رواية أبناء هارون للكاتبة شروق حسن الفصل الثامن والثلاثون
أنا هُنا حينَ يخذُلكِ الجميع وينبُذكِ بَنو البشر، أنا هُنا أُعانقكِ بروحٍ تغدو تُحلِق بعد أن أرى ابتسامتكِ، أنا هُنا لأضُمكِ بين أحضاني واحتجزُكِ داخل أضلعي، أنا هُنا أُصبِح كالتائه الشريد عِند ابتعادكِ، وأجد مرساي بعد أن تطُلي، أنا هُنا حينما تكونين هُنا، وأتلاشى بعد أن تذهبي!
أخذ حمزة زوجته بعد أن استأذن من والده ليذهبا قليلًا، أخذها لمكانٍ نائي اختاره خصيصًا لمثل تلك اللحظة، احتفظ بمشاعره ليستطع البوح بها في مثل ذلك المكان وبتلك السرية، وهي تاهت به ولم تتسائل حتى إلى أين سيذهبا، يكفيها وجوده جوارها، يكفيها أمانًا واستقرارًا، ذلك الدفئ الذي يجتاحها عِند وجوده يُعطيه الحق في خطفها إن أراد.
شعرت بتوقف السيارة فنظرت حولها من النافذة علَّها تستكشف المكان لكن الظُلمة كانت هي المُسيطرة، عادت بأنظارها إليه وسددت له بصرها بتساؤل صامت بعينيها المكحلة لكنه لم يرد بما يُطفيء فضولها، وإنما استند بمفرقة الأيسر على مِقود السيارة وتسائل بنظراتٍ هائمة تعكس عشقًا مدفونًا داخله: الكُحل مبروز عينيكِ، شكلك يسحِر!
ابتسمت عيناها قبل ثُغرها فضاقت تزامنًا مع زيادة لمعانها، كانت تلتمع بشغفٍ مصبوغ بحبٍ ساحق، باتت مُتعلقة به كالطفلة، تخشى ذهابه وهُجرانه، وتخشى قسوته بعد اطمئنانٍ، لكنه وعدها بعدم التغيُّر، وعدها بأن يكون أباها الذي حُرِمَت حنانه وتجرعت مرارة قسوته، فكما العادة تُخبره ب أنا خايفة يا حمزة، فيُجيبها بعشقٍ ينطقه نبرة صوته أنا هطمنك يا رضوى.
كان هو أول مَن يقطع الصمت الدائر حينما ترك مكانه وهبط من السيارة ليستدير سائرًا للناحية حيث تجلس هي، ثم فتح باب السيارة وجذبها من الداخل لتكون مُحاصرة بين السيارة وأحضانه، ابتسمت وصعدت منها ضحكة خافتة بعد أن قرَّبها منه أكثر وقال بمراوغة:
مجهزلك مفاجئة حلوة زيك.
اتسعت عيناها بشغف وتسائلت بنبرة مُتلهفة: مفاجئة إيه؟
هاتي بوسة وأنا أقولك!
ظنها ستتردد أو سترفض أو حتى ستخجل، لكنها باغتته بقُبلة سريعة على وجنته وقالت بابتسامة مُتسعة: أدي البوسة، فين الهدية بقى!
تعالت ضحكاته وهو يُحررها من بين أحضانه وسحبها خلفه وهي تتبعه مُشارِكة إياه الضحك، حتى وصلا أخيرًا إلى منطقة مُظلمة لا يظهر فيها شُعاع نورٍ واحد سوى الذي يصعد من السيارة التي ابتعدا عنها لمسافة لا بأس بها، كُل ما طالته عيناها بأنها في منطقة تُشبه الجبال، لكن ما بالها تشعر بملمس وصوت العُشب أسفل قدميها! ازدادت حيرتها وانفجرت شفتاها تكاد أن تسأله عن مكانهما، لكنها أطبقتهما مُجددًا حينما استمعت إلى صوت فرقعة أصابعه الذي أتبعه إضاءة الأنوار من حولهما!
اتسعت عيناها بانبهارٍ بلغ عنان السماء، كُتِمَت أنفاسها من هول ما ترى من جمالٍ آخذ وسالب للأنفاس، لن تُبالِغ إن قالت بأنه جلبها إلى أروع مكان رأته طيلة حياتها، فكان عبارة عن مجموعة من التلال العالية والمُتراصة بجانب بعضها البعض، يُغطي العُشب الأخضر كل إنش بأرضيته الخضبة، ومُعلق بها أفرُع من الضوء الأصفر بكل درجاته، ناهيك عن تلك النقطة التي تبعد عنهما عدة أمتار، حيث تم وضع فروع من النور على أغصان تلك الشجرة المزروعة والتي تفرد جذوعها على بُقعة كبيرة من المكان، وأسفلها موضوع عدد من الوسائد القطنية المُخططة وكُرسيين يتوسطهما طاولة صغيرة موضوع عليها الشموع.
حوَّلت أنظارها إليه ترمقه بعدم تصديقٍ بالغ، فكرة أن يُحاول أحدهم من أجل سعادتك ولو مرة واحدة تبدو رائعة للغاية، أن تكون أنتَ أساس السطور لا الهامش، أن تُصبح الأصل لا المُزيف، كل تلك المشاعر هو الوحيد الذي جعلها تعيشها بكل جموح، بينما هو كان يُتابعها بابتسامة عذبة مُتمتعًا بطلتها السالبة أثناء وضعه لكفيه داخل جيب بنطاله ومُستندًا على جِزع الشجرة الضخم، ناهيك عن زفاف عيناه لها!
فوجيء بها تُهروِل إليه وتنطلق إلى أحضانه لترمي بحِملها كله عليه، ورغم مُفاجئته من حركتها المُباغتة التي كادت توقعهما معًا، إلا أنه استعاد توازنه وضمها إلى صدره بقوة تُماثِل قوة ضمتها، هو يعلم بكل تلك الصراعات التي تدور داخلها ولا يلومها، نشأتها وتربيتها الخاطئة جعلتها شخص يشك بمصداقية مَن حوله، قسوة والدها جعلها تفقد ثقتها بكل الرجال ظنًا بأنهم يشبهونه، لكنه جاء وكسر كل مُعتقداتها، كفارسٍ مغوار رأى أميرته حزينة فأقسم على إعادة إحياء قلبها من جديد.
أبعدها عنه بعد دقائق لا يعلم أحد عددها، ثم جذبها معه ليجلسا معًا على الأرض العُشبية الموضوع عليها مفرش كبير يتسع لهما وللوسائد القطنية، رفع أنامله ليرفع رأسها حتى تُواجه عينه، وبأنامله قام بمسح دموعها التي سقطت رغمًا عنها، طالعته بأعيُن مُمتنة لامعة ازدادت لمعانًا حينما بدأ هو الحديث بقوله الحنون: أنا عارف إنك اتأذيتِ في حياتك وشوفتي كتير أوي، وعارف برضه إنك صبرتي وجيتي على نفسك زيادة عن اللزوم، بس أنا من دلوقتي مش عايزك تشيلي أي هم تاني، أي مشكلة هتحصل في حياتك دلوقتي هكون أنا اللي متكفل بحلها، عايزك ترتاحي وتبعدي عن نفسك أي زعل أو حزن ممكن يأثر عليكِ، العيون الحلوة دي خسارة فيها الدموع والحزن، ولو في يوم دموعك نِزلت اعرفي إنها هتكون من الفرحة مش من الزعل، بوعدك يا رضوى إني عمري ما هاجي عليكِ في يوم ولا هستغل نقطة ضعفك ضدك، لإن محدش بيستخدم نقطة ضعف ضد نقطة ضعفه! وأنتِ نقطة ضعفي.
أنا بحبك أوي يا حمزة.
قالتها وهي ترمي برأسها على صدره موضع قلبه فاستمعت إلى صوت نبضاته الثائرة، لتستمع إلى إجابته التي أشعلت لهيب عشقها: وأنا عديت مرحلة الحب من زمان أوي، أنا بقيت بيكِ مُتيم.
ابتسمت بصدقٍ فأبعدها عنه لبضعة سنتيمترات ثم تمدد على ظهره واستند برأسه على الوسادة الرقيقة من خلفه، ثم جذبها لتصير بين ذراعه وأنظارهما مُتعلقة في السماء الداكنة التي يُزينها الكثير من النجوم، مظهر رائع في مكانٍ لا يقل عنه في الروعة، وازداد جمالًا مع لفحات الرياح التي هلت عليهم لتبدأ في تحريك أوراق الشجر وفروع الضوء المُزينة حولهما!
أنا أول مرة أشوف المكان دا!
طالعها ضاحكًا بطرف عينه ثم عاد لينظر إلى السماء وهو يقول: كل حاجة في المكان هنا صناعية بس أشبه للحقيقة، المكان دا أساسًا كان جنينة كبيرة أوي صاحبه قرر يعمل فيها مناظر طبيعية تخليها مميزة عن غيرها من الجناين، علشان كدا ممكن تحسي إن إحنا في مكان مش موجود في مصر، مكان بعيد عن الدوشة والناس والفوضى الموجودة في العالم، مفيهوش غير الزرع والشموع والأضواء وأنتِ، ويا بخت مَن كان أنتِ أنيسه!
ضمت ذاته لعناقه بينما هو شدد من احتضانها هو الآخر لاثمًا جبينها بقُبلة عميقة وضع فيها كل مشاعره، وعادا ليُطالعا السماء المُزينة بالنجوم وسط جو مليء بالأُلفة والحب.
عيناه دائمًا ما كانت تُخبرني بأني الأفضل والأجمل على الإطلاق، الآن أرى فيهما انطفائًا وأد مشاعر وُلِدَت من رحم الحب!
ابتعدت تسنيم بعينيها عن بدير الذي كان مُتجاهلًا لها تمامًا منذ بداية عقد القران، ابتلعت تلك الغصة المريرة التي استحكمت حلقها واتجهت للأسفل لتبتعد عنه بقدر حاجتها للاختلاء بذاتها، تنفست بعمقٍ وهي تشعر بأن كل ما حولها مُظلم وكئيب، كم تود أن ترحل عن هذا العالم إلى عالم آخر لا يوجد بها سواها، كم تود الركض والتحليق بعيدًا!
استدارت بمُباغتة حينما استمعت إلى صوت رجولي يأتي من خلفها يستسمحها باحترام وهو يتلاشى النظر إليها: بعد إذنك يا آنسة!
احتلت القشعريرة جسدها وبدأ الخوف بالنمو وهي تراه ذلك الغريب أمامها، هي حتى الآن لم تتخطى مُصيبتها، لذلك ابتعدت عن البوابة بسرعة جعلته يُطالعها بتعجب لبُرهة من الوقت قبل أن يتخطاها ويصعد للأعلى، حاولت تسنيم تهدأة تنفسها وهي تُخرج ما في جبعتها ببطئ، خانتها دمعة حارقة تعكس المرارة التي تشعر بها، لكنها مسحتها على الفور قبل أن يلحظها أحد وذهبت لتسير بعيدًا عن المنطقة بأكملها.
ظلت تسير لا تعلم وجههتها بالتحديد، وبما سيُفيد وهي بالأساس تائهة! أطلقت زفرة حارة شعرت بها تصعد من داخل أعماقها الجريحة، أو عُذرًا! أقصد روحها المُنتهكة، دخلت منطقة مُظلمة بالماضي كانت تُخيفها ظُلمتها، لكنها الآن أكثر منها ظلامًا وغبطة فلِمَ تخاف؟
استمعت إلى صوت أقدام يأتي من خلفها، أثار ذلك انتباهها وبشدة وبدأت وحوش الخوف تُسيطر عليها من جديد، سرت القشعريرة بجسدها وتسللت البرودة لأطرافها فباتت مُتجمدة، حتى أن دقات قلبها تعالت لدرجة صاخبة تكاد أن تصمها، هي أتت إلى هُنا لتبتعد عن الجموع، لكنها غلفت لحساب تلك النقطة!
وبقوة مُصطنعة استدارت على بغتة لترى مَن يسير خلفها، لتُطلق زفرة مُرتاحة عقب أن وقعت عيناها على بدير الذي سار خلفها منذ أن تركت المنزل، تغضن جبينها بانزعاجٍ واستدارت مُكملة سيرها وهي تتسائل بضيق: جاي ورايا ليه؟
وضع كفيه في جيب بنطاله الأسود وسارع قليلًا في خطواته حتى يُجاورها، وذلك قبل أن يُجيبها بانهاكٍ بلغ مبلغه داخل عقله: مش عارف.
غادرت ضحكة ساخرة شفتيها لكنها تحمل المرارة بين طياتها، استطاع بفؤاده أن يستشف سببها مما جعله يقول بشجنٍ ممزوج بالحب الذي لم يستطع إخفاؤه:.
تسنيم أنا مغدرتش بيكِ زي ما أنتِ فاكرة ولا هغدر، أنا والله العظيم ما عارف إيه اللي بيحصلي ولا التوهان اللي أنا فيه دا من إيه، حاجات غريبة بتحصلي ووشوش وأصوات في دماغي مش قادر أسيطر عليها، ومش عايز أحكيلك عشان عارف ومتأكد إنك هتفهميني غلط، أنا بس عايزك تديني فرصة ألاقي حل لمشكلتي عشان مجرحكيش، أنتِ تستاهلي تتشالي فوق الراس وأنا مش عايز أضايقك، كل اللي محتاجه كام يوم بس أصفي ذهني وأرجعلك من تاني، ولو فاكرة إني هبعد تبقي غلطانة، دا أنا ما صدقت لقيتك!
لن تُنكر بأن حديثه أثلج صدرها وبدد خوفها المزروع في فؤادها، وقفت تنظر له في الظلام تُرسِل له بعينيها إشاراتٍ ترجوه فيها بعدم خذلانها، يكفيها خذلان العالم لها، عانق عيناها بخاصته ووقف مُقابلًا إياها، كل شيء من حولهما مُظلم ولا يوجد سوى لمعة عيناها التي يراها، وكأنها تهديه في دربه مثلما تفعل هي في حياته، رسم ابتسامة طفيفة على ثُغره قبل أن يسألها بشيءٍ من اللهفة:
موافقة تستنيني كام يوم يا تسنيم؟
انتظر الإجابة على أحر من الجمر، يعلم بأنها في أشد حالاتها ضعفًا واحتياجًا، لكنه تائه هو الآخر ولا يعلم سبب تيهته تلك، لكنها أراحت وجدانه حينما أومأت برأسها بالإيجاب أعقبه قولها الممزوج بالحسم:.
موافقة يا بدير، موافقة عشان معنديش حل تاني، يمكن أنت تكون الأمنية الأخيرة اللي بتمناها في الحياة دي، بس لحد ما تصفي ذهنك زي ما بتقول فأنا كمان محتاجة أكون بعيدة عن كل حاجة كام يوم، يمكن أعرف أرجع أتعامل من تاني مع الناس من غير خوف.
كان قد ابتسم على بداية حديثها، لكن ابتسامته قد خفتت حينما أكملت بقية الحديث، لذلك ضيَّق عيناه بريبة وهو يتسائل بحذر: قصدك إيه بإنك هتبعدي؟
ثبتت أنظارها على وجهه وهتفت بقوة مُعاكسة لضعف روحها: يعني هبعد عن حارة هارون كام يوم لحد ما إحنا الاتنين نكون جاهزين إن إحنا نعلن علاقتنا لكل الناس من غير تردد أو خوف من نظراتهم.
لم يُعجبه الحديث وقال بضيقٍ ظهر في نبرته: ممكن نعمل كدا وأنتِ موجودة هنا برضه، ليه عايزة تبعدي؟
عشان أنا أستاهل يتحاول علشاني يا بدير، أنا لا قُليلة ولا معيوبة علشاني تاخدني سهلة كدا، واللي حصل معايا أنا وأنت عارفين إنه خارج إرادتي، محتاجة اتأكد إنك فعلًا عايزني علشان أنا تسنيم مش شفقة منك.
فهم ما ترمي إليه وشعورها بالنقص الداخلي رغم ما تدعيه من قوة، وللحقيقة لم يرغب بالضغط عليها أكثر، خاصةً وهو يرى إلتماع الدموع بعينيها وارتعاشة صوتها التي ظهرت رغمًا عنها، لذلك أومأ لها مُبتسمًا برفقٍ قائلًا:
اعملي اللي يريحك، وخليكِ متأكدة إني ميهمنيش غير راحتك لإني مليش غيرك زي ما أنتِ ملكيش غيري.
رفعت أناملها لتُدلك عينها حتى تُخفي أثار دموعها وهي تقول: ملكش غيري إزاي يعني؟ أنت عارف لو الحج هارون والست حنان وإخواتك لو سمعوك هيعملوا فيك إيه؟
حاول مزج رده بنبرة من المزاح وهو يقول ضاحكًا: إخواتي؟ دول ميقدرش عليهم غير واحد مُفتري زيهم وأنا غلبان وحنين، وأحلاهم على فكرة!
قال جُملته الأخيرة بعبثٍ جعلها تضحك بانطلاقٍ وهو يتابعها بعينانٍ عاشقة، توقفت عن الضحك بعد لحظات فمد كفه بجانبه مُشيرًا حيث الطريق وقال بضيقٍ زائف قبل أن يسير بجانبها:
ياريت حضرتك تتفضلي عشان نرجع بقى بدل ما الحج هارون يفكر إني خطفتك بالإكراه ولا حاجة!
وبالعودة إلى منزل هارون، صعد ذلك الشاب درجات السُلم بتردد يشوبه بعض الخزي، لكنه أصرَّ على الإكمال وإتمام ما جاء لأجله، وصل إلى باب الشقة فوجد شابًا آخر في مثل سِنه تقريبًا أو أصغر منه بأعوامٍ قليلة يقف بنفس حالة التردد، فوقف أمامه بتعجب وتسائل:
هو حضرتك مين؟ أنا أول مرة أشوفك هنا!
طالعه حازم بنظراتٍ مُتشنجة ورد عليه بسخطٍ ناتج عن توتره: وأنت مالك أنت؟ مفكَّر نفسك جوز أبويا ولا خطيبتي؟ بقولك إيه ابعد عني دلوقتي الله يكرمك.
أثارت وقاحته من غضب الآخر الذي زمجر به بحدة قائلًا بنفور: ما تتكلم عِدل يا جدع أنت، إيه جوز أبوك دي؟ دا أنت بني آدم قليل الأدب بصحيح!
سدد له حازم نظرة نارية وبدأ غضبه بالتزايد حقًا تلك المرة، فلم يجد سوى دفع الآخر بقبضته من كتفه بحدة حتى عاد عدة خطوات إلى الخلف، اشتعل غيظ الثاني فلم يجد مفر من لكم حازم الذي اصطدم بعنفٍ في باب المنزل، ومن هُنا بدأت مشاجراتهما ومعها ازداد عنفهما معًا!
خرج يعقوب من المنزل والذي استمع إلى صوت جلبة تأتي من الخارج وخلفه خرج هارون ليظهر لهما المشهد كاملًا مع تعجبهما من وجود هذان الاثنان هُنا تحديدًا، انتقل يعقوب ببصره بينهما حتى صاح بتعجب ممزوج بالسخط:
حازم وعُمير؟ بتعملوا إيه هنا؟
كانا كُلًا من حازم و عُمير يمسكان بعضهما البعض من تلابيب ثيابهما بقوة حتى تبعثرت، وما إن رأوْا هارون ومعه ابنه البِكري يعقوب توقفا عن النزال الطفولي وطالعوهما بأعيُن مُذنبة تختلف تمامًا عن النظرات الحاقدة التي كانا عليها من قبل!
وأول مَن بدأ بالحديث هو عُمير الذي تحدث باحترام مُوجهًا حديثه للأكبر سِنًا: إزيك يا حج هارون؟
زجره حازم بغضب ناكزًا إياه بمرفقه في جانبه بقوة آلمت الأخير وقال بغيظ: أنا اللي جاي قبلك.
ثم حوَّل أنظاره نحو هارون وقال مُبتسمًا ببلاهة: إزيك يا حج هارون؟
ابتسم هارون بسماحة ونزاعهما يُذكره بنزاع أبنائه الكبار والأطفال في نفسِ ذات الوقت، لكن يعقوب هو مَن تحدث بغلظة بعد أن مرَّ بذاكرته كل الأفعال المشينة التي فعلوها سابقًا والتي كادت أن تهدم مستقبله هو وعائلته: انت إيه اللي جابك أنت وهو هنا؟ مش كفاية اللي عملتوه قبل كدا؟ 3
توبت والله.
كلمتان صعدت من فاهِ حازم وعمير معًا في آنٍ واحد، كُلٌ يتحدث عن ذاته وداخلهما ندم كبير يشعرهما بالخجل من حقدهما السابق، فيما تبادل كُلًا من هارون وابنه النظرات، هارون يُطالعه باستشارة، و يعقوب يُطالعه بسخطٍ يحثه على عدم تصديق هذان الكاذبان كما يرى، عاد هارون بأنظاره نحوهما مُجددًا وتسائل بهدوءٍ قاتل أتلف أعصابهما:.
وإحنا إيه اللي يأكدلنا إن انتوا توبتوا بجد؟ أصل مش معقول انتوا الاتنين تتجمعوا كدا لأ وتتوبوا كمان!
دفع عُمير. حازم بعيدًا عنه وكأن به جَرب ثم قال مُبررًا: أنا والله معرفهوش أصلًا، دا بني آدم حيوان.
رمقه حازم بحدة وصرخ به: ما تحترم نفسك يا جدع أنت؟ على العموم أنا مش هرد عليك عشان أنا متربي بس، غير كدا كنت هط...
كاد أن يسبه في نهاية حديثه، لكن صمت من أجل أن يُثبت توبته ل هارون فقط، في حين طالعهم يعقوب بمقط قبل أن يُتمتم بصوت مسموع ويتركهم ويدخل: جتكم البلا.
بينما هارون انتقل بأبصاره بينهما لبضعة لحظات، قبل أن يُفسح لهما الطريق قليلًا ويقول بصفح: اتفضلوا خدوا واجبكم قبل ما تمشوا.
جميعنا نُخطيء ونُذنب لا مفر، لكن علينا إصلاح ما أفسدته أفعالنا ونُطهر قلوبنا، فنكون من أصحاب الكاظمين الغيظ والعافين عن الناس.
عانق كُل من حازم وعمير ذلك الرجل الوقور بامتنان، كلٌ منهم أخطأ خطئًا فادحًا يصعُب مسامحتهما على ذنبهما، لكن هارون قرر إعطائهما الفرصة طالما دلهما المولى عز وجل على طريق الهداية والرشاد، رأى بهما أبنائه اللذين لو أخطأوا وطلبوا العفو بعدها لسامحهم على الفور، ومَن هو حتى يجلد الناس بسوط ذنبٍ من الممكن أن يقع به أحد أولاده؟
دخلا معًا مع هارون فانتقلت أنظار جميع العائلة إليهم، شعر عمير بالخجل وخاصةً بعد فعلته الأخيرة، فأسبل عينه للأسفل ومال على حازم هامسًا: هو إحنا لازم نفضل هنا كتير يعني؟
ابتلع حازم ريقه بصعوبة من نظرات الرجال المُصوبة إليه وأجابه بتحشرج: مش عارف، تيجي نجري؟
قطعا حديثهما صوت عمران الذي، نظر إلى حازم بغضب وتحدث بهجوم: إيه اللي جاب الواد دا هنا؟
رمقه هارون بصرامة ووبخهه قائلًا: عيب يا عمران اللي بتقوله دا، دا مهما كان ضيف ولازم نحترمه.
كبت عمران غيظه ونظر ل حازم بعدم رضا، لن يُنكِر بأنه حاول مرارًا أن يتحدث معه ليعتذر له كما اعتذر ل جنة، وبالرغم من أن جنة بدأت تتقبل اعتذاره بعد أن رأت صدق نيته المُستميتة، إلا أن عمران فشل في تقبله، ببساطة هو يغار منه كلما أتى على خاطره بأنه يحمل مشاعر حب تجاه جنة حتى بعد زواجها منه، لذلك كلما يراه يلكمه حتى يُهديء من نيرانه.
في حين كان إلياس يجلس على الأريكة حاملًا طبقًا من الحلوى مُتابعًا ما يحدث مع حازم بشماتة جلية، بالرغم من مسامحته له على أخطائه السابقة، لكن ليتركه يتذوق جزاء ما فعله بالآخرين، همهم بتلذذ ثم نظر بجانبه حيث تقف بدور التي أعطته ذلك الطبق الذي أعدته له خصيصًا وقال بمشاكسة:
تسلم إيدك يا ست حلويات.
طالعته بدور باسمة ثم قالت: بالهنا.
يا أم هَنا.
احمرت وجنتيها خجلًا بعد جُملته الوقحة وأشاحت بوجهها للناحية الأخرى لتُخفي ابتسامتها، كان بدران يُراقب ما يحدث بين شقيقته وذلك اللزج إلياس، انتظر أن تُوبخه بدور كما علمها هو وإخوته، لكنه وجدها قد خجلت! لِمَ لم تسبه أو تضربه؟ لِمَ تركته يُغازلها؟ لذلك لم يجد بُدًا من لكم إلياس الجالس بجانبه على معدته بقوة جعلته يتأوه بعنف، ثم همس باصفرار:
خِف نحنحة بدل ما أزعلك يا حبيب خالتك.
دلَّك إلياس مكان ضربته بألم ثم جز على أسنانه بغضب وتحدث بوعيد: صبرك عليا هو شهر واحد وهتكون مراتي، ولو راجل ابقى اتكلم. 4
اقترب منه بدران بوجهه وهمس بعناد: لو راجل أنت ابقى اتجوزها وهتشوف اللي هيحصلك.
وعلى الجانب الآخر وتحديدًا حيث الشُرفة، كان مصعب يجلس بجانب روان مُتجاهلًا الأصوات التي بالخارج ومُنشغلًا بها هي فقط، لكنه ضجر من مُعاملتها تلك وتحدث بفمٍ مُمتليء من الطعام: يا بنتي بقى كفاية أنتِ بتزغطي دمر بط؟
حشرت روان المزيد من الطعام داخل فمه رغم عدم وجود مكان فارغ، وقالت بحنوٍ أمومي يظهر مع أحبائها فقط: كُل بس أنت خاسس اليومين دول وحالك مش عاجبني، بعدين استنى بس لما نتجوز ونكون في بيت واحد وصدقني هأكلك كل اللي نفسك فيه.
ابتلع كل ما في جوفه وابتسم رغمًا عنه وهو يستقبل الدُفعة الثانية من الطعام داخل فمه بكلِ حب، وكيف يُمانع وهو يرى كل تلك المشاعر الصادقة التي تصدر منها بعفوية دون تصنُع، وهي. كانت في أوج سعادتها، الآن فقط يمكنها أن تُعبر عن حُبها كيفما تشاء دون خوفها من وجود عوائق أو ذنبٍ تقترفه دون قصد، وأفضل طريقة يُمكن أن تُعبر بها عن حُبها هي إطعامه.
تِعرف إني لما بحب حد بأكله بإيديا؟
قالتها بعد أن وضعت المزيد من الطعام داخل فمه، فمضغه بتروٍ ثم ثبَّت أنظاره عليها وهو يسألها بشغف: معنى كدا إنك بتحبيني؟
أسبلت وجهها للأسفل ومسحت يدها بالمحارم الورقية حتى باتت نظيفة وحافظت على صمتها، ظلت على حالتها تلك وهو يُراقبها بهدوءٍ حتى طال السكوت، فناداها بهدوء وهو يرفع وجهها بإصبع سبابته: روان؟
أمواجٌ كثيفة من المشاعر ضربتها دون رأفة، لا تعلم بماذا تُعبر أو بِما تُجيب؟ لو يعلم أن كل ما تُظهره هو عكس ما تشعر به لرأف بحالتها، تجمعت الدموع داخل مقلتيها على بغتة، فاعتدل في مكانه قلقًا وسألها بوجل: روان مالك؟ بتعيطي ليه؟
تعرف إني طول عمري لوحدي! يعني أنا فضلت طول حياتي معرفتش أعمل صاحب واحد يكون معايا وقت زعلي، معنديش إخوات ودايمًا بابا مشغول عني وماما كذلك، كان بيجي عليا أيام بقعد أفكر فيها إني لو مُت محدش هيزعل عليا أو فراقي مش هيأثر، كنت بفضل بالأيام أعيط على سوء اختياراتي وحياتي اللي بعيشها بدون رغبة مني، لحد ما قابلتك، أول يوم لما جيتلك المكتب وأنقذتني من العصابة اللي هجمت على القسم، يمكن ردة فعلك كانت طبيعية بس أنا حسيت ولأول مرة إن حد بيحميني علشان حياتي مهمة، عارفة إنك هتفكرني مجنونة أو يمكن سخيفة، بس أنا فعلًا عمري ما جربت شعور إن حد يحاول علشاني، ومن بعدها مقابلتنا كِترت أكتر وبدأت أتعلق بيك أكتر وأكتر وكل دا وأنا مش عارفة مشاعري، لقيت فيك الونس، الأخ، الصاحب، الشريك، والزوج، وقتها عرفت إني حبيتك ومعنديش مانع إني أعترف للدنيا كلها إني بحبك.
اعتراف يليه اعتراف وجسده مُتخشب مُتصنم، لم يتخيل أنها تحمل كل هذا داخلها، تألمت وحدها وواجهت الحياة بكل بسالة دون وجود مَن يُعينها، والآن هي تشكره لمجرد وجوده جانبها؟ دون حتى أن يفعل لها أي شيء لإسعادها! اهتز جسده من فرط المشاعر التي تضخمت أكثر حينما اقتربت هي منه ومالت برأسها على صدره لتضعها موضع قلبه، ثم أحاطت بذراعيها خصره بقوة وكأنها تتحدى العالم على أخذه.
يا الله! روان الطفلة البريئة استطاعت أن تكتم كل مشاعرها طيلة هذه الفترة؟ وإن صح القول. فالمقصود بالفترة هي حياتها بأكملها!
روان ؟
ناداها بصوتٍ ظهر عليه تأثره، فهمهمت هي بصوتٍ معاكس له ظهر عليه الراحة، حتى قال مُعترفًا هو الآخر: بحبك.
ابتسمت بخفة، فيما أكمل هو حديثه برقة كما لو أنها طفلته الأولى والأخيرة: أوعدك إني هكون ليكِ زي ما أنتِ عايزة، علشان أنتِ جميلة وتستاهلي كل جميل يا جميل.
الله يكرمك يارب.
صعدت منها تشكره بتلقائية، فتعالت ضحكاته بانطلاقٍ وهو يراها تعود لعفويتها مُجددًا، هذه هي طبيعتها التي عشقها لأجلها، ومن قلب رجلٍ عاشق أقسم أنه سيظل يعشقها حتى آخر نَفَس يلفظه في حياته، روان الغبية لم ولن تكن غبية كما ردد على ذاته مُسبقًا، وإنما هي زهرة رقيقة تحتاج لمن يروي ظمأها حتى تتفتح ورودها، ومُهمته القادمة ستكون إزهارها وإعادة الإشراقة لها!
بادر؟
نادت بها سارة بخفوتٍ للذي يتمدد على ظهره واضعًا رأسه على قدمها ليُتابع السماء، همهم عقب ندائها وتعلقت عيناه بخاصتها يَحثها على الحديث، فاستطردت ندائها بقولها الخائف:
تفتكر إن جوز ماما الله يرحمها ممكن يتعرضلي تاني؟ أنا بخاف منه أوي.
أمسك كفها الذي تضمه بقبضة ثم فتحه ليُشبك أصابعهما معًا، تلك الفِعلة التي تُشعرها بالاحتواء وكأنه يخترقها! وازداد أمانها حينما قرَّب كفها من ثغره ليلثم باطنه بكل رقة وحنان، ذلك الرجُل الذي ظنته جاهل بمشاعر الحب والأمان يُجيد اللعب على أوتارها بكل براعة، وهي التي حسبت نفسها قوية!
عايزك تنسي أي ذَرة خوف جواكِ، انسي العالم كله واصنعي عالم مفيهوش غير أنا وأنتِ وبس.
سفينتها المُخترقة باتت في أقوى حالاتها قوة الآن، خاصةً وهي تسبح على بحر عشقه الذي لن يُغرقها، فتبمست قائلة وهي تمد يدها إلى لحيته لتُداعبها: يا حلاوتك يا شيخ بادر! ألا قولي صحيح؟ ليه بيقولولك يا شيخ بادر رغم إنك على الله!
مزجت حديثها بالضحك المَرِح مما جعله يعتدل في مكانه ويُطالعها بأعين مُتهمة: ماذا تقصدين يا أخت سارة؟ وضحي كلامك إذا سمحتي!
وضعت كفها على فاهها لتكتم ضحكتها التي إن صعدت ستفضحهما بالتأكيد، فيما مطّ هو شفتيه وقال بما يُشبه التبرير: هما هنا بيقولولي يا شيخ بادر علشان أنا أكتر واحد محترم في إخواتي.
بس كدا؟
تسائلت بها بذهول، ليوميء لها بالإيجاب وهو ينتظر ردة فعلها على حديثه، فيما مصمصت هي على شفتيها بحسرة أثناء ضربها لكفيها معًا: دا أنا شكلي اتخدعت فيك بقى! ألا قولي البضاعة المُباعة بتُسبدل ولا خلاص كدا؟
حرك حاجبيه معًا وهو يُجيبها بمشاكسة: لأ خلاص كدا، لِبستي للأبد.
ضربت كتفها بكتفه وقالت بعبثٍ لم يراه منها من قبل: دي أحلى لبسة يا شيخ بادر.
تعالت ضحكاتهما معًا بطلاقة دون وجود أي شوائب أو حواجز في علاقتهما، مرت لحظات حتى هدأت ضحكات بادر الذي هتف قائلًا:
خسئتِ يا سارة.
انتظر أن يستمع صوتها هي، لكن الصوت الذي صعد بعد ذلك كان صوت شعقة والدته التي صعدت لتوها واستمعت إلى حديثه الأخير مع زوجته، لتضرب على صدرها بصدمة وهي تهتف بجزع:
بتكلم مراتك بلغة قناة الحرافيش؟
انتفضا معًا على صوت حنان الذي انطلق من إحدى الأركان فجأةً، فهبا من مكانهما ليقفا واتجه نحو بادر ليشرح لها سوء الفِهم الذي وصل إليها، لكنها سبقته وقالت: يا ترى أبوك ردة فعله هتبقى إيه لما يعرف خيبة ابنه؟ دا بدل ما تقولها كلمتين حلوين نطمن بيهم عليك؟ إخص عليك يا بادر إخص!
جحظت عينيّ بادر بهلع فيما تعالت ضحكات الأخرى بصخبٍ لم تستطيع تمالكه، و حنان تنظر إلى ابنها بحسرة، وكأنها كانت تنتظر منه أن يُصبح أكثر وقاحة، لكنه ضبطته مُحترمًا بالجُرم المشهود!
طالعته والدته بحزم، ثم قالت قبل أن تتركهما وتهبط للأسفل مُجددًا: الحج لازم يعرف بالمهزلة اللي بتحصل دي.
لطم بادر على وجهه برعبٍ وهرول خلف والدته يُناديها بصراخ: استني ياما هتقوليله إيه بس؟ هو أنتِ ظبطيني بعمل حاجة حرام لسمح الله؟
أشاحت بيدها للخلف وهي تهبط درجات السُلم وهي تقول مُتحسرة: ياريتك كنت بتعمل حاجة حرام، دا الله يكون في عونها! أنا همسح قناة حرافيش اللي بتعلمك الحاجات دي.
إزيك يا سامية؟
هتف بها رأفت الذي أتى لتوه مع رائف وزوجته بعد أن أتوا متأخرين، استدارت ياسمين على بغتة عقب استماعها إلى صوته الذي باتت تحفظه عن ظهر قلب، وكأنه بات مُميزًا لها! اتسعت عيناها بسعادة فور أن وقعت عيناها عليه واقفًا أمامها يُبادلها الابتسام، مما جعلها تردد اسمه بمُفاجئة:
رأفت؟
اقترب خطوتان حتى واجهها وقال مُراوغًا: سامية؟
تغضن جبينها بانزعاج رامقة إياه بنظراتٍ مُحذرة، في حين ضحك هو وقال بعدها باشتياق: وحشتيني على فكرة!
صُعِقَت من كلماته التي تحمل بين طياتها الكثير من المعاني، اهتزت نظراتها بتوتر وانتقلت أبصارها بعيدًا عنه لتتلاشى اشتياقه الذي التمع بالفعل داخل جفنيه! شعرت بتبعثر كيانها فقالت بصوتٍ مُتلعثم: ما بلاش الكلام دا لو سمحت يا رأفت!
ضيَّق ما بين حاجبيه بتعجب وقال بتساؤل: ما بلاش ليه؟ ما أنا قولته ل ريهام وبسمة ومنه وريم ومقالوش حاجة!
فرغت فاهها بعدم تصديق، في حين أرسلت له عينيها إشارات حارقة وغضب انعكس على صوتها حينما صرخت به بسخط: والله؟ طب روحلهم بقى واخفى عن وشي بدل ما أفضحك.
تمتمت بكلماتها ثم تركته واتجهت إلى الفتيات بعد أن تركتهم ووقفت بالخارج لتُهاتف إحدى صديقاتها، فيما تابع هو أثرها الراحل باستمتاعٍ مُنطلق وهمس بتلذذ: لذيذة بس اللذينة.
يا عمران نزلني بقى إيدك هتوجعك أنا تقيلة!
تمتمت جنة بجُملتها تلك أثناء حمل عمران لها، اليوم قرر خطفها كما أخبرها، انتشلها من بين الجالسين بعد أن استغل انشغال إلياس عنها والذي كان مُلتصقًا بها طوال عقد القِران، ذلك اللزج الذي لا يُهنئه هو وأخواته على الجلوس مع واحدة من شقيقاته، قبَّل عمران وجنة جنة برقة وقال:
ياريت تُقل الدنيا دي يبقى زي تُقلك يا جنة.
يابني بس بقى إحنا في الشارع وأنا مش ضامنة ردة فعلي!
وصلا في تلك الأثناء إلى مطعم يطل على النيل، لم يُبالي بنظرات الناس من حوله، هو بالأساس لم يكن ليرى سواها، بالرغم من شحوب وجهها المُلفت وجسدها الذي خسر نصف وزنه، ناهيك عن الهالات السوداء التي تُزين أسفل عينيها بوضوح، إلا أنها الأجمل في نظره، وستظل الأجمل حتى أن تُشفى من مرضها، وحينها هو مُتيقن ستزداد جمالًا فوق جمالها حتى أنها ستُصبح ساحرة!
وضعها على أحد المقاعد ووقف أمامها ليُعدِّل من وضعية حجابها التي أظهرت بضعة شعيرات من خصلاتها، ثم جلس أمامها مُستندًا بمرفقه على الطاولة، وكفه وضعه أسفل ذقنه حتى لا يتعب أثناء مُتابعتها لوقتٍ طويل.
أنتِ مين اللي مربيكِ صحيح؟
تسائل بها بعد أن جلس، فحركت حاجبيها بمشاكسة وهي تُعاود سؤاله بسؤالٍ آخر: مشوفتش في أخلاقي صح؟
هز رأسه نفيًا وتمتم ساخرًا: قصدك مشوفتش في وقاحتك، أنتِ واخدة دوري في الحياة وهي إني أعاكسك، لكن أنتِ اللي بتعاكسيني وأنا مقبلش بدا أبدًا.
مدت كفها تُربت على خاصته برقة، فقالت بصوتٍ خفيض جمع بين الدلال والعتاب: يعني مش هتستحملني يا عموري؟
نظراته الجامدة ذابت بعد حديثها، تلك الماكرة الوقحة ترقص ببراعة على أوتار فؤاده ليلين لها جليده، فأجابها نافيًا وهو يهز رأسه: وهو أنا أقدر يا قلب عمورك؟
تصنعت الخجل مما جعله يضحك عاليًا وقال: لأ الكسوف مش لايق عليكِ، ارجعي لطبيعتك كدا أومال!
شاركته الضحك لبُرهة من الوقت، وامتزج جوهم الشاعري هذا بقطرات المطر الضئيلة التي بدأت بالهطول فوقهما، تزامنًا مع نسيم الرياح الذي ضرب جسديهما في الوقت ذاته، حينها أطلقت جنة زفرة خافتة انتبه لها، ليُطالعها بعينين يملؤهما التساؤل مما جعله تقول بيأسٍ نتج عن مللها:.
أنا زهقت من الكيماوي والأدوية، جسمي بيوجعني منهم ومبقتش قادرة أستحمل.
استحملي عشاني!
ثبتت نظراتها عليه، فيما شدد هو من الضغط على كفها بكل قوته وكأنه يُطمئنها بوجوده، والحقيقة أنه كان يُطمئن ذاته بوجودها لا العكس، طال صمت كليهما فعاد ليستطرد حديثه قائلًا:.
أنا متابع حالتك مع الدكتور أول بأول، وهو طمني إن العلاج بيجيب نتيجة متقلقيش، الفترة دي بتعتمد على حالتك النفسية أكتر من الجسدية، وأنا بحاول بكل طاقتي إني أخليكِ مبسوطة دايمًا لحد ما تتعافي.
بس السرطان قوي ومش سهل يتعالج!
هتفت بها بدموعٍ اجتاحت مقلتاها وهي تتذكر تلك اللحظات التي تتلوى فيها من شدة الألم، فعاد عمران يقول على مسامعها بحِسم:
لو السرطان قوي فحُبي ليكِ أقوي وهزيمته انتصار.
ابتسمت من بين دموعها وتركت يده فاتحة ذراعيها على وسعهما مُردفة دون خجل: طب الجو سقعة احضُني بقى.
مرت ساعتان حتى تعدى الوقت العاشرة مساءًا في التوقيت الشتوي، استعدت عائلة رؤوف للعودة إلى ال يلا حيث يمكثون، وفي تلك الأثناء كانت رضوى قد عادت و جنة كذلك، فاستقلوا السيارة مع أخيهم، بينما ذكرى كانت مازالت بالأعلى تجلس مع بدور التي سألتها بتردد قبل أن تذهب:
أنتِ فعلًا هتتجوزي ابن عمك يا ذكرى؟
تجعد وجه ذكرى بضيقٍ واتجهت أنظارها تلقائيًا حيث يعقوب الذي يجلس على الأريكة ويتصنع اللامبالاة، لكن في الحقيقة آذانه كانت معهم ويستمع إلى كل كلمة تصعد أفواههم، فأجابتها ذكرى قائلة بضجر:
سيبيها على الله يا بدور، سواء اتجوزت فادي أو غيره فكُلهم صنف يسد النِفس.
وهُنا صعد صوت يعقوب الذي قال بمُباغتة: ياه على البجاحة وقلة الدم ياه!
انتقلت أبصار الفتاتين إليه واشتدت عيني ذكرى بغضب عقب نظره إليهم وحديثه المُبرر على جُملته التي صعدت: معلش يا هوانم، أصلي بتفرج على فيلم البطلة بتاعته بجحة.
طالعته بدور بشكٍ وحوَّلت أبصارها نحو ذكرى لتجد وجهها قد تحول إلى كُتلة من اللهب، مما جعلها تتيقن أن الحديث على ذكرى وليس على بطلة الفيلم كما يدَّعي أخاها، لذلك تسائلت بعفوية وبدون قصد:
البطلة برضه هي اللي بجحة ولا حد تاني؟
اتجهت سهام عين ذكرى نحوها فصرخت بها بدورها: أنا هغور أحسن، جتك الهم أنتِ وأخوكِ.
وبالفعل انتشلت حقيبتها تحت ضحكات يعقوب التي تعالت دون مُبرر في حين كانت تشتعل هي أكثر، اتجهت بخطواتها نحو الخارج وما كادت أن تخطو خطوة أخرى حتى استمعت إلى صوت يعقوب يقول:
يا حِلو؟
مازالت تلك الكلمة لها تأثيرٍ صاعق على حواسها، توقفت واستدارت تنظر إليه لترى ما يُريد، فوجدته يُكمل بقية الحديث مُغنيًا وهو يتجاهل النظر إليها: صَبَّح يا حِلو طُل. يا حِلو صبَّح نهارنا فُل.
وبعد أن انتهى نظر إليها يسألها باستفزاز: فيه حاجة يا آنسة؟ مش كنتِ ماشية!
جزت على أسنانها بغيظ واستدارت تُغادر بخطواتٍ غاضبة تحت نظراته التي تتبعها وثُغره الذي يبتسم بعبث!
مر أسبوع آخر. الجميع سعيد عدا القليل. القليل جدًا. وجاء موعد الخِطبة المُنتظر. خِطبة إلياس وبدور، مروان ورحمة، وأخيرًا بدران وزهراء.
وقفت رحمة أمام مرآتها تكاد أن تبكي، تشعر بتنفسها يعلو بطريقة مُبالغ بها، حلمها المُستحيل يتحقق اليوم وبداية علاقتها مع مروان ستُسجَل أمام العالم بأكمله، تنفست بعنفٍ وعيناها تمر على فستانها الأزرق الذي يحتضن جسدها بانسيابية، وحجابها الذي يُماثله في نفس اللون مع زينة وجه رقيقة للغاية، استفاقت على صوت نغمة هاتفها فاتجهت إليه مُسرعة لتجد أن المُتصل لم يكن سوى مروان، سرت البرودة بأطرافها حتى شعرت بأنها على وشك البكاء، لذلك أغلقت بوجهه!
وعلى الجانب الآخر. تشنج وجه مروان عقب أن أغلقت الهاتف بوجهه ونظر ل بدير الجالس جانبه وتشدق بحنق: بتقفل في وشي! بتتقل من الأول كدا؟
حرَّك بدير شفتيه للجانبين كحركة شعبية شائعة ومن ثم قال بحسرة: عيني على الرجالة لما تلف عشان خاطر البنات!
رفع له حاجبه الأيسر باستنكارٍ وكأنه يقول مَن يتحدث؟ وبالفعل ترجمها لسانه حينما تشدق ساخرًا: طب ما بلاش أنت يا عينيا عشان أنا لو حفلت عليك هتزعل.
حمحم بدير بجدية وتصنع الصرامة وهو يهب من مكانه مُتجهًا نحو الخارج: احترم نفسك يا قليل الأدب، أنا بس مش هرد عليك عشان عريس غير كدا كنت قطعتك.
راقب مروان رحيله بسخرية ومن ثَم هز رأسه بيأسٍ وهو يضحك بعد خروجه، لقد جاء إليه بدير خصيصًا ليقف جانبه في مثل ذلك اليوم حتى لا يكون وحده، وكذلك ذهب عمران ل إلياس حتى لا يشعر بوحدته ويتخذه خليلًا، نفض مروان تلك الأفكار عن رأسه ثم أكمل ارتداء ثيابه وهو يتوعد رحمة داخله.
فيما جلس بدير على الأريكة بالخارج يعبث بهاتفه، منذ يومين تركت تسنيم المنزل الموجود بالحارة وأخذت سكنًا بعيدًا عن المنطقة بأكملها، وبالطبع لن تتركها شقيقتها وحدها فذهبت معها، يومان لم يراها فيهما فشعر بالخواء يجتاحه، لم يكن يتحدث معها من قبل لكن يكفيه أنها كانت امام عينه وخاطره، والآن! هو يشتاقها حد الجنون!
لن يُنكِر بأن تلك الخيالات بدأت بتركه شيئًا فشيئًا حينما كثَّف من صلواته والتزامه في قضاء صلاة قيام الليل وحفاظه على قراءة الأذكار، حياته بدأت تعود هادئة كما كانت، وروحه تسلل إليها الأمان والأُلفة، حياته تنقصها وجود تسنيم في حياته، أن تُزينها طلتها الباهية وضحكتها العطرة كما اعتاد سابقًا، لذلك سيُعجِّل بتملكها حتى تصير له في أسرع وقت!
قاطع سلسلة أفكاره رؤيته ل فاطمة التي كانت تتقدم منه بتردد شديد، أسفل عيناها كان مُنتفخًا بالرغم من مُحاولتها لإخفاء ذلك بمستحضرات التجميل، ابتسم لها بأخوة وشجعها على التقدم أكثر بقوله الحنون: تعالي يا فاطمة واقفة كدا ليه؟
دلكت كفيها معًا بعنفٍ حتى أوشكت على جرحهما بأظافرها من شدة توترها، راقب أفعالها بعينين صقريتين وللحقيقة قد أشفق عليها، رأى بها تهور شقيقته وخوفها من غضب والدها، لذلك قرر الرأفة بها وتحدث بلين: متخافيش يا فاطمة أنا مقولتش حاجة ل مروان.
تدفقت الدموع بعينيها عقب حديثه لتتحول إلى شهقاتٍ خافتة، انتفض بدير من مكانه بهلع واقترب منها بقلق وهو يسألها: فيه إيه يا فاطمة مالك؟ حاجة حصلت معاكِ تاني؟
نطق بسؤاله الأخير بشيءٍ من الريبة، لكنه اطمئن قليلًا حينما هزت رأسها بالنفي، فنظر حوله قلقًا خشيةً من خروج مروان من الغرفة في أي وقت ورؤية شقيقته بتلك الحالة، لذلك أشار إلى نحو الشرفة وقال بصوتٍ جعله هادئًا قدر الإمكان:
طب خلاص إهدي وتعالي معايا نقف بعيد في البلكونة شوية.
ذهبت معه بخطواتٍ وئيدة حتى وقفت أمامه في الشرفة، مد يده إليها بمحرمة ورقية التقطتها منه ومن ثَم جففت دموعها، ثم سألها بانتباه: ها مالك بقى احكيلي.
بدأت في الحديث بتردد شديد حتى قررت قص كل ما حدث معها دون إخفاء أي شيءٍ عنه عله يُساعدها:.
اللي أنت شوفته معايا من كام يوم دا كان مصطفى ابن خالي جميل، كان واعدني إن إحنا هنتجوز وفِضل يضحك عليا بكلام للأسف أنا صدقته، أنا والله عُمري ما قربت منه زي المرة اللي أنت شوفتني فيها، كل مرة كنت بصده بس غصب عني ضعفت، بس لقيته مرة واحدة اتغير معايا بعد ما قررت أصارحه وأقوله على الخلافات اللي حاصلة بين ماما وأخويا بسبب الوِرث فِضل يزن على وداني إني أطالب بحقي في الميراث، لكن أنا قولتله إني مش عايزة أي حاجة وكفاية وجوده معايا وإننا طالما هنتجوز فأنا مش محتاجة الفلوس دي في حاجة، مش عارفة إيه اللي حصل وقتها، كل اللي فاكراه هو كلامه اللي يسم البدن وزعيقه وشتيمته فيا، وبعدها قالي جُملة أنا عمري ما هقدر أنساها أبدًا، أنا متجوزك علشان فلوسك مش عشان حلاوتك، لو عليكِ أنتِ فمحدش هيبصلك أصلًا.
انهارت في البكاء بعد أن قصت عليه كل ما حدث معها، كانت ساذجة ومغفلة لكنها وقعت في طريق شخصٍ حقير ظنته حبيبًا كما كان يُلقي على مسامعها، احتدت عيني بدير بغضبٍ عارم، وود لو يذهب لذلك المدعو ب مصطفى لكسر عنقه، لكن صبرًا. فحقها سيجلبه هو لا محالة لكن ليس الآن!
وبرغم حالة السخط التي كان عليها، إلا أنه حاول تهدأتها بقوله: وليه متقوليش إن ربنا نجدك منه! دا واحد حيوان وطماع كل اللي همه هو الفلوس وبس، ربنا عامي عينيه عن جمالك لإن هو ميستاهلكيش، واحد زي دا إزاي تسمعي منه أصلًا وتصدقيه؟ يعني هو من أولياء الله الصالحين عشان تسمعيه، ولا السكسوكة اللي كان عاملها دي هي اللي مقوية جبروت قلبه؟
ضحكت رغمًا عنها من بين بكائها، فيما أكمل بدير حديثه ساخطًا: أنتِ مش بس مُغفلة يا فاطمة، أنت كمان عامية ومبتشوفيش.
مسحت دموعها وتحدث بصوتٍ مبحوحٍ مُتحشرج: كلامه واجع قلبي أوي، حسيت من كلامه إني رخيصة ومستاهلش يتحارب علشاني.
شقت ابتسامة طفيفة وجه بدير الذي قال مواسيًا: مفيش أحسن من ترتيبات ربنا لينا، دايمًا شايل الأجمل لعباده بس إحنا اللي مبنصبرش.
أطلقت زفرة حارة مليئة بالمرارة من بين شفتيها وأغمضت عيناها بإنهاك، ثم فتحتهما مُجددًا وقالت بضيقٍ من نفسها: أنا متضايقة من نفسي أوي!
حاول بدير تخفيف حدة الأجواء وقال ساخطًا: ومين فينا مش متضايق منك، نكدتي عليا ربنا ينكد عليكِ يا بعيدة، بقولك إيه اتكلي على الله وروحي نكدي على أخوكِ لحد ما أنزل أشوف الواد بدران، جتكم الهم عيلة تجيب الفقر.
تمتم بحديثه ثم هبط للأسفل تاركًا إياها تتابعه بابتسامة خافتة، قبل أن تُقرر أن تذهب لغرفة أخيها وتُحاوِل أن تُصلِح العلاقة التي قطعتها من قبل.
مرت ساعات حتى أتى الليل سريعًا. الفتيات جاهزات وكذلك الشباب، الحماسة على آخرها وقلوبهم تطرق بعنف.
وقفت بدور أمام أخواتها السبعة تُقلِّب عيناها بملل من تعاليمهم التي لا تنتهي، بدايةً من يعقوب الذي ظهرت غيرته جلية على وجهه، ثم تبعه عمران الذي وصَّاها بعدم الرقص، ثم بدران الذي حذرها من لمس إلياس لها، وبعده حمزة الذي أخبرها ألا تضحك معه إطلاقًا، تلاه مصعب الذي هددها بتخريب الخِطبة إن لم تستمع لحديثهم، ثم بادر الذي تقدم منها لإخفاء خصلة كانت شارة من أسفل حجابها وأنهى فعلته قائلًا: خسئتِ، وأخيرًا بدير الذي جعلها تُعيد على مسامعه الوصايا التي أملاها عليها أشقائها!
تنهدت بدور بإنهاكٍ وهي تُطالعهم بسخط، فتقدم منها يعقوب ليُعانقها بقوة تلك المرة قائلًا بسعادة عارمة: ألف مبروك يا غلطة، ربنا يتمملك على خير يا حبيبتي.
شددت بدور من عناقها لأخيها وهي تقول بصوتٍ مليء بالحب: الله يبارك فيك يا حبيبي، ربنا يديمكم ليا دايمًا وميحرمنيش منكم أبدًا يارب.
جاء هارون من الخارج فالتمعت عيناه بفخرٍ بعد أن رأى ثمرة حصاده مُتجمعين أمامه في مثل هذا الرباط الوطيد، اتجه نحو ابنته التي تركته مكانها وارتمت داخل حضان أبيها لتتنعم بدفئه الذي كان ومازال يُغدقها به حتى الآن، قبَّل جببنها بعُمقٍ قبل أن يُبعدها عنه ويقول بصوتٍ سعيد: حبيبة أبوكِ زي القمر.
ابتسمت بدور بدورها وما كادت أن تُجيبه، حتى دخلت عليهم روان تقول بلهفة: مش يلا يا عمو المعازيم هيناموا مننا!
ضحك هارون وأومأ لها، فيما نظر نحو بدران يأمره بهدوء: روح هات عروستك أنت هتفضل لازقلي هنا؟
اتسعت عيني بدران للحظات قائلًا بإدراك قبل أن يُهرول من أمامه: يالهوي العروسة! دا أنا نسيت.
هز هارون رأسه بيأس وهو يضحك، فيما هبط مروان من الأعلى قائلًا بنسيان هو الآخر: بقولك إيه يا عمي! أنا شكلي كدا نسيت أجيب شبكة العروسة!
وعلى الجانب الآخر. في ظلام الليل الدامس والصمت المُريب، تجلس ريناد في بقعة صامتة في المقابر وأمامها أشكالًا وأورواق مطوية ومُريبة، لا يظهر من حولها شيئًا سوى ضوء تلك الشموع التي وضعتها بطريقة مُعينة على الرسومات التي رسمتها أمامها، أغمضت عيناها وشريط ذكرياتها يدور أمام ناظريها بسرعة البرق، هي تريد جلب بدير لها وهو لا يّعطيها ولو نظرة واحدة، لجأت لإغوائه ففشلت، لجأت لاستعطافه ففشلت، لذلك لم يكن أمامها سوى السِحر، ذلك الذي سقته ل بدور مُسبقًا ورأت أثره عليها، لكن ولسوء حظها فشل ذلك أيضًا مع بدير، ومازال صوت الشيخة جليلة يتردد في أذانها حتى الآن:.
اللي حاميه أقوى من كل الجان، إيمانه قوي ودا يتخاف منه مش يتخاف عليه!
حديثها هذا جعلها تثور وتغضب وتكسر كل ما تطاله يدها، هي تُريده بكل جوارحها وستحصل عليه مهما كان الثمن، ولهذا لجأت للحل الأكثر خطورة كما أخبرتها الشيخة جليلة، سِحر المقابر لاستحضار مَلِك عشيرة عالم الجان!
أغمضت عيناها وأرخت كفيها على قدميها ثم بدأت أن تنطق بعض الكلمات الغريبة والطلاسم التي لا يفهمها بشر، ثانية خلف الأخرى خلف الثالثة وهبت رياحٌ عنيفة جعلتها تفتح عيناها بفزع، ابتلعت ريقها بقلق وظنت بأن هذه ما هي إلا إشارة تَحثها على الإكمال، وبالفعل أغمضت عيناها مرة أخرى لكن تلك المرة بخوفٍ شديد يتزايد كل ثانية عن الأخرى كلما تتزايد الرياح والعواصف من حولها والشموع لا تنطفيء!
فتحت عيناها مجددًا وغادرت من بين شفتيها صرخة عنيفة ترددت صداها في الأرجاء كُلها، تنملت أطرافها وكأن جسدها قد تخشب مكانه وباتت لا تستطيع تحريكه، لكنها انتفضت حينما تزايدت نيران الشموع الضئيلة لتُصبح كالجبل الصامد من أمامها، وما كادت أن تهرب لإنقاذ حياتها، حتى شعرت بيدٍ حارقة تجذبها إلى تلك النيران حتى باتت في منتصفها، وهُنا تصاعدت صرخاتها كوحشٍ يطلب الاستغاثة حتى شعرت بتمزق أحبالها الصوتية، فيما بدأ جلد جسدها بالإنصهار وهي تتلوى من قسوة ما تُعانيه، عاشت منبوذة وماتت كافرة، حاولت أن تسقي بشرًا من علقم شرها فعوقبت بما تأذي به غيرها!