قصص و روايات - نوفيلا :

نوفيلا يتيم في حضرة أمي للكاتبة شاهندة الفصل الخامس

نوفيلا يتيم في حضرة أمي للكاتبة شاهندة الفصل الخامس

نوفيلا يتيم في حضرة أمي للكاتبة شاهندة الفصل الخامس

تطلعت إلى صورتى بالمرآة في ألم، نعم أبدو وسيما، كرجل على وشك عقد قرانه.

من المفترض أن أكون سعيدا، بل أسعد الرجال على الأرض بزواجى من فتاة على درجة عالية من الجمال والثراء، ولكننى أبدا لم أشعر بتلك السعادة، بل أشعر بأنى مجبر على تلك الزيجة كما كنت مجبرا على كل شيئ في حياتى، وحتى رغبتى الوحيدة في أن أصبح صحفيا، لم أكن لأنالها لولا عمى صلاح الذي أقنع والدى، موضحا له أهمية الصحافة لرجال الأعمال، ومبرزا له كل ما فعلته الصحافة له على مدار الأعوام الماضية.

ربما إجباري ليس السبب الوحيد في تلك التعاسة التي أشعر بها تتغلغل في عظامى فتنخرها، فهناك أيضا ذلك الشعور بالخواء، الفقد. ربما أردت أن تكون والدتى إلى جوارى اليوم، ولكن أين لى بتلك الأمنية المستحيلة، إننى حتى لم أواجهها إلى اليوم. لم يجمعنى بها سوى هذا اللقاء اليتيم والذي صعقتنى فيه بحقيقتها المرة.

لقد أفاقت أمى منذ بضعة أيام، ولكننى لم أستطع أن أتحدث معها بعد، فأي حديث سيجمعنا؟ أزورها فقط وهي نائمة، أشبع روحى المشتاقة إلى رؤياها، ثم أرحل في صمت، أجد وردة دائما في إنتظارى حين أغادر الحجرة، تحكى لى قليلا عن حياة أمى في السنوات الماضية، تحبها للغاية وتجعلنى رغما عنى أشتاق إليها أكثر، أشفق عليها في بعض الأحيان، وربما أجدنى ألتمس لها بعض الأعذار ولكن تلك الغصة في قلبى تعود فتبنى ذلك الجدار الذي يهدمه إشتياقى إليها.

تمثلت صورتها أمامى، نظرت إلى ساعتى، لقد نامت بالفعل، ربما سألقى عليها نظرة سريعة ثم أعود قبل أن يلحظ غيابى أحد. نعم هذا ماسوف أفعله تماما.

ذلك الشعور بالراحة الذي راودنى الآن وأنا أتطلع إلى تلك النائمة، جعلنى أوقن أن قرارى برؤيتها الليلة كان صوابا، تمنيت في تلك اللحظة لو اختلفت الأمور قليلا، تمنيت لو كان الماضى مختلفا واليوم وفي اللحظة التي أعقد فيها قرانى، أجدها تتجه نحوى تحتضنى وتقبلنى من جبينى قائلة(مبارك يابني. هذا أسعد يوم في حياتي كلها)، تمنيت وتمنيت ولكن تظل أمنياتى مستحيلة. مسحت دمعة فرت من عيني وأنا ألتفت مغادرا، لتتجمد قدماي على الأرض تصلنى نبراتها الحانية وهي تقول: هتمشى أوام كدة؟

إلتفت أطالعها في صمت، عاجزا عن الكلام وأنا أراها تعتدل وتتأملنى بإعجاب قائلة: بسم الله ما شاء الله، وراك حفلة ولا إيه؟
إبتلعت ريقى قائلا بصعوبة: كتب كتابى النهاردة.
ابتسمت قائلة: مبارك ياابنى.
وجدت صوتى لأقول ببرودة غلفت نبراتى: أنا مش ابنك.
ظهر الحزن على ملامحها وهي تقول: آه. ما أنا عارفة. للحظة بس حسيت إنى أمك.

اقتربت منها أقول بسخرية مريرة: مستحيل تكونى أمى. صحيح اسمك مكتوب في شهادة ميلادى، بس أنا مش ممكن أكون إبنك ولا انتى في يوم هتبقى أمى، لو كنت صحيح إبنك مكنتيش خنتى والدى، كنتى هتفكرى فية قبل ماتفكرى في نفسك، ومكنتيش هتتخلى عنى بالسهولة دى، أو لما تقابلينى تانى تجرحى مشاعرى بالشكل ده وتعرى حقيقتك أدامى، لو كنت إبنك كنتى خفتى علية وحامتينى حتى من نفسك.
غشيت عيونها الدموع وهي تقول: متظلمنيش ياابنى...

قاطعتها قائلا بحدة: قلتلك أنا مش ابنك، انتى مجرد حالة أشفقت عليها وبس. زي أي حالة اتبنيتها وساعدتها، ومجرد ماتبقى كويسة. خلاص. ساعتها مهمتى هتخلص وهترجعى تانى للحياة اللى انتى اخترتيها وفضلتيها علية. ساعتها هترجعى للشارع اللى جيبتك منه.

أطرقت برأسها ألاحظ تلك العبرات المتساقطة في حجرها، وكم أوجعتنى تلك العبرات كما أوجعتنى تلك الكلمات الفارغة التي قلتها للتو، طعنتنى بسكين حاد قبل أن أطعنها، لم ءدرى لم أردت إيلامها؟ ربما لتشعر بهذا الألم القابع في صدرى يقتلنى، أو ربما أردت إقناع نفسى أنها لا شيئ بالنسبة لى، ولكننى وجدتنى أشعر فقط بالخزي الذي تغلب على غضبى، فها أنا ذا أقوم بجرحها كما جرحتنى، ولم أراعى أنها مهما فعلت ومهما كانت فهي تظل أمى التي منحتنى الحياة، وحتى ان كانت تلك الحياة بائسة مريرة فهي تظل حياة رغم كل شيئ.

إلتفت مغادرا الحجرة بسرعة حتى اننى لم أنتبه لتلك التي اصطدمت بى بقوة، أمسكتها قبل أن تقع، كادت أن تقول شيئا وهي ترى ملامحى الموجوعة ولكننى لم أمنحها الفرصة بل أسرعت مغادرا المنزل وكأن شياطين الدنيا تجرى خلفى.
كدت أن أصل إلى سيارتى حين إستوقفنى صوتها المتوسل وهي تنادينى بإسمى. توقفت ملتفتا إليها وجدتها تقترب منى بسرعة، حتى توقفت أمامى تماما، تقول من بين أنفاسها اللاهثة: مالك ياأكرم. فيك إيه؟

طالعتها بعيون عجزت عن اخفاء الوجع بها قائلا بمرارة: هيكون فية إيه، النهاردة المفروض يبقى أسعد يوم في حياتى، اليوم اللى هكتب فيه كتابى.
لمحة من الحزن ظهرت بعينيها ولكنى تجاهلتها وأنا أستطرد في ألم: بس أنا مش فرحان، عارفة ليه؟
قالت بحزن: ليه؟

قلت بألم: عشان مليش حد، مهمش حد. بابا كل اللى يهمه انه يناسب عمى صلاح وأجيبله الحفيد اللى نفسه فيه وبس، وأمى. أمى خاينة، لا عمرها حبتنى ولا هتحبنى وفي الآخر تقولى متظلمنيش. مين بس اللى ظلم مين؟
اتسعت عينا وردة في صدمة وهي تقول: انت اتكلمت معاها؟
أومأت برأسى، فأمسكت ذراعى بقوة أدهشتنى قائلة: قلتلها إيه. جرحتها من تانى مش كدة؟

نفضت يدها قائلا بمرارة: مين اللى جرح مين؟ هي اللى جرحتنى لما قالتلى في وشى إنها خاينة ومش ندمانة وهي عارفة انى إبنها، فيه ام في الدنيا تعمل كدة؟

هزت رأسها وعيونها تغشاها الدموع قائلة: ياأخى حرام عليك بقى كفاية، كفاية ظلم. انت إزاي أعمى بالشكل ده ومش شايف. بقى الست اللى بحكيلك عنها طول الفترة اللى فاتت دى ممكن تعمل كدة. على فكرة بقى. انت جواك مش مصدق وعارف ان ده كله كدب بس عشان انت إنسان ضعيف حبيت تستسهل إحساس الظلم، حبيت تصدق عشان متدورش على الحقيقة لإنك عارف ومتأكد إن الحقيقة مرة. إمشى ياأكرم، روح إتجوز وعيش حياتك بالطريقة اللى إخترتها، إمشى وسيبنا في حالنا، كفايانا وجع بقى.

إلتفتت مغادرة بسرعة قبل أن أسألها تفسيرا لكلماتها، كدت ان ألحقها ولكن رنين هاتفى برقم والدى جعلنى أتوقف، وأتجه بسرعة إلى سيارتى أنطلق بها إلى منزلنا حيث سيعقد القران، تنتابنى مشاعر عديدة متصارعة ولكن السعادة ليست إحداهم بالتأكيد.

تم عقد القران...

اقترب الأهل والأصدقاء بالتهانى. تقبلتها منهم بذهن شارد، تتردد كلمات وردة في عقلى، تجبرنى على الاعتراف بأنها محقة، لن أستطيع الإنكار. نعم لقد آثرت تصديق والدتى حتى ألقى عليها اللوم في فشلى. في ضعف شخصيتى التي أصبحتها، لم أشكك في كلماتها للحظة فلقد آثرت تصديقها كي لا ألوم نفسى التي إرتضت الذل والهوان في كنف أبى ولم تنتفض رفضا أو إستنكارا. آثرت التصديق لأكمل حياتى بسلام. حياة بائسة لا طعم لها، وها أنا ذا أنعم بإستسلامى، أرفل في ثوب من الخضوع، فهل هذا ما أريده حقا؟

أفقت من أفكارى على رنين هاتفى المتواصل، فنظرت إلى الشاشة لأجد رقم وردة، لم أرغب في الإجابة خاصة ووالدى يرمقنى بتلك النظرات الحانقة، ولكن شيئا ما بداخلى دفعنى للإجابة على إتصالها، لأسمعها تبكى بإنهيار قائلة: إلحقنى ياأكرم، خالتى جتلها أزمة قلبية ونقلناها المستشفى.

إتسعت عيناي رعبا، سأفقدها. نعم، هذا عقابي. يمزقنى الندم على مافعلت. ولكن بم يفيد الندم وقد فات الأوان، هرولت مغادرا المنزل وسط دهشة الجميع وقلبى يبتهل إلى الله ألا يحرمنى منها، ألا يعاقبنى بفقدانها، أعده أن أكون صالحا ماحيييت، فقط أريدها هي. هي فقط لا غير.

الفصل التالي
جميع الفصول
روايات الكاتب
روايات مشابهة