قصص و روايات - نوفيلا :

نوفيلا يتيم في حضرة أمي للكاتبة شاهندة الفصل السادس

نوفيلا يتيم في حضرة أمي للكاتبة شاهندة الفصل السادس

نوفيلا يتيم في حضرة أمي للكاتبة شاهندة الفصل السادس

كنت أهرول في طرقات المستشفى ينتابني الرعب من فقدان تلك المرأة التي تقبع في إحدى حجراتها الآن، ربما تلفظ آخر أنفاسها في تلك اللحظات، توقفت متجمدا حين رأيت وردة تبكي أمام غرفة العناية المركزة، ثم تقدمت منها بخطوات بطيئة وجلة، أخشى كلمات قد تضربني في مقتل، حانت منها إلتفاتة إلى فرأتني، رأيت في عينيها مشاعر مختلطة تصلنى ذبذباتها، لهفة. وفرحة. إمتزجت بحزن ودموع. مشاعر مست شغاف قلبي، توقفت أمامها أطالع عينيها قائلا بخوف:.

أخبارها إيه؟ طمنيني.
هزت رأسها قائلة في ألم، تتساقط عبراتها بقوة: مش كويسة ياأكرم، مش كويسة أبدا. الدكتور قال ان الحالة حرجة، وقال لو عدوا ال24 ساعة الجايين على خير هتبقى عدت مرحلة الخطر، لكن لو...
قاطعتها واضعا يدي على فمها قائلا بحسرة: متكمليش. أبوس إيدك متكمليش.
لأخفض يدي وأنا أجلس على أقرب كرسي، فلم تعد قدماي قادرتان على حملي، أطرق رأسي وأنا أردد بمرارة:
أنا السبب. أكيد أنا السبب.

جلست بجواري قائلة بحزن: مش عارفة إيه اللي حصل بالظبط، أنا رجعت البيت لقيتها على الأرض مغمى عليها، حاولت أفوقها معرفتش. أنا عمري ماشفتها في الحالة دي، وشها شاحب زي ماتكون...
لم تستطع إكمال عبارتها، بينما رفعت إليها عينان مغشيتان بالدموع قائلا: قلتلك أنا السبب، ياريتني ماقلت الكلام اللي قلته، ياريتني! كلامي ليها أكيد وجعها، رغم إنها تستاهله...

إنتفضت واقفة تقاطعني بغضب قائلة: حرام عليك بقى، كفاية ظلم، خالتي متستاهلش الظلم ده كله، عذبها أبوك زمان وانت جاي تكمل عليها دلوقتي. انتوا إيه معندكوش رحمة، فاكرين بفلوسكم تقدروا تعملوا اللي انتوا عايزينه.
نهضت بدورى أقول بغضب: أنا مش زي بابا...

قاطعني مشيرة إلى قائلة بغضب: لأ زيه، ظلمتها وحكمت عليها زيه، صدقت اللي شافته عينك وسمعته ودانك زيه، ومصدقتش قلبك اللي واثق أن الست اللي بين الحياه والموت دلوقتي عمرها ماتخون.
قلت بغضب: لأ خانت وهي بنفسها قالتلي.
نظرت إلى وردة نظرة طويلة جعلتني أشعر بالتخبط ثم قالت: للأسف كان أملي فيك أكبر من كدة. كان نفسي تكون الابن اللي خالتي تستحقه بس للأسف مبقتش.

إلتفتت تمنحني ظهرها، يهتز جسدها لأدرك أنها تبكي فأمسكت ذراعها لتنفضه وهي تنظر إلى قائلة بمرارة:
إبعد عننا ياأكرم، كفاية بقى، أنا مبقتش قادرة أتحمل.
قلت في ألم: تفتكري إنى قادر أبعد، للأسف مش قادر، مش قادر أسيبها وأتخلى عنها. مش قادر.
قالت وردة: لازم تبعد لإن قربك بقى وجع، وجع لينا كلنا. روح عيش حياتك اللي اخترت تعيشها وياريت تبقى مبسوط عشان تضحية خالتي متروحش على الفاضي.
عقدت حاجبي قائلا: تضحية؟

ابتسمت بمرارة قائلة: أيوة تضحية. تخيل. مش معقول كل ده ومفهمتش إنها عملت كل ده علشانك.

نظرت إليها في صدمة وهي تستطرد قائلة: خالتي فضلت تدور عليك. تستنى أي حاجة ممكن تدلها على مكانك، واليوم اللي شافت فيه إسمك وصورتك في الجريدة، كان اليوم اللي إكتشفت فيه مرضها، وعرفت إنها كدة كدة ماشية، محبتش تمشي وتفضل تتعذب من بعدها وأنت عارف إنها ماتت مقهورة من بعدك، قالت لو إتأكدت إنها خاينة هتكرهها واللي بيكره بينسى بسرعة ويكمل لكن اللي بيحب لا عمره بينسى ولا بيقدر يكمل.

جلست مجددا وأنا أشعر بالانهيار كلي، وهي تستطرد: حاولت تحميك وأنت بكل بساطة كنت بتجرح.
أغمضت عيناي وأنا أقول بألم: كفاية.
قالت: حبتك أكتر ماحبت نفسها بس للأسف مشافتش منك غير الكره.
قلت بحسرة: كفاية.
لتقول: عاشت ضحية ومع الأسف هتموت كمان ضحية.
نهضت صارخا: كفاية. كفاية. كفاية.
لأنهار في البكاء بعدها فلم أرى نظرات وردة التي تحولت من القسوة إلى الشفقة، الشفقة على رجل إكتشف للتو كم صار حقا، يشبه أباه.

كنت أبكي كما لم أبكي من قبل، يهتز جسدي مرتعشا من القهر، كيف سولت لي نفسي أن أظلم أمي وأفعل بها مافعلت؟ كيف إستطعت خذلانها بهذا الشكل؟ ضحية كانت لأبي واليوم أصبحت ضحيتي.
إنتفضت على يد رقيقة وضعت على كتفي، رفعت عيوني إليها فوجدتها تطالعني بشفقة، أطرقت برأسي مجددا فجلست إلى جواري قائلة برقة:
أنا آسفة.
نظرت إليها بحيرة فإستطردت قائلة: يعني عشان طلعت فيك من غير ماآخد بالي إنك كمان ضحية.

أطرقت برأسي قائلا بألم: كان عندك حق. أنا بقيت شبهه...
قاطعتني قائلة بسرعة: لأ. مش شبهه.
نظرت إليها في حيرة فإستطردت قائلة بإرتباك: خالتي حكيتلي كتير عنك. ويعني من اللي حكيتهولي حسيتك مختلف فعلا عنه، ولما شفتك إتأكدت، حسيت بحنيتك وقلبك الكبير. اللي مهما حاولت تخبيهم، كانوا بيبانوا.

قلت في حسرة: وهيفيد بإيه قلبي الكبير ده وأنا بظلم أقرب الناس لية وباجي عليهم، هيفيد بإيه قلبي ده جوة شخصية ضعيفة مش قادرة تاخد قرارتها أو تفرق بين الصح والغلط.
وجدتها تمسك يدي فتطلعت إليها بحيرة وهي تقول: انت مش ضعيف زي ماانت فاكر، صدقني. أنت بس محتاج إيد تمسك إيدك وساعتها بس هتحس بقوتك.

تطلعت إلى عيونها بقلب زادت دقاته وكيان أثارت فيه نظراتها الإضطراب، تأملت يدها التي تمسك يدي، لأشعر بإضطرابها بدورها وهي تسحب يدها من يدي قائلة بتوتر:
مع الأيام هتقدر تتغلب على ضعفك وهتكون أقوى. وهتصلح كل حاجة غلط في حياتك. صدقني.
لتنهض قائلة: بالمناسبة نسيت أباركلك على جوازك من...
تركت جملتها معلقة فقلت بحيرة: صافي.
إبتسمت إبتسامة باهتة وهي تقول: مبارك ياأكرم. ربنا يسعدك.

لأطالع وجهها الجميل قائلا بغصة وجدتها تقبع في قلبي: ويسعدك.
اكتفت بهزة من رأسها قبل أن تقول: هروح أشوف خالتي يمكن فاقت، وإنت قوم إغسل وشك وحصلني.
أومأت برأسي فإلتفتت مغادرة أتابعها بعيون حائرة وقلب أدرك للتو أنه عاشق. ولكن للأسف بعد فوات الأوان.

أمي. ألا تسمعين ندائي أجيبيني!
لماذا تغمضين عيونك؟
ولا تنهضين من سباتك. أخبريني!
لماذا لا تستيقظي. هيا إفعلي وعاتبيني!
لا تقولوا نامت للأبد وتركتني دون حضن يواسيني!
لا تقولوا رحلت فأمي حية...
مايزال نبضها يجري في شراييني!
هي فقط تريح روحها المنهكة.
أمى بالله عليكى لا تتركيني!
لا ترحلي.
فقلبي مثقل بالذنب يضنينى
ابقى معى. كونى لي.
بالله عليك لا تقتليني.

تأملتها من خلال هذا الزجاج الذي يفصلني عنها في تلك الحجرة التي إنتقلت إليها، لم تستفق بعد وكأنها تأبى الخروج من هذا السلام الذي يحيط بها في هذا العالم الذي تسكنه الآن، بعيدا عن عالم البشر البغيض الذي مامنحها يوما سوى الألم.
دلفت إلى الحجرة وإقتربت منها أطالعها بألم. أمسكت يدها أقبلها بحب، بندم. يصرخ قلبي.

أمي، أي حياة تلك التي تخلو منك هي حياة بلا نبض، إستيقظي، ضميني بين أضلعك وامنحيني الحنان، امنحيني الأمان...
دعيني أولد من جديد، وامحي من قلبى مرارة اليتم...
دعينى أشعر بأنفاسك العطرة تغمر الكون من حولي بسعادة صوتك الحنون،
غني لي أغاني الطفولة البعيدة...
دعيني أعود طفلا يمسك ذيل فستانك.
يتبعك في كل مكان، دعينا نعش كل ماحرمونا منه...
أوشميني بحبك أمي.
وإجعليني رجلا يستحق الحياة،
إجعليني ولدك.

فتحت عيونها وطالعتني بوهن فأدمعت عيوني فرحا ولم أنطق سوى كلمة واحدة: سامحيني.

الفصل التالي
جميع الفصول
روايات الكاتب
روايات مشابهة