قصص و روايات - قصص رومانسية :

رواية أبناء هارون للكاتبة شروق حسن الفصل الرابع والعشرون

رواية أبناء هارون للكاتبة شروق حسن الفصل الرابع والعشرون

رواية أبناء هارون للكاتبة شروق حسن الفصل الرابع والعشرون

ماذا إن تحول صدى حُلمك الجميل إلى هسيسٍ مُرعب وظلال مُدورة وقصيرة؟ ماذا إن تعالت صوت الصرخات من حَولك ولا يوجد سواك مَن يسمعها؟ أمرٌ مُميز أليس كذلك؟ لا. ففي تلك الأثناء يتحول التميُز إلى نقمة، أنتَ لستَ مُميزًا بالطريقة التي تتوقعها أنت، بل بالطريقة التي اختارونها هُم.

هُنا. الجميع يشعرون بالعجز، خاصةً عندما تتعالى صرخات بدور داخل غرفتها بطريقة مُخيفة بثت في قلوب البعض الرُعب، صوتها كان غليظًا وطريقتها هجومية صارخة، وقف هارون أمام يعقوب وأمره بصرامة:
خُد الكل وطلعهم على فوق وانزلي عشان عايزك.
وإلى هذا الحد لم يحتمل حمزة الذي صرخ بدون وعي نتج عن خوفه على شقيقته: هو إيه اللي نطلع فوق يا بابا؟ أنا مش ماشي من هنا غير ما أتطمن على أختي.

ضرب هارون بكفه على الباب الخشبي بكل قوته وهو يصرخ به: قولت كله هيطلع فوق ومش عايز نَفَس.
وبعنادٍ ممزوج بالغضب هتف حمزة: وأنا قولتلك مش هطلع من غير أختي.
لحظة أخرى وكان هارون سيفقد زمام تحكمه ويدفع بعلاقته هو وابنه إلى الهاوية، لولا تَدخُل عمران الذي أمسك بذراع حمزة تحت صياحه الغاضب الذي لم يُمهله أي اهتمام: سيب إيدي يا عمران بدل ما أتغابي عليك، بقولك سيبني.

هتف بجُملته الأخيرة بصراخٍ جعل عمران يقف فجأة ويُسدد له لكمة قوية عرفت الطريق إلى وجهه، حينئذٍ صمت الآخر وطالعه بعينين يتصاعد منهما الشرر، وتفاقم غضبه عندما جذبه عمران للخارج، وحينما ابتعدا عن الجميع، أمسكه من تلابيب ثيابه يهزه بعنفٍ وهو يهمس بهسيسٍ غاضب:
أنت شايف إن أبوك متحمل عنادك وتخلفك دا؟

ولم يكد حمزة أن يُجيبه، حتى قاطعه عمران مرة أخرى وهو يدفع به من صدره ويؤنبه بحديثه الذي يهبط فوق جسده كالسياط لتدرعه عن عناده: أبوك تكة وهيجراله حاجة، أديك شايفه مش قادر يتلم على أعصابه وخوفه باين عليه، بس الأستاذ بهيم مبيفهمش.

مسح حمزة على وجهه بعنفٍ وقد أدرك معنى حديث شقيقه الآن، لكن الخوف الكامن داخله على شقيقته لا يزيد إلا من ارتعابه عليها، خرج بقية إخوته من المنزل، فجذب بادر ذراع حمزة وتحدث بوجوم: تعالى اطلع ومش عايز أسمع صوتك تاني.

وبالفعل صعد معه دون أن ينبث بكلمة واحدة، وخلفه صعد البقية الواجمون عدا يعقوب، والذي عاد أدراجه حيث أببه ووالدته المُنهارة في أحضانه، وهو يُحاول بشتى الطُرق تهدئتها، ولكن كيف؟ وقد رأت ما يصعب على بشرٍ رؤيته، ابنتها تُهاجم الجميع لكن بروحٍ غير خاصتها، جسدها موجود لكن روحها تائهة، شاردة في ملكوتها، تتحدث ولا تتحدث، موجودة وليست موجودة، الشيء ونقيده كانت تلك هي بدور في هذه الأثناء.

نظر يعقوب لأبيه بثباتٍ في محاولة منه للتحلي بالصبر والإيمان، ثم تمتم بخفوتٍ: أعمل إيه دلوقتي يا حج.
ذهب هارون ليُجلِس حنان على الأريكة بعيدًا عنهم قليلًا، ومن ثَم عاد إلى يعقوب، وقبل أن يتحدث، أخرج من بين جوفه تنهيدة حارة حملت كل معاني الأسى والألم، وبعدها رفع أنظاره الجريحة إلى ابنه وقال: الشيخ إمام طلب مني قبل ما يدخل إنه عايز حد يناديله راجل كدا عايش في ()، عايزك تروح وتجبهولي في أسرع وقت.

مين الراجل دا يا بابا؟
تسائل بها يعقوب قلقًا، فهز هارون كتفه جهلًا وهو يُردد بقلة حيلة: معرفش والله يا يعقوب. معرفش. مقدمناش حل دلوقتي غير إننا نعمل اللي بيقولنا عليه، وأنا عارف إنه كان شغال في الحاجات دي زمان بس بطلها.

رأى يعقوب في عين أبيه عجزًا شدد من القبضة التي تُحيط بفؤاده أكثر، فلم يجد ردًا سوى أنه رفع كفه وربت على كتفه بحنانٍ قبل أن يقول: حاضر يا حج متشيلش هَم، أنا هروح دلوقتي ومش هرجع إلا بيه.

أنهى جُملته قبل أن يميل على جبين والده ويلثمها بحب، وبعدها اتجه نحو الخارج قاصدًا الوِجهة التي أخبره به أبيه، ولم يذهب عن عقله صوت صرخات شقيقته ونُطقها لاسمه بعد أن استعادت القليل من وعيها، حينما هتفت بصوتٍ مبحوحٍ وصراخٍ نحر الباقي من روحه: يا بابا تعالى خُدني من هنا، يا يعقوب.
أغمض عيناه بقوةٍ يُحاول طرد كل تلك الأصوات من عقله، قبل أن يُكمِل طريقه بسرعة شديدة وكأنه يلتهم الأسفلت من تحته!

لم يُزيد الناس هَمي إلا هَمًا، ودموع عيني لم تجف إلا يومًا، وفؤادي يبكي صراعًا وحُزنًا، وجسدي يهفو لجسدكَ ضمةً.
اليوم قرر مروان عدم تركها، يشعر بغرابتها معه منذ فترة كبيرة، يشعر بابتعادها الغير معهود عليه، يفتقدها؟ بالتأكيد، اشتاقها؟ لربما، أيُحبها؟ حائر، لكن لن يتركها اليوم حتى يعلم ما حلَّ بها.

نفخت رحمة بضيقٍ بعد أن قاطع طريق سيرها نحو قاعة مُحاضرتها بعد أن ملَّ من مُناداتها واللحاق بها، وكيف ستجرؤ على النظر إلى وجهه بعد أن رأته في وضعٍ كهذا مع أخرى؟ كيف ستُداوي نزف جُرح فؤادها المُولع به حبًا؟ كيف ستمحو تلك الذكرى البشعة التي علقت بذهنها؟ والأدهى من ذلك. كيف ستُجبر روحها المُشبثة به على تركهه؟ وحينما لم تجد إجابة صريحة على أسئلتها، نطق لسانها بفظاظة ليُخفي انكسار روحها وهي تستدير له بعنف:.

عايز إيه يا مروان؟
لم يأبى بصراخها أو بالمكان الذي يقفان به، ولا حتى بالتجمهر القليل من الطلبة الذين أحاطوا بهم عندما صرخ به بدوره: أنا عايز أفهم مالك بقالك كام يوم متغيرة ليه؟
مزاجي. براحتي. أهو كيفي كدا. مالك أنت بقى؟

جميعها إجابات مُستفزة لم تُزيد إلا من حدة عينه، عينه التي عهدتها حنونة، مرحة، الآن تراهما أكثر عُنفًا وقسوة مما كانت عليه من قبل، ود فؤادها لو يصرخ به، لكن عقلها وأد تلك الفكرة وشجعها على فعلتها وتعنيفها له علَّه يشعر، ذلك الحقير المُتبلد لم يشعر بنبضاتها التي ترقص في صرح وجوده، يراها كشقيقته فقط. إذن فلتُريه ماذا ستفعل شقيقته بعد به.

تأوهت بخفة عندما شعرت بقبضته تُمسِك بعضدها بعنفٍ ومن ثَم سحبها خلفه ليبتعد عن الجميع، بينما هي ضربته على ذراعه وهي تصرخ به حتى يتركها، وحينما يأست هتفت به بغضب: واللهِ يا مروان لو مسبتنش إيدي حالًا لهقول لبابا وهو يتصرف معاك، إيه الوقاحة وقلة الأدب دي؟

وصل بها إلى مكانٍ فارغ نسبيًا من الطلبة، وهُنا سيُريها الوقاحة على حق، فدفعها إلى الحائط ليصطدم ظهرها به بعنفٍ أوجعها، بينما هو اقترب مُحاصرًا جسدها بين ذراعيه المستندة على الحائط دون أن يلمسها، ثم همس بشر بان واضحًا في نبرته: حالًا ودلوقتي تقوليلي مالك وإيه اللي مغيرك من ناحيتي بدل ما أقسم بالله أدشدش دماغك في الحيطة.
وأنا إيه اللي هيغيرني من ناحيتك؟ أنا مشغولة ومش فاضيالك، عندي حاجات أهم منك.

كانت تُحاول إقناعه بعبارتها البلهاء تلك عندما لاحظت إقترابهما الخطير، ليس خطيرًا كمسافة، وإنما خطيرًا على فؤادٍ تعلَّق بوغدٍ حقيرٍ لا يشعر؛ فتفتت.
بينما هو ارتسمت ابتسامة ساخرة على جانب فمه تَشي باستنكاره وعدم تصديقه، قبل أن يضيف بقوله: والله؟ يعني هو فيه فعلًا الأهم مني؟

مُخادع يعرف الطريق إلى مضمار قلبها، يعلم بأنه نقطة البداية وخط الإنتهاء، فيلعب على أوتار فؤادها بعزفه الخاص والذي يتأكد بأنه يُبعثرها. كما هو مُبعثر الآن! شعر بها بعد أن انزاحت عنه الغمامة وترك خطيبته السابقة، ليراها أجمل من مئات المرات التي رآها فيها من قبل! دمعت عيناها بأسى وهي تُبعد جسده عنها حين تسائلت بصوتٍ مُتهدج باكٍ:
عايز إيه مني تاني؟

نبرتها أثرت به، فلانت ملامحه وابتعد بإرادته وعاد ليسألها برقة: عايز أعرف ليه بتبعدي؟ أنا عارف إنك بتحبيني وأنا كنت مغفل ومش واخد بالي، ليه لما حاولت أقربلك تبعدي أنتِ؟ ليه؟

حاولت أخذ أنفاسها المسلوبة، مَن يراها يظن بأنها ركضت آلاف الأميال وأُرهقت، لكن ما أُرهِقَ بحق هو فؤادها، حاربت وقاومت ودافعت بكل ما تحمله من قوة كي تنساه، حتى بعد أن فسخ خِطبته من صديقتها التي هاتفتها بعد شِجارها العنيف معه ورمت على أذنها كلماتٍ سامة كانت فحواها بأنها السبب في خراب علاقتهم، ودون أن تعي هبطت دمعة حارقة على صفحة وجهها لتصنع خط رفيع من مآساتها، وفي اللحظة التي تلتها كانت تُجيبه بصوتٍ فارغ يخلو من مشاعرها:.

عشان تِعبت، تِعبت من كُتر ما حاولت معاك وأنت كنت جاهل، مشاعري خِلصت من عياطي كل ليلة، قلبي كان بيصرخ وأنا شايفاك مبسوط مع واحدة غيري، كنت بتتجاهلني بالأسابيع طول ما أنت معاها، مكونتش بتكلمني غير لما بتتخانقوا، وكإنك واخدني استبن وقت ما تزهق من الأولى تروح للتانية، كنت غبية وبشيل همك وبزوَّد همي وفي الآخر بقول مش مشكلة، طالما بترتاح يبقى مش مهم أنا، بس أنا في الآخر بني آدمة وبحس، مبقتش قادرة أستحمل أي وجع تاني، ومش هقدر أستحمل إنك عايزني معاك عشان تملي فراغ عبير، مش علشان عايزني أنا، عِرفت ليه ببعد يا مروان؟

حديثها مسَّ جزءًا كبيرًا من فؤاده، فطالعها بنظراتٍ حملت إشفاقه وعتابه معًا، لم تفهم لما يناظرها بعتاب، هل له الحق في ذلك من الأساس؟ لكنها قطعت حبل أفكارها حينما وجدته يهمس بصوتٍ حنون:.

أنا مكنتش واخدك استبن يا رحمة، أنتِ عارفة إنك غالية عندي، وغالية أوي كمان، يمكن في الفترة الأخيرة أكون قصرت معاكِ فعلًا بس غلاوتك زي ما هي متغيرتش، يمكن تكون بقيتي غالية كمان، أنا مجيتش وراكِ عشان أتخانق معاكِ، أنا جيت عشان متضايق من بُعدك عني، يمكن موصلتش لدرجة الحب ومش هكدب عليكِ، لكن كمان مش هقدر أبعد عنك يا رحمة.

حديثه كان نابع من بين جنبات صدره، من النقطة الأعمق والأعمق من فؤاده، استشعرت صِدق كلماته فعادت لتتسائل بصوتٍ حزين:
أنا مبقتش عارفة أنا عايزة إيه، وأخرة اللي إحنا فيه دا إيه يا مروان؟
أخرته خطوبة وجواز وعيال وصويت في أوضة العمليات إن شاء الله.

باغتها بإجابتها التي أدهشته قبلها، كتمت أنفاسها وهي تُطالعه بعينين غير مُصدقتين ووجهٍ شاحب، فيما تجاهل هو ردة فعلها البلهاء تلك وتحدث برجاء: إديني أنتِ فرصة بس وخليكِ جنبي ومتبعديش، أنا حاسس إن أنا مبقاش ليا حد غيرك.

رفعت كفها لتُدلك وجهها بإنهاك بعد أن قررت أن تنحي خجلها جانبًا، فتحدثت مُعاتبة: أنت اللي بتبعد نفسك عن كل اللي حواليك، ولاد عمك ببحبوك وأنت كمان بتحبهم، ورغم كدا بتكون معاهم في أضيق الحدود، ممكن أعرف ليه؟
هز رأسه بحيرة وهو يُجيبها: مش عارف.
زوت ما بين حاجبيها بعدم فهم، فوجدته يرسم على محياه ابتسامة صغيرة وهو يقول: أوعدك إني هحاول أقرَّب منهم تاني، المهم أنتِ تديني فرصة تانية بس، عشان خاطري!

عاد اليأس يتملك من روحها فرفعت أنظارها العاتبة له تُطالعه بقوة رغم الضعف الذي يجتاحها، ثم تحدثت بإصرار: ماشي يا مروان، بس صدقني لو حسيت في يوم إنك عايزني معاك عشان تقدر تنسى عبير هتكون خسرتني للأبد.

لم يُبالِ بتهديدها، وإنما اتسعت ابتسامته حماسةً عقب أن استمع لموافقتها، وكانت ردة فعله غريبة بعض الشيء، بل غريبة كُليًا! وذلك عندما دفعها بيده بعيدًا واتجه عائدًا من حيث أتى قبل أن يقول بضحكة سعيدة: غوري يا بت من هنا جتك القرف.

جحظت عيناها بصدمة من وقاحته وهي تُطالع أثره الراحل بذهول، منذ قليل كاد أن يُقبِّل يدها برجاء حتى تُسامحه، والآن! يدفعها كحشرة ولا يُبالي بها ولا بردة فعلها حتى! أمعتوهٌ هذا أم ماذا؟
مرت ساعتان، من ظاهرهما تظن بأنه لم يحدث فيهما شيء، لكن من باطنهما! حدث فيهما الكثير والكثير.

يعقوب الآن يقف مع والده أمام باب الغرفة بعد أن أتى بالرَجُل الذي ذهب ليأتي به، وهو الآن يجلس مع بدور ومعهم الشيخ أمام، و حنان صعدت مُرغمة مع ذكرى بالأعلى بعد أن أمرها هارون بذلك، أعصابهم مُتشنجة والخوف يملء جميع الصدور رغمًا عن أنوفهم، صوت القرآن الكريم يصدح بصوتٍ خفيضٍ للغاية في كل زاوية من زوايا المنزل، وصوت بدور يصعد بين كل آنٍ والآخر، أحيانًا صراخ، وأحيانًا أخرى سبابٍ لاذع، وصوتها يتغير بين كل ثانية والأخرى، وكأن هُناك مَن هو يتحكم بها!

انفتح الباب وخرج من خلفه الشيخ إمام ومعالم الأسى مُرتسمة على وجهه بوضوح، اتجه إليه كُلًا من هارون ويعقوب مُسرعين، فتسائل هارون بلهفة: ها يا شيخ إمام، إيه اللي حصل؟
أنا والشيخ مرزوق حاولنا بكل طاقتنا نطلعه، عرفنا إنها اتصابت بالمَس بسبب عَمل قوي اتعمل ليها من حد قريب أوي منها والجن عشقها ورفض يطلع من جسمها.

كان وقع كلماته على أُذن الاثنين كوقع الماء على الحديد المُنصهر فيُصلبه بتشنج! وأول مَن خرج من صدمته هو يعقوب الذي تسائل بارتياب: و. وأنت عِرفت دا كله منين؟ إيه اللي أنت بتقوله دا؟
كان حديثه غير مُرتبًا وتائهًا بغض الشيء، الصدمة لم تكن هينة عليه بالمرة، ليرد عليه الآخر بهدوء وهو يوزع أنظاره بينهما: مش أنا اللي بقول، دا اللي عليها هو بيقول.

شعر هارون بالدوار يعصف برأسه، لكنه تحامل على ذاته وهو يتسائل بنظراتٍ زائغة: طب والعمل يا شيخ إمام؟ إيه الحل دلوقتي؟

اقترب منه الشيخ إمام خطوتين قبل أن يُربت على ذراعه برفقٍ وهو يُجيبه باطمئنان: متقلقش يا حج هارون، الشيخ مرزوق سِره باتع وراجل مبروك وأكدلي إنه مش هيمشي النهاردة غير لما يطلع اللي عليها، المسألة بس شوية وقت ومحتاجة صبر وإيمان بالله، والرُقية الشرعية لازم متتقطعش من البيت لحد ما بدور تتعالج نهائي عشان ما تنتكسش تاني.

أومأ له هارون بمعالم وجه شاردة حزينة وتفكيره يذهب لتلك القابعة خلف الباب تُواجه مصيرها، وهو هُنا يقف عاجز لا يستطيع مُساعدتها، الأمر خارج إرادته تلك المرة، بل خارج إرادة الجميع، خرج بعدها الشيخ مرزوق يظهر على معالم وجهه الإنهاك، وكأنه كان يُحارب وحشًا ما بالداخل، لكن بالفعل هو كان يُحارب وحشًا، أو بمعنى أصح. جنًا!

ابتسم لهم مرزوق بخفة عندما لاحظ توترهم وقلقهم البالغ، ليقول بما أدهشهم: كل حاجة تمام يا حج هارون وبنتك بقت زي الفل.

طالع يعقوب أبيه بفرحة عارمة وسعادة احتلت كيانه باكتساح، ليعود مرزوق ويقول إليهم بتحذير: الموضوع ماكنش سهل، والكوابيس مش هتسيبها في حالها، بس دا كله هيتحل بالقرآن وبالرقية الشرعية، أهم حاجة الأذكار متتقطعش من البيت، إحنا مش ضامنين المَس دا ممكن يرجعلها تاني ولا لأ، والعمل اللي معمولها معمول بخراب الحال والمرض، وهي اللي شافته صعب ومش هيمر بالساهل.

أومأ له كليهما براحة رغم الغبطة التي أصابتهما، لكن يكفي بأن ابنتهم الآن أصبحت بخير، أوصل يعقوب كُلًا من الشيخ إمام ومرزوق إلى الخارج بعد أن شكرهم بحرارة خالصة نبعت من فؤاده، ثم عاد إلى الداخل فلم يجد أبيه يقف في مكانه، فرجَّح بأنه دخل إلى غرفة شقيقته للإطمئنان عليها.

سار عدة خطوات أخرى حتى وقف على أعتاب غرفة شقيقته، يُتابع بتأثر عناق أبيه القوي ل بدور التي لم تدَّخر قوة للثبات، وإنما انفجرت باكية داخل أحضان أبيها الذي أحاط بها بكل قوته وكأنه كان على وشك خسارتها! لقد عاش دقائق وساعات ثقيلة على فؤاده المُتعلق بصغيرته، تواصل لا مرئي بين الأب وابنته جعله يشعر بما شعرت به في اللحظات المُسبقة، لم يبخل عليها بعناقٍ يبثها فيه بعشقه الكبير لصغيرته، صغيرته التي مهما بلغ عمرها كِبرًا ستظل طفلة.

اقترب يعقوب أكثر وعلى ثغره ترتسم ابتسامة صغيرة على شفتيه، ساعاتٌ قليلة مرت على الجميع وكأنها دهرًا من صعوبتها، وحينما اقترب جلس بجانب أبيه وتحدث بصوتٍ حاول فيه إخفاء تلك الغصة المُتحشرجة في صوته:
إديني فرصتي يا بابا أحضنها طيب، هتاكلها كلها لوحدك؟

ابتعد هارون عن أحضان ابنته وكفكف عبراته التي سرت على وجنتيه رغمًا عنه، ثم وقف من مجلسه وتحدث بصوتٍ سعيد: هطلع أنا أنادي لأمك وإخواتك عشان كانوا هيموتوا من القلق.
أومأ له كليهما ومن ثَم رحل مُتوكئًا على عصاه الغليظة، تاركًا بدور تنظر ل يعقوب بعتابٍ خفي وشهقاتها لم تُمحى أو تخفت: أنا ناديت عليك كتير وأنت مردتش.

وفي الثانية التي تلتها كانت تستقر بين ذراعيه يضمها بكل قوتها، هو ذلك التائه الذي شعر بالغُربة في حضرتها، هو ذلك اليتيم الذي فقدَ الأمان في وجودها، هو ذلك الكبير الباكي الذي حُرَم منها في معيشتها، وهو ذلك المكلوم الذي بحث عن الدواء في صرختها! كلها مشاعر مُترادفة أحس بها حينما استمع لصوت نجدتها به ولم يستطع حتى أن يُعانقها لطمئنتها.

تمسكت في ثيابه بكل قوتها واستكملت بكاؤها العنيف، لقد شعرت بأنها تدور في متاهة مُحاطة بالنيران المُلتهبة، كان حينها المكان مُظلمًا، حالكًا، ومُخيفًا، صرخت حتى جُرِحَت حنجرتها بسكين تالمٍ شعرت به ينحر عنقها، وحينما ظنت بأنها النهاية، استمعت إلى صوت أبيها وأخيها يخترق هذا الظلام، حينها جازفت، وحاولت، وصرخت، وبكت، حتى بدأ الظلام يقل تدريجيًا من حولها.
حقك عليا يا نور عيني، أنا آسف والله، آسف.

أخرجها من أحضانه وأحاط بوجهها يُقبل كل إنشٍ بوجهها بلهفة صافية، ثم ضمها لصدره مُجددًا وكأنه يُؤكد لفؤاده قائلًا بوهم ها قد عادت إلينا روحنا من جديد، أغمض عيناه تزامنًا مع زفرته المُرتاحة، خاصةً عندما صمتت بعد شعورها بتلك العاصفة من الراحة التي اجتاحتها من أخيها، ابتسمت بوهنٍ وهمست ل يعقوب بحب:
أنا بقيت كويسة يا حبيبي.

فأتاها همسه يعتذر بألمٍ وهو يضمها إليه أكثر: يعز عليا تعبك والله يا بدور، يعز عليا تعبك يا حبيبة قلب أخوكِ.
عادت عيناها لتدمع مُجددًا، لكن ليس خوفًا أو ألمًا، وإنما حُبًا يزداد فيضانه داخل شلال وجدانها جهة أخيها الحنون، فأتت تهمس له بمشاكسة ظهرت واضحة رغم وهنها: يعني خلاص مبقتش غلطة؟

أخرجها من أحضانه لينظر إلى وجهها الشاحب لثوانٍ بصمتٍ ودون حديث، ثم استند بظهره على الفراش ومن ثَم جذبها لتستند برأسها على صدره بارتياح وعاد ليتحدث بعاطفة أسعدتها:.

في اليوم اللي أنتِ اتولدتي فيه أنا الفرحة وقتها مكانتش سايعاني، حسيتك حِتة من روحي، مكُنتيش بتغيبي عن عيني لحظة، ولما كبرتي واتجوزتي وبعدتي عني أنا حسيت وكإن روحي هي اللي بعدت مش أنتِ، عايزك تعرفي إنك أغلى حد على قلبي، وإن العالم دا في كفة وأنتِ لوحدك في كفة تانية، وكفتك هي اللي هتطب.

كان يشعر بدموعها الساخنة تهبط على قميصه الخفيف، فانحنى برأسه قليلًا ليُقبل خصلانها المُجعدة الناعمة، ثم همس بصوته الحنون: طول ما أنا عايش على وش الدنيا أنا مش عايزك تخافي، عايزك تعرفي إن فيه ضهر هيسندك قبل ما تقعي، وعين دايمًا عليكِ، وروح هتفضل محاوطاكِ في كل مكان.
أنا بحبك أوي يا يعقوب.

همست بها بتأثر وهي تُشدد من ضمه أكثر، فانفرجت شفتاه قليلًا في نية لإجابتها، لكن ما قاطعه هو انفتاح الباب على بغتة ودخول حمزة بعدها مُهرولًا وعيناه تصرخان لهفةً لرؤية شقيقته، اعتدل يعقوب في مضجعه ومعه بدور وهو يُصبح بنزق:
مش فيه حاجة اسمها باب يا بغل أنت؟ مخبطتش عليه ليه؟

تجاهل حمزة حديث أخيه وهرول راكضًا جهة بدور يلتقطها بين أحضانه مُسرعًا، ابتسمت بدور بحب وهي تُشدد من عناقه هي الأخرى، لكن سرت رعشة غريبة في جسدها وشعور بالنفور والإشمئزاز بدا يُداهمها، لكن ثوانٍ وانمحى مُجددًا، يبدو أن تأثير ما حدث مازال موجودًا، تنهدت بحرارة وهي تضم ذاتها له أكثر علَّها تشعر بالأمان الذي افتقدته لساعاتٍ أحست فيهم بالجحيم، حتى أنها لم تستمع إلى الحديث الذي دار بين شقيقيها أتبعه رحيل يعقوب لرؤية ما يُريده منه أبيه.

أخرج حمزة شقيقته من أحضانه ثم أجلسها على الفراش وجلس أمامها، وعلى بغتة مال على كفيها يُقبل باطنهما بحنانٍ شديد، أتبعه حديثه المُعاتب بقسوة: بتشوفي غلاوتك عندنا يعني يا غلطة؟
ولكم أثرت تلك الفِعلة بفؤادها، أن يميل لتقبيل يدها وكأنها أميرة أوشك على فقدها، أو قطعة ماسية غالية كادت أن تنكسر، فأدمعت عيناها قبل أن تهمس باعتذار: أنا أسفة.

أعادها لأحضانه مُجددًا، وتلك المرة تنفس براحة بعد أن رآها أمامه بكامل صحتها، لقد خشى فقد جوهرته الثمينة، لا يعلم كيف مرت تلك اللحظات العصيبة عليه، أحس بالجنون يتخلله وهو يستمع لصراخها ورجائها لإنقاذها، ربت على ظهره بحنان ثم تسائلت بتعجب:
أومال فين باقي إخواتك؟
ضحك بخفة مُجيبًا إياها بمشاكسة: أبوكِ حابسهم فوق.
وبالأعلى.

تحدث عمران بسخطٍ أثناء مُطالعته لأبيه بعدم رضا: يا بابا أنا أكبر من حمزة إيه الظلم دا؟ المفروض أنا اللي أنزل بعد يعقوب على طول.
زفر هارون بسخط من إصرارهم على الهبوط لشقيقتهم دُفعةً واحدة، وازداد أكثر عندما تشدق بدران بحنق: إحنا عايزين ننزل نطمن على أختنا يا حج، فيها إيه لما ننزل كلنا مرة واحدة؟

كان هارون يقف أمامهم مكان باب الخروج الغير موجود من على سَطح المنزل، فضرب بعصاه على الأرض بعنفٍ وهو يصرخ بهم: تنزلوا مرة واحدة؟ دي لو مامتتش من الجن هتموت من الخنقة بتاعتكم، ابعد يالا أنت وهو ورا، هتنزلوا بالدور واللي هيقعد مؤدب هو اللي هينزل الأول.
تأفف الجميع بسخط فتحدث بدير باحترامٍ جديد عليه: شايف يا بابا أنا قاعد محترم إزاي؟

رفع له هارون حاجبيه بتشنج وهو يُصيح به: والله بجد؟ أومال خناقك أنت والبغل التاني دا يبقى اسمه إيه؟
نظر مصعب لأبيه بطرف عينيه وهو يُربع ساعديه أمام صدره بحنق، ثم ردد ناقمًا: الله يسامحك يا حج.
ليُجيبه هارون مُتهكمًا: هيسامحني ياخويا، هو حد يبقى عنده البلاوي دي وربنا ما يسامحهوش؟

وبالطابق الأسفل. وبعد مرور ساعتين. صعدت ذكرى بإنهاكٍ بعد أن اطمئنت على بدور، الساعة كانت الواحدة صباحًا بعد منتصف الليل، تركت يعقوب بالأسفل للإطمئنان على أحوال الجميع، اتجهت نحو الشُرفة التي تدس لروحها الأمان بمحتوياتها الكلاسيكية الهادئة، ثم جلست على المقعد بإنهاكٍ وعلقت أبصارها نحو السماء.

ارتسمت ابتسامة خاطفة على ثُغرها وهي ترى السماء الكحيلة تحتضن القمر المُنير بحيوية، وكأنها تحتويه فيبثها القمر بشعاعٍ من النور لتُضيء ظُلمتها، هكذا هي حالتها مع يعقوب تمامًا، هو كالقمر. حقيقة ومجازًا، لا يبخل بإحتوائها، طمئنتها، أمانها، حُبها بدون مُقابل، وعِند الخاطر الأخير، اتسعت ابتسامتها أكثر بحرارة، هو حتى في أصعب حالاته اليوم لم يتركها أو يتجاهلها، وإنما ظل يُهاتفها من الحين والآخر حتى يطمئن على صحتها، في وَسط بعثرة أحواله، وضعها على المُقدمة.

قاطع خلوتها قدوم يعقوب من خلفها مبتسمًا، وكأن ابتسامتها عدوى وانتقلت إليه فجأةً، جاورها على المقعد المجاور وتحدث بعبثٍ رغم التعب المُغلف لصوته: بتفكري فيا صح؟
صح.

لم تُراوغ، ولم تعبأ بأي شيء آخر، شعرت ببرودة فؤادها عندما اتسعت ابتسامته المُنهكة أكثر، فهبت من مكانها وأمسكت بكفه لتسير إلى الداخل دون أن تنبث بكلمةٍ واحدة، وهو ولغرابتها لم يتحدث ليستفسر، فنظرت إليه أثناء سيرها وتحدثت تُشاكسه: مش خايف إني أخطفك؟
أجابها مُبتسمًا: ما أنتِ ياما خطفتيني.

معاني جُملته كثيرة ومُربكة، فاكتفت بالابتسام حتى وصلا إلى غرفة نومهما، تربعت على الفراش واستندت بظهرها للخلف، ثم أشارت إلى قدمها وتحدثت برفق: شكلك تعبان، تعالى فضفض وبعد كدا نام.

وكم كان يحتاج إلى هذا كثيرًا! لم ينتظر لثانية أخرى، وإنما أسرع بالتمدد على الفراش ووضع رأسه على قدمها أثناء إغماضه لعينيه بإنهاك، ومن ثَم أمسك بكفها ووضعه بتلقائية على خصلاته لتبدأ بالتدليك في فروة رأسه برقة، واليد الأخرى وضعتها على صدره تُربت موضع فؤاده، فأمسك هو بها ثم لثمها بحب قبل أن يهمس بمشاعر مُتأججة:
حقك عليا عارف إنك تعبتي النهاردة.

كان يقصد بذلك حَملها لمسؤولية المنزل وحدها طيلة اليوم، فعاتبته بقولها: والله عيب اللي أنت بتقوله دا، وبعدين رضوى أختي جَت وساعدتني يعني متعبتش خالص.
كان يُحارب لجعل عيناه مفتوحة، لكن حديثها اخترق فؤاده دون استئذانه، فقررت تركه يرتاح وتسائلت بحذر وهي تُربت على خصلاته: عايز حاجة قبل ما تنام؟
حِبيني.

همس بها قبل أن يغيب وعيه كُليًا ويلتقطه النوم بعد يومٍ أنهك كل فؤاده، طالعت ذكرى تقاسيم وجهه بحنان، تتشرب ملامح وجهه وكأنها الأكثر روعة في هذا العالم، ثم مالت على خده تلثمه بعمقٍ وهي تهمس باعترافٍ لم يسمعه:
حَبيتك.
وفي المنزل المُجاور، قلبت رضوى عيناها بملل وهي تستمع إلى تعنيف حمزة القوي لها عبر الهاتف، وذلك بعد أن رآها تقف مع عمير بعد أن قاطع طريقها، فقاطعته بقولها الحانق:.

يا حمزة بقولك هو اللي وقفني، أنت غاوي نكد وخناق وخلاص.
وعلى الجهة المُقابلة. ضرب حمزة على الحائط بقوة أدت إلى تحطم يده لكنه لم يُبالي، وإنما استكمل صُراخه بغضب: أنا اللي غاوي خناق ونكد؟ يا فرحتي عايزاني أعمل إيه وأنا شايفك واقفة بتتكلمي معاه في الشارع بعد نص الليل ولوحدكم؟ ما بلاش دي، مش خايفة يصورك وأنتِ معاه ويفضحك زي ما عمل مع أختك؟ ما بلاش دي كمان، مخوفتيش يتهجم عليكِ وأنتِ لوحدك؟

حسنًا هو معه كامل الحق في تلك النقطة، لكنه لا يُريد أن يفهمها، لذلك لجأت إلى الهدوء وسايرته برقة قائلة: يا حمزة أنت فعلًا معاك حق وأنا غلطانة، بس أرجوك افهمني، والله العظيم أنا كنت هتخانق معاه وهشتمه لولا إنك جيت، دا أنا مكملتش معاه نص دقيقة بس، حتى معرفتش هو وقفني ليه ولا كان عايز مني إيه؟

وأمام رقتها تلك، لم يجد ردًا سوى زفرة قوية حارة أعربت عن ضيقه الشديد وغيرته، ولأول مرة يُجرب ذلك الشعور اللعين المُسمى بالغيرة، حينما اشتعل فؤاده غضبًا وتأججت نيرانه حينما لمحها تقف مع عُمير، ورغم أن ملامح وجهها حينئذٍ كانت واجمة ومتأهبة للهجوم؛ إلا أنه شعر بالضيق يتخلله.
عادت مرة أخرى تتحدث عندما طال صمته: متزعلش بقى. أنا عارفة إنك زعلان بس أنا مش قصدي أزعلك.
خلاص يا رضوى محصلش حاجة.

تمتم بها بوجوم، لتُصر عليه بقولها الذي أضحكه: لأ طالما قولت يا رضوى يبقى لسه زعلان مني، قولي يا شمامة.
تبدلت ملامحه في غضون ثوانٍ وضحك بخفة وهو يقول بحنانٍ لم يخفى على نبرته: تصبحي على خير يا شمامة.
اتسعت ابتسامتها وردت عليه ضاحكة بحب: وأنت من أهلي يا حشَّاش يا خمورجي.

وعقب قولها أغلقت الهاتف مُسرعة بخجل وعلى ثُغرها ترتسم ابتسامة واسعة مُشبعة بالحب الخالص من أجله، غافلة عن نظرات جنة المُتشنجة، والتي كانت تُتابع حديثهما من البداية، لتُمصمص على شفتيها بحسرة وهي تقول بنبرة خافتة: يا ميلة بختي في الرجالة، دا الراجل بقاله يومين ما تفش في وشي حتى!

نظرت إليها رضوى بزهوٍ قبل أن ترتمي بجانبها على الفراش بتنهيدة سعيدة، لتتحدث مع شقيقتها بصوتٍ خفيض وكأنها تُحدث نفسها: أنا شكلي هغير رأيي من ناحية الرجالة ولا إيه؟
طالعتها جنة بابتسامة هادئة ثم تمتمت قائلة برزانة: إديله فرصة يا رضوى وخليه يتقدملك، حمزة باين عليه بيحبك وأنتِ اللي بتصديه دايمًا، اركني خوفك على جنب وخوضي التجربة من غير قلق، مش كل الرجالة زي بابا.

تحشرج صوتها في الجُملة الأخيرة وشرود عيناها يرتكز في نقطة ما فارغة، تنغض جبين رضوى بضيقٍ وأسى في آنٍ واحد، ثم همست بنبرة غلبتها الحسرة: كان نفسي أفتخر إني عندي أب كويس، كان نفسي مَكُنش خايفة.
ربنا هيعوضنا إن شاء الله.

همست بها جنة بخفوت قبل أن تميل على جانبها لتنام، وقبل أن تُغمض عيناها، استشعرت اهتزاز هاتفها أسفل وسادتها، التقطته وقرأت الرسالة النصية التي أتت على تطبيق واتساب الشهير، قبل أن تتسع ابتسامتها تدريجيًا وعيناها تنتقل بين الحروف المُرسلة من حارسها المغوار:
يومان. وسيُحزَر أقوى هدف في التاريخ؛ سَيُزيَّن خاتمي بُنصرك وتظلي في عُهدتي إلى الأبد.

امتلأ قلبها من صخب دقاته، وارتكزت عيناها على جُملته الأخيرة التي أججت في صدرها الكثير: ستكونين جَنة عُمران وحور عينه.
في اليوم التالي.

تثائب يعقوب بكسلٍ فاردًا ذراعيه في الهواء، شعر بأن رأسه تستند على شيء ليَّن، فرفعها ليجد ذكرى التي نامت على حالتها تلك، ابتسم بحنو وهو يعتدل من مضجعه ثم استند على مرفقه ومدد جسدها كاملًا على الفراش، ظل ينظر لمحياها بهيامٍ بالغ، تلك المرأة فعلت بقلبه الأفاعيل، وصمت حياته بزهورٍ يانعة مُبهرة، أضفت حماسها ولمستها الخاصة، زينت ساعاته ودقائقه، هي امرأة جمعت النُضج والحيوية في آنٍ واحد.

ابتسم بمشاكسة هابطًا بوجهه يُداعب وجهها بأنفه، فتململت بانزعاجٍ وهي تفتح عيناها بكسل، وأول ما رأت هو وجهه البشوش المبتسم، وبدون وعيٍ قالت: إيه الحلاوة دي.
قبَّل وجنتها بقوة ضاحكًا وهو يقول: مفيش أحلى منك يا حِلو.

ابتسمت بحبٍ بالغ وتلك المرة قررت المُجازفة وتمعن النظر لوجهه عن قرب، وهو شارك في تأملها، كلاهما يُطالع الآخر وكأن كل منهم قطعة أثرية لم يروا لمثيلتها من قبل، ك اكتشافٌ عظيم عُثر عليه، ماسة نادرة يصعب وجودها، كلاهما اكتشف الآخر!

ارتفعت يد ذكرى لتسير على ذقنه النابتة، لقد أضفت فوق وسامته وسامة إضافية، وخصلات شعر الناعمة التي استطالت قليلًا، ناهيك عن عينيه العسليتين، وآه من عسليتيه التي تُشبه القهوة في مزاجها، جمالها، ودفئها! أمسك بكفها ليُقبل باطنه برقة استشعرت بها كل أحاسيسه دون حاجته للحديث، ثم هبط يلثم وجنتها بحنانٍ أشد عدة مرات، مشاعره هي التي تسوقه الآن، هو الآن معمي عن أي شيء، ولو انجرفت خلف تيار مشاعرها؛ ستكتب بيدها النهاية لعلاقتهما!

لذلك نادته بصوتٍ خافت علَّه يبتعد لكنه كان مجذوبًا لها كالمغناطيس، لذلك لم تجد بُدًا سوى دفعه، وبالفعل شعر بها فابتعد، حمحم وهو يسب ذاته داخله على بلاهته، فتمتم بهدوء أثناء محاولته لتحاشي النظر لها: يلا قومي عشان هننزل نفطر تحت النهاردة.

قالها ثم أسرع يخرج من الغرفة لدخول المرحاض حتى يؤدي فريضته، بينما هي تنفست بعنفٍ وهي تتبع أثره، وجوده يُبعثرها وهذا غير جيد بتاتًا، لذلك همست لذاتها بتعنيفٍ وهي تهب من مكانها: ااهدي يا ذكرى كدا وبطلي هبل.
انقضى منتصف النهار. ودخل بادر غرفة أبيه فوجده مُنهمكًا في مراجعة بعض الحسابات الخاصة بالعمل، ليستأذن باحترام قبل أن يدلف: فاضي يا حج ولا أجيلك وقت تاني؟

رفع إليه هارون رأسه، وقال تزامنًا مع خلعه للنظارة الطبية التي كان يرتديها: تعالى يا بادر ادخل.
تقدم منه بادر حتى وصل إليه وجلس على المقعد المُجاور له، وظل صامتًا!
ابتسم هارون بخفة وأنظاره مُثبتة على بادر وكأنه يُحاول سبر أغواره، وبعدها تحدث بدهاءٍ أنهاه بتساؤل: طالما سكتت يبقى الموضوع يخص الأستاذة سارة مش كدا؟

رفع بادر أنظاره إليه بسرعة مُطالعًا إياه بدهشة جلية ظهرت على تقاسيمه، ليضحك هارون بانطلاق قائلًا من بين ضحكاته وهو يُربت على قدم ابنه بخفة: لو مِفكر إني كبرت وخرفت ومش فاهم دماغي ولادي تبقى غلطان.
تمكَّن الخجل منه وأخفض رأسه للأسفل مُتمتمًا بخفوت: العفو يا حج مش قصدي، أنا بس.
قاطع حديثه بتردد، فحثه هارون على الإكمال بقوله: ها بس إيه؟

زفر بادر على مهلٍ ثم عاد ليقول: طالبين الأستاذة سارة في القِسم عشان باقي الإجراءات والقضية اللي رفعتها على جوز أمها، وأنا بصراحة مش عارف أروح معاها ولا لأ، حاسس إن هغرز نفسي في الغلط لو مشيت ورا شيطاني، وأنا مش حِمل ذنب أنا مش قده.
وكأن الحل الوحيد هو الذي نطق به هارون عندما قال على بغتة: أجوزهالك؟
كتم بادر أنفاسه وطالع أبيه ببلاهة لعدة لحظات، قبل أن يُردد بعدم تصديق: إيه؟

ضحك هارون بخفة وتحدث بسخرية: يابني أنا بقولك هجوزهالك على سُنة الله ورسوله، مش همشيك معاها في الحرام!
حك بادر مؤخرة عنقه بارتباكٍ جَلي ووجنتاه تحولتا إلى اللون الأحمر كعادته عندما يخجل، فتحدث بتردد: بصراحة مش عارف، أنا أول مرة أتحط في موقف زي دا ومبقاش عارف أنا عايز إيه؟

ربت أبيه على ذراعه وقال بكلماتٍ لم يفهم مغزاها: قوم يابني روح معاها وساعدها هي محتاجاك، أنت متعرفش جوز أمها ممكن يعمل فيها إيه أو يبعتلها مين، وسيب الباقي على ربنا اللي هيوريلك إشارات تريح قلبك وتهديه.
طالع بادر أبيه بشرودٍ قبل أن ينطق لسانه قائلًا: هاخد أختها معانا عشان منبقاش لوحدنا، وربنا ييسر الحال بقى.

أومأ له هارون بحنانٍ أبوي صادق، فاستأذن منه بادر للذهاب ومساعدة الأستاذة سارة في محنتها، تاركًا أبيه ينظر لأثره بابتسامة هادئة قبل أن يقول بحنوٍ صادق: ربنا ييسرلك الحال يابني ويريح قلبك.
توقف مصعب أمام روان حاملًا حقيبة ثيابها واضعًا إياها في السيارة وهو يقول بحماس: مش متخيلة أنا مبسوط قد إيه إنك هتمشي.

إلتوى ثغر روان بابتسامة حانقة وتوقفت مكانها للحظاتٍ قبل أن تتسائل بتفكير: قصدك إني كنت تقيلة عليك؟
رد عليها بنفي أثناء غلقه لصندوق السيارة: لأ طبعًا أنتِ بتقولي إيه؟
اطمئن فؤادها قليلًا عقب حديثه، لكن عاد الوجوم يُسطِّر ملامحها حينما قال: دا أنتِ أتقل من أم بخيت.
باغتته بقذفها لحقيبة يدها في وجهه وتحدثت صارخة بحنق: طب خُد حط الزفتة في صندوق العربية، دا أنت بني آدم قليل الزوق.

قالتها ثم اتجهت إلى المقعد الأمامي لتجلس عليه بغيظ وغضب تمكن منها، بينما هو كتم ضحكته بصعوبة ووضع حقيبتها في الصندوق الخلفي، ثم جاورها جالسًا أمام المقود وانطلق بالسيارة بعدها، كان يشعر بانفعالات روان وغضبها منه، لكنه لم يشعر بتلك الغصة المؤلمة التي اجتاحت حلقها، ولا رغبتها العارمة في البكاء لتركه، ولا بألم فؤادها لابتعاده عنه، هو فقط ركَّز في مشاكستها كعادته.

مرت نصف ساعة حتى وصلوا إلى منزلها أخيرًا، هبطت من السيارة وحاولت بقدر الإمكان عدم النظر إليه أبدًا، وهو هبط خلفها لمساعدتها في إنزال حقائبها، أخذتهم منه بوجهٍ واجم ثم اتجهت إلى باب منزلها دون أن تُحدثه بكلمة واحدة، لكنها توقفت حينما استمعت لندائه باسمها، استدارت ببرود ومن ثَم ردت بتحفظ: أيوا يا مصعب باشا؟
ابتسم ابتسامة خطفت أنفاسها فيما أردف بلحنٍ صاخب يصعد من فؤاده: هتوحشيني.

رفرفت بأهدابها عدة مرات وها قد عاد إليها ارتباكها من جديد، لتُجيبه بتوتر قبل أن تركض وتختفي من أمامه: الله يخليك.
تابع هرولتها بضحكة واسعة وهو يهز رأسه بيأسٍ على أفعالها الغبية تلك، لكنه لن يُنكر بأن هذا ما جذبه إليها، عفويتها، ضحكتها، ابتسامتها، رقتها، وحنانها الغير مُصطنع، كل ذلك جعل فؤاده الصلب لينًا، ليَصلُح فقط من أجلها!

لم يكن لديها ملاذ غيره، لذلك هاتفته ليكون جانبها لحين إكمال الإجراءات، كان هذا تفكير سارة التي جلست بجانب بادر في اتجاههم إلى القِسم، وبالخلف جلست مي التي نظرت إلى الاثنين بملل لصمتهم، انتفضت من مكانها بحماسٍ وهي ترى عربة الفريسكا تقف على الطريق، لتنكز سارة في كتفها وتقول بسرعة:
بقولك إيه يا سارة ما تجيبي فلوس!
طالعتها سارة باستغراب وهي تتسائل: إشمعنى؟

عايزة أجيب فريسكا وقُليل أوي لما ألاقيها هنا، هاتي بقى قبل ما الراجل يمشي.
تمتمت بها باستعجالٍ فأومأت لها سارة بالإيجاب وهي تُمسك بحقيبتها تبحث داخلها عن أموال، لكنها توقفت حينما استمعت إلى صوت بادر يقول بهدوء: خُدي يا مي وروحي جيبي اللي أنتِ عايزاه.
رفعت سارة رأسها مُسرعة، فوجدته يمد يده لشقيقتها بورقة بفئة المئة جُنيهًا، لتهز رأسها بقوة وهي ترفض باعتراض: لأ أنا معايا يا أستاذ بادر.

عاتبها بادر رافضًا فعلتها: خلاص يا أستاذة سارة محصلش حاجة.
لوت مي شفتيها باستنكار وتحدثت بصوتٍ مسموع: أستاذ وأستاذة! ودول هيتجوزوا إزاي دول؟
توقف شجارهم فجأة ناظرين إليها بذهول، فيما سحبت هي النقود من بادر وخرجت من السيارة تاركة شُعلة الخجل تزداد بين كليهما، نظرت سارة للأسفل تكتم أنفاسها وهي تسب شقيقتها على وقاحتها تلك، فيما تحدث بادر بهدوء لتخفيف حدة الأجواء:
عيلة وغلطت معلش، متاخديش على كلاهما.

ابتسمت له بتردد وهي تهز رأسها، بينما هو تنفس بعنفٍ وحديث مي أصاب سهمًا في قلبه، زواج. تتزوجا. هو وسارة! شعورٌ لذيذ دغدغ معدته فجأة حينما تخيل صحة هذا الحديث، وبدون أن يدري ارتسمت ابتسامة هادئة على ثُغره انمحت حينما أتت مي مُجددًا وانطلقوا بالسيارة.

وكأن اليوم مر سريعًا وأتى اليوم المُنتظر، عقد قران كُلًا من عمران وجنة، حالة من الحماس تُسيطر على الأجواء، خاصةً مع ارتفاع صوت الأغاني وقدوم الفتيات لمشاركة جنة فرحتها، أخذت ياسمين دور تزيينها بمكياچٍ رقيقٍ للغاية أظهر تقاسيم وجهها الرائعة، و تسنيم عدَّلت لها من حجابها واضعة أعلاها حبات من اللأليء الصغيرة، و سارة كانت تقضي المشاوير السريعة من حولهم، بينما كُلًا من ذكرى ورضوي يساعدون والدتهم في المطبخ، و روان التي قررت مشاركتهم فرحتهم بإطلاق زغرودة سعيدة، بينما مي أخذت مهمة تذوق الطعام لا أكثر.

شعورٌ من التوتر، الحماس، السعادة، الفرح، الخوف، الحب، تجتاح فؤاد جنة الآن، والتي طالعت مظهرها الرقيق برضا خالص، حيث ارتدت فستان رقيق من السيتان من اللون الكريمي الفاتح، يتوسطه حزام على شكل عصفورٍ صغير من اللون الفضي، زوقه رائع ورفيع. مثله تمامًا!
كسى التوتر معالمها عندما دخلت إليهم مي راكضة وقالت بلهفة وحماس: العريس وعيلته وصلوا ومعاهم المأذون.

ارتعش كف جنة ببرودة قارصة، فكرة أن جميع الأنظار ستُوجه إليها تُصيبها بالغثيان، تخضبت وجنتاها باحمرارٍ طبيعي عندما استمعت إلى صفير إلياس، والذي بدوره أردف بإعجاب: إيه الحلاوة والجمال دا بس؟ طب والله خسارة فيه.
اتسعت ابتسامتها واتجهت لاحتضان شقيقها الذي التقطها بين ذراعيه يضمها بحنان، ثم ابتعدت وسألته بقلق: بجد يا إلياس شكلي حلو؟

ظهرت اللهفة على وجهه وهو يقول مُسرعًا: والله لو مش عاجبه هخرج أطرده دلوقتي وأنا بتلكك.
وبالفعل سار عدة خطوات نحو الخارج لولا أن توقفت ذكرى أمامه وتحدثت باستنكار: أنت رايح فين يا جلاب المصايب أنت؟
دفعها من وجهها هاتفًا بحنق: روحي يا بت لجوزك وملكيش دعوة بينا.
أجابته ذكرى بدلالٍ أشعره بالغيرة: طبعًا هروح لجوزي هو أنا ليا غيره؟

تشنج وجهه بسخطٍ، فأتت رضوى تسأله وهي تدور حول ذاتها بفرحة: إيه رأيك في فستاني يا ليسو؟
سارت عيني إلياس على فستانها الأسود والذي كان يلمع بفصوص صغيرة لكنها مُميزة، فمال مُقبلًا وجنتها بحنان وهو يقول بفخر: أحلى من القمر طبعًا هي دي فيها كلام! وبعدين دا مفيش في حلاوة إخواتي لا قبل ولا بعد.

طالع ثلاثتهم إلياس بحب ومن ثَم احتضنوه معًا، لم يكن شقيقهم فقط، وإنما كان كجدارٍ صلب يمنع الأذى عن الوصول إليهم، كان بمثابة حماية، لذلك هُنَّ مُمتنين لوجوده كثيرًا.
ابتعدوا حينما استمعوا إلى النداء من الخارج، فأمسك إلياس بكف جنة وسار بها نحو الخارج بعد أن همس لها بمشاكسة: عايزك تتقلي ها!

خرجا معًا وتبعوهم الفتيات، ليتغضن جبينهم بضيق حينما أبصروا خيري شقيق والدهم ومعه كلًا من فادي وحازم، وكالعادة تجاهلوهم كليًا، وبالأخص فادي الذي يُطالع ذكرى بتوعد لعدم ذهابها لمقابلته ليلة أمس، لكنه عاملتت كالنكرة واتجهت للوقوف بجانب يعقوب الذي أحاط كتفها بشجن، وبدأوا بمتابعة عقد القران كالجميع بكل سعادة، مما جعله يستشيط غضبًا فوق غضبه!

حالة الترابط بين فؤاد عمران وجنة كانت فريدة من نوعها، كل كلمة تصعد من فمِ الشيخ كانت تُقرِّب أقدارهم أكثر، تُزيد من طبول وجدانهم، وترفع من منسوب الإدرينالين داخل أجسادهم، تعالت الدقات وانكتمت الأنفاس وأدمعت العين تأثرًا حينما المأذون بجملته المُعتادة:
بارك الله لكما. وبارك عليكما. وجمع بينكما في خير.

تلاها صوت انطلاق الزغاريد من أفواه النساء والفتيات، وتلقي الجميع المُباركات وعبارات التهنئة، ومن بين هذا الجمع المُحتشد، لم يكن يرى سواها، مُضللته الجميلة وخجولته الرقيقة، اتجه إليها بخُطى وئيدة حتى توقف قبالتها، بينما جنة كانت تنظر لكل الاتجاهات بتوتر عدا هو، فؤادها يطرق بصخبٍ وتنفسها عالي على غير المُعتاد، ليستغل عمران انشغال الجميع عنهم في التهنئة وأمسك وجهه بكفه، ثم مال على وجنتها يلثمها بعمقٍ وببطئ وكأنه يروي ظمأ قلبه المُتعطش لحُبها، وذلك قبل أن يهتف بشغف:.

مبروك عليا الجنة في الأرض بوجودك.

الفصل التالي
بعد 17 ساعة و 12 دقيقة.
جميع الفصول
روايات الكاتب
روايات مشابهة