رواية أبناء هارون للكاتبة شروق حسن الفصل التاسع والثلاثون
عشقتُ قلبًا يغرق فيه فؤادي إغراقًا، صوت أنفاسه تُزحم كل مَن حَولي زحامًا، تُعمي عيني وأذوب في خاصته ذوبانًا، وأختنق حين يبتعد ويصرخ جسدي إلحاحًا!
اختطفها!
المعنى الحرفي للذي فعله هو أنه اختطفها بالفعل، استغل مروان انشغال الجميع عنه وأخذ رحمة من وَسط الجمع المُحتشد مُنطلقًا بها بسيارته إلى إحدى محلات الصاغة لانتقاء هديته لها، وبالفعل ساعده الشباب في ذلك ليُداروا فضيحته، لكن نغص عليه لحظته تلك العِلكة شقيقته المُسماة ب فاطمة، التي أمرها هارون بالذهاب معهما حتى يمنع خلوتهما سويًا.
ومن وَسط الصمت السائد صاحت فاطمة بصوتٍ حانق: يعني إيه نسيت تجيب الشبكة؟ أنا لو منها ماكنتش كملت في الخطوبة دي، النهاردة نسيت شبكة العروسة بكرة تنسى العروسة ذات نفسها!
أشعلت بتلك الكلمات رحمة الجالسة بجانبه، والتي اعتدلت في مكانها فجأة وطالعته بغضبٍ وسخطٍ شديدين أخاف مروان، حوَّل أنظاره الحارقة نحو شقيقته التي تمد رأسها من الخلف لتسنح لها فرصة الفصل بينهما برأسها، فمد كفه ليدفعها للخلف وهو يُصيح بها بنقمٍ نازِق:
أنتِ بتقولي إيه يا نيلة أنتِ، غوري ارجعي ورا جتك القرف.
اصطدم ظهر فاطمة بالأريكة من خلفها عنف عنفٍ أدي إلى تأوهها، وبيدها دلكت وجهها وهي ترمقه بسخطٍ جم، لكن نظراتها تلك ثوانٍ ما تحولت إلى شماتة مُصطبغة بالإستمتاع حينما استمعت إلى رحمة تُعنف مروان بتعصب:
متمدش إيدك عليها، وحوار إنك نسيت شبكتي دا أنا هحاسبك عليه بس مش النهاردة عشان منبوظش اليوم.
رحمة افهميني بس أنا...
كان يُحاول التبرير بأعين مُذنبة، كفتى صغير تُوبخه والدته بعد أن نسى إتمام واجبه المدرسي، قاطعته هي بقولها القاطع وهي تعود بأبصارها نحو الطريق مُجددًا:
أفهم إيه؟ دا أنا دا كله مفكراك ماجبتش سيرة الموضوع عشان تعملي مفاجئة يوم الخطوبة، تطلع أصلًا كنت ناسي!
كان حديثها مُمتزج بالعتاب الخفي لكنه قرأه جيدًا، شعر بالضيق حِيال تعابير الحزن التي حاولت إخفائها خلف غضبها، آه لو يشعر بكمِ هذا الخوف الذي يختلج قلبها؟ تخاف أن يكون مُجبرًا على التقرب منها لينسى بها خطيبته السابقة، وإن حدث ذلك سيتفتت فؤادها إلى فُتات تلك المرة حقًا، المُغفلة لا تعلم بأنه يختزل عشقًا يفيض داخله، ولم يجرؤ على خِطبتها إلى بعد أن تأكد من مشاعره تجاهها.
كانت فاطمة تُراقبهما بأعين مُتفحصة، رحمة حزينة حقًا وليست غاضبة فقط، لذلك اقتربت برأسها مُجددًا وربتت على كتفها برفقٍ جعل الأخرى تنظر إليها بطرفِ عينها دون أن تُبدي أي ردة فعل أخرى، ابتسمت فاطمة بدورها وقالت بمشاكسة:
متزعليش على فكرة هو اللي مفروض يكون زعلان منك.
تأهبت حواس مروان، عيناه على الطريق لكن أذنيه مع شقيقته التي أكملت حديثها مع رحمة بقولها: ماما كانت تعبانة وهو كان مشغول بيها علشان كدا اتلهى فيها، يعني من حقه هو اللي يزعل منك عشان أنتِ اللي مسألتيش عليه.
اتسعت عيني مروان للحظات من ذكاء تلك القزمة التي نجدته من موقفه، فيما تحولت عيني رحمة تلقائيًا إلى مروان التي رسم معالم البؤس والأسى على وجهه ببراعة، مَن يراه الآن يظن أنه يحمل مصاعب الدنيا بأكملها فوق كاهله، رمقته رحمة بشكٍ لم يدوم طويلًا مع إتقان دوره الذي أجاده وسألته بشفقة:
دا بجد؟ طنط كانت تعبانة فعلًا؟
أوما لها بالإيجاب دون أن يتفوه بكلمة مما زاد من شعور الذنب داخلها، فيما قال هو بحزنٍ وأسى عارم أجاد تصنعه: بس أنتِ عارفة اللي دايقني إيه؟ شكك فيا يا رحمة، وأنا أكتر حاجة بكرهها هي الشك.
قالها وأشاح بوجهه للناحية الأخرى تحت نظرات رحمة المُذنبة ونظرات فاطمة المُتشنجة، ضربته شقيقته على كتفه بعنف وقالت من بين أسنانها: ما خلاص يا أوفر!
عاد مروان إلى طبيعته مُجددًا في حين قالت رحمة فيما يُشبه الإعتذار: متزعلش مني يا مروان والله ما كنت أعرف.
شقت ابتسامة صغيرة وجه مروان الذي عادت مقلتاه للإلتماع مرة أخرى وقال: مش زعلان يا روحي، وبعدين دي مش هتبقى أول ولا آخر مرة أضحي فيها عشانك، هو أنا عندي كام رحمة يعني؟
ابتسمت رحمة بخجل تزامنًا مع وقوفه بالسيارة أمام إحدى محلات الصاغة، أخذها ودلفا معًا و فاطمة ترمق شقيقها بقرف ومن ثَم تمتمت بتشنج: كداب كِدب الإبل وبجح كمان وعهد الله.
أنهت حديثها مع ذاتها ثم هبطت من السيارة ولحقت بهما نحو الداخل لترى ما ينتقياه من الذهب معًا، وللحقيقة رحمة لم تنتقي ما هو مُعتاد من ذهب، وإنما اكتفت بانتقاء خاتم من الألماس فضي اللون، وبه حجر كريم من المُنتصف ومُزرقش ببعض النقوش المحفورة في حلقة الإصبع!
بالعودة إلى «حارة هارون»، كانت جميع النساء مُتجمهرة حول العروسين يصفقون ويرقصون كما في المعتاد في أي مكان شعبي، الزغاريد والتهليلات تتعالى من الحين والآخر، السعادة تنتشر في فؤاد كل فرد يقف ويُشارك العائلة سعادتها، الأمر بدأ عندما أصرت الفتيات على الخِطبة المُجمعة كما حدث في عقد قِران الأخريات، أعجبتهم الأُلفة المحبة التي انتشرت في أوردة جميع الموجودين، لذلك أصروا على تكريرها.
لكن الأمر لم يقف عند هذا الحد، بل بات جنونيًا أكثر عندما أتى رائف بمفرقعات نارية أعطاها لجميع الشباب ليُشاركوه الرقص مع اشتعالها وانفجارها في نفس ذاتِ الوقت، وبالطبع رأفت شارك ابن عمه الجنون وأتى باسطوانات أشعلها فأخرجت الكثير من الألوان التي عمت أعين البعض من رؤية ملامح من يقف أمامهم، المشهد كان أشبه بحفل زفافٍ شعبي وليس مُجرد خِطبة، وازداد إثارة حينما انضم إليهم مروان ورحمة.
مرت دقائق كثيرة قاربت على الستون والجميع يرقص بلا توقف، ومن الأعلى. كان هارون يُتابع السعادة المُرتسمة على وجوه أبنائه بشكلٍ واضح، انشرح صدره بعد أن تذكر حديث بدير في الصباح عن رغبته في الزواج من تسنيم، كان سيرفض في البداية ظنًا بأنه مازال يتأرجح بين مشاعر الشفقة والتردد، لكنه رأى داخل عينه عشقًا لامعًا أرغمه على موافقته في طلبه.
انشق ثغره بابتسامة فَرِحة وتربع الاطمئنان داخل صدره، كلٌ من أبنائه وجد نصفه الآخر، كُلٌ سعيد بمنزله الآمن، جميعهم حلقوا عاليًا في السماء بجناحِ الحب والعشقِ الموشوم، يتخذون عشقهم كدروعٍ ضد العواصف والمزلات.
شعر بملمس يدٍ دافئة تطبع أثرها على كفه، رفع عيناه ليُبصر الفاعل فدق فؤاده بعنفٍ والتمعت عيناه بدون إرادة، وكيف لا وقد رأت عينه المرأة الأجمل في تاريخ حياته! الجميع مُتزعزع إلا هي ظلت ثابتة في دربه، لم تتركه ولو للحظة، ظلت عمرها كُله تُكافح معه لإنتاج ثمار خالية من العفن، وقد نجحا في ذلك!
أبعد يده ثم فتح ذراعه ليُحيط بكتفها ثم قربها إلى صدره ليشعر بمزيد من الأمان، والمزيد من النبضات أيضًا! ابتسمت حنان بحبٍ صادق ونظرت حيث ينظر هو، ثم قالت بصوتٍ يملؤه الفخر:
شايف ولادنا حلوين إزاي يا حَج؟
نظر إليها هارون بأعين تقص حكايات فشل لسانه عن البوح بها ومن ثَم قال: أنا وولادك حلوين بيكِ أنتِ يا حنان.
التمعت عيناها بدموعٍ من الفخر والامتنان، هارون لم يكن زوجًا عاشت تحت جناحيه فقط، بل كان أعظم إنجاز قد حققته طيلة حياتها، الرجل الأحن على الإطلاق، ومهما فعلت لن ترد له دَيْن محبته واحترامه!
مال على جبينها يُقبله بحُنو وعادا بأنظارهما يرمقان فرحة أبنائهما بوجدانٍ يرقص طربًا وينبض اعتزازًا!
هو الذي عاش محبوبًا من أجل أمواله لا لأجله هو، وللحقيقة. فإن أفعاله المشينة كانت السبب في نبذ الناس له واشمئزازهم من وجوده، وقف عُمير على بُعدٍ ليس بالكبير يُراقب فرحة أبناء هارون بمزيجٍ من الحقد والحسرة، الحقد؛ لأنه يقف وحيد الآن دون وجود رفيق في دربه، وحسرة على ما قضاه هباءًا في حياته!
سحب نفسًا عميقًا من أعمق نقطة في فؤاده وزفره بتَمَهُل وكأنه يُخرِج معه كل وساوسه الشيطانية التي بدأت بالسيطرة عليه مُجددًا، لا يعلم سبب هذا الاختناق الذي يستحكم حلقه منذ الصباح، بعد. مشاجرته مع والدته ليترك ريناد ويبتعد عنها، فمن وجهة نظرها منذ أن دلفت تلك الفتاة إلى حياتهم وكل شيء مقلوبًا رأسًا على عقب، بداية من تلك الهواجس التي يرونها من الحين للآخر حتى إنقلاب حالة عمير الذي يوافق على كل متطلباتها حتى وإن كانت خاطئة!
استمع إلى صوت همهمة خفيضة تأتي من جانبه، فقطب جبينه بتعجب وهو يُشاهد فتاة تُمسِك بهاتفها وتُنير بمصباحه مُوجهة إياه نحو الأرض تزامنًا مع تلك الكلمات المُوبخة التي تُتمتم بها مع ذاتها، اقترب منها عمير خطوتين ثم حمحم بتأنٍ حتى لا يُخيفها، وبعدها تسائل:
بتدوري على حاجة يا آنسة؟
رفعت فاطمة رأسها إليه بمُفاجئة وظهر على تعابيرها أثار الإندهاش، منذ متى وهذا واقفٌ هُنا؟ تنفست بعُمقٍ لتلتقط أنفاسها وبعدها أجابته: بدوَّر على السلسلة بتاعتي مش لاقياها، تقريبًا وقعت مني وأنا بلعب.
بتلعبي؟
نطق بها بشيءٍ من الاستنكار وهو ينظر إلى هيئتها، هي ليست بالفتاة الصغيرة، بل مظهرها يقول بأنها فتاة عشرينية يافعة، وردًا على سؤاله أجابته بتأكيد وهي تبحث بعينها على سلسالها الضائع: آه بلعب مع عيال الشارع وفيها إيه، ملعبش يعني؟
رمقها باستغرابٍ وتمتمَ: لأ إلعبي يا آنسة براحتك، مش عايزاني أدوَّر معاكِ على السلسلة بتاعتك؟
آه بالله عليك دوَّر معايا أصل ضهري ورجلي واجعني، معلش هتعبك معايا.
إلتوى ثُغره بابتسامة عابثة وبالفعل بدأ بالبحث معها عن سلسالها بعد أن قال بنبرة ماكرة: ألف سلامة عليكِ يا جميل.
الله يستر عرضك وما يفضحك قادر يا كريم.
كتم ضحكته بصعوبة وبدأ بالبحث معها عن أشيائها الضائعة بعد أن أضاء مصباح هاتفه هو الآخر، وبعد ما يقرب من الخمس دقائق، وقفت فاطمة في مكانها وهي تتنهد بانزعاجٍ وضيق بعد أن فشلت في إيجاد سلسالها، انفرجت شفتاها للحديث، لكنها أطبقتهما مُجددًا حينما رأت شيئًا ما يلمع في يدِ عُمير، وبعد أن دققت النظر فيه أكثر اكتشفت بأنه سلسالها الذي تبحث عنه، مما جعلها ترميه بسهامٍ غاضبة من حدقتيها ومن ثَم قالت:.
بقى أنا بقى ساعة عمالة أدوَّر على السلسلة وفي الآخر طِلعت معاك؟
نظر عمير إلى يده بمُفاجئة وجحظت عينيه اندهاشًا، كيف نسى بأنه وجد ذلك السلسال قبل أن تأتي إليه هي وتبحث عنه؟ لكن لا عجب في ذلك، ف عُمير من نوعية الناس التي تنسى الأشياء في يدها، حمحم بحرج وهو يمد يده إليها بسلسالها وقال:
نسيت والله إني لقيته.
انتشلته منه ورمقته باتهامٍ وهي تقول: نسيت فعلًا ولا كنت عايز تاخده؟ أنا مش فاهمة ليه كل الناس بقت وحشة كدا وطمعانة في حاجتي وفلوسي!
تفوهت بحديثها بعصبية ثم تركته وذهبت تاركة إياه ينظر لأثرها بدهشة جلية، رفرف بأهدابه عدة مراتٍ قبل أن يُتمتم مع ذاته بتشنج: هو اللي كُنا بنعمله في الناس هيطلع علينا ولا إيه؟
هو إحنا هنتجوز إمتى يا عمران؟
تسائلت بها جنة بملل وهي تعتدل جالسة بعد أن كانت مُستندة برأسها على صدر عمران الذي شقت الابتسامة وجهه عقب سؤالها، أطلق ضحكة خافتة من بين شفتيه وقال: ما إحنا متجوزين أهو!
هزت رأسها نفيًا وهي تُطالع تقاسيم وجهه عن قُرب وقالت بضيق: لأ أنا قصدي جواز بحق وحقيقي، يعني أنا وأنت نعيش في بيت واحد، ناكل من طبق واحد، نعيش في أوضة واحدة، والذي منه!
غمزته بعد أن انتهت مما جعله يُطلق ضحكاتٍ عالية ابتلعتها صوت الأغاني العالية، ضحكت على ضحكه وانتظرت أن يُجيبها بفارغ الصبر، وبالفعل بعد لحظاتٍ كان هو يُجيبها بعد أن توقف عن الضحك:
لما تِخفي يا حبيبتي نبقى نتجوز، وبعدين بيت واحد إيه اللي عايزانا نعيش فيه؟ ما أنا سايب حالي ومحتاجي ومصالحي وباجي أقعد معاكِ اليوم بطوله!
يا جدع برضه مش فاهمني، أنا عايزة أعيش معاك أنت لوحدك، بيت مفيهوش غير أنا وأنت والشيطان تالتنا، عشان أنا زهقت من الناس.
حكَّ رأسه بيده وأكد على حديثها بقوله: معاكِ حق والله، الناس دي أكتر حاجة مقرفة أنجبتها البشرية، ولو أشباه الحيوانات دول انقرضوا الدنيا هتبقى بخير.
ونتجوز.
قالتها بحماسٍ جعله يضربها على مؤخرة رأسها بخفة مُردفًا: ما تتلهي على عينك بقى وخلينا مركزين في علاجك أحسن! وبعدين مش الدكتور قالك المفروض تحلقي شعرك؟ رافضة أنتِ ليه بقى؟
اختفت الحماسة والسعادة من على وجهها وحلَّ بدلًا منهما الضيق والإنزعاج، أشاحت بوجهها للناحية الأخرى وعقلها يُعيد لها حديث الطبيب الذي يُخبرها بحلق خصلاتها، تتذكر رفضها التام لطلبه واهتياجها حينما حاول أخيها إقناعها بذلك من أجل مصلحتها، لكنها كانت مُصرة على إبقاء خصلاتها التي أصبحت خفيفة وضئيلة للغاية! ألا يكفي قدمها التي لا تستطيع السير عليها! يريدون أن يسلبوا منها خصلاتها كذلك؟
تسللت الدموع لعينيها رويدًا وأبت تلبية ندائه والنظر إليه، لكنه أمسك بوجهها وأرغمها على النظر إليه وهو يقول بصوتٍ حنون اخترق حصون فؤادها للمرة الألف بعد المليون: أنا مش عايز أجبرك على حاجة وأنتِ عارفة كدا كويس، أنا بس مش عايز غير مصلحتك وإنك تكوني كويسة، عايزك تعرفي إنك حتى لو حلقتي شعرك فأنتِ هتكوني وهتفضلي أجمل واحدة في حياتي.
هدأ غضبها وحُزنها تدريجيًا وانفكت عُقدة حاجبيها، لكن هذا كان قبل أن يُكمِل بقية حديثه الأبله بقوله: لإن لو كان بالشكل أنا ماكنتش زماني مختارك أصلًا و...
بتر حديثه حينما تهجم وجهها من جديد، لكن ليس حُزنًا، وإنما سخطًا، وما أخافه أكثر هي تلك النظرات الحارقة التي تُسددها إليه ودموعها التي تحولت إلى سهامٍ قاتلة! ابتلع ريقه بتوتر وقال مُتلعثمًا: أنا المفروض ماكُنتش قولت كدا صح!
دفعته بيديها بعنفٍ حتى كاد أن يفقد توازنه ويقع أرضًا، تزامنًا مع صرختها المُعنفة به: ماكُنتش هتختارني؟ تصدق بالله إني غلطانة إني اتجوزتك أصلًا؟ دا أنا لو كنت اتجوزت دكر بط كان حَبني أكتر منك!
وقف مكانه وطالعها باندهاش وهو يُصيحُ بها مُستنكرًا: بعد دا كله ومبحبكيش! يا شيخة اتقي الله دا أنا فاضل أنقل عزالي عندكوا وآجي أعيش معاكوا.
طب ما تيجي!
هتفت بها ببساطة وهي تُربّع ساعديها أمام صدرها بحنقٍ بالغ، ضيَّق عمران عيناه بشكٍ وسألها بحذر: هو الواد اللي اسمه حازم دا بيضايقك تاني؟
كادت أن تُجيبه بالنفي، لكن جسدها قد انتفض بفزع عقب أن استمعت إلى صوت حازم الذي أتى من خلفهما يهتف بانفعالٍ وسخط: يا أخي ما تسيب حازم في حاله بقى أنت مواركش غيره؟
نظر كلاهما للخلف حيث يقف حازم، فاستدار له عمران بكامل جسده يقول بزمجرة: أنت إيه اللي جابك هنا؟
اقترب منهما حازم أكثر ورد عليه باستفزازٍ عَلِمَ بأنه سيُغضبه: جاي أتطمن على بنت عمي، عايز إيه أنت؟
ابتسمت جنة بخفوت، وعادت للخلف تستند بظهرها على المقعد تُراقب باستمتاع ما يحدث بين الاثنين، حازم تغيَّر كثيرًا عن ذي قبل حقًا، ترى اهتمامه بها وكأنه يُحاول الاعتذار لها عن الحقارة التي صدرت منه من قبل، يُحاول أن يُعوضها ويكون أخًا لها بمثابة إلياس، لن تُنكِر بأنها سامحته من أعماق قلبها، خاصةً وهي ترى دفاعه المُستميت عنها وعن أخواتها أمام أخيه وأبيه، لكن لتُؤدبه قليلًا.
فيما اقترب عمران من حازم حتى توقف أمامه مُسددًا إليه نظراتٍ انعكس فيها غيرته الشديدة منه، وأتبع وقوفه قوله المتبجح: ملكش بنات عم هنا، ويلا اسرح.
ابتسم له حازم باصفرار ورد عليه بعنادٍ مُشابه: لأ عندي ومش همشي غير ما اتطمن عليها، دا غير إن هي عايزاني أفضل، صح يا چنچونة؟
تسائل بعبارته الأخيرة وهو يرمق جنة بنظراته المُترجية، لكن كل ما تلقاه هو غضب عمران الذي هدر بانفعال وهو يدفعه من صدره بعنف: جن إما يلهفك يا حيوان أنت، لما أنت تدلعها قدامي أنا أقولها إيه بقى؟ يا آنسة جنة؟
وأنا مالي يا عم ما تقولها اللي تقوله! وسَّع بقى بدل ما أناديلك عمي!
اشتعلت عيني عمران بالغيظ واتجه نحوه يدفعه من صدره نحو الخارج بعنفوان أثناء هتافه بنفاذ صبر: طب غور من وشي بقى وروح قول لعمك اللي عايز تقوله.
كانا قد وصلا معًا إلى الباب ومن ثَم دفعه عمران نحو أكثر حتى بات حازم واقفًا بالخارج، رمقه بسخط ثم رفع سبابته له يُهدده بقوله: هقول لعمي على المهزلة دي على فكرة.
اسرح.
قالها عمران قبل أن يُغلِق باب الشقة في وجهه ويعود للشرفة حيث تجلس جنة تأكل ثمرة التفاح بتلذذ، وعلى وجهها يرتسم العبث بصراحة واضحة، اقترب منها عمران واقفًا أمامها، ومن ثَم انحنى يجذبها من تلابيب ثيابها حتى بات وجهيهما مُقتربين حد اللعنة وهمس من بين أسنانه:
لو شوفت الواد دا مقرب منك التاني هساوي وشك بالأسفلت.
فِعلته أغضبتها، لكن عيناه؛ آسرتها، عينان عسليتان مُحطتان بأساور سوداء أرغمتها على الخضوع والإيماء إيجابًا، وتلقائيًا هبطت عيناها لتسير على تقاسيم وجهه تتشربه بعشق، وبدون وعيٍ وجدت ذاتها تهمس له بهيام وهي تتلمس ذقنه النابتة:
دقنك دي ولا زارعها؟
رفع لها إحدى حاجبيها ليُحذرها بجديته، فيما تجاهلت هي كل ذلك وأكملت تساؤلها وهي تصعد بعينيها نحو الأعلى: عينك دي ولا لينسز؟
نفخ بسخط واعتدل واقفًا في مكانه وهو يكاد أن ينفجر، ابتسمت جنة بيأس ومدت يدها لتُشبك أصابعها بين أصابع يده وهي تجذبه نحوها قائلة: شكلك بيبقى عسول وأنت غيران.
جنة أنا مش بحب الهزار في الحاجات دي لإني ممكن أزعلك من غير قصد بكلامي وأنا بتعصب، فلو سمحتي متخليش حد يقرب منك تاني ولا حتى يسأل عليكِ وخصوصًا حازم، عشان حتى لو اتغير فعلًا وبقى شخص أحسن فأنا مش هنسى إنه كان خطيبك في يوم من الأيام وبينكم مشاعر متبادلة.
مسدت على وجهه برقة وهي تقول بحب: بس أنا كمان عارفة إنك لا يمكن تفكر فيا أي تفكير غلط، ودا لإنك واثق من حُبي ليك اللي اتخطى كل الحدود.
عارف يا جنة إنك بتحبيني، زي ما أنتِ عارفة إني بموت فيكِ وإن حياتي ملهاش أي قيمة من غيرك.
ورغم احتواء كلماته، إلا أن ضيقه كان مازال مُسيطرًا على تقاسيم وجهه، فمالت على وجهه طابعة قُبلة عميق أسفل ذقنه دامت لعدة ثوانٍ استشعر هو بدفء مشاعرها، وبعدها ابتعدت مُنهية فعلتها بقولها:
بحبك يا عمران، عشان خاطري متزعلش مني!
جلس على مقعده وجذبها بحذر لتجلس على قدمه، وأسند رأسها على كتفه وهو يقول بيأس:.
مهما الدنيا زعلتني فأنتِ هتفضلي الحاجة الوحيدة اللي مش بزعل منها أبدًا.
هبط حازم من المنزل وهو يُتمتم بعبارات ضاجرة يسب بها عمران، هذا السمج كما يُلقبه يقطع عليه أي وصل بينه وبين جنة حتى يستطيع بِرها من جديد ويُنسيها زلاته، تأفف حانقًا وهو يخرج من البوابة الرئيسية، فوجد جسد فتاة يقف حائلًا أمامه وتنظر إليه بنظراتٍ شعر بغرابتها، زوى حازم ما بين حاجبيه بتعجب وتسائل باستغراب:
فيه حاجة يا آنسة؟
وعقب سؤاله باغتته الفتاة بسؤالٍ آخر لكنه ممزوج بالاندهاش: هو أنت حازم؟
دقق النظر بها أكثر علَّه رآها من قبل لكن ذاكرته لم تُسعفه، لم يسبق له وقد رأى فتاة بنفسِ تلك الملامح ذو بشرة بيضاء وعينين بُنية مع أنفٍ دقيق وصغير، جميلة؟ لا جدال، لكنها غريبة في الوقتٍ ذاته، فعاد ليسألها مُجددًا:
أيوا أنا حازم، هو حضرتك مين ولا تعرفيني منين؟
اتسعت ابتسامة مي شقيقة سارة وقالت بلهفة وكأنها اكتشفت إنجازًا رائعًا للتو: أنا مي، وشوفتك قبل كدا كتير في ديسكو ().
اتسعت عيناه جحوظًا حتى كادت أن تخرج من محجرها، مَن تلك مي الذي ظهرت أمامه فجأة؟ أهي أحد الفتيات اللاتي واعدهن من قبل؟ ولو كانت كذلك لِمَ لا يتذكرها، ابتلع ريقه بتروٍ ثم استطرد قوله بحذر: وأنتِ عرفتي منين إني كنت بروح ديسكو؟
أجابته بفخرٍ زاد من زهوله وسخطه في الوقتِ ذاته: ما أنا كنت بروح هناك.
إلتوى ثغره بابتسامة مُتهكمة مُردفًا باستنكار: زمايل يعني؟
نفت مُسرعة وهي تقول بحسمٍ وجدية بالرغم من تلك الابتسامة التي مازالت مُرتسمة على ثُغرها المُلطخ بطلاء شفاه وردي لاق كثيرًا مع فستانها السماوي: لأ طبعًا أنا توبت الحمد لله، الدور والباقي عليك.
تشنج وجهه سخطًا وهو يُراقب ابتعادها عنه، مَن تلك المُتبجحة سليطة اللسان؟ يبدو أن سماجته مع الآخرين من قبل ستُرَد إليه الآن، إلاوى ثُغره بتبرم وأكمل سيره نحو الجمع المُحتشد من الرجال، فجذب نظره أخيه فادي يقف مُستندًا على أحد الأعمدة وهو يُدخن سيجاره بشراهة وينظر للجميع بنظراتٍ حاقدة، تنهد حازم بيأسٍ وهو يتجه إليه حتى وقف أمامه وقال بعدم رضا:
ما كفاية يا فادي لحد كدا واخلع من اللعبة دي بقى!
حوَّل فادي نظراته إليه وقال بنبرة باردة غير مُبالية: لعبة إيه اللي بتتكلم عليها؟
عَلِمَ حازم بأن أخيه يُراوغه بالحديث، لكن ليجعل حديثه الليلة مُباشرًا دون ألغاز أو حتى عُقد، لذلك قال صراحةً: يعني سيب ذكرى تشوف حياتها بعيد عنك وأنت كمان شوف حياتك، بنات عمك طيبين وغلابة ميستاهلوش مننا كدا.
استنشق فادي نفسًا آخر من سيجاره ثم دفعه في وجه أخيه، قبل أن يلتوي جانب فمه بابتسامة جانبية ساخرة وهو يرمي على مسامعه كلماتٍ اعتاد حازم على سماعها منه مؤخرًا:
ومن إمتى الطيبة دي يا شيخ حازم؟ أنت نسيت الذي مضى ولا تحب أفكرك بيه؟
واجهه أخيه بقوله الحازم الممزوج بالعصبية قائلًا: ما هو أنا عشان مَنستش الذي مضى بقولك كفاية هما ميستاهلوش اللي حصل واللي لسه بيحصل فيهم لحد دلوقتي بسببك، كفاية جبروت أبوهم عليهم بسبب طمعه واستعداده إنه يبيعهم للي يشتري أكتر، زي ما عمل مع ذكرى كدا.
هز فادي كتفه بلامبالاة وهو يُشيح بوجهه بعيدًا عنه حيث مُجتمع النساء: يبقى روح قول الكلام دا لأبوها مش ليا أنا.
احتل السخط وجه حازم وظل للحظاتٍ ينظر لوجه أخيه بضيقٍ عارم، قبل أن يرفع كفه ويضغط بأصابعه على جروح وجهه التي مازالت ناضجة حتى الآن وقال بتشفٍ لم يستطع إخفاؤه:
اعمل اللي يريحيك بس متبقاش تزعل من ردة الفعل بقى!
تأوه فادي بألم وسدد نظراتٍ حارقة نحو أخيه الذي ارتسم على ثُغره ابتسامة جانبية، ثم تركه ورحل يغلي غضبًا دون أن يُضيف كلمة أخرى!
مرَّ الوقت سريعًا وجاء موعد إرتداء العرائس لشبكتهن، لكن حافظوا على عادات عائلتهم وقامت صفاء بتلبيس بدور ذهبها بدلًا من إلياس، كانت الابتسامة تشق وجه بدور بسعادة أعادت الحيوية إلى وجهها من جديد، فاستغل إلياس انشغال الجميع عنها بالعرائس الأخريات ومال على أذنها يهمس بسعادة لم تخلو من مكره:
مبروك علينا يا ست حلويات.
رفعت بدور حدقتاها له تُطالعه بامتنان لم تُخفيه وأجابته بسعادة مُماثلة له: الله يبارك فيك.
اتسعت ابتسامته أكثر وهو يقول بحماسٍ يشوبه اللهفة: طبعًا مش هنفضل كتير مخطوبين، على آخر الشهر بالكتير هنتجوز.
تصبغت وجنتاها بحُمرة الخجل وكأنها تتزوج للمرة الأولى، قد يظهر للجميع بأنها تزوجت من قبل، لكن مشاعرها مازالت عذراء تخجل من الغزل، أخفضت رأسها أرضًا وهو مُنشغلًا بمُتابعتها دون كلل، لا يُصدِّق بأنه وأخيرًا حصل عليها لتكون جواره، فقط يفصله بضعة أيام لتُكتَب على اسمه للأبد ولن يُخرجها من أحضانه مهما كلفه الأمر.
وعلى بُعد خطواتٍ منهم، قامت حنان بتلبيس زهراء ذهبها الذي انتقاه بدران بفؤاده لا بعينه، حِلم طفولته ومُراهقته وشباب يتحقق الآن أمام ناظريه، عروسه تتدلل بخيلاء أمام الجميع بفستانها الذهبي الذي حرَّك فؤاده من مضجعه وجعله يهتف ويحثه على ضمها، تلاشت جميع الأصوات والزغاريد من حوله وصنع عالمه الخاص حيث توجد هي فقط، وازدادت حالمية عيناه حينما رفعت عيناها لتمتزج بخاصته، عسل عيناها مع سواد رمقيه!
أطلق زفيرًا حارًا واقترب منها بعد أن ابتعدت والدته وهمس في أذنها بدفء: حلم سنين بيتحقق قدامي وأنا عاجز إني أحضنك!
تلاشت النظر إلى عينيه خجلًا وهمست اسمه بخفوت وخرج: بدران!
أغمض عيناه يتلذذ بوقع اسمه من بين شفتيها، وبعد لحظاتٍ فتحهما مُجددًا وقال بصوتٍ أرهقه العشق: كلها أيام. أيام يا زهراء وهقولك كل اللي نفسي فيه.
ارتعش جسدها بلذة كلماته التي كان وقعها على أذنيها كسيموفينيه جميلة أثارت حواسها ببراعة، لم تجد ردًا على موجة مشاعره تلك سوى أنها ابتسمت إليه وعيناه تُرسِل إليه عشقًا خالصًا لا تشوبه شائبة، ومِن هُنا تيقن بأنه قد احتل كامل كيانها كما احتلته هي!
وبالقُرب منهما. كان ذلك دور بُثينة في تلبيس رحمة ذهبها كما فعلت الأمهات الأخريات، لكنها لم تفعل ذلك، بل إنها وجَّهت نظرة ساخطة لابنها وانتقلت بها إلى رحمة الذي شحب وجهها بعد أن رمقتها باشمئزاز وتركتها ورحلت أمام الجميع!
ابتلعت رحمة ريقها بحرجٍ جَم واستحكمت بها غصة البكاء الآن، نظرت نعيمة إلى مروان بغضب فطالعها باعتذارٍ وحرجٍ من فعلة والدته التي جعلته في موقف يُحسَد عليه أمام الجميع، حاولت نعيمة تبديد غضبها حتى لا تُفسِد فرحة ابنتها التي بالتأكيد قد تعكرت الآن، وذهبت إلى مروان تأخذ من العُلبة المخملية الذي وضع بها الخاتم الماسي، رفعت إليه نظرها تُطالعه باستغراب، فبرر قائلًا:
هي اللي طلبت.
ماشي. إما نشوف أخرتها معاك يابن بُثينة.
قالتها نعيمة بنزقٍ وهي تنتشل منه الخاتم الماسي المُزخرش بفصوص كرستالية لامعة، فيما حكَّ مروان مؤخرة عنقه وهو يهتف بابتسامة رائقة: أخرتها كتب كتاب وزغاريط يا حماتي.
ابتسمت نعيمة بخفة، ثم استدارت نحو ابنتها التي كان وجهها مُتهجم بانزعاج، فاقتربت منها والدتها تهمس إليها بنُصح: أمه عقربة وأنا وأنتِ وأبوكِ و أم بخيت عارفين، افردي وشك ومتعكريش مزاجك في يوم زي دا.
نبست بحديثها ثم أمسك بكفِ ابنتها وأدخلت فيه الخاتم الذي ظهر جماله مُضاعفًا في يدها حينما ارتدته، حملقت به رحمة بشرودٍ عقب ابتعاد والدتها لتستقبل الضيوف، فانتهز مروان الفرصة واقترب واقفًا جوارها وهو يهمس باعتذار: حقك عليا يا رحمة متزعليش مني، أنتِ عارفة طبع ماما.
محصلش حاجة يا مروان.
تفوهت بها لكن كان وجهها مازال مُتهجمًا وهي تنتقل ببصرها بين الضيوف، فأضاف هو قائلًا بإلحاح: اضحكي بقى ومتزعليش! والله أفضحك في المنطقة كلها وأقول زعلانة عشان مش عايز أبوسها!
استدارت له بعنف وهي تُطالعه بذهولٍ مُرددة بعد تصديق: أنت بتقول إيه يا اللي منك لله أنت؟ أنت عايز تشلني أنت وأمك النهاردة صح؟
تجعد وجهه باشمئزازٍ زائف وهو يُصحح لها كلمتها: اسمها والدتك يا بيئة، إيه أمك دي؟
إلتوى ثغرها بضحكة مُتهكمة قائلة: الله يرحم والدتك.
قهقهق ضاحكًا بانطلاق، فلان جمود وجهها قليلًا وابتسمت بخفة، فيما أضاف هو بعد أن سيطر على ذاته: طيب والله الضحكة الحلوة دي حرام تختفي، اضحكي بقى خلي القمر يظهر.
وبالفعل ابتسمت باتساعٍ له فبادلها هو الابتسامة بأخرى لكنها كانت تحمل عاطفة، ربما كان حُب!
مر المزيد من الوقت فتعبت ذكرى من الرقص بين النساء وقررت الابتعاد عن الجمع لترتاح قليلًا، وما إن ابتعدت عنهم بمسافة مُناسبة، حتى استمعت إلى صوتٍ ساخر يأتي من خلفها يقول بسخط:
ابقي ارقصي أوي يا حبيبتي، مفكرة نفسك شاكيرا على الرقص اللي أنتِ رقصتيه دا كله؟
استدارت ذكرى بفزع عقب استماعها لصوت رجولي غليظ يأتي من خلفها، وما كادت أن تُبدي أي ردة فعل عنيفة، حتى هدأت عندما أبصرت أمامها يعقوب يتقدم منها وهو يضع كِلتا يديه في جيب بنطاله الأسود، صعدت نظراتها تلقائيًا للأعلى فوجدت عدة أزرار من قميصه الأبيض مفتوحة حتى ظهرت عضلات صدره من أسفله، فتغضن جبينها بانزعاج وهي تسأله:
أنت فاتح زراير القميص كدا ليه؟
أجابها بنبرة ساخرة بعد أن توقف أمامها مُباشرة: معلش. أصل معنديش سِت تلمني.
رفعت رأسها للأعلى بضعة سنتيمترات حتى تسنح لها رؤية وجهه وردت عليه بنفس النبرة الساخرة: وأنت جايلي عشان ألِمَّك ولا إيه؟
عادةً ما يكون اللسان كاذب، فها هي تتحدث بسخرية لكن عيناها لم تكذبان أبدًا، كل ذرَّة بجسدها تنطق بعشقًا خالصًا ليس له مثيل، ويختفي تحت قناع القوة واللسان السليط، وردًا على سؤالها أجابها نافيًا برأسه وهو يقترب منها بوجهه:
حِبيني.
صُعقت! هذا أدنى ما شعرت به، كهرباء صاعقة سرت بجسدها عقب كلمته التي اعتادتها منه سابقًا، دارت عيناه على تقاسيم وجهه فوجدت العبث يرتسم عليه، وعيناه تحتضنها بدلًا من جسده، هذا الرَجُل كل شيء به مُبهر حتى كلماته، ألا يكفي نظراته التي تُشعرها بالتيهة ليأتي لسانه ويُزلزلها بكلماته؟
عادت خطوتان للخلف ولم يغفل عنه تنفسها الشديد من بعثرته لمشاعرها، فأخرج هو يديه من جيب بنطاله وأشار لها بأصابعه قبل أن يذهب ويرحل بعيدًا عنها:
هنتقابل قُريب. قُريب أوي يا حِلو.
كيف يمكنه أن يُشتت شملها ويذهب بكل تلك السهولة؟ راقبت ذكرى أثره الراحل بفؤادٍ ينبص بعنف من عُمق المشاعر، بئسًا يا يعقوب، ألا يكفيك تلاعبًا واستهتارًا بالعشق النامي بفؤادي؟ أم أنك بِتَ قاسيًا وعلى قلبي تستوى اللعب!
فاقت من شرودها على اقتراب فادي منها سائلًا إياها باستغراب وهو ينظر حوله: واقفة لوحدك كدا ليه؟
رمقته بطرف عينيها مُجيبة إياه باشمئزاز: بتهوى.
ضحك بخفة وهو يتشدق باستمتاع غير مُباليًا بنظراتها المُستحقرة له: اتهوي براحتك يا حبيبتي، كلها أسبوعين ونتجوز وهتتهوي في حضني.
رمقته بقرف لم تبذل مجهودًا حتى تُخفيه، ثم ابتعد عنه وهو تُتمتم بعباراتٍ غير مسموعة لكنه قد تيقن من سبَّها له، راقبها فادي تتحرك بعيدًا عنه، فأخرج سيجارًا من جيب بنطاله ثم وضعه بفمه وأشعله بقداحته، استنشق نَفسًا داخل رئتيه ثم دفعه على مهلٍ ومن ثَم همس باستمتاع:
هانت يا ذكرى بس الصبر.
قولي بقى يا بابا عامل إيه من غيري؟
هتفت بها نرجس بحماسٍ وهي تجلس بجانب والدها بعد أن قامت بتحضير الطعام من أجله، طالعها أبيها باشتياقٍ قبل أن يمد ذراعه نحوه يحثها على الإقتراب، وبالفعل اقتربت منه حتى حاوطها هو من كتفها ضاممًا إياها لصدره أثناء تقبيله لجبينها بعمق، أحاطت خصره بذراعها بقوة وهي تستشعر دفئ عناقه الذي حُرِمَت منه لفترة طالت إلى حدٍ كبير، قبل أن تسمعه يقول بتنهيدة يائسة:
البيت من غيرك لا ليه طعم ولا ريحة.
رفعت رأسها إليه وقالت بمُداعبة: أنت مخلف سمنة روابي ولا إيه يا بابا؟
ضحك على قولها ضاربًا إياها بخفة على مؤخرة رأسها، يرى ابنته الآن في أقصى حيويتها عما كانت به من قبل أثناء وجود فتحية معهما، يبدو أن المولى قد قدَّر لها رجلًا بمعنى الكلمة ليُعوضها عن الحرمان الذي لاقته في حياتها، مال على جبينها مرة أخرى ليُلثمه مُجددًا وقال وهو يُشدد من عناقها:
وحشتيني أوي أوي يا حبيبتي.
دمعت عيناها تأثرًا بتلك المشاعر الأبوية الدافئة التي غزتها فجأة، فيما أكمل هو قائلًا: فتحية أنا طلقتها، واتحكم عليها بتلت سنين، و رشدي ابنها اتمسك بيتاجر في المخدرات، حقك منهم هما الاتنين ربنا جابهولك من غير ما تعملي حاجة.
أغمضت عيناها بعنفٍ تُحاول منع سيل الذكريات الذي يجتاحها تلقائيًا عقب الإتيان بسيرة هاذان، مرت دقيقة ظلت فيها صامتة دون أن تتحدث بكلمة واحدة، وبعدها فتحت عيناها مُجددًا وابتعدت عن أبيها قائلة بابتسامة هادئة: بلاش نفتكر اللي فات يا بابا، إحنا في دلوقتي والحمد لله إن ربنا أنعم علينا بالصحة والستر، ملوش داعي الكلام دا.
أمسك بكفها ليرفعه إلى فمه ويُقبله بحبٍ ثم قال بندمٍ ينهش خلاياه: سامحيني يا نرجس لو كنت جيت عليكِ في يوم من الأيام، بس والله العظيم تلاتة أنا ما كنت عايز إلا مصلحتك، وقسوتي عليكِ كانت خوف من بطش فتحية أحسن تعمل فيكِ حاجة وأنا مش موجود.
اقتربت نرجس تضم أبيها لها وهي تُحيط بعنقه بقوة وهي تقول: مش زعلانة منك يا بابا والله، دا أنا كل اللي فيه دا بسببك وبسبب رضاك عليا.
قبَّلت وجنته بقوة ثم ابتعدت عنه وقالت بحماس وهي تُقرِّب صينية الطعام منهما: تعالى بقى ناكل ودوق عمايل إيد بنتك، وتعالى أحكيلك على اللي اتعلمته في بيت عيلة المحمدي.
انتهت الأفراح وتشتت الجميع عائدين إلى منازلهم بعد أن دقت الساعة العاشرة، لكن منزل هارون مازالت الضحة والسعادة ينبضان به، تجمع الجميع على طاولة الطعام وأصرَّ هارون على مشاركة حازم الطعام معهم، كان يشعر بالحرج خاصةً مع النظرات التي كان يُطالعه بها الجميع، أو ربما ظن هذا! فيما قالت ذكرى بمزاحٍ وصوتٍ خفيض:
كُل يا حازم ومتعملش فيها مكسوف!
نظر إليها حازم بتوتر فمال قليلًا حتى تسمعه وسألها وهو يلوك الطعام بفمه: هما بيبصولي بقرف ولا أنا متهيألي؟
ضحكت بصوتٍ خفيض وأجابته بنفس همسه: لأ متهيألك، محدش فيهم معبرك أصلًا كلهم مشغولين بالأكل.
تشنج وجهه عقب صراحتها الفجة ولوى شفتيه حانقًا، وما كاد أن يُجيبها حتى شعر بمن يضربه في قدمه ويقول غيظًا من بين أسنانه: كُل يا حازم يا حبيبي وكفاية كلام.
نظر حازم ل يعقوب بحاجبين مرفوعين واستنكار، في حين وضعت حنان أمامه المزيد من الطعام وهي تقول بود: كُل يا حبيبي هو الأكل مش عاجبك ولا إيه؟
اعتدل حازم في مكانه وأجابها بحرج: لأ والله تسلم إيدك يا طنط الأكل طعمه تحفة.
بالهنا والشفا يا حبيبي.
وعلى بُعدٍ آخر. صعد صوت حمزة المُتسائل ل رضوى
مالك يا كبدي زعلانة ليه؟
التفتت إليه رضوى مُبتسمة بعد أن كان الوجوم مُرتسمًا على وجهها، فاقترب منها حمزة مُحيطًا بكتفها ليضمها إليه، ثم قبَّل رأسها من الأعلى وعاد ليتسائل بنبرة مازحة: مالِك يا شمامة؟
بس يا حشَّاش يا خمورجي، 8888
تمتمت بها ضاجرة وهي تضربه بقبضتها على صدره، فيما تعالت ضحكات حمزة بانطلاقٍ ضاممًا إياها أكثر إلى قلبه أثناء قوله المُعاتب: بقى فيه حد بالحلاوة والطعامة دي يزعل؟ احكي اللي مزعلك يا شهرزاد.
ضحكت وهي تبتعد عنه وتسائلت بحذر: وهتسمعني يا شهريار؟
عندي استعداد أسمعك العُمر كُله.
اقتربت مُحاوطة وجهه بين كفيها ثم طبعت قُبلة قوية على وجنته وهي تصدر همهمة لذيذة تعكس استمتاعها، وبعد أن ابتعدت قالت بذهولٍ وكأنها كانت تستكشفه: حلاوتك دي مغلباني والله.
اممممم. يعني ممكن نقول إن اللي عندك دي هرمونات مش زعل؟
أومأت له ضاحكة، فاستكمل الحديث بقوله المُشاكس: وإحنا تحت أمر الهرمونات.
في اليوم التالي. وفي تمام الساعة التاسعة صباحًا.
استمعت تسنيم إلى صوت جرس الباب يرن بإلحاح، جعدت وجهها بضيق حيث كانت مُستقلة على فراشها بنعاس، قررت عدم الرد ظنًا منها أن الطارق سيمل ويذهب، لكن الإلحاح جعلها تزفر بحنق وهي تنتفض من على الفراش بكل غيظ، ارتدت إسدال صلاتها ثم اتجهت بخُطى شبه متوازنة نحو الباب لفتحه، وما إن فتحته ورأت الطارق حتى اتسعت عيناها باندهاش، حينما رأت بدير يقف أمامها بابتسامة مُتسعة وفي يده طبق من الفتة يمده إليها وهو يقول:.
أمي بتسلم عليكِ وبتقولك تعالي عيشي معانا.
رمشت بأهدابها عدة مرات تُحاول استيعاب حديثه، كيف ومتى وماذا يقول؟ رمقته بضيقٍ وأردفت بقنوط: لو جاي تهزر يا بدير يبقى امشي من فضلك.
وأنا ههزر معاكِ ليه يا اسمك إيه؟ بقولك أمي بتسلم عليكِ وبتقولك تعالي عيشي معانا، وفضلت تتحايل عليا عشان أتجوزك وأنا للأسف رفضت.
رفعت له إحدى حاجبيها ترمقه باستنكار، وعلى عكس المتوقع وجدها بدير ترسم على ثُغرها ابتسامة صفراء وقالت قبل أن تُغلق الباب بوجهه المُندهش: روح قول لماما إني مش موافقة بقى يا روح ماما.
وأخذت منه طبق الطعام على بغتة ثم جعلته يقف مدهوشًا أمام الباب اذي أُغلِقَ بعنف، رفرف بأهدابه ومازال لم يستوعب صدمته بها، وبعد لحظاتٍ كان قد عاصر الحاضر الذي به فدقَّ على الباب بقوة وهو يُصيح بها: هو إيه اللي مش موافقة؟ طب خلي في علمك بقى إني هتجوزك غصب عنك، وهاتي طبق الأكل اللي معاكِ دا.
ومن خلف الباب. اتسعت ابتسامة تسنيم على آخرها وهي تستمع إلى صوت بدير الحانق، والذي ظل يرجوها لفتح الباب، لكنها أصرت على موقفها لتستشعر بأنه بالفعل يرغبها حُبًا لا شفقة، وبعد مُدة لا بأس بها توقف صوت الطرق فعلمت بأنه قد ذهب، جلست على الأريكة ووضعت طبق الطعام أمامها، ثم أحضرت ملعقة من الداخل وشرعت بإلتهامه بكل نهم وهي تُطلق أصواتًا مُتلذذة.
لكن الطرق قد عاد مُجددًا بعدة عشر دقائق بطريقة أهدأ عن طريقة بدير، فاتجهت نحو الباب وفتحته، لتجد أمامها عجوزًا خطَّ الزمن قساوة أيامه على وجهه، في البداية ظنته شحاذًا، لكن نظراته المُثبتة عليها جعلتها تتسائل بريبة:
عايز مين يا حج؟
وإجابة العجوز بعد ذلك كانت صادمة، بل صاعقة:
أنا المرحوم ماجد عاشور. عمك.
والسؤال الذي طرق بعقلها قبل أن تفقد وعيها هو؛ هل عاد الميت إلى الحياة؟