك معوي.
نظرت تسنيم لقطع اللحم المُتبل بين يديها وتسائلت بحيرة:
هو أنا عملت حاجة غلط؟
أشارت نعيمة لِمَا تُمسكه بيدها وأردفت بضحك:
أنتِ ماسكة بهارات المحشي وهتحطيها على اللحمة؟ كدا اسمه عَك، روحي أنتِ واقعدي جنب روان واعملي معاها السلطة أحسن.
استدارت تسنيم لترى ما تفعله الأخرى، ثم عادت بنظراتها نحو نعيمة وتشدقت بضجر:
روان بتعوم في طبق السلطة وفعصت الطماطم، أنا عايزة أعمل حاجة تانية.
نفخت نعيمة بغيظ وهي تقوم بلف ورق الملفوف وتحدثت ضاجرة:.
خلاص روحي اعملي العصير، بس أنتِ عارفة لو بوظتيه هعمل فيكِ إيه!
نطقت بجُملتها الأخيرة بتهديدٍ صريح، فأسرعت تسنيم نحو البراد لتلتقط منه ثمرات المانجو وقالت بحماس:
لأ متخافيش أنا بعرف أعمل العصير كويس أوي.
تنهدت نعيمة بارتياح لتخلصها من واحدة، وما كادت أن تُريح رأسها من الثرثرة، حتى وجدت روان تأتي ناحيتها حاملة لطبق السلطة الذي حضرته وسألتها بابتسامة واسعة:
إحساسك إيه وأنتِ بني آدمة يا طنط؟
لوت نعيمة شفتيها بضجرٍ وهي تُجيبها:
إحساس هباب يا ضنايا، وريني أنت عملتي إيه!
وضعت أمامها ما صنعت، فصُدمت نعيمة مما رأت وتحدثت بذهول:
دي الفراخ بنقطعلها السلطة أحسن من كدا، إيه اللي أنتِ مهبباه دا؟
إيه مش عاجبك؟
تسائلت بها روان بريبة، فتأففت نعيمة بسخط وهي تلتقط منها الطبق وقالت:.
لأ عاجبني طبعًا، بقولك إيه! روحي إلعبي مع رحمة وياسمين وسيبيني في حالي، أو اقعدي في البلكونة مع زهراء وسارة ومي، وحِلوا من على نفوخي بقى.
تركتها روان مُسرعًا واتجهت بالفعل لتلعب مع رحمة وياسمين، وأخذت دور ياسمين عندما أتاها اتصالًا هاتفيًا من رقم غير معلوم، وبسبب سوء الأشارة؛ اضطرت إلى الابتعاد قليلًا حتى تقف في مكانٍ مُناسب، وياليتها ما أجابت، فبمجرد أن فتحت المُكالمة، حتى أتاها صوت حسن الذي حدَّثها بوعيد:
مفكرة إنك خلاص خلصتي مني؟ تبقي بتحلمي يا ياسمين، نهايتك قربت، قربت أوي.
سقط الهاتف منها وجحظت عيناه بهلعٍ شديد، نظرت إلى بأعيُن غير مُصدقة وجسدٍ يرتعش من الصدمة، يبدو أن النهاية قد اقتربت حقًا، اقتربت للغاية!
حل الليل وبالفعل أتى الجميع إلى المنزل بعد أن استفاقت بدور عصيرة اليوم، الأمر كان مُذهلًا حتى للطبيب الذي أشرف على حالتها، فلقد توقع استيقاظها في صباح اليوم التالي، لكنها فاجئته عندما استيقظت على بغتة دون وجود أدنى مؤشرات حتى!
أصرت على الخروج والذهاب إلى منزل والدها والمكوث به حتى تتعافى، في البداية اعترض عادل على اقتراحها هذا، لكنها سددت له نظرة نارية أخرسته على الفور، نظرة شعر من خلالها بأنه عارٍ أمامها وكُل خطاياه تظهر داخل مقلتاها، لا يعلم ما الذي أصابه لكنه خاف منها حقًا!
وصلت بدور إلى المنزل فاستقبلها الجميع بحفاوة شديدة، وقابلت كل هذا ببرودٍ جديد عليها كُليًا! نظر إليها أبيها باستغرابٍ شديد وبدأ القلق يتسلل لفؤاده تجاهها، لكنه طرد كل تلك السلبيات من داخله مُتعللًا بأن حالتها تلك بسبب إنهاكها لا أكثر، تمددت على الفراش بمساعدة بادر ومصعب، بينما بدران أتى حاملًا لصينية الطعام لأجلها، وجلس يعقوب بجانبها لإطعامها بنفسه.
تركوهم الجميع وخرجوا هُم ليرتاحوا قليلًا، فتجمع الرجال على طاولة الطعام أولًا، واحتلت الجلسة الكثير والكثير من الأحاديث، وبعد أن انتهوا، خرجوا إلى الشرفة ليجلسوا بها حتى تنتهي النساء من تناول الطعام كذلك، نصف ساعة مرت وسط مشاكسة وضحك ومُداعبة بين الجميع، السعادة قد غمرتهم لعودة بدور لهم من جديد، عدا ياسمين التي كانت شاردة أغلب الوقت تقريبًا.
وفي تلك الأثناء، دخل مروان على الرجال بوجهٍ مُتهجم غاضب، مما جعل عوض يسأله باندهاش:
مالك يابني فيك إيه؟
ليرد عليه مروان بوجوم:
أنا و عبير فركشنا الخطوبة.
وبالداخل. جلس يعقوب أمام بدور وبدأ في إطعامها وهو يتحدث بمزاح:
بقى أنتِ يا غلطة تعملي فينا كل دا؟
ابتسمت بدور بخفة، ومن ثَم تسائلت:
خوفت عليا؟
أجابه بجدية وهو يهز رأسه بالنفي:
لأ طبعًا.
رمقته باستنكارٍ جَلي، حتى ضحك هو ووضع الطعام جانبًا وضمها لصدره:.
لو مش هخاف عليكِ هخاف على مين؟ أنا معنديش أغلى منك أخاف عليه.
راقت لها إجابته كثيرًا، لكنها تسائلت بآخر أثار انتباهه:
طب بتحبني أنا أكتر ولا ذكرى؟
ضيَّق ما بين حاجبيه بتعجب على سؤالها الغريب هذا، فجاوبها بصراحة:
بحبكم انتوا الاتنين زي بعض، أنتِ أختي وهي مراتي.
فصدمته بسؤالها الذي تفوهت به حينما قالت بإصرار:
يعني لو قولتلك تطلق ذكرى علشاني هتطلقها؟
هبط الجميع لقضاء صلاة العشاء، انقضت مُدة عشرون دقيقة تقريبًا، حتى انتهوا، وعلم إمام الجامع بما حدث مع بدور لذلك أصرَّ على زيارتها والصعود مع هارون للأعلى ليقضي واجبه.
بينما يعقوب كان في وادٍ آخر، حديث شقيقته شغل حيزًا كبيرًا من تفكيره، حتى بعد أن أردفت مُمازحة:
أنت صدقت ولا إيه؟ دا أنا كنت بهزر.
قرر أن يُفاتح أبيه في الأمر بوقتٍ لاحق، لكن الآن عليه التوجه إلى المنزل لشيءٍ هام للغاية.
في تلك الأثناء، كانت روان عائدة إلى المنزل الذي يجمعها مع الفتيات، فتسلل مصعب من بين الجمع ونادى عليها حتى انتبهت له، توقفت، وكعادتها حينما تراه تتسع ابتسامتها لا إراديًا وتسائلت بحماس:
إزيك يا مصعب باشا عامل إيه؟
رد عليها مُبتسمًا:
الحمد لله بخير...
وما كاد أن يُكمل بقية حديثه، حتى قاطعته بسؤالها المُتحمس:
إيه رأيك في السلطة؟ أنا اللي عاملاه.
أجابها بصراحة مُطلقة:
بصراحة كانت تسد النِفس.
تجعد جبينها باستنكار وهي تسأله بضجر:
والله؟ يعني أنت شايف كدا؟
نفى برأسه مُجيبًا إياها بعبث:
لأ. أنا مش شايف غيرك.
وانتهت المُشاجرة عِند هذا الحد،!
وعلى الجانب الآخر. دخل الشيخ إمام المنزل مع هارون، شعرت بدور بوجوده، فانتبهت حواسها لِمَ يدور حولها، واتسعت حدقتاها رُعبًا، وبرغم التعب الكامن في جسدها؛ إلا أنها انتفضت من على الفِراش تحت صدمة والدتها وجسدها مُتأهب لأي صِراع سيدور بعد قليل، فُتِح الباب وظهر من خلفه هارون الذي ذُهِلَ من حالة ابنته، فاقترب خطوتان للداخل وخلفه دخل الشيخ إمام الذي يُتابع كل ما يصدر منها بأعيُن ثاقبة قارئة، مما جعل جس.
د بدور يرتعد أكثر والعرق الغزير يتصبب من جبينها وهي تصرخ بهم باهتياج:
اخرجوا برا، سيبوني في حالي، اخرجوا.
أتى جميع أخواتها مُهرولين على صوت الصراخ، فيما نظر هارون لزوجته بفزع وتسائل بعدم تصديق:
بدور مالها يا حنان؟
هزت حنان رأسها بجهٍل وصدمتها لم تقل أو تخفت، بل ازدادت عندما رد الشيخ إمام بدلًا منها، بحديث صنَّم جميع الواقفون بالغرفة:
بدور عليها جِن عاشق ولازم يطلع في أسرع وقت.