قصص و روايات - نوفيلا :

نوفيلا يتيم في حضرة أمي للكاتبة شاهندة الفصل الرابع

نوفيلا يتيم في حضرة أمي للكاتبة شاهندة الفصل الرابع

نوفيلا يتيم في حضرة أمي للكاتبة شاهندة الفصل الرابع

الأم تبقى كما هي. رمزا لا نستطيع المساس به،
دفء. جمال. راحة وحنان.
حتى وان غاب الجسد بقي الرمز ليمثل كل ماغاب.
نتخيل وجودها فننحنى لنقبل يدها، نشكو همنا وقلة حيلتنا ونسكب دموع ضعفنا بين أحضانها. لتحتوى ألمنا تبعده عنا وكأنه لم يكن.
وإن تحطمت تلك الصورة يظل الرمز راسخا لا يتحطم. يجبرنا على الإحترام والوفاء. حتى وإن كان الكيان لا يستحق هذا اللقب العظيم. لقب أم.

لم أدرك كم مر من الوقت وها أنا ذا أمامها أتطلع إليها بقلب حزين، طوال حياتى تمنيت لو كانت أمى على قيد الحياة وعندما تحققت أمنيتى أخيرا، صدمتنى حقيقتها، فتمنيت لو لم أكن حيا.
طوال حياتى وروحى تهفو إليها، وعندما وجدها آلمتنى روحى وشعرت بها تزهق بقسوة.
ورغم كل العذاب. كل الألم، مازالت أمى التي لن أستطيع التخلى عنها، لن أستطيع مشاهدتها تموت وأنا عاجز عن فعل أي شيئ. وكل شيئ.

تنهدت بحزن وأنا ألقى عليها نظرة أخيرة قبل أن أغادر حجرتها في تلك الشقة التي تخصنى والتي اعتدت أن أهرب فيها بآلامى، منحتها لها لتبقى بها هي ووردة، كما قالت لى أن هذا إسمها، وجدتها بالخارج تنتظرنى، فقالت على الفور حين رأتنى: خالتى عاملة إيه دلوقتى، فاقت ولا لسة؟
زفرت قائلا: لسة، الدكتور قال إنها هتفوق بعد شوية.
أومأت برأسها فنظرت إليها بتردد قائلا: قالتلك إيه عنى؟

طالعتنى بحيرة، فقلت بإرتباك: يعنى من الواضح لما قلتلك إنى إبنها وسمعتى إسمى إنك يعنى. كنتى. تعرفينى.
قالت بهدوء: بالإسم بس، لكن مكنتش أعرف شكلك، خالتى ملهاش سيرة غيرك لدرجة إنى...
صمتت يبدو عليها الإرتباك، فإستحثتها قائلا: لدرجة إنك إيه؟
طالعتنى قائلة بإرتباك: لدرجة إنى حسيت نفسى عارفاك، صحفى مشهور وإنسان محبوب وبتعمل خير كتير، خاطب وهتتجوز قريب.

قلت بحزن: يعنى ماما كانت عارفانى لما شافتنى. أنا قلت كدة برده.
قالت بحزن: خالتى عمرها ما فقدت الأمل في إنها تلاقيك. كانت دايما بتروح وتسأل عنك، ولما عرفت إنك رجعت من السفر فرحت أوى ولولا...
صمتت فقلت: لولا إيه...
شعرت بإرتباكها وهي تقول: لولا يعنى إنها شغالة في كابريه، وإن إنت يعنى مشهور وكدة، كانت جتلك وقالتلك إنها أمك.

قلت بمرارة: معتقدش، لو تعرفى قالتلى إيه لما شافتنى كنتى عرفتى إنى ولا حاجة بالنسبة لها وسهل عليها أوى تجرحنى.
نظرت إلى عمق عيني بنظرة زلزلت كيانى وهي تقول: انت مش قادر تشوف إن هي اللى بالنسبة لك ولا حاجة؟
هتفت بإستنكار: لأ طبعا والدليل...
قاطعتنى قائلة وهي تبتسم بسخرية: الدليل إيه، قالتلك كلمتين فبسرعة حاكمتها وحكمت عليها ونفذت حكمك وبعدت واتخليت عنها.
قلت بإصرار: زي ماهي إتخلت عنى...

قاطعتنى قائلة: عمرها ماإتخلت عنك، بعدها عنك مكنش بإيديها.
قلت بغضب: ده كان زمان، بس لما رجعت...
قاطعتنى مجددا قائلة: برده مكنش بإيديها، متحاولش تلوم عليها وترمى عليها ضعفك، إنت إخترت الحل السهل، إخترت تصدق إنها خاينة وإتخلت عنك، عشان تقدر تعيش بعيد عنها بضمير مرتاح. مش كدة؟
قلت بغضب وقد لمست كلماتها إحساسى العميق بالذنب: بس هي فعلا خانت والدى وهي بنفسها اللى قالت...

قاطعتنى قائلة بحدة: وحتى لو كانت، انت مش ربنا عشان تحاسبها وتحكم عليها بالموت في بعدك، وهي حقيقى بتموت بسبب بعدك عنها، إنت متعرفش هي بتحبك أد إيه، كان لازم تسامحها، كان لازم تضمها لحضنك وتقولها أنا رجعت، رجعت عشانك، وحتى لو انتى بعدتى عنى عشان خايفة علية، انا مش هبعد، ده ربنا ياأخى مرضاش ببعدكم، وخلاك تشوفها وتهتم بيها وتسمع حكايتها من غير ماتعرفها، مسألتش نفسك ليه من بين الناس دى كلها اهتميت بيها هي؟

لم أستطع التفوه بحرف بينما رفعت إصبعها تشير للسماء قائلة: ربنا. ربنا رءوف رحيم، عادل وميرضاش بالظلم. جمعك بيها عشان ترحمها من عذابها، فياريت، ياريت متبقاش سبب في عذابها أكتر.
كدت أن أقول شيئا ولكن رنين هاتفى منعنى من الكلام، لأنظر إلى شاشته فأجده رقم والدى، لذا قلت بسرعة حانقا: أنا مضطر أمشى، بس هرجع تانى.
أخرجت كارتا من جيبى ومنحتها إياه قائلا ببرود: ده رقم تليفونى، لو احتجتوا حاجة كلمونى.

تناولته منى على مضض، ثم غادرت وكلماتها تتردد في أذنى رغم أنها أثارت بها حنقى. ولكن نعم. كان لقائي بأمى قدرا، فهل أراد به الله إنهاء وجعا أم أراد به إحتراقا. هذا ما إنتويت أن أحاول معرفته في الأيام القادمة.

زفرت بضيق وأنا أدلف من باب المنزل متجها إلى حجرة مكتب والدى حيث ينتظرنى بعد أن عاد من السفر وما إن رآنى حتى إبتدرنى قائلا بغضب: كنت فين يافاشل؟
قلت بحنق: بابا أنا مش فاشل، أنا...

قاطعنى بغضب قائلا: أمال إنت إيه. ها؟ عملت إيه في حياتك؟ ولا حاجة. كتبت مقالين شهروك، وإيه يعنى؟ قوللى بتاخد كام ها؟ ده انا أصغر موظف عندى بياخد أكتر منك، جاوبنى بس. لولا المصروف اللى بديهولك كنت عرفت تعيش؟ لولا العربية اللى ركبتهالك مش كنت دلوقتى بتركب مواصلات مع الحمير اللى شبهك.
قلت بغضب: بابا...

قاطعنى مجددا بصوت أخرستنى نبراته الهادرة: بلا بابا بلا زفت، كل اللى طلبته منك إنك تحدد ميعاد جوازك بصافى، كل اللى طلبته منك حفيد يقدر يشيل إسمى وإسم العيلة من بعدى، أربيه أنا يمكن يطلع أحسن منك، كتير علية تحققلى طلبى ده؟
هذا ماأخشاه تحديدا. أن تربيه أنت فيصبح مثلى. لم أتفوه بمخاوفى ولكنى قلت بمرارة: لأ مش كتير يابابا، أنا مقلتش لأ، أنا بس مستنى...

قاطعنى بسخرية قائلا: مستنى إيه، ها. تشترى الشقة ولا تجهزها؟ إسمع ياأكرم، أنا طلبت حماك وخطيبتك وقلتلهم انى رجعت من السفر وعزمتهم على الغدا، والنهاردة هحدد معاهم ميعاد الفرح، قلت إيه؟
لم أستطع الرفض فأطرقت برأسى حزنا قائلا: اللى تشوفه يابابا.
ليقول بغضب: طب يلا غور من وشى، خدلك شاور وجهز نفسك عشان تستقبل عروستك، وافرد بوزك ده.

أومأت برأسى وأنا أغادر بخطوات بطيئة حزينة إلى غرفتى، ألعن نفسى الخاضعة لأوامر هذا الوالد القاسى متحجر القلب، أشعر بالكون يضيق من حولى وبأنفاسى تختنق، أرغب حقا بأن تزهق تلك الروح البائسة لعلى أجد الراحة التي بحثت عنها طويلا فلم أعثر عليها، لعلى أحصل أخيرا على السعادة أو ربما أنا فقط، لا أستحقها.

كنت جالسا بينهم، أراهم يتحدثون عنى، يكتبون قدرى، وكأننى غير مرأي بالنسبة إليهم، أو خيال مآتة يضعونه في المكان الذي يبغونه ليقوم بدوره على أكمل وجه دون تذمر أو إعتراض.
أفقت من شرودى على صوت والدى الذي قال بحنق: قلت إيه ياأكرم؟ كتب كتابك على صافى الأسبوع الجاي والفرح الأسبوع اللى بعده.

نقلت بصري بينهم، فالجميع يطالعونى، أبى يرمقنى بنظرة حانقة محذرة تتحدانى أن أعترض، وعمى صلاح يطالعنى بترقب بينما صافيناز تطالعنى بإبتسامة مترقبة لموافقتى التي أعلنتها بكل خضوع قائلا: اللى تشوفه يابابا.
لتنفرج أسارير أبى وعمى، ثم ينهض عمى ويحتضننى بسعادة مهنئا بينما يهنئ أبى خطيبتى وعيونه تقول لى: لقد نجوت.
فهل فعلت حقا؟

الفصل التالي
جميع الفصول
روايات الكاتب
روايات مشابهة