قصص و روايات - قصص رومانسية :

رواية أبناء هارون للكاتبة شروق حسن الفصل السادس والعشرون

رواية أبناء هارون للكاتبة شروق حسن الفصل السادس والعشرون

رواية أبناء هارون للكاتبة شروق حسن الفصل السادس والعشرون

عواقب لامُبالاتك تنعكس بصورة طردية لعقلك الصغير المُندثر في عِشٍ ضئيل يُشبه تفكيرك العنيد، تظن بأن الجميع يسيرون بينما أنت تقف في منتصف الطريق، عاجزٌ لا تستطيع التقدم أو الرجوع، فكلا الطريقين وجهين لعُملة صَدِئة واحدة، تفوح رائحة خزيك منها فتشعر بالنفور، حتى الأحلام التي صنعتُها في مُخيلتك، باتت تتلاشى حتى باتت سرابًا مُحتمًا!

راقبت ذكرى رحيل يعقوب بقلبٍ وجل، خاصةً وهي ترى تقاسيم وجهه التي تحولت تمامًا عما كانت منذ ثوانٍ فقط، خلعت المريول الخاص بها ثم هرعت خلفه لتلقح به بعد أن أوصت مساعدتها على الإعتناء بالمخبوزات، بينما يعقوب كان لا يرى أمامه من شدة الغضب، حتى أُذناه صُمَّت عن الاستماع لصوت ذكرى التي تُناديه، الصوت العالق بمخيلته هو صوت شقيقته الباكي والمُستنجد به، يُقسِم إن أصابها قرحٌ صغير ليُذيق عادل العذاب ألوانًا تلك المرة.

وصل أخيرًا إلى البناية التي تقطن بها شقيقته مع زوجها، ليلنح على مرمى بصره أخيه عمران يأتي بخطوات مُسرعة بعد أن رأى تجمهر الناس أمام منزل عادل، لم ينتظره، وإنما سار بين الجمع المُحتشد من الناس والرجال إلى مدخل البناية، لتتضح له صوت الصرخات المُستغيثة، لكن ليست صوت صرخات أنثوية تخص شقيقته!

صعد إلى الطابق المقصود، فوجد هالة والدة عادل تتطرق على الباب بقوة مُنادية على ابنها، وبجانبها ابنتها ريناد التي تفعل المِثل، والتي ما إن رأت يعقوب حتى استدارت له وتحدثت بنبرة مُتقدة بالشرار: إيه اللي جاب أختك هنا تاني يا يعقوب؟ إحنا مش كُنا خلصنا بقى!
طالعها يعقوب بأعين ساخرة وتقدم يطرق على الباب بقوة مُناديًا على شقيقته بصوت عالٍ: افتحي يا بدور الباب دا.

لكن لم تأتيه الإجابة، فصوت الصراخ والشِجار ظل دائرًا قرابة الدقيقة الكاملة والجميع يقف بتحفز في الخارج، بينما عمران أبعدهم فجأة بعد أن تذكر شيئًا، ثم مال بجزعه للأمام قليلًا ليُبعد السجادة الصغيرة الموضوعة أمام باب المنزل من الخارج، والتقط من أسفلها المفتاح، لقد رأى شقيقته تحتفظ به هُنا عدة مرات حينما كان يتردد لزيارتها مُسبقًا.

انتشل منه يعقوب المفتاح بسرعة ثم وضعه في المكان المخصص له وأداره ليُفتح الباب فجأة، وهُنا ظهر ما كان مخفي عن الأنظار، بدور بوجهها المدمي وقطرات الدماء التي تهبط من جانب شفتيها تُمسك بالعصى الخشبية (العكاز) التي تخص والد عادل وتهبط بها بكل قوتها فوق جسده الواهن!
وما إن رآهم عادل الملقي على الأرضية الباردة، حتى صاح مُستغيثًا بلهاث: ال. إلحقوني!

تقدم منه يعقوب بخطواتٍ وئيدة حتى وقف قِبالة جسده المُلقي أرضًا، ثم همس بشر: هيلب يور سيلف يا روح أمك.

وبعدها لم يُبالي يعقوب بأي شيءٍ حوله، وإنما هجم على عادل يُفرغ بجسده طاقة غضبه مُتجاهلًا صرخات النساء وأولهم هالة التي تُحاول المُدافعة عن ابنها الذي يصرخ تحت يديه باستماتة، بينما عمران جذب بدور له وعلى ثُغره ابتسامة مستمتعة، فيما وقف بجسده حائلًا بين ذكرى ويعقوب حتى لا يغضب من وجودها، ووقف يُشاهد بصمتٍ شامت!

وبعد دقائق عِدة أفرغ بها يعقوب شُحناته السلبية، وقف يُنفض جسد الأخير المُتكوم بعيدًا ونظراته تُلاحقه باستحقار، هو لا ينفك عن إلحاق الأذى بنفسه، إذن فليتحمل نتيجة أفعاله وتهوره.

لمح بعينه ذكرى التي كانت تُتابعه برعبٍ حقيقي، ظن بأنها خافت من عصبيته من أن يُطلقها عليها يومًا ما، لكنه جهل عن فزعها الحقيقي، أفكارها تتصارع بين بعضها البعض فتُصور لها أبشع المشاهد التي قد تمر بها معه، تُرى هل سيؤذيها إإن علم الحقيقة؟ أم سيصفح ويشفع حبها داخله عن مواجهة تلك القُنبلة من الإنفعالات؟ وبدون قصدٍ ارتعشت أطرافها حينما تقدم منها ليُمسك بكفها وينطلق نحو الخارج، وبالطبع لم يغفل عن رعشتها التي أثارت جُزءًا من تعجبه، لكنه رمى بكل تلك الأفكار جانبًا حينما أبصر والده ينتظره أمام باب المنزل وبجانبه عُمير!

نظر ل عمران بدهشة فسبقه الأخر بسؤاله المذهول: عُمير بيعمل إيه مع أبوك؟
هز يعقوب رأسه بجهلٍ وأضاف مُتفحصًا وجه أبيه الواجم بغضب: وكمان أبوك مش على بعضه، شكل ليلتنا هتبقى لمون معصفر النهاردة.
تقدم أربعتهم من هارون الذي فور وصولهم إليه سألهم بهدوء يُنافي حدة وجهه: كنتوا عند عادل بتعملوا إيه؟

طالع يعقوب وجه عُمير المملوء بالخُبث بطرف عينيه، قبل أن يُحوِّل أنظاره جهة أبيه مرة أخرى، ومن ثَم بدأ بقص ما حدث باختصار شديد، وما إن أنهى يعقوب حديثه، حتى استدار هارون جهة عُمير وهتف بجدية: تُشكر يا عمير، اتفضل أنت مش هعطلك عن شُغلك.
تصنَّع عمير الوداعة في قوله المُبتذل: ولا عطَلة ولا حاجة يا حج هارون، عن إذنك يا حج، ولو احتاجت حاجة مني أنا رقبتي سدادة.

أومأ له هارون بصمت، فيما اقترب منه عمران مُربتًا على كتفه، قائلًا بودٍ زائف مُماثل لخاصته: تسلم يا عُمير، بس الحج عنده سبع رجالة وقت ما هيحتاج حاجة هيلاقيهم في ضهره، مننحرمش من رجولتك أبدًا يا باشا.
جُملته الأخيرة كان بها نوع خَفي من الإهانة استشعره عُمير بسهولة، لكنه تصنَّع عدم الفهم وأضاف مُبتسمًا: عن إذنكم.

قالها ثم رحل من أمامهم تاركًا هارون يُحدج أبنائه بنظراتٍ حارقة، قبل أن يأمرهم بنبرة صارمة: ورايا على البيت.
نظر الجميع لبعضهم البعض بقلق وبالفعل اتبعوه إلى المنزل، وقبل أن يصلوا مالت ذكرى على أُذن يعقوب تسأله بهمس: هو الحج ماله؟
رد ببرائة وهو يهز كتفه بجهلٍ زائف: شكل أدائي معجبوش المرادي.
زوت ما بين حاجبيها باستغراب وهي تُعاود سؤاله: أداء إيه!
اتفرجي وأنتِ هتعرفي.

قالها بعد أن صعدوا إلى منزلهم، فوقف هارون أمامهم وثبَّت أنظاره على عمران وبدور مُتسائلًا بهدوءٍ عاصف: عايز أعرف إيه اللي حصل بالحرف الواحد يا عمران، وليه روحتوا اتهجمتوا على عادل في بيته؟
جعد يعقوب وجهه باستنكار وهو يُردد خلف أبيه: اتهجمنا عليه؟
قاطعه أبيه بنبرة صارمة يشوبها الحدة: قولت يا عمران.

أطبق يعقوب شفتيه على بقية كلماته وانتظر يُراقب الحديث، يبدو أن ذلك اللعين عمُير لم ولن يهدأ أبدًا، يرتدي قناع المروءة ليُفتت شملهم أمام أبيهم ويشحنهم بطاقة غضب مهولة تجاههم، لكن هارون عاقل بما فيه الكفاية، لذلم لجأ إلى سؤالهم أولًا عما حدث قبل أن يحكم على أفعالهم، وبالفعل بدأ عمران بقص كل ما حدث له، ومُهاتفة بدور المُتعجلة له ولأخيه وهي تستغيث بهم لإنقاذها من بين براثن زوجها، وتصديقًا على حديثه، أشار إلى وجه بدور المليء بالكمدات الزرقاء نتيجة لصفعه المُتكرر لها، مما أدى إلى إشعال الغضب بصدرِ هارون أكثر وأكثر.

أنهى عمران قص كل ما حدث، وبعدها استدار هارون إلى يعقوب وتسائل بنظرة ثاقبة: وأنت عملت معاه إيه؟
وبصدقٍ رد عليه الأخير قائلًا بقوة: جِبت حق أختي، ولو عليا كنت كسرتله دماغه نصين.
هز هارون رأسه عدة مراتٍ بهزاتٍ ثابتة، ثم انتقل ببصره إلى ابنته الصامتة بجمود وتسائل: وأنتِ!
عايزة أتطلق. والنهاردة.

تفوهت بحديثها بنبرة قاسية تُشبه قسوة عينيّ أخويها، ليوميء لها أبيها بصمتٍ قبل أن يأمرها بهدوء: ادخلي أوضتك دلوقتي.
وبالفعل تركت كف أخيها واتجهت نحو غرفتها بنظراتٍ خاوية لا يظهر من خلالهما أي ردة فعل، وحين اختفت من أمام ناظريهم، تسائل يعقوب بمُباغتة: عمير كان بيقولك إيه يا بابا؟
كان بيقولي إن ولادك العاقلين اتهجموا على جوز بنتك يا حج هارون وبيبلطجوا عليه في بيته.

قالها بصراحة مُطلقة، ليكز عمران على أسنانه بغيظ هامسًا بسخط: هو برضه مش عايز يجيبها لبر؟ دا اللي قال ديل الكلب عُمره ما يتعدل شكله كان معاشر عُمير على كدا!
إلتوى ثُغر يعقوب عن ضحكة ساخرة وتمتم بتهكم: الله يمسيه بالخير، كان نتن.
ضحك الجميع بخفة، فيما استدار هارون جهة عمران وتحدث بجدية: أخبارك مراتك إيه؟
المفروض هتبدأ أول جلسة كيماوي النهاردة، وأنا أكيد هفضل معاها مش هسيبها.

كان صوته ثابتًا برغم الألم القابع داخل فؤاده، يخاف إصابتها بمكروهٍ ويظل هو يتخبط بين أمواج الحياة القاسية، فبالرغم من عدم تعامله الكثير معها قبل زواجه منها، إلا أنها احتلت جزءًا لا بأس به من اهتماماته، سُرعان ما تحول إلى اعتياد يومي للاطمئنان على صحتها من إلياس، واليوم. هو لا يتخيل حياته دونها أبدًا!
انتبه الجميع إلى صوت ذكرى التي تشدقت بإصرار: وأنا كمان هفضل مع أختي ومش هسيبها.

أومأ لها يعقوب مُربتًا بخفة على ظهرها قائلًا بتأكيد: أكيد كلنا هنكون معاها.
هزت رأسها له بامتنان وهاجس الخوف والقلق يتملك منها أكثر، الأيام القادمة عصيبة للغاية، مرض شقيقتها وقلقها عليها من جهة، ومن الجهة الأخرى فادي الذي لا ينفك عن تهديدها من إخبار يعقوب بما حدث بينهما سابقًا، هي بالأساس كانت مُقررة أن تخبره بكل شيء ليلة أمس، لكنها خشت ذلك!

زفرت بضيقٍ خفي وتابعت بعينيها هارون ومعه عمران يتجهان للخارج، بينما لم يتبقى سوى يعقوب ومعه ذكرى، فأحاط بها من كتفها يُقربها لصدره وتحدث بحنو: مالك زهقانة ليه؟
أجابته بنصف مخاوفها بينما أخفت النصف الآخر لها: مش زهقانة، بس خايفة على جنة أوي، هي أصلًا صحتها ضعيفة وجسمها مش هيستحمل كيماوي، لو حصلها حاجة أنا مش عارفة ممكن يحصلي إيه!
اقترب منها مُقبِّلًا جبينها برقة وطمأنها بقوله الحنون:.

قُل لَن يُصيبَنا إِلّا ما كَتَبَ اللَّهُ لَنا هُوَ مَولانا وَعَلَى اللَّهِ فَليَتَوَكَّلِ المُؤمِنونَ، نصيب كل إنسان مكتوب عند ربنا، وقدر كل إنسان معروف من قبل ما يتولد، بس ربنا بيختبرنا وبيعرف قوة صبرنا على الابتلاء اللي بيحطنا فيه، فدورنا كمسلمين إن إحنا منملش أو نزهق، بس الدعاء والذِكر هما اللي ممكن يريحوا قلوبنا من الخوف والفزع، علشان كدا كل ما تبقي زعلانة أو قلقانة؛ قومي صلي وادعي ربنا واذكريه، هتلاقي الخوف بينزاح من قلبك تلقائيًا وبيحل مكانه الراحة الطمأنينة.

ونعم بالله.
رددتها ومن داخلها تُقسم بأن حديثه أزهر الآلاف من الورود الزابلة داخل فؤادها، فلم تُدرك تلك الابتسامة التي ارتسمت على ثغرها تلقائيًا، هي فقط تقدمت أكثر وأحاطت بخصره بكلتا ذراعيها ورأسها يستقر على صدره، ذلك الدفيء الذي يجتاحها في حضرته لم ولن تجدله مثيل، هو أخذها من أرضٍ يابسة وجعلها تُحلق في الأرجاء، كفراشة حبيسة نالت حُريتها للتو، أو كطيرٍ لم يرى الشمس من قبل والآن يستمتع ببهجتها!

أبعدها عنه برفقٍ قائلًا بابتسامة هادئة وهو يُحيط جانب وجهها بكفه: يلا انزلي اقفلي المحل بتاعك، وأنا هروح أأكد على الرجالة عندي في المحل ياخدوا بالهم من البضاعة لحد ما تتباع، وبعدها هنروح المستشفى مع أختك عشان متحسش إنها لوحدها.

وبالفعل هبط كلاهما إلى الأسفل لإنهاء أشغالهم المُعلقة، فيما بقيت حنان مع ابنتها في الغرفة تضمها إلى صدرها بحنان، ولسانها ينطق بالرُقية الشرعية، تُطمئنها بآياتٍ من القرآن الكريم، فما كان على بدور سوى الإستقرار والنوم، غافلة عن الرسالة التي أرسلها لها إلياس للتو كان فحواها:
عايز أقابلك ضروري.
يعني إيه يا فندم؟ هنسيبه هربان بعمايله دي لحد إمتى؟

تفوه بها حمزة بعدم رضا وهو يرى تهان العميد في مسألة القبض على حسن، مُماطلته تلك تزرع في نفسه الشكوك حول تخطيطهم عن شيءٍ ما لكنه عاجز عن الوصول إليه، استشعر العميد ضيقه الواضح على تقاسيم وجهه، فيما أردف بهدوءٍ مُنافي لثورة الآخر:
مفيش أي دليل يدينه يا حمزة، إحنا آه عارفين إنه مُجرد بس لحد الآن مش عارفين نمسك عليه حاجة، والمحكمة بتاخد بالإثباتات والأدلة مش بالإحساس!

جز حمزة على أسنانه بضيق وقال ساخطًا: آخر شُحنة مسكناها كانت ممكن تدينه هو وأبوه، ولسبب غير منطقي وميدخلش دماغ عيل صغير الأدلة اختفت واتسرقت؟ دا في حُكم مين دا؟ هو إحنا عيال!
قال جُملته باستنكارٍ شديد مُغلف بالإهانة الصريحة، مما أدى إلى انفعال الآخر والذي بدوره أردف بغضب: ركَّز واعرف أنت بتكلم مين يا حضرة الظابط، أنت مش هتعرفني شغلي وإيه اللي ينفع وإيه اللي مينفعش!

كل هذا كان يحدث تحت أنظار مُصعب الذي لَزِم الصمت من الثانية الأولى، وبأعيُن ثاقبتين استطاع أن يقرأ التوتر المخفي خلف غضب عميده، غضبٌ غير مُبرر أتى بعد برود صقيعي كان يدَّعيه أمامهم، لتتشكل ابتسامة ساخرة جانب فمه قبل أن يهب من مكانه فجأة ليقف بجانب شقيقه، ومن ثَم قال ببرود:
معاك حق يا فندم، إحنا فعلًا مش هنعرفك إيه اللي ينفع وإيه اللي مينفعش، تلاميذ بقى وبنتعلم من سيادتك.

طالعه العميد بريبة مُضيقًا عيناه بشكٍ في مُحاولة منه لفهم ما يدور داخل رأسه، لكن مصعب وبالرغم من مزاحه الكثير، إلا أنه يحمل الكثير من الجدية خلف ذلك القناع، ودهاءً يُصيبك بالذهول والدهشة، على عكس حمزة تمامًا، والذي يتميز بذكائه لكن عصبيته المُفرطة تُضيِّع كل شيء.
اتفضل يا حمزة أنت و مصعب على مكاتبكم دلوقتي، ولما يحصل أي جديد في القصية ياريت تبلغوني.

أومأ له كليهما قبل أن يذهبا من أمامه بخطواتٍ غاضبة عكست شعورهم، فيما ظل العميد ينظر لأثرهم الراحل ببعضِ الغموض الممزوج بالقلق!
وبداخل مكتب حمزة . صاح به شقيقه بسخط وهو يُوبخه: أنت اتجننت يا حمزة؟ إيه اللي أنت عملته قصاد العميد دا؟ حاطط راسك براسه وبتناطحه؟

ضرب حمزة على سطح مكتبه بغضب وهو يُصيح بعنف: يعني عايزني أعمل إيه وأنا شايف مجهود شهر بحاله بيضيع قدام عينيا؟ دا بيقولي ورق الصفقة التي اتقبض عليها اختفى؟
سحبه مصعب جهة الأريكة الجلدية السوداء ثم دفعه عليها برفق، وجلس بجانبه قبل أن يبدأ الحديث بقوله الخفيض: الورق متسرقش، الورق اتدارى.
زوى حمزة ما بين حاجبيه بتعجب مُرددًا كلمته الأخيرة: اتدارى! إزاي يعني اتدارى؟ وأنت عرفت إزاي؟

أرجع مصعب ظهره للخلف ليستند به على الأريكة، ثم علَّق بصره بنقطة ما في الفراغ قبل أن يُتمتم بتفكير: أنا معرفتش، أنا مُجرد بقترح، زي ما بقترح كمان إن العميد ليه يد في الموضوع!
أنت فطرت قبل ما تيجي ولا دي دعوة أم بخيت عليك؟

قالها حمزة بتشنج وعقله لا يستوعب ما يُقال، أمرٌ كهذا بالتأكيد سيفتح عليهم أبواب الجحيم من كل مكان، وصولهم كمنصب هامٍ كهذا وزرع العميد بينهم كجاسوس تعني أنها بداية الخراب! بينما مصعب ضحك بخفة أثناء قوله:
أول مرة تكون غبي يا حمزة باشا! بس معلش، خليها عليا المرادي وتعالى أفهمك الخطة الجاية هتمشي إزاي!

ليس هُناك ما هو أصعب من غرقك في ذكرياتٍ من الماضي، لا سيما لو كان ماضٍ مُلطخًا بالأوجاع، رذاذ الدماء لا ينفك أن يتركك وشأنك والابتعاد، وفؤادك يتحد مع العقل لاسترجاع تلك الكدمات، ومهما حاولت. ستظل تُحاول وتُجازف حتى تتمكن من النسيان، وإن فشلت! ستُواجه حاضرًا مليئًا بالسخط والحرمان!

دخل بدران إلى غرفة مازن بعد أن أبلغته المُمرضة بخبر استيقاظه ورغبته في رؤيته وحده، أمرًا كهذا يُعتبر إنجازًا مُدهشًا وتقدمًا كبيرًا في حالته، وذلك بعد تحوله من شخصٍ صامت مُنزوي، إلى خر يطلب ويتحدث، حتى لو كان حديثًا قليلًا للغاية، لا يزال هذا تقدمًا ملحوظًا في خطوة علاجه!

سار بخطواتٍ مُتمهلة نحو الداخل بعد أن أغلق باب الغرفة خلفه، حتى وصل إلى فِراشه وجلس على المقعد الخشبي المجاور له، ارتدى نظارته الطبية وتحدث بعملية جادة للغاية:
ها يا مازن؟ قالولي إنك عايز تشوفني!
ثبَّت مازن نظراته على خاصته وتحدث بدون مُراوغة أو تمهيد: أنا لسه بشوفهم معايا وحواليا.
ضيَّق بدران عيناه مُحاولًا فهم ما يرمي إليه، وبالفعل أدرك ما يقصده حينما استطرد مازن حديثه بوهنٍ:.

مراتي وأمي وولادي، أنا مش قادر أتخطى فكرة موتهم أو إنهم خلاص مباقوش موجودين معايا، صوتهم وهما بيصرخوا من الوجع لسه ملازمني، مشهدهم والنار ماسكة في البيت وهما جواه وأنا واقف مش قادر أعمل حاجة محسسني بالعجز لحد دلوقتي، أنا السبب في اللي حصلهم، لو كنت سمعت كلامهم كان زمانهم عايشين دلوقتي، أنا السبب.

كان بدران يستمع إليه بانتباهٍ شديد، وفي المرات العديدة التي قضاها مع مازن في جلسات علاجه أدرك بأنه شخص صالح قذفته الحياة للهاوية، فبات يتخبط بين مزلاتها، حتى حق البوح عما يشعر به قد سُلِبَ منه بدون إرادة منه، لذلك يحمل فوق عاتقيه سبب موت عائلته، على الرغم من أنه فعل ما له إليه ضميره والسير في الطريق الصالح!

لهذا اعتدل بدران في جلسته وتحدث بجدية: أنت مش هتعرف تخرج برا قوقعة الذنب اللي محاوطاك دي غير لما تسامح نفسك، لازم تبطَّل تشوف نفسك غلطانة وإن أنت السبب في موت عيلتك، أوقات بنكون عايزين نعالج السبب الأول قبل ما نعالج النتيجة، ودا اللي لازم يحصل في حالتك، لازم تشوف الحقيقة من المنظور الصح، تشوف السبب الحقيقي اللي نتج عن وفاة أفراد عيلتك، وعلشان تسامح نفسك يبقى تراجع ذكرياتك، افتكر الموضوع بدأ منين وإزاي، لازم تفتكر كل حاجة من الأول.

شرد مازن في تلك الذكرى، بعد مُحاولات كثيرة من عقله من ردعه عن تلك الفكرة المتهورة، لكنه حسم أمره في البوح، وشاركه لسانه في ذلك وكشف كل الأوراق المخفية حول حالته المُعقدة تلك.

Flash back:.

كان صالحًا، لا تُغريه مُعطيات الحياة، سواء كان حُلوها أو مُرها، صالحها أو طالحها، نجاحها أو فشلها، كان يُعطي كامل اهتمامه إلى عائلته البسيطة والجميلة في ذاتِ الوقت، والمكونة من والدته العزيزة، زوجته الحبيبة، ابنه البِكري الجميل، وابنته الصُغرى فلذة كبد أبيها، ورغم كُل هذا، إلا أن هُناك ما يُنغص عليه معيشته، وهو نسبه إلى عائلة الأمير، تلك العائلة الكبيرة والمعروفة بنجاحها وثرائها الفاحش، وبجانب هذا، معروفة بطريقها وعملها الغير أخلاقي!

حينها كان يعمل مُستشارًا قانونيًا في أحد المحاكم، وبسبب أخلاقه العالية وأمانته التي عُرِف بها، بات جميع القُضاة يستشيرونه في كل كبيرة وصغيرة، مستواه المعيشي بات أفضل، وعلاقته مع عائلته تتحسن كل يوم عن ذي قبل، وذلك بعد أن انفصل عن العيش في قصر العائلة الكبير وذهب ليسكن في منزل آخر أصغر من قصر عائلته الشاهق.

مرت الشهور وكل شيء على ما يُرام، حتى أتى ذلك اليوم الذي قلب حياته رأسًا على عقب، وذلك حينما عُرض عليه أحد القضايا وبدأ في تفحص الأدلة والبحث أكثر وأكثر، قضية تابعة لمُتهم تابع لإحدى الجماعات الإرهابية الخطيرة، وذلك الشخص كان من ذَوي الشأن وذو مكانة عالية في المجتمع الثري، يتذكر حينما أتى إليه أحد أفراد عائلة ذلك الشخص وعرض عليه رشوة مالية ضخمة مُقابل تبريء ابنه من تلك القضية المنسوبة إليه، لكنه رفض رفضًا شاسعًا وهدده بكل وضوح بالزج به في السجن.

ومن بعدها بدأت حياته تسوء أكثر، عندنا كَثُرت التهديدات بقتله إن لم يبتعد عن تلك القضية، فما كان عليه سوى أن يرمي هذا الحديث خلف ظهره ويستكمل عمله بكل صراحة، حتى فُوجيء بمكالمة من أحد الجيران الجُدد يُخبره بها بكل جزع: إلحق يا مازن بيه! البيت بتاع حضرتك النار قايدة فيه ومش عارفين نطفيها!

لا يعلم ما الذي حدث بعدها، كل الذي شعر به هو وقوفه مُتصنمًا أمام عربة الإسعاف وأجساد عائلته تخرج أمامه مُتفحمة لا يظهر عليهم أي معالم! حتى حقه الوحيد في توديعهم قد سُلِبَ منه وهو يرى الغبار يخفي أجساد أكثر الأشخاص دعمًا وحُبًا له، حياته الهادئة دُفِنَت معهم أسفل ذلك الغبار، فبات كالمُشرد التائه بين الطُرقات، يتخبط في ذلك وذاك وهو يصرخ، نعتوه بالمجنون بينما العالم هو الأكثر جُنونًا!

وهُنا صدقت تلك المقولة التي قرأها مِرارًا لكنه لم يعلم معناها الحقيقي سوى الآن: كُنا نَحيى لولا الآخرين! .

ومن بعدها ثارت ثورته وهددهم بفضح كُل مُخططاتهم القذرة التي انتهت بقتلهم لعائلته، لكنهم استطاعوا بكل بساطة أن يتهموه بالجنون وذلك بشهادة الجميع الذين رأوا اختلاف طباعه الشاسع بعد وفاة أحبائه، وها هو انتهى به المطاف في أحد المستشفيات النفسية، بعد أن تحولت حياته من مستقرة هادئة، إلى مُبعثرة مُشتتة!
Back:.

أنهى قص حياته البائسة بوجهٍ جامد، لكن مقلتاه كانت تعكس ذلك الجمود وتُترجمه إلى ألمٍ شديد، تلك الدموع المُتحجرة داخلهما كانت تروي بئس ما عاناه في فترته الأخيرة، شخصٌ عاش ترف الحياة وحُلوها، بين ليلة وضحاها بات ضحية لمجتمعٍ فاسق!

لم يكن العالم فقد هو مَن اجتمع ضده، وإنما أبيه أيضًا عندما نافس عمه على علاجه ليعود طبيعيًا مُجددًا، حتى لا يكون ابن رجل الأعمال مُسعد الأمير مجنونًا! وعرض مُكافئة مالية ضخمة على نجاح تلك الحالة!

كان بدران يعلم أن المجهود الذي بذله في تلك الجلسة جبارًا للغاية، لذلك لم يستعجب حالته عندما أغمض عيناه بوهنٍ ليسبح بعيدًا في عالمه الإفتراضي، عالم اختاره بخضم إرادته ليهرب إليه كيفما يشاء، لذلك تنهد بهدوءٍ مُطالعًا إياه بأسى حقيقي وإنسانيته تطغي على عمله بوضوح تلك المرة، علاجه بات قريبًا وهو يوقن ذلك جيدًا، لكن! ما الذي سيحدث بعد!
خيري بيه كنت عايزة حضرتك في موضوع ضروري.

هتفت بها الخادمة وهي تبتلع ريقها بقلق، والذي ازداد حينما رفع أنظاره من على أوراق مكتبه وثبَّتها عليها، قبل أن يهتف بتأهب: سامعك يا سماح.
ظلت قرابة الدقيقة مُترددة في إخباره عن استماعها لحديث كل من فادي وابنة عمه تالين حينما أخبرته بحملها منه، وحينما رأت إمارات الغضب بدأت تتشكل على وجهه، أسرعت في إخباره بكل ما تعرفه!

أنهت حديثها تزامنًا مع صراخه المُهتاج بها وهو ينتفض من مكانه: إيه اللي أنتِ بتقوليه دا؟ أنتِ اتجننتي!
ارتعشت أوصالها بفزع وهي تُبرر له برعبٍ بالغ: والله العظيم يا خيري بيه أنا قولتلك كل اللي حصل وما كدبت عليك في كلمة واحدة.
صاعقة كُبرى حلت فوق رأسه ولا يعلم من أين أتت، فادي! و تالين! اللعنة على هذا المأزق، إن عَلِمَ شقيقه صالح ذلك وحقيقة حمل ابنته من ابنه، سيقلب العالم فوق رؤوسهم!

ارتمى خيري على مقعده بصدمة ونظراته جاحظة بعدم تصديق، عقله يدور ويعمل في كل الاتجاهات في محاولة منه للبحث عن حلٍ سريع، رفع أنظاره إلى الخادمة التي تُطالعه بهلع وتمتم بفحيح أرعبها: الكلام اللي قولتيه دا لو خرج برا البيت دا رقبتك هتبقى التمن.
أومأت له بسرعة لتنجو من براثنه، وهرولت تخرج من الغرفة بعد أن أشار لها بالذهاب، تاركًا إياها تصفع ذاتها بشدة على غبائها.
بت يا رحمة! أصبغ شعري بنفسجي ولا فسفوري؟

تجعد وجه رحمة باشمئزاز وتشنج وجهها بقرف وهي تسأله: بنفسجي ولا فسفوري؟ أنت أهطل يابني!
رددت الأخيرة مُستنكرة حديثه، فردت والدتها بدلًا منها تُوبخها: اتكلمي مع ابن عمك عِدل يا بت أنتِ!
رفعت رحمة طرف شفتيها بسخط، فيما أكملت نعيمة حديثها مُوجهة إياه نحو مروان الذي يتناول من طبق الحلوى الموضوع أمامه باستمتاع: كُل يا حبيبي، واصبغه بنفسجي هيكون حِلو عليك.

قذف لها مروان قُبلة في الهواء وهو يهتف بامتنان: أنا طول عمري أقول مليش غير مرات عمي نعناعة حبيبة قلبي، ليكِ عليا لما أتجوز هجيب مراتي تقعد عندك كل يوم.
دا يوم المُنى يا حبيبي هو أنا أطول تيجي تقعد عندي أنتِ وسعيدة الحظ اللي هتتجوزك!

تمتمت بها نعيمة بحُسن نية وغفلت عن نظرات رحمة الحارقة ل مروان، الحقير يهتف أمامها بكل تباهي بأنه سيتزوج وسيأتي بزوجته إلى هُنا؟ ضحكة ساخرة غادرت حلقها أثناء مُطالعتها له بغضب، بينما هو تجاهل نظراتها وأكمل تناول حلواه وهو يحاول كتم ضحكته بصعوبة.
وهُنا خرجت زهراء من غرفتها بعد أن أدت فريضتها قائلة بضجرٍ زائف: هو أنت داخل خارج واكل شارب قاعد نايم عندنا طول النهار؟ معندكش بيت؟ معندكش شغل؟ معندكش حياة؟

ممكن تجيبيلي كمان حِتة بسبوسة يا مرات عمي؟
قالها مُتجاهلًا حديث زهراء وهو يمد يده ل نعيمة بالصحن الفارغ حتى تأتي له بآخر مُمتليء، فأخذته منه بالفعل وذهبت لجلب ما يريد، اقتربت زهراء من مروان وجلست بجانبه على الأريكة، تاركة مسافة كبيرة نسبيًا بينهما، ومن ثَم تسائلت بانتباه:
هو قولي بقى! أنت و عبير سيبتوا بعض ليه!

تركت رحمة ما بيدها وركزَّت في إجابته التي تمتم بها بضيق: كانت طماعة، طماعة أوي، حسيت بجشعها لما عِرفت إن كل حاجة بابا كتبها باسمي، كانت عايزاني أسيب أختي وأمي عند أخوالي عشان مياخدوش نصيبهم من الميراث، من بعدها كِرهتها ولقيت فرصة إن إحنا نكمل مع بعض صعبة.
همهمت زهراء بإدراك ومن ثَم أردفت بعدم رضا: قولتهالك قبل ما تخطبها، رغم إنها كانت صحبة رحمة بس ماكنتش برتاح ليها، خبيثة وسِمَّاوية.

أومأ لها مروان وتمتم قائلًا: ربنا يسهلها.
يارب.
آمن الجميع على دعائه، بينما نعيمة أتت بطبق حلوى آخر ل مروان الذي هتف بحماس: حبيبة قلبي ربنا يباركلك يارب.
خرج بدير من جامعته يُدندن بصوتٍ خفيض بعد أن قرر الذهاب إلى مُحاضراته اليوم، كل شيء يسير على ما يُرام معه في تلك الفترة، عدا فؤاده، الذي يفرض هيمنته عليه رغمًا عنه، فينبض بعنفٍ عِند رؤيته لإحداهن فجأةً، والمقصود بإحداهن هي؛ تسنيم!

لا يعلم كيف وصل لتلك المرحلة معها، في البداية كان يُحِب مُشاكستها، والآن!
قاطع تفكيره صوت نفير سيارة قوي أتى من جانبه على بغتة، وآخر ما استمع إليه هو صوت الصرخات التي تجمعت من حوله قبل أن تصدمه السيارة بكل قوتها ويفقد وعيه بعدها!

الفصل التالي
جميع الفصول
روايات الكاتب
روايات مشابهة