قصص و روايات - قصص رومانسية :

رواية أبناء هارون للكاتبة شروق حسن الفصل الأربعون

رواية أبناء هارون للكاتبة شروق حسن الفصل الأربعون

رواية أبناء هارون للكاتبة شروق حسن الفصل الأربعون

تلقفنا أيادي الحياة وتصدمنا بمرارة الواقع، ومهما هربت يا مسكين؛ سيصفعك مصيرك المرير!

صدمة قوية زلزلت كيانه حينما جاء إليهم خبر وفاة شقيقته بطريقة شنيعة، حينما عثروا عليها أمام إحدى المقابر بعد أن ظلوا يبحثون عنها طيلة الليل، نظر عادل إلى والدته دون أن يرمش، وكأن الصدمة جمدت كل إنش بجسده، ابتلع علقم المرارة بصعوبة ثم اتجه نحو والدته بخُطى وئيدة، جلس بجانبها وأحاط بها من كتفها ليزداد عويلها وصراخها أكثر، ضربت على فخذيها وهي تصرخ بانهيار:.

أختك ماتت يا عادل، ريناد ماتت، آااه يا حبيبتي آااه.
تنهد عادل بضيق وتنفس بعمقٍ ليحبس دموعه التي تشي بكم مرارته، فيما أكملت هالة ندبها بعويلٍ أعلى والجميع يُطالعونها بشفقة، لكن فئة قليلة هي من رمقتها بشماتة جِراء سوء معاملتها لهم، وفي عقولهم يظنون أن هذا عقاب المولى لها!

وعلى بُعدٍ قريبٍ منهم، وقف عُمير يستند بكتفه على باب المنزل يُتابع الموقف بأعين تائهة، لا ينكر حُزنه على موت ريناد، لكن هُناك جزءًا لا بأس به في فؤاده مُرتاح لتلك الفكرة، وهذا ما يجلد به سوط ضميره! أخفض رأسه يأسًا من هَول تلك الصراعات التي تتقاذف داخل عقله دُفعةً واحدة، لكن رفعها مُجددًا حينما استمع إلى آخر صوت توقع سماعه، وهو صوت يعقوب الذي جاء هو وأخواته لتقديم واجب العزاء.

صافحه عُمير بودٍ رغم تقاسيم الحزن الظاهرة على وجهه، فتحدث يعقوب قائلًا: البقاء والدوام لله وحده، ربنا يعوضك خير.
ونعم بالله.
تمتم عمير بها قبل أن يُصافح عمران والبقية كذلك، وبرغم كَم الأذى الذي سببه لهم من قبل، إلا أنه لم يرى منهم سوى كل خير بعد توبته ومُحاولاتهم المُستميتة للغُفران عنه ونسيان الماضي، لكنه يعلم أن الأمر يحتاج للمزيد من الوقت حتى يتلاشوه.

بعد مرور الوقت. جلست سارة بجانب تسنيم التي تتنفس بعنفٍ وهي تُثبت بصرها على ذلك العجوز الذي يُلقب ذاته ب عمها، بل ويُزينها بكلمة المرحوم قبلها! ابتلعت تسنيم ريقها بصعوبة وهي تتبادل الأنظار مع ياسمين التي لا تقل عنها في خوفها، مما دفع ياسمين إلى سؤاله بتذبذب:
ط. طيب وأنتَ متعَّب نفسك وخارج من تُربتك ليه يا عمي؟ ما كُنا إحنا اللي جينالك أحسن!

طالعتها مي بصاعقة واتجهت نحوها لتلتصق بها وهي تسألها بهلع: ت. تُربته؟ أنتِ بتقولي إيه؟
وضَّحت لها ياسمين معنى حديثها وهي تُحيط بها من كتفها وتضمها إلى صدرها قائلة: أصل المفروض عمي ماجد دا ميت من عشر سنين.
يالهوي يالهوي يالهوي. هنتلبس كُلنا.

تمتمت بها مي برعبٍ وهي تبتعد بأنظارها عن ماجد الذي وقف من مجلسه يُطالعهم بسخطٍ وهو يقول: انتوا بتقولوا إيه يا شوية معاتيه انتوا؟ دا بدل ما تطمنوا عليا وتسألوني إيه اللي حصل جايين تقولوا عليا عفريت! بقى دي أخرتها؟

وتلك المرة تدخلت سارة في الحوار بعد أن أنهت ما تفعله بهاتفها وطالعت ماجد بنظرة ثاقبة قبل أن تقول: معلش لموأخذة يا حج، بس أنت أكيد مُدرِك صدمة إن حد يموت وبعد عشر سنين يطلع عايش، الحوار ميدخلش دماغ حد عاقل يعني!

أومأ لها ماجد إيجابًا تزامنًا مع تنهيدته الحارة التي خرجت من بين شفتيه لتعكس كَم المرارة التي يُعايشها، نظرت الفتيات إلى بعضهن البعض بترقب وقلق، فيما بدأ ماجد الحديث عن حقيقة أدت إلى تجمد أجسادهن وخصيصًا ياسمين وتسنيم: أنا هحكيلكم كل حاجة، بس قبل دا كله عايز أقولكم إنهم لقوا جثة حسن طايفة على وش الماية بعد ما حاول يهرب من الحكومة.

شهقة غير مُصدقة خرجت من فاهِ الفتاتين وهما يُطالعانه بعدم تصديق، في حين رددت ياسمين اسمه بصدمة امتزجت رغمًا عنها بالقهر الواضح: حسن؟

لا تعلم ما الذي حدث، تَدَفُق هائل من الذكريات أغرق أفكارها وأعمى بصيرتها، لم تتذكر له سوى كُل ما هو حَسن أثناء فترة مُراهقتها المُلازمة لحُبهما، مُشاكستهما، وعدهما، ضحكاتهما، أحاديثهما، سهرهما، نظراتهما، وأخيرًا عشقهما الذي كان يتفاقم كُلما ودَّعا مرحلة طفولتهما، كل هذا تقاذف أمامها دون شفقة، كل تلك الذكريات تناثرت كرمادٍ بعد أن انحرقت قصاصاته!

نظرت تسنيم إلى شقيقتها بشفقة رُغم هذا الكسر الذي عاد ليجرح فؤادها من جديد، اتجهت إليها بخطواتٍ مُثقلة ورفعت كفها ضاغطة به على ذراعها كمؤازرة لها، نظرت إليها ياسمين مصعوقة وكأنها اكتشفت جُرم فِكرها، وهُنا تذكرت جانبه السيء ووجهه الشنيع، تجاراته الغير مشروعة وقتله للأبرياء بدمٍ بارد، وأخيرًا اعتدائه الوحشي على شقيقتها!

رعشة طفيفة سرت بين أوردتها وكأنها تستكشف مرارة الحقيقة لتوها، تنفست بعنفٍ في محاولة فاشلة لإخفاء حُزنها المرير، لكنها دمعتها الخائنة سرت على خدها تترك أثرًا حارقًا على بشرتها، لاحظت قلق شقيقتها الظاهر فابتسمت بوهنٍ قبل أن تعود ببصرها إلى ماجد تسأله بتحشرج:
وعمو طارق عِرف؟

هزَّ ماجد رأسه نفيًا وقال بتخطيطٍ واضح: لأ لسه معرِفش، بس أنا ناوي أروحله بنفسي وأقوله، عايز أشوف القهرة في عينيه يمكن ناري تبرد وأحس إن عمري مراحش هدر بسببه.

ولم تكد تسنيم أن تتحدث، حتى استمعت إلى صوت جرس الباب يعلو رنينه، اتجهت مي بسرعة لفتحه، فأبصرت أمامها بادر ومعه بدير الذي تملؤه اللهفة وعيناه تُهرول بين الأوجه للبحث عن تسنيم خِصيصًا، وما إن وقعت عيناه عليها حتى لاحظ شحوب وجهها والدموع المُتحجرة بعينيها.
أفسحت مي الطريق لكليهما، فيما تقدم منهم بادر ونظره مُثبت على ذاك الغريب الذي يراه لأول مرة، وبعدها تسائل بهدوء: السلام عليكم، مين حضرتك؟

هيئته المُبعثرة ومظهر ثيابه الغير مُرتب جذبت انتباه الرجلان، يبدو كشحاذٍ فقير وأتى لأخذ قوت يومه، لكن إجابة ماجد كانت صادمة لهما حينما قال بثقة: أنا ماجد عاشور عَم تسنيم وياسمين.

الكلمات هبطت على أذن بدير كالسوطِ لتجلده، وتلقائيًا انتقل ببصره نحو تسنيم مُجددًا فوجدها تنظر للأسفل وكفها يقبض على ثيابها بعنفٍ كأنها تستدعي قوة واهية من ثيابها، تهجمت ملامح وجه بدير الذي لم يستطع التحكم بعصبيته حينما صاح يصرخ بغضب رغم نبرة السخرية التي ظهرت بصوته:
عمهم؟ وجاي هنا ليه يا عمهم؟ لتكون افتكرت إن هُما ليهم عَم دلوقتي، أو يمكن جاي تِكمَّل اللي أخوك وابنه الوسخ بدأوه وتقتلهم المرة دي؟

ملامح وجه ماجد لم تكن ظاهرة بسبب شاربه ولحيته الكثيفين، لكن الجمود هو ما كان يُسيطر على ملامحه مع لمحة من المرارة، وبعد أن أنهى بدير حديثه رد عليه قائلًا بهدوء نِسبي:.

أول حاجة متقولش أخويا، مفيش أخ بيرمي أخوه في مصحة ويثبت إنه مجنون عشان يلهف حقه، تاني حاجة أذى طارق عاشور ماطلش عيلته بس، دا طال كُل اللي حواليه وأولهم ابنه اللي بقى نُسخة مُصغرة منه بل وأبشع، طارق عاشور دا أفعى بتلذغ كل اللي يقرَّب منها مهما كانت درجة قرابته منه.

عمَّ الصمت للحظات، الجميع ينظر لبعضهم البعض بعدم فهمٍ وكأنه قرأ تعويذة أصمتت كل ألسنتهم، وأول مَن خرج من صمته هو بادر الذي تسائل بشك: وليه جاي دلوقتي بالذات وتظهر للكل!
عشان كل واحد اتظلم من ورا طارق عاشور لازم ياخد حقه، والأولى بالحقوق دي هي عيلته.

شعرت تسنيم بالدوار يجتاح رأسها وبدأ شعور سلبي غير مُحبب لها بالسريان في دمائها مُجددًا، كانت غافلة عن الذي يُراقب كل صغيرة تصدر منها بقلق، يخاف أن تنتكس ويخسرها بعد أن وجد مرساه بها، أن يعود تائهًا بعد أن مكث في قلبٍ دافيء يحتوي خوفه، زفر بخفة وهو يُشيح بوجهه للناحية الأخرى وهو يهمس:
منك لله يا تسنيم دايمًا متوهاني ومتوهة بالي.

ممكن يا عمو تحكيلنا كل حاجة حصلت! حقيقي أنا عاجزة إني أستوعب أي حاجة دلوقتي، حاسة عقلي هيشت مني.
أردف بها تسنيم بتعب نفسي فاق حدود تحمُلها، فأومأ لها ماجد بهدوء قبل أن يجلس على المقعد ليُريح قدمه المُهترئة سيرًا، اتبعوه وجلسوا هُم أيضًا على الأرائك، فبدأ ماجد يروي كل ما حدث معه قديمًا وأوصله إلى تلك الحالة:.

قبل عشر سنين كُنا أنا و طارق لينا نسبة متساوية في الشركات والمصنع، اشتغلنا واجتهدنا لحد ما اسمنا كِبر نسبيًا وبقى لينا سيط كويس في سوق التجارة، حالنا ومستوانا المادي كان فوق المتوسط بشوية والحال دا معجبش طارق اللي حَب يوصل أسرع ويبقى ليه اسمه وسط حيتان السوق زي ما بيقولوا، فاتجه للطرق المشبوهة وصفقات تحت السلم والحاجات دي، طبعًا أنا مَاكُنتش على عِلم بأي حاجة هو بيعملها، وبما إننا شُركا في الشركة والمصنع كنت بمضي على أي ورق يجيبهولي من غير ما أبص فيه حتى، أصله كان أخويا ومحدش بيخوَّن أخوه!

عبارته الأخيرة اصطبغت بالمرارة التي بانت في نبرة صوته، ابتلع ريقه بصعوبة يشعر به كالأشواك التي تنحر عُنقه، ثم أكمل سرده يقول:.

فِضلنا فترة على الحال دا، أنا بوقَّع وهو بيستغفلني على وبيخليني أمضي على أساس ورق مُكمَل لورق الصفقات اللي بنديرها، اسمنا بقى يسمَّع أكتر وأكتر وأنا مستغرب بس كنت بقول إنها أرزاق من ربنا، مَنكرش إني كنت مبسوط بالحال اللي وصلناله، بس في نفس الوقت كنت قلقان وخايف، خصوصًا لما أسلوب طارق اتغير وبقى يشرب ويرجع في نص الليل سكران، ومن هنا بدأت الخناقات وأنا دا كله مفكَّر إن الفلوس عمت عينه، معرفش إنه ماشي في السِكة دي بقاله زمن من ورايا، واكتشفت الموضوع بعد خمس شهور لما وقع في إيدي ورق لصفقة مشبوهة، وقتها واجهته واتخانقنا وفضلت فترة كبيرة مبكلمهوش، وطبعًا دا أثَّر على الصفقات اللي واقفة على إمضتي، فاعتذر وللأسف أنا صدقته، وكملنا بعدها عادي بعد ما وعدني إنه مش هيروح للسِكة دي تاني، لكن للأسف طِلع بينيمني علشان ياخد كل حاجة ليه والشركات والمصنع يبقوا باسمه، هان عليه الأخوة والدم والعِشرة اللي كانت ما بينا ورماني في مصحة نفسية بعد ما أثبت بالأدلة إني مجنون وغير مُتزن نفسيًا، ودا طبعًا بشهادة ناس كان مأجرهم وكِسب القضية وخَد هو كُل حاجة، تعبي، شقايا، فلوسي، بيتي، حتى مراتي اللي طلبت الطلاق بعد الفضيحة اللي طالتها إن جوزها مجنون، دمَّر كل حياتي بسبب طمعه وجشعه وفضَّل الفلوس عليا، لكن من كام شهر قِدرت أخرج من المصحة ومرجعتش، كنت عايز أشوف بعينيا ربنا وهو بيجيبلي حقي منه من غير ما أتدخل، ورغم اللي حصله وحصل لابنه، إلا إني مقهور على عمري اللي راح بسببه.

ححالة من الحيرة سيطرت على كل الموجودين، فيما تابع ماجد الحديث بقوله: وعشان الفلوس دي من حقنا فأنا ظهرت في الوقت دا بالذات عشان كل واحد ياخد حقه بعدل ربنا.
بس أنا مش عايزة حاجة.
قالتها تسنيم بجمودٍ ظاهري يخفي براكين الحُزن المخفية خلف قناعها، نظر إليها ماجد للحظات صامتًا، قبل أن يقطع ذلك الصمت بحديثه الحاسم: لأ هتاخدي، الفلوس دي من حقك أنتِ وأختك.

هبت تسنيم واقفة من مجلسها وطالعته بغضبٍ عارم وهي تصرخ به بدورها: حقي أنا وأختي ضاع من زمان أوي لما مات أبويا وسابنا لكلاب السكك تنهش فينا.

حديثها كان مُلتويًا لم يفهمه الكثير سوى ظاهرًا، لكن هي كانت تقصد ليلة الاعتداء عليها من الرجل الذي من المفترض أن يكون حاميها لا مُغتصبها! دمعت عيناها قهرًا وتجمعت العِبرات بكثافة داخل مقلتيها، كل ما مرت به لم يكن سوى كابوسًا لن يمحوه الزمان مهما طال، سيظل وشمًا مُلتصق بذهنها إلى الممات.

رأى عمها في عينيها الإصرار المُصطبغ بالكره إلى بقية أفراد عائلتها، فحاول مُراضاتها بقوله: لو مش عايزة نصيبك الشرعي في وِرث عمك ممكن تتصرفي فيه زي ما أنتِ عايزة وتتبرعي بيه، لكن حقك في ثروة أبوكِ اللي نهبه طارق منك أنتِ وأختك دا اللي مش هتنازل إنك تاخديه أبدًا.
أبويا!

نطقتها تسنيم ساخرة، فرمقها ماجد بنظرته الثاقبة التي أشعرتها بالتوتر تلك المرة، كأنه يخترق دهاليز عقلها بنظرة صامتة دامت لخمس ثواني تقريبًا، قبل أن ينطق قائلًا: أيوا أبوكِ.
حوَّل أنظاره نحو البقية وقال بعد أن وقف من مكانه مُتاهبًا للذهاب: أسيبكم أنا بقى وأروح أشوف حالي.
قالها واتجه عدة خطوات جهة منزل الباب في نية للذهاب، لكن أوقفه نداء ياسمين التي قالت بقلق: عمو. أنت رايح فين!

استدار لها باسمًا وقال: هنتقابل تاني. متقلقيش.
ومن بعدها رحل، رحل تاركًا خلفه فتاتين يُطالعون أثره بلهفة وكأنه آخر أمل لهم في تلك الحياة، رغم أن ألسنتهم لم تتفوه بأي كلمة، إلا أن أعينهم تقص الكثير!
اقتربت سارة من تسنيم تضمها إليها وكأنها تُخبرها بطريقتها أنها هُنا معها وستظل! فيما اقتربت مي هي الأخرى من ياسمين تُحيط بها من خصرها وهي تقول بشفقة:.

معلش يا عينيا متزعلش، المهم إنكم خرجتوا من الموضوع في الآخر بفلوس كتير على قلبكم قد كدا.
كتم بادر ضحكته وهو يُرسل ل سارة ضحكاتٍ مُتقطعة بين الحين والآخر، في خرجت تسنيم من أحضان سارة ومسحت دموعها وهي تضحك قائلة:
روحي يا مي ربنا يرزقك بواحد غني يبعد عينيكِ عننا عشان إحنا مش ناقصين بصراحة.

ابتعدت مي عن ياسمين وتخصرت في مكانها وهي ترفع إحدى حاجبيها باستنكار مُردفة: قصدك إن عيني وحشة؟ ما تتظبطي كدا يا تسنيم أومال!
خسئتِ يا مي! اتعدلي ومتقفيش قدام حد كدا تاني.
كانت تلك كلمات بادر التي ألقاها ل مي ليُحذرها، لكن طريقته كانت بها بعض من الحِسم والتوبيخ، فاستدارت له بحدة وحذرته بعينيها ولسانها ينطق: هتكلمني كويس ولا أقول لأمك!

احتدت عيني بادر بغضب حقيقي تلك المرة من ألفاظها السوقية التي تُوجهها إليه، مما جعلها تتراجع بسرعة وتقول: أقصد طنط!
بعد مرور أسبوعين.

كل شيء يسير على قدمٍ وساق في يلا الجداوي الآن، نعم. فاليوم هو موعد زفاف فادي وذكرى، الزفاف سيكون أسطوريًا بالمعنى الحرفي، لقد تم دعوة الكثير من رجال الأعمال ذو شأن ومكانة مرموقة في المجتمع، كما أن الصحفيين تأهبوا لتصوير كل كبيرة وصغيرة بين العروسين، المكان مُزين بطريقة وشت للجميع بأن العروس ما هي إلا أميرة ينتظرها الأمير لإنهاء مراسم الزواج، وبالمنتصف يوضع طاولة مستطيلة كبيرة مُغطاة بمفرش سيتان لامع ويعلوها باقات من الزهور البيضاء كما تحبها ذكرى.

وبالأعلى. وقفت ذكرى في مُنتصف غرفتها أمام هيكل مُغطى بقماش مُقوى لامع، كان يتضح أنه يخفي فستان زفافها أسفله، نظرت إليه بسخرية مُغلفة بالمرارة، أي زفاف هذا الذي سيُقام؟ هل يزفون الميت ببعض التهليلات والمُباركات؟ أخفضت رأسها أرضًا وشقيقتيها يرمقانها بحزنٍ على حالتها الكئيبة التي تمر بها منذ أن بدأوا بتجهيز زفافها، فيما تقدمت منها بدور تُربت على كتفها بحنوٍ وهي تقول مواسية:.

متشيليش فوق طاقتك ووكلي أمرك لربنا.
ابتلعت ذكرى تلك الغصة المؤلمة التي استحكمت على حلقها، فيما اقتربت منهما فاطمة شقيقة مروان ومدت يدها إليها بورقة مطوية بيضاء صغيرة وهي تقول: الجواب دا كان جاي مع الفستان.
انتشلته ذكرى منها وفتحته بلا رغبة، ثم قرأت ما يحتويه من كلمات بأعين خالية غير مُبالية:
ما كانت عيناكِ إلا وردتين چوار، وما كان ثُغركِ سوى حقلٍ من الأزهار،.

اشمخي برأسكِ يا سيدة الورود وكوني بي رئيفةٍ، ومن حقلِ حُبكِ السكير اعطفي عليَّ ببسمةٍ!
صوت ساخر صدح من بين شفتي ذكرى وبعدها قالت: رومانسي أوي بروح أمه.

تمتمت بها ثم سارت خُطوة نحو الفستان وسحبت الغطاء القماشي من عليه، ثوب الزفاف هذا اختارته لها بدور بعد أن تركت لها حرية الاختيار بكل برود، وللحقيقة ذوقها رفيع للغاية، فلقد انتقت لها ثوب من السيتان اللامع، ضيق في جزئه العُلوي ويهبط باتساع طفيف بداية من خصره، وأعلى الصدر يوجد عدة كرستالات لامعة مُتجمعة معًا في شكل عدة ورود صغيرة مُرتصة جانب بعضها البعض، ناهيك عن ذلك الحجاب الأبيض الذي يتدلى منه قطعة قماشية طويلة من الدانتيل ذات طبقات مُتعددة ذو مظهر خلاب للغاية.

نظرت ذكرى ل بدور بأعيُن ساخرة وهي تقول: أنتِ مختارالي فستان أحلامك ولا إيه؟
وبتلقائية شديدة وبعدم وعي ممزوج بالغباء المُحتَم نفت بقولها: لأ ما هو مش أنا اللي مختاراه.
أثارت عبارتها انتباه ذكرى التي كادت أن تتسائل عن معنى حديثها، لولا صوت سعال تسنيم الذي ارتفع في المكان فجأة ومن ثَم اتبعت فعلتها باختناقها المُفتعل:
يا ستار يارب على الخنقة اللي واحد فيها، غباء غباء غير مُتناهي يا ستار يارب.

هرولت إليها ياسمين تنفخ في وجهها وهي تُهفهف على وجهها بكفيها أثناء قولها بنبرة عالية: اتنفسي براحتك، الغبي مصيره ياخد جزاته.
كتمت جنة ضحكتها بصعوبة، فيما جاورتها رضوى على الفراش وهمست لها قائلة بضحك: وهي هتجيب الغباء دا منين يعني؟
أكيد مش من عمران يعني، حبيبي اسم الله عليه ذكي ودماغه توزن بلد.

رمقتها رضوى بسخرية مُفرطة وهي تلوي شفتيها يمينًا ويسارًا كحركة شعبية معروفة، مما جعل جنة تُطالعها بغيظٍ وهي تدفعها بعيدًا، ضحكت الأخرى بخفة قبل أن تنتفض من مكانها وتتجه نحو ذكرى حتى وقفت أمامها مُباشرةً وتحدثت بثقة:
اللي أنتِ عايزاه هيكون، المهم فرفشي وفُكي تكشيرة وشك دي، اليوم لسه طويل!

زفرت ذكرى بضيق وأجابتها بإيماءة صغيرة من رأسها، وقاطعهم بعدها دخول سارة التي تمتمت بحذر: الميكب أرتست وصلت يا ذكرى.

ازداد توترها وتهجم وجهها أكثر، شجارات عنيفة تدور برأسها المُزدحم والآلاف من الأسئلة لا تنفك وتتركها وشأنها، وإنما تتقاذف كوحشٍ مُهاجم لا يهمه سوى التهام فريسته، وهي كانت الفريسة التي اتشحت برداءٍ زائف من القوة وهي في أساسها ضعيفة هشة! ونتيجة لشرودها الطويل، لم تشعر بتفرق الفتيات من حولها وخُلو الغرفة من الجميع إلا من سواها ومن الفتاة التي أخذت مُهمتها لتزيينها، وبيأسٍ شديد استسلمت بكتفي مُتهدل وجلست على المقعد المقابل للمرآة حتى تبدأ زينتها.

وبالغرفة الموجودة بنهاية الرواق، وقف حازم أمام أخيه الذي يلف حول خصره منشفة طويلة وترك جذعه عاريًا بعد أن أخذ حمامًا طويلًا ليتجهز لليلته، رمقه شقيقه بعدم رضا، فيما تجاهله فادي باستخفاف قبل أن يستدير جهة المرآة ويبدأ بترتيب خصلات شعره المُبعثرة، لكن ما أزعجه حقًا هو تأفف حازم الملحوظ بين الحين والآخر، فاستدار إليه بنفاذِ صبر يُوبخه بعصبية:.

مالك يا حازم مش على بعضك من الصبح ليه؟ كل شوية تنفخ لحد ما خنقتني!
إلى هذا الحد ولم يستطع حازم السكوت أكثر، فاتجه إليه بخطواتٍ غاضبة حتى وقف أمامه وصاح به بحدة: أنت برضه لسه مُصمم على اللي في دماغك يا فادي؟ لسه عايز تتجوز واحدة مش قابلاك ولا حابة وجودك من الأساس؟

رمقه فادي بعينين حادتين كادت أن تُصهره من شدة الغضب، ثم اقترب منه خُطوة إضافية قبل أن يرفع سبابته أمام وجهه مُحذرًا إياه بفحيح: لو فتحت الموضوع دا تاني صدقني ردة فعلي مش هتعجبك، وسيبك بقى من دور المُضحي اللي جاي جديد عليك دا وارجع لأصلك القديم، أنا وأنت عارفين اللي فيها.

هز حازم رأسه نفيًا وعلى وجهه يتضح الاستنكار جليًا على تقاسيمه، يكادُ لا يُصدق بأنه كان نسخة حقيرة مُصغرة من شقيقه الواقف أمامه الآن، وفي تلك اللحظة تحديدًا عَلِمَ لِمَ كان ينبذه الجميع من قبل، وكيف سيتقبلونه وهو كان عبارة عن مُسخٍ مُشوه بأخلاقٍ مُتسخة وضميرٍ حاقد!

ضحكة ساخرة مصبوغة بالمرارة غادرت حلقه رغمًا عنه وهي يتراجع للخلف بظهره وأنظاره مازالت مُثبتة على شقيقه الذي يرمقه ببرود، وما كاد أن يترك الغرفة ويرحل، حتى تمتم قبل ذهابه بكلماتٍ مُبهمة لم يفهم الأخير مغزاها:
خليك فاكر إني حاولت معاك لحد الآخر، أي حاجة هتحصل من بعد اللحظة دي أنا مش مسؤول عنها.

راقب فادي أثر شقيقه باستغراب وبدأت خلايا عقله تعمل بعنفوان في محاولةٍ منها لتفسير معنى كلماته، لكن قاطع أفكاره صوت الهاتف الذي عَلى رنينه في أرجاء الغرفة، فاتجه إليه ليُجيب على المُتصل، انتظر لثوانٍ معدودة يستمع للطرف الآخر حتى جاء دَوره للحديث قائلًا:
تمام استناني ربع ساعة وجايلك، حاول أنت بس تحل الحوار على ما أجيلك.

تمتم بكلماته ثم وضع الهاتف على الكومود جانبًا، وبدأ بارتداء ملابسه على عجالة حتى يهبط مُسرعًا لرؤية المشاكل الفنية المُتعطلة في إجراءات الزفاف.
اخرجيلي يا صفرا أنا واقف برا مستنيكِ.
هتف رائف بتلك الكلمات أثناء وقوفه على مسافة مناسبة من يلا الجداوي مُستندًا على سيارته، نظرت نرجس للفتيات بنظرة سريعة فوجدت كل منهن مُنشغلة بالحديث مع الأخرى، فأخفضت صوتها وهي ترد عليه بغيظ:.

برضه صفرا؟ يعني أنا أقولك يا عسلية وأنت تقولي يا صفرا؟
استمعت إلى صوت ضحكته الخافتة أعقبها قوله المُشاكس: اخرجي بس ونتفاهم.
لأ مش خارجة، ولو سمحت متكلمنيش تاني.
زفرة هادئة خرجت من بين شفتيه وهو يتصنع الأسى، وبصوتٍ حزينٍ زائف تسائل مُجددًا بنبرة جعلتها تلين له: يعني مش هتخرجي!

صمتٌ عَمّ من جهتها وهي تتردد في إجابته، ذلك الخبيث يعلم كيف يلعب أوتار مشاعرها، وهي كالبلهاء تُصدق حديثه بل وتميل له، لذلك حمحمت بجدية مُصطنعة التقطتها ببراعة، ثم قالت بتكبر: هخرج، بس هما خمس دقايق بس يا أستاذ رائف وهرجع للبنات تاني، سلام.

تفوهت بحديثها ثم أغلقت الهاتف بوجهه مما جعله يمتعض باستنكار، وقف مكانه لعدة دقائق ينتظرها أن تأتي، لكن طال الوقت فعادت ذاكرته رغمًا عنه عن مهاتفه جده له هذا الصباح يطلب منه العودة، لن يُنكِر أن نبرته الكسيرة زعزعت جزءًا لا بأس به من ثباته، خاصةً بعد خِطة موت رأفت، رأى منه ضعفًا لم يراه من قبل، لكن هو أيضًا لم يرأف بحالته في السابق، لم يُعوضه عن طفولته المُنتهكة، بل جارى الحياة في قسوتها وغَلِظَ معه، كنت عايز أخليك راجل تلك الجُملة التي طالما كرهها منه وترجف بها بدنه من قسوتها، لا يزال يتذكرها.

لربما كلمات رأفت هي ما أذابت الكُره المُتكوم في قلبه تجاه جده، حينما أخبره أن حديث جده ما هو إلا حديثٍ تربى عليه منذ قديم الأذل، وتلك الكلمات كان يرميها على أذن رأفت كذلك، لكن حساسيته المُفرطة جهة عائلته جعلته ينظر للأمر بمنظورٍ آخر شككه بكُره عتمان له كذلك، وما أشعره بالذنب هو حديث ابن عمه له صباح اليوم حينما عنَّفه قائلًا:.

ما تكلَّلم جدك يا بني آدم أنت! جدك بيحبك ولو مكانش مهتم بيك زي ما بتقول ماكنش عبَّرك، لكن هو من ساعة ما سافرت وهو مش مبطَّل اتصال بيك بس أنت معندكش دم.
يتذكر شجارهم العنيف في ذلك الوقت وتركه للمنزل ورحيله من أمامه، وبعدما اختلى بنفسه قليلًا اتجه إلى سيارته وانطلق بها قادمًا إلى هُنا ليرمي همومه على كتف نرجس التي لا تفشل في تفتيت حُزنه ومحوه وكأنه لم يكن!

في تلك الأثناء ظهرت نرجس أمامه بملامح وجه جامدة مُصطنعة، تقدمت منه حتى توقفت أمامه وتسائلت بجدية: يا نعم؟
يا سكر!
قالها وهو يجذبها إليه حتى التصقت بصدره، نظرت نرجس له بصدمة ومن ثَم تلفتت حولها بفزع خوفًا من رؤية أحدٍ لهما، وحينما اطمئنت أنهم بعيدين عن الأنظار عاتبته قائلة: بس يا رائف عيب اللي أنت بتعمله دا إحنا في الشارع!

هزَّ كتفه بلامبالاة وأردف قائلًا: مراتي يا شيخة! وبعدين مبقدرش أقاوم حلاوتك! كل يوم بتحلوي في عيني وكأني بشوفك لأول مرة.
تصبغت وجنتاها بحُمرة الخجل، فيما دفعته بيدها قائلة بصوتٍ خافت: يا رائف بتكسف والله.
ضحك وهو يُحررها من بين يده لتستقر واقفة جواره، لكنه لم يتركها تقف دون أن يُحيط بها من كتفها، رفعت رأسها إليه في حين تسائلت: شكلك متضايق، احكيلي.

ابتسم امتنانًا على وجودها أولًا وتَفهُمها ثانيًا وهو يُعقب على حديثها: معنديش غيرك أحكيله لما تضيق بيا الدنيا.
تفوه بحديثه ثم بدأ يقص لها كل ما حدث معه كما اعتاد أن يفعل معها دائمًا، تضيق به السُبل وسبيلها هي النجاة، يذهب إليها مُعبئًا بغُبار الهموم ويعود مُنتصرًا بلا أي ضغوط، هي المكسب الوحيد الذي فاز به، مركز أمانه الكريم الذي يُطيِّب خاطره، حيويته حينما يكون مُنطفئًا، ووالدته حينما يكون يتيم.

انتهى من سرد كل ما يؤرقه فوجدها تُمسِك بكفه الآخر وتضغط عليه بكلتا يديها وكأنها تُقويه بوجودها، ثم قالت بصوتٍ حنون:.

أنت طبعًا عارف رأيي في الموضوع دا، رأفت معاه حق يا حبيبي، جدك اتربى في بيئة علمته القسوة في التربية، والده وأجداده اتربوا بنفس الطريقة فهو عنده يقين تام إن طريقة التربية دي هي الصح والابن أو الحفيد لازم يكون تحت طوع الكبير مهما حصل، مش هقدر ألوم عليك وأقولك إنك غلطان، لكن أنت ظروفك مكانتش تسمح بنوع التربية دا خصوصًا إن فقدت والدك ووالدتك في سن صغير فكنت محتاج للحنان، وطبعًا جدك هو اللي كان باقيلك، فمعاملته وطريقة تربيته اللي اتعود عليها من صُغره خلتك تفتكر إن هو كارهك، دا غير معاملة مرات عمك ليك هي اللي خلتك تكره العيلة بحالها، بس حاول تديله فرصة يا رائف يعوضك عن طفولتك اللي اتحرمت منها، جدك مش وحش وحنين جدًا ودا اللي عرفته من حنانه معايا، هو عِرف غلطه بس في وقت متأخر شوية، خليك معاه في الفترة دي قبل ما يفوت الأوان وترجع تندم.

كل كلمة تفوهت بها دلفت إلى دهاليز تفرض رأيها وبجدارة، ليست المرة الأولى التي يستمع منها إلى مثل ذلك الحديث، لكن في كل مرة يشعر بها وكأنها المرة الأكثر إقناعًا منها، زفر بيأسٍ ثم هبط بعينيه إليها وتسائل حائرًا: طيب المفروض أعمل إيه دلوقتي؟

ابتسمت باتساع لاستجابته المرضية لحديثها، مما جعلها تضم نفسها إليه أكثر وهي تقول برجاءٍ لتستميله: صالح جدك يا رائف، والله حرام عليك اللي بتعمله فيه دا، دا بيموت على كلمة منك!
مطَّ شفتيه بتفكيرٍ لعدة للحظات تحت أنظارها المُتأهبة لجوابه، تراه يتخبط بين طفولة انتُزِعَت منه بالإكراه، وبين حاضر يحكُم عليه إصلاح ما أفسده الماضي، وبعد وقتٍ من الزمن، صرَّح عن إجابته التي اتسعت لأثرها ابتسامة نرجس:
طيب.

احتلت الحماسة كيانها، فاقتربت تُقبِّل وجنته بقوة وأتبعت فعلتها بقولها السعيد: بحبك يا عسلية.
شقت الضحكات وجه رائف الذي ردَّ إليها قُبلتها بقوة أشد وهو يقول: وأنا بموت فيكِ يا قلب العسلية.
عصافير يا إخواتي!

انتفضت نرجس في وقفتها بفزع، فيما استدار رائف للخلف ينظر إلى مصدر الصوت باستغرابٍ شديد، ليجد وجه رأفت يُقابله أثناء جلوسه داخل السيارة مُستندًا بمرفقه على نافذة السيارة ويضع ذقنه على كفه وهو يرمقهم بهيامٍ زائف!
تشنج وجه رائف بسخطٍ والذي سأله ناقمًا: أنت بتعمل إيه هنا يالا؟

والله السؤال دا تسأله لنفسك، أنا جيت قعدت في العربية بعد ما اتخانقنا الصبح وخرجت زي الطور الهايج بس أنت اتأخرت فقومت نايم، وبعدين أنت تكلمني أحسن من كدا بطَّل بجاحة، مش كفاية صحتوني من النوم على كلامكم اللي يموَّع النِفس؟ واتفضل يلا صالحني واعتذر عن قلة أدبك.
دفع رائف وجهه للخلف مُعلقًا على حديثه مُستنكرًا: طب غور بقى عشان أنت اللي قليل الأدب.

قاطعت نرجس حديثهم قائلة بملل: لأ أنتوا كدا مش هتخلصوا، أنا هرجع للبنات أحسن.
نبست بحديثها ثم هرولت تاركة إياهم قبل أن يمنعها رائف من المغادرة، فاستدار رائف لابن عمه ولكمه على وجهه وهو يقول بسخط: جتك ستين بلوة، عاجبك كدا؟
حرَّك رأفت حاجبيه معًا بمشاكسة وهو يقول: عاجبني جدًا يا بيبي.
في تمام الرابعة عصرًا. أُحبكِ.

تجهزت ذكرى وارتدت فستان زفافها بعد أن انتهت من وضع زينتها الرقيقة للغاية، نظرت إلى نفسها في المرآة فوجدت ذاتها أشبه بالأميرات، ترتدي ثوب بسيط بألوانٍ هادئة ينقصها فقط الأمير الذي تُريده، أغمضت عيناها تُحاول التحكم بعينيها حتى لا تذرف الدموع وتخرب زينتها، ولِمَ ستهتم بظاهرها وداخلها مُعبء بالخراب؟

دخلت عليها روان التي اتسعت ابتسامتها على آخرها فور أن وقعت عيناها على هيئتها الملائكية، اقتربت منها لتضمها إليها ومن ثَم قالت بحبٍ أخوي صادق: شكلك زي القمر اللهم بارك! نفسي في يوم فرحي أكون حلوة زيك كدا.
بادلتها ذكرى العناق ومازحتها قائلة: هتبقي أحسن مني كمان أنا واثقة من دا، وبعدين أنتِ مجيتيش مع البنات الصبح ليه؟
ابتعدت عنها روان ومن ثَم أجابتها مُتصنعة الخجل: كنت مع الحتة بتاعتي.

اتسعت عيني ذكرى بذهولٍ والتي سألتها بعدم تصديق: حتة؟ أنتِ إيه اللي حصل لأخلاقك يا بت أنتِ؟
جنة هي اللي معلماني.
قالتنا بفخرٍ وهي ترفع رأسها بشموخ، فيما إلتوى فاهِ ذكرى بضحكة مُتهكمة وهي تقول: أنتِ اتلميتي على جنة، مش هتوردوا على جنة أبدًا.
استمع كلاهما إلى صوت نداءٍ عالٍ يأتي من الأسفل، فشهقت روان بتذكر وهي تجذبها معها رغمًا عنها على عجالة: يالهوي دا أنا نسيت، العريس قاعد مستني تحت من بدري.

نظرت إليها ذكرى بذهولٍ وشعرت كما لو أن نهايتها تقترب، ستُسجَن داخل نفق لآلاف السنين، ارتعشت أوصالها رُعبًا وهي تجد العريس المزعوم يجلس أمام أبيها الذي استعجبت ملامحه المُمتعضة، اقتربت أكثر وعلى محياها يرتسم الغرابة من الموقف بأكمله، الجميع سُعداء عدا أبيها و فادي، مهلًا! أقصد يعقوب.!
يعقوب؟

قالتها ذكرى مصعوقة وهي تُبصر بعينيها يعقوب الذي هبَّ من مكانه فور أن أتت، يستقبلها بابتسامته الجذابة ونظراته الآسرة، تركت النظر إلى عينيه بصعوبة وهي ترمق الجميع بملامح يملؤها الصدمة علَّها تستشف مزاحهم الثقيل من وجهة نظرها، وحينما وجدتهم يبتسمون تأثرًا على ردة فعلها عادت بأنظارها مُجددًا إلى يعقوب الذي يقترب منها رويدًا.

كان يرتدي بنطال من اللون الأسود وكذلك قميص من نفس اللون، ويعلوه چاكيت بذلته الرسمية من اللون الأبيض، مظهره خاطف للأنفاس وتحديدًا نَفَسُها هي، تخشب جسدها محله وهي تراه يمد كفه إليها وهو يقول بصوته الآجش:
مش يلا يا عروسة!

قبضت ذكرى على كفها وكأنها تخشى لمسه، وفي تلك اللحظة أبصرت أخيها يقترب منهما فاتجهت إليه وكأنه هو طوق النجاة، ضمها إلياس إلى صدره بقوة ثم همس في أذنها يُخبرها بسعادة: النهاردة كتب كتابك على يعقوب يا ذكرى.
هزت رأسها نفيًا فيما أكد لها بقوله: لأ بجد، تعالي يلا عشان منتأخرش على المأذون.

أبعدها ثم أمسك بها من كفها واتجه معها إلى الطاولة العريضة وأجلسها بجانب والدها المُجاور للمأذون، فيما جلس يعقوب في الناحية الأخرى ونظراته مُثبتة على ذكرى، ذكرى التي ترمق كل شيءٍ حولها بأعين تائهة وكأنها تبحث عن جوابٍ لكل أسئلتها، لكن لا جواب!
كاد المأذون أن يبدأ مراسم عقد القِران لكن قاطعه سؤال أحد الصحفيين الذي تسائل باستغرابٍ جَلي: مش المفروض العريس يكون فادي بيه؟

نظر إليه يعقوب بأعين ثاقبة قبل أن يُجيبه باستخفاف: مفيش فادي، فيه يعقوب هارون رضوان.

وبدأت المراسم. كل شيء مشوش وأتى على عجالة بالنسبة ل ذكرى، هي بالأساس لا تملك رفاهية الرفض، وإن امتلكت تلك الرفاهية بالتأكيد ستوافق على الزواج منه لا محالة، لكن أين فادي؟ أين خيري؟ لِمَ وافقَ أبيها على تلك الزيجة؟ ولِم لم يرفض أخيها طلب يعقوب؟ هل كان يعلم بما سيحدث أم أنه فوجيء بالأمر مثلها؟ هل شقيقتيها تعلمان أيضًا أم أن الأمر أتى على عجالة؟ والأهم من كل ذلك لِمَ لم تعرف هي؟

الآلاف والآلاف من الأسئلة دارت داخل رأسها حتى كاد أن ينفجر، حتى أنها لم تشعر بأنها أدلت موافقتها على تلك الزيجة بس استمرارها في شرودها، ولم تستفيق إلا حينما شعرت بيدِ يعقوب يجذبها لتقف أمامه، آسرها بنظراته ولم تبتعد، صمتت كل الأصوات من حولهما عدا صوت قلبيهما الذي ينبض بعنفوانٍ صاخب، قلبٌ يطير فرحًا وكأنه يتزوجها للمرة الأولى، وقلبٌ مذهول، وبين هذا وذاك فالعشق هو الرابط الذي يجمعهما معًا!
إزاي؟

السؤال الوحيد الذي خرج من بين شفتيها وهي مُثبتة نظرها عليه، وهو لم يُجيبها بلسانه، بل ضمها بذراعيه حتى كاد أن يدفنها بين أضلعه، ها قد عاد أمان داره مُجددًا، عادت فرحة عيناه وملاذ روحه، بعد أن كان ميتًا بجسدٍ يهوى السقوط، الآن جسده لا يرغب بشيءٍ سوى ضمها! مرت الثواني. وربما الدقائق وهما على نفسِ تلك الحالة، الصحافة تُصورهما وتلتقط لهم الكثير، لكن هما لم يشعرا بأي شيء مما يحدث حولهما.

ابتعد عنها ونظر إلى وجهها بأعيُن ترقص سرورًا، وبابتسامة وجدت الأثر في فؤادها قال: رجعتي لمطرحك، في حضني.
نظر يعقوب لأبيه فوجده يُطالعهما بسعادة غلبت على تقاسيم وجهه، الآن يستطيع القول أن جميع أبنائه وجدوا سكنهم، اقترب منهما ثم ضمَّ ذكرى إليه بحنانٍ أبوي استشعرته من مجرد عناق، ثم ابتعد عنها وقال بفخر: دلوقتي عيلتنا كِملت بيكِ يا مرات ابني.

بدأت تستوعب الآن ما يحدث حولها، لا يوجد فادي، بل يوجد يعقوب، لا يوجد خوف، بل يوجد أمان، لا يوجد قسوة، بل يوجد حنان، ابتسم ثغرها وهي تنظر لكل شيءٍ حولها بعينين يضخ فيهما السعادة، بدايةً من والدتها وشقيقتيها و إلياس، حتى صديقاتها وعائلة زوجها، زوجها؟
اقتربت حنان بدورها تُعانق ذكرى وهتفت بما أضحكها: ما شاء الله يا حبيبتي زي القمر، خسارة في الواد يعقوب دا.

تنغض جبين ابنها باستنكار وهو يقول: مالك يا ماما بس؟ ما تشوف مراتك يا حج هارون؟
رمقه هارون بنظرات مُحذرة ومن ثَم قال بصرامة: مراتي تعمل اللي هي عايزاه يا حبيبي، ويلا طير أنت من هنا وروح شوف حالك.

ضحك يعقوب ثم اِلتف إلى ذكرى فوجدها مُتحاشية النظر إليه، أو بمعنى أدق؛ تتجاهله، تنفس بعُمقٍ وهو يُملي على ذاته بأن أمامه طريق طويل حتى ينال رضاها، وهو مُستعد للسير لآلاف الأميال من أجلها، وفي تلك اللحظة قرر اختطافها قبل حتى أن تُعانق عائلتها، كفى عناقًا إلى هذا الحد، هو فقط الذي يستحق كل تلك الأحضان!

شهقت حنان بفزع من جنون ابنها حينما سحب زوجته رغمًا عنها أمام الجميع واتبعتهم كاميرات التصوير، فنظرت إلى زوجها بمعالم ممزوجة بالضيق وتمتمت بغيظ:
إحنا مش هنعمل زفة يا حَج؟ يعني أنا عاملة حسابي ومتشيكة عشان شكلي يكون حلو وفي الآخر ابنك يسيبنا ويمشي كدا؟
أحنى هارون ذراعه ووضع يد حنان بالمنتصف، ثم سار بها خارج المكان وهو يقول بمشاكسة أثناء غمزه لها:.

أنتِ مش محتاجة تتشيكي يا حنان عشان تبقي حلوة، أنتِ حلوة في كل الأوقات.
ضربت حنان كفه بخفة قبل أن تسبل عينها للأسفل خجلًا وهي تُتمتم بصوتٍ خافت: بَس يا هارون بقى!
ازداد هارون في مشاكسته لها وقال وهو يفتح لها باب السيارة لتصعد بها: يا روح وقلب هارون من جوا، يلا عشان عازمك على العشا النهاردة بدل ما شياكتك تضيع على الفاضي.

وصل يعقوب ومعه ذكرى إلى سيارة زفاف بيضاء اللون ومُقدمتها مُمتلئة على آخرها بورودٍ حمراء، وبالمنتصف يوجد قلب صغير من الورود بيضاء اللون يتوسطه أول حرف من اسم كليهما (Y&Z)، المظهر الذي سلب أنفاسها لكنها دارت إعجابها الشديد خلف قناع وجهها الواهي، مما جعل يعقوب يتسائل بيأسٍ زائف:
الحِلو مش هيرضى عليا النهاردة ولا إيه؟

وبالرغم من صمتها، إلا أنه يشعر بانفعالات جسدها عن طريق يدها المُرتعشة التي يُحيطها بكفه العريض، أخرج هاتفه من جيب بنطاله حينما لمح بدران يأتي تجاهه ومعه زهراء التي طالعت ذكرى بمشاكسة تعكس معرفتها بالأمر مُسبقًا، فبادلتها الأخرى النظرات بوعيد، في حين أعطى يعقوب الهاتف لأخيه وقال مُبتسمًا:
عايزك تصورنا صورة حلوة يا فوتوجرافر إخواتك بس وشها مايبنش فيها.

أنا مش عايزة أتصور، لو سمحت سيب إيدي أنا عايزة أمشي.
نبست ذكرى كلماتها بانزعاجٍ وهي تُحاول أن تسحب كفها من خاصته، لكنه تبدَّل وسدد إليها نظرة صارمة وهو يقول بصوتٍ غليظ: بقولك إيه اسكتي أنتِ دلوقتي واتصوري وأنتِ ساكتة.

طالعته بغضبٍ شحن الأجواء توترًا، وما كادت أن تعترض على طريقته الوقحة في الحديث حتى وجدته يميل على أذنها يهمس لها ببضعة كلماتٍ لم يسمعها سواها، جحظت عيناها رُعبًا من فظاظته وتمتمت بدون وعي:
آه يا سافل يا قليل الأدب!
لم يُعير لسبابها أي انتباه، بل أوقفها أمامه حتى طلب بدران منهما قائلًا: يعقوب. إديني ضهرك، و ذكرى اقفي قدامه وعايزك تبيني عينك بس من عند كتفه.

ظهر الاعتراض جليًا على وجهها، لكن قبل أن تهم بالرفض فعل يعقوب ما طلبه منه شقيقه رغمًا عنها، لكن بدلًا من أن تكون الصورة عادية، رفعت ذكرى عيناها له تُطالعه بعتاب، فيما أحاط هو بوجهها بكلتا يديه، فلم يظهر منها سوى عيناها اللامعة والمُزينة بألوان خلابة في جفنها بفعل مستحضرات التجميل، والتقط بدران الصورة على ذلك الوضع.
أطلقت زهراء صفيرًا معجبًا وهي تُضيف: إوعى الحلاوة!

رمقها بدران بفخرٍ ومن ثَم قال ضاحكًا: شيلي عينك من عليهم الليلة دي يمكن تعدي على خير.
تغضن جبين زهراء ورمقته بشرٍ وهي تهمس من بين أسنانها بفحيح: قصدك إيه بالكلام دا يا بدران؟
غمزها بدران بعينيه العابثة قبل أن يقول: قصدي إنك أجمل مريضة نفسية شافتها عيني النهاردة.

خجلت وأخفضت بصرها أرضًا، بينما بدران ضحك بخفة على هيئتها ثم رفع بصره مُجددًا ليرى يعقوب يُحاول أن يعبث مع ذكرى حتى تضحك، وبالفعل حدث ذلك حينما صدم ظهرها بصدره وكفها قبض عليه بيده، واليد الآخرى ثبَّت بها جسدها حتى لا تتحرك، وهُنا. التقط لهما بدران صورة أخرى كانت أكثر روعة عن سابقها.

حمحم بدران بجدية، فترك يعقوب زوجته ثم اتجه لأخذ الهاتف من شقيقه، وقبل أن يرحل نظر إلى بدران وقال مُحذرًا بشر: لو شوفت وش حد منكم لمدة سنة هقتله. ومن غير سلام.
وبعدها انطلق بسيارته بسرعة عالية، تاركًا شقيقه ينظر في أثره بغيظ، فيما تعالت ضحكات زهراء المُنطلقة، التي خفتت تدريجيًا حينما استدار لها وقائلة بعينين تنطق بعاطفة جياشة: عقبال إما أخطفك كدا يا زغلولة.

ابتسمت زهراء بحبٍ وهي تُجيبه بتمني: هانت، ربنا يتمم أيامنا الحلوة على خير.
وعلى الجانب الآخر من الحفل، قطع بدير طريق تسنيم التي تأففت بصوتٍ مسموع قبل أن تتحدث قائلة بعصبية: يوه! لو سمحت يا بدير خليني أمشي.

جائها صوت بدير الغاضب وهو يردف بعصبية أخافتها لكنها أخفتها سريعًا: هو فيه إيه يا تسنيم؟ إيه شغل العيال اللي أنتِ بتعمليه دا؟ هو مش إحنا كنا اتفقنا قبل كدا وقولنا هتقدملك وأنتِ وافقتي؟ إيه اللي غيَّر رأيك؟
تحلت تسنيم بالشجاعة وهي تنظر لعينيه بتحدٍ واضح وهي تردف بكلماتها: فيه إني غيرت رأيي خلاص يا بدير، أنا مش جاهزة للجواز دلوقتي.

ضغط على أسنانه بعنفٍ وتحدث من بينهم بغضبٍ صريح: يعني إيه مش جاهزة للجواز دلوقتي؟
يعني مش هتجوزك يا بدير.
تمتم بها بوضوحٍ دون مجاملات أو إظهار السبب، وجدت ملامحه تتحول إلى البرود فجأة بعد أن كان وجهه مصبوغ بحُمرة الغضب، توترت قليلًا لإطالة النظر إليها قبل أن يخرج من صمته المُريب بالنسبة إليها ويقول:
طب اسمعي بقى، هتجوزك بمزاجك أو غصب عنك، ولو مش عاجبك اخبطي راسك في الحيط، بس وأنتِ في بيتنا.

تفوه بكلماته دُفعةً واحدة ثم رحل سريعًا دون أن يُعطيها رفاهية الرد على حديثه، وما إن ابتعد عن مُحيطها، حتى قفزت في مكانها بسعادة عارمة، لقد رفضت عرض زواجه خصيصًا حتى تستشعر بلذة الوصول لها، تريد أن تشعر بأنها مرغوبة منه بكل ذَرةٍ فيه وليس مجرد شفقةً، لذلك لا بأس ببعضٍ من العبث!

سعيدة؟ أجل، بل ستطير فرحًا وهي تجلس جانبه الآن، لا تعرف ما الذي حدث ولا كيف حَلَّ يعقوب محل فادي، لكنها تخلصت من جبلٍ من الهموم حينما تزوجت يعقوب، وصلا معًا إلى حارتهما التي يقطنان بها، لقد ظنت بأنه سيُسافر بها، لكنه لم يفعل شيء سوى جلبها إلى هُنا!

هبط من السيارة أولًا، ثم استدار ليفتح لها الباب من ناحيتها، أمسك بها من كفها ثم جذبها لتسير بجانبه وهي طاوعته كالمُغيَبة، سارا معًا وقبل أن يصلا حيث أراد، استدار لها بنصف وجهه وقال باسمًا:
جاهزة للمفاجئة؟
طالعته باستغراب في لحظاتها الأولى، لكن استغرابها تحول إلى شهقة غير مُصدقة وهي ترى ما فعله لأجلها.

تركت يده وابتعدت عنه حتى تسنح لها الفرصة لرؤية مُفاجئته بوضوحٍ أكثر، لقد أعاد ضبط محلها بطريقة جذرية بالمعنى الحرفي، فبات أشبه بمكان واسع وفسيح يحتوى على ثلاثة طوابق، جدرانه من الزجاج وأعمدته من الطوب الفرعوني، حتى أن أرضيته من الرُخام الأسود الخام، وكل طابق يحتضن واحد من حُلمها الذي طالما تمنت لو تصل به إلى عنان السماء، وبخطٍ عريضٍ ذهبي اللون كُتِبَ على واجهة المكان وبالمنتصف تحديدة؛ سيدة الورود!

الطابق الأول كان يختصه بكافيه كبير كما طلبت من قبل، يوجد بجانبه الأيسر مطبخ أمريكي وأدوات حديثه لصُنع القهوة بكل أنواعها، وبغُرفة مُنفردة في نفس الطابق كان يوجد غُرفة كبيرة نسبيًا بها فُرن حديث لصُنع المخبوزات التي تُحبها.
وكأن الصدمة جمدتها وجعلت البرودة تَسري بأوردتها، مما جعله يتقدم منها ويُمسك بكفها قبل أن يقول بحب: تعالي نطلع فوق.

اتبعته صامتة حتى وصلت إلى الطابق الثاني، وأول ما رأت هو لون الجدران الكريمي والمُعلق عليها أقفاص كثيرة للغاية للطيور بمختلف أنواعها، الأسود والأبيض والمُختلط ألوانه، وبالأسفل يوجد أقفاص لقطط صغيرة وكبيرة من أنواع مختلفة، كما لم ينسى خزانة الطعام الزجاجية والحديثة في ذاتِ الوقت.

دمعت عيناها بعدم تصديق، كل حُلم تمنته هو حققه لها الآن دون أي عناء، أراد إسعادها وإدخال السرور إلى فؤادها فدفع كل ما يملك تقريبًا لأجلها هي!

جذبها للطابق الثالث والأخير، وتلك المرة طربَ قلبها وتعالى تنفُسها من هَول ما رأت، الطابق بأكمله يحتوي على ملايين من الورود، رائحتها حطمت صدرها واقتحمت حصون قلبها، لم يخفى عليها تلك النافورة بالمنتصف والتي تمنتها، والتي رُصَّ عليها زهور من مختلف الأشكال والألوان، نظرت حولها حيث حوائط الطابق البيضاء المُغطاة بأرفف خشبية تحمل باقات متنوعة من الورود، حتى توقفت عيناها أخيرًا على المكتب الأسود اللامع الذي يحتل الحائط المواجه للدرج، ووُضِعَ عليه يافتة رخامية سوداء مكتوب عليها بخط ذهبي ذكرى الجداوي.

وتلك المرة استدارت له ذكرى بكامل جسدها قبل أن تقف على أصابع قدمها تُحيط بعنقه بكل قوتها، ضمته كما لم تضمه من قبل، عناقٌ يجمع بين الحب والشُكر والامتنان، عناقٌ عكست فيه عشقها وأكدت بواسطته إخلاصها، هي التي عاشت حياتها خائفة أتاها ليُطمئنها، هي التي عاشت حياتها تتمنى دون تحقيق أتى ليُحقق آمالها، هو عوضًا لآلامٍ كثيرة تخطتها وحدها فجاء ليحمل معها أوزارها.

ألصقها يعقوب وشدد من إحاطتها حتى كادت هي أن تشعر بصوت أنين عظامها، دفن وجهه بين ثنايها عنقها أعلى ثيابه، كالصائم هو حصل على حصته من الطعام بعد آذان المغرب، تعطشها كثيرًا وها قد جاءت فرصته فلن يُضيعها بالتأكيد، مرت دقيقة. دقائق. أو ربما الكثير من الدقائق وهما على وضعهما هذا، حتى خرجت من أحضانه بوجهٍ مُمتليء بدموع فرحتها الممزوجة بدموع خزيها وأسفها، رفع أصابعه يُزيل مصدر آلامه من على وجهها وهمس بحنوٍ يُرهقها:.

بلاش دموع، أنا دا كله علشان أفرحك وأنت تفرحيني بضحكتك.
وبعدها أمسك باقة من الزهور الحمراء صنعها خصيصًا لها ثم قدمها لها وهو يقول:
الورد للورد يا ست ذكرى.
التقطتها منه ثم اشتمتها بعمق، الأشياء المُقدمة بحب تخترق الحصون بلا استئذان، وبالرغم من ذلك تحكمت بنفسها وتسائلت: دا كله حصل إزاي؟
هقولك، بس بعد الليلة دي مش عايز نفتح أي حاجة في القديم، صفحة قديمة واتحرقت ولا كأنها كانت موجودة في حياتنا، اتفقنا؟

أومأت له، فيما أخذها وسار بها نحو المكتب وأجلسها على مقعده الجلدي الأسود، وجلس هو على مقعد جانبها، ثم بدأ بقص كل ما حدث:.

الموضوع بدأ لما أنتِ مشيتي من هنا وطلقتك، وقتها أنا كنت زي التايه مش عارف إيه الصح وإيه الغلط، ورغم إني سألتك وأنتِ جاوبتيني بس برضه كنت حاسس إن فيه حاجة غلط، دورت كتير لكن موصلتش لحاجة، لحد ما حازم ابن عمك ضميره صحي وقرر يجي يحكيلي كل حاجة بعد ما سمه أبوه وأخوه بيتكلموا في الموضوع، وقتها أنا خطفت فادي وكنت ناوي أقرره على كل حاجة عملها عشان أسجنه، لكن لقيت نفسي بدل ما أضغط عليه؛ نزلت فيه ضرب لحد ما اتكسح تقريبًا، قررت بقى إني أسيبه على راحته خالص ويوم الفرح كلفت إخواتي ياخدوه وتبقى فضيحة ليه بجلاجل بعد ما الصحافة والإعلام كلهم يكونوا موجودين، وبكدا أكون جيبت حقك وحقي وحق الأيام اللي اتوجعنا في بسببه.

بس أنت اللي غلطان مش أنا.
تفوهت بها ذكرى بعتاب وهي تُجفف دموعها بأصابعها، فشهقت بفزع حينما جذبها يعقوب من ياقة فستانها وتحدث بتشنج: أنا اللي غلطان؟ أنتِ يا بت جايبة البجاحة دي كلها منين؟
انكمش جبينها وردت بتبجح مُبررة: أيوا أنت الغلطان، كان المفروض تسمعني وتحتويني مش تطردني برا وتطلقني، ممكن تقولي لو ماكُنتش عرفت الحقيقة وأنا اتجوزت فادي كان ممكن إيه اللي يحصل؟

اقترب منها بوجهه وهمس بحنق: تصدقي وتؤمني بالله! أنتِ مش محتاجة غير واحد زي فادي النتن دا، بجاحتكم شبه بعض.
مطت شفتيها بعدم رضا، فوقف مكانه وأخذها معه خارج المحل بأكمله بعد أن قال: خسارة فيكِ المفاجئة التانية.
انتبهت حواسها لكلماته فتسائلت بلهفة: مفاجئة إيه؟
سارا بالشارع معًا فكانا مظهرهما جاذب للأنظار، فانتفضا بفزع حينما خرجت جارتهم أم بخيت تقول بسعادة: يا حلاوة يا ولاد؟ شكلكم حلو أوي.

تصنع يعقوب الابتسام وقال بحذر: الله يكرمك يا أم بخيت.
وبعدها هرب من أمامها راكضًا، فيما ضحكت ذكرى بانطلاق قبل أن تُعاود سؤاله من بين ضحكاتها: برضه مش هتقولي إيه هي المفاجئة؟

لم يُجيبها، بل صعد بها إلى المنزل الذي قام بتغييره ثلاثمائة وستون درجة، بداية من لون الحوائط حتى الأرضية السيراميكة الموحدة، كذلك الأثاث الذي تم تبديله بآخر حديث، وما زاد سعادتها هي بلكونتها الحبيبة، تلك التي شهدت أساطير من العشق الصامت بينهما، أعاد طلاء الحوائط إلى درجة فاتحة من اللون البُني (الكافيه)، والأرضية التي غُطيت بنجيلة خضراء مصطنعة، والطاولة من اللون البُني الداكن مع أربعة مقاعد من نفس اللون، لكن ما أسعدها أكثر، هي زهور الأقحوان التي ملأ بها الشُرفة بالمعنى الحرفي، كل منطقة يوجد بها زريعة من زهور الأقحوان بيضاء اللون والتي يتوسطها بقعة صفراء.

فوجئت به يحتضنها من الخلف ويهمس بعاطفة:
كُل رُكن في البيت دا اتعمل بيكُ وليكِ، اتعمل بكل الحب الموجود في العالم علشانك.
أنت إزاي حِلو كدا؟
أدارها إليه ثم قال باسمًا بعد أن طبع قُبلة عميقة على جبينها: أنت اللي حِلو يا حِلو.
صمتا قليلًا يتبادلان النظرات الصامتة التي أخذتهم لوقتٍ لم يعلموا عدده، قبل أن يهمس يعقوب قائلًا: غنيلي، صوتك حِلو أوي.

وبالطبع لن ترفض طلبه، وأول غُنوة أتت على ذهنها هي التي يستشعرها قلبها بعنفوان، فبدأت بالغناء بسحرٍ اختطفه وغاص به بين طيات صوتها:
يا شمس يا منورة غيبي، وكفاية ضيك يا حبيبي،
يا شمس يا منورة غيبي، وكفاية ضيك يا حبيبي،
وودي يا ليالي وجيبي ولا ألاقي زيك يا حبيبي،
عمرك يا دنيا ما تخلي بي، طول ما هو ساكن في قُليبي،
عمرك يا دنيا ما تخلي بي، طول ما هو ساكن في قُليبي،
عاشقاه وداب في دباديبي، مكتوبي هو ونصيبي،.

حبيبي. حبيبي. حبيبي.
مسحور بيكِ.
قالها ثم ابتعد عدة خطوات وقطف زهرة من الأقحوان وأعاد جُملته مُجددًا، قائلًا وهو يُقدمها لها: الورد للورد يا حِلو.
وللمرة الثانية تأخذها منه، وأتبعتها بعناقٍ طويل، بل طويل للغاية، قبل أن تُقرر ممازحته بقولها:
بس برضه مش مسامحاك يا يعقوب، ربنا يجيبلي حقي منك.

تشنج وجهه باستنكار، فانفرجت شفتاه حتى يُجيبها، لكنه أطبقهما مُجددًا حينما استمع إلى جرس الباب، احتل الغضب تقاسيمه ظنًا من أن الطارق أحد إخوته، فاتجه بخطواتٍ سريعة غاضبة إلى الباب وهو يتوعد الطارق سِرًا، وما إن فتحه حتى ضيَّق ما بين حاجبيه باستغراب وهو يتسائل بريبة:
أيوا
حضرتك الأستاذ يعقوب هارون رضوان؟ مطلوب القبض عليك بتهمة قتل المدعو فادي خيري الجداوي.

استمع إلى شهقة ذكرى المُنصدمة تأتي من خلفه، فاستدار لها وهتف بسخط:
مبسوطة كدا يا بنت الفقرية؟

الفصل التالي
جميع الفصول
روايات الكاتب
روايات مشابهة