قصص و روايات - نوفيلا :

نوفيلا يتيم في حضرة أمي للكاتبة شاهندة الفصل الثالث

نوفيلا يتيم في حضرة أمي للكاتبة شاهندة الفصل الثالث

نوفيلا يتيم في حضرة أمي للكاتبة شاهندة الفصل الثالث

توقفت متجمدا وأنا أرى تلك اللافتة التي تحمل إسم هذا الملهى الذي يضم بين جنباته وجعى وألمى المتمثل في تلك السيدة الجميلة والتي يصدح صوتها الآن، يصلنى فيذبذب أوتار قلبى. جئتها رغما عنى، قادتنى خطواتى إليها دون إرادتى، ربما رغبت بالإبتعاد ولكن يبدو أن لقائي بها قدرا لابد منه. حاولت إقناع نفسى بأنها رغبة قلب أراد دفن ماضيه ولكنه رغب بإلقاء نظرة أخيرة عليه.

فتنهدت بإستسلام وأنا أدلف إلى الملهى، ليقع بصرى عليها على الفور، وجدتها تغمض عيناها وهي تشدو أغنية رائعة. وكأنها تستشعر حروفها. جلست في هذا الركن البعيد المظلم. أستمع إليها بدورى كباقى الحضور. تصلنى كلماتها فتدمى هذا القلب الذي أراد بكل دقاته أن يصدقها، ولكنه رغما عنه أيضا يكذب ذلك الحنين بصوتها.

ياحياة عمري بقالي عمر يوم ما جمعني بيك عمر غالي يغلى أكتر يوم ما يقدر يفتديك عيش عيش معايا يا حبيبي عيش معايا انت والحب وهنايا مهما عشنا يا حبيبي يا حبيبي عمر واحد مش كفاية مش كفاية حبيبي ليك مش كفاية ياحبيبي مين أنا أنا مين ولا انت مين ولا احنا مين يا حبيبي احنا روح بتحب روح للحب ياروح الروح للشوق للحنين عيش معايا عيش معايا بعيد عن الدنيا عيش معايا بعيد عن كل عين ده الهوى والحب والاشواق علشانا مخلوقين يا حبيبي عايزه اعيش وياك سنين في الحب موصولة وطويلة عايزة أكون فرحة تلاقيها في دنيا أفراحها قليلة انسى ذيي كل شيء إلا الهوى وناره الجميلة عيش عيش معايا يا حبيبي عيش معايا انت والحب وهنايا مهما عشنا ياحبيبي ياحبيبي عمر واحد.

مش كفاية مش كفاية حبيبي ليك مش كفاية يا ابتسامة عمر عاش العمر يحلم بابتسامة ياما صورلي الامل في هواك نعيش في الحب ياما ياما ياما.

لم أدرى هل هذا الحنين في صوتها يخص شخصا آخر بحياتها، أم ربما يخصني؟ هل تخص بهذا الشوق بين طياته حبيبا ضائعا، أم تخصنى أنا به؟ ولدها الوحيد الغائب عنها. لأنفض هذا الإحتمال الأخير رافضا، فأمثالها من النساء لا يعرن أولادهن اهتماما. ينجبهن للحياة، ثم يلقين بهم بين غياهب المجهول و تستمر الحياة، تماما كما استمرت معها.

كم تمنيت أن أقول أن كل ماأنا وكل ماسأكونه كان بفضل أمى ولكننى لاأستطيع قول ذلك فقد غابت عنى أمى وتركتنى أعانى مرارة اليتم، وها أنا ذا مازلت أعانى تلك المرارة. يتيم أنا في حضرة أمى.

مسحت دمعة تسللت إلى وجنتى وأنا ألقى نظرة أخيرة عليها لأجدها قد فتحت عيونها بعد إنتهاء الأغنية، تنظر مباشرة إلي، أو هكذا خيل لى، نهضت ببطئ أودعها بنظراتى الوداع الأخير لأدرك أنها حقا تطالعنى بنظراتها التي عكست مشاعر عديدة لم أمنح نفسى وقتا لأحاول تفسيرها، إلتفت مغادرا ثم تجمدت في مكانى وأنا أسمع الشهقات من حولى وصوت صراخ فتاة قائلة: خالتى تحية، فوقى ياخالتى.

إلتفت بسرعة لأرى أمى رابضة على الأرض تقبع رأسها في حجر فتاة تصرخ مستنجدة بينما تعلقت عيناي بعيني والدتى المغمضتين، وجدت نفسى أهرول بإتجاهها. أنحنى وأحملها بين يدي بسرعة بينما تقول تلك الفتاة: ربنا يخليك خدنا على أقرب مستشفى، خالتى هتروح منى، ياريتنى ماسيبتها تنزل، ياريتنى.

لم أنظر إليها ولم أعرها إهتماما فقد كان جل همى تلك المرأة القابعة بين يدي، أخشى بقوة أن أفقدها، لأدرك في تلك اللحظة أننى لا أهتم إن كانت زوجة خائنة لأبى أو أم تخلت عن طفلها، فقط أنا أريدها في حياتى حية ترزق وكفى.

أسرعت إلى سيارتى أحمل أمى وتلك الفتاة خلفى تبكى وتنوح، تصيبنى بوجع في الرأس لا يحتمل، كدت أن أتركها خلفى لأتخلص من نواحها ولكن حبها الواضح لوالدتى منعنى، لذا إكتفيت بأن نهرتها بحدة قائلا: هتركبى معايا تبقى تخرسى خالص، أنا فية اللى مكفينى وعلى آخرى. مفهوم؟

ضمت شفتاها بقوة وهي تومئ برأسها على الفور وكأنها تخشى أن أنفذ تهديدى وأتركها راحلا مع خالتها التي يبدو أنها تحمل لها في قلبها حبا كبيرا بينما أحمل أنا لها في قلبى شفقة إمتزج بحب فطري إنتصر على غضبى ونفورى، في الوقت الحالى.

مؤلمة تلك الدمعة التي تسقط إحتياجا، تبغى بها طمأنينة فتعجز عن منحك إياها.
ومؤلم هذا الخوف من الفقدان، يضرب قلبك فيصيبه بجرح ينزف، يصرخ قلبك مطالبا بالرحمة، تستنجد بمن ينقذك، فلا تجد سواك ليستمر الجرح نزيفا حتى الموت.

كنت أجول أمام باب حجرتها بتلك المستشفى الخاص، أنتظر خروج الطبيب منها ليبث في نفسى الطمأنينة، أشعر أنى أكاد أجن، رن هاتفى للمرة الخمسون ولكننى لم أعره إهتماما فعلى الأرجح أنه إتصالا آخر من خطيبتى وأنا لست بمزاج جيد أبدا للحديث معها، وليس لدي طاقة الآن لحديثها الفارغ والذي يصيبنى بالملل، حانت منى نظرة إلى تلك الفتاة التي تجلس في هذا الركن القريب من الحجرة تبكى وترتعش، تتمتم بما يبدوا أنها بعض الآيات القرآنية، تأملتها للمرة الأولى، إنها فتاة جميلة الملامح متوسطة البنية، ترتدى حجاب يخفى شعرها الأسود الذي تدلت منه خصلة شاردة على بشرة بيضاء جميلة، عيونها في لون الليل السرمدي، تظللهما دموعها الغزيرة.

منذ أن وصلنا إلى هنا وهي تجلس في مكانها تبكى في صمت، لم تقترب منى مجددا، ربما تخشى ثورتى كما يبدو، اقتربت منها فإنتبهت إلي، وأدركت أنى أطالعها متفحصا ملامحها لتسرع بتعديل حجابها ومسح دموعها بكفها كالأطفال، وقفت أمامها تماما فنهضت ببطئ قائلة بإرتباك: احنا متشكرين أوى على وقفتك معانا ياأستاذ، اتفضل انت بقى وأنا...
قاطعتها قائلا: هي تقربلك إيه؟

زاد إرتباكها وهي تقول بإضطراب: مربيانى وفي مقام أمى الله يرحمها.
لم أدرى لم شعرت بالغضب؟ هل لإدراكى أنها تخلت عنى بينما لم تتخلى عن تلك الفتاة وقامت بتربيتها، أم لإننى فقط لم أتخيلها أما لغيرى؟
طال صمتى فرأيتها تتململ وعيونها تتعلق بذلك الباب مجددا، لأقول بهدوء: هي أول مرة يجرالها كدة؟

هزت رأسها نفيا قائلة بحزن: مش أول مرة، هي تعبت من فترة وأغمى عليها ولما وديناها للدكتور قال إن قلبها يعنى تعبان شوية ومنعها من السهر والشرب، حاولت معاها كتير، قلتلها ان شغلى يكفينا احنا الاتنين بس هي اللى دماغها ناشفة.

مريضة بالقلب، تبا. ماأصعب هذا الخبر وهو يقع على مسامعي لأول مرة، لقد وجدتها لأفقدها مجددا على مايبدو. شحب وجهى وشعرت بالدوار لتسرع تلك الفتاة وتمسك بيدى تساعدنى على الجلوس وهي تقول: بسم الله الرحمن الرحيم، مالك ياأستاذ؟ تعبان. أندهلك الدكتور؟
طالعتها بعيون زائغة لا أدرى بم أجيبها لتزداد ملامحها قلقا وهي تقول: لا حول ولا قوة الا بالله. رد علية ياأستاذ الله يرضى عليك، أنا مش ناقصة مصايب.

ابتلعت ريقى ثم قلت بهدوء لا أشعر به: أنا كويس متقلقيش.
كادت أن تتفوه بشيئ ما ولكن خروج الطبيب من الحجرة قاطعها، لتسرع إلى الطبيب بلهفة، أتبعها أنا بوهن وبقلب منقبض الأسارير، لينقل الطبيب بصره بيننا قائلا: للأسف عندها انسداد في الشريان التاجى وبسبب الاهمال في العلاج، الحالة بتتأخر، ولو استمرت على الحال ده هيحصلها ازمة قلبية ممكن تأدى للوفاة.

شهقت تلك الفتاة بينما إتسعت عيناي رعبا والطبيب يستطرد قائلا: مفيش أدامنا غير الجراحة بس لازم نعدها نفسيا للمرحلة دى لإن من الواضح ان المريضة فاقدة الرغبة في الحياة.
قالت الفتاة بحسرة: ياحبيبتى ياخالتى.
بينما قلت للطبيب متوسلا: والحل يادكتور؟

قال الطبيب: تفضل هنا تحت العناية ومعتقدش انها هتوافق في ظل حالتها النفسية السيئة والواضحة، أو تخرج بس مع إقرار كتابى منكم انها هتكون تحت رعايتكم. لغاية ما حالتها النفسية تتحسن ونقدر نعملها العملية واحنا متطمنين. القرار في إيديكم، بعد إذنكم.
أومأت برأسى فغادر الطبيب، بينما تقول الفتاة بحسرة: هعمل إيه دلوقتى بس، ماهي مش هتسمع كلامى وهتنزل الشغل برده؟ دبرنى يارب.

لأقول بحزم: مش انتى اللى هتعملى، أنا اللى هعمل.
نظرت إلى الفتاة بحيرة قائلة: كتر خيرك ياأستاذ، لحد كدة وكفاية أوى، دى خالتى وأنا أولى بيها وربنا بإذن الله هيقدرنى...
قاطعتها قائلا: لو على الأولى بيها فأكيد هو أنا، لإن الست اللى جوة دى تبقى...
صمت فطالعتنى بحيرة لأستطرد قائلا: تبقى أمى.
إتسعت عيناها بصدمة وأنا أستطرد قائلا: انا أكرم. أكرم سعيد الراوى.

الفصل التالي
جميع الفصول
روايات الكاتب
روايات مشابهة