قصص و روايات - نوفيلا :

نوفيلا يتيم في حضرة أمي للكاتبة شاهندة الفصل الأول

نوفيلا يتيم في حضرة أمي للكاتبة شاهندة الفصل الأول

نوفيلا يتيم في حضرة أمي للكاتبة شاهندة الفصل الأول

تأملتها كعادتى كل يوم منذ أن جئت الى هذا المكان. تجلس وحدها بعد ان تنهى عملها. في ذلك الركن البعيد الهادئ والذي يبدو أنه ركنها الخاص، تنظر الى كأسها في مرارة وكأنها تلومه. تحمله كل ما بقلبها من آلام تظهر واضحة جلية على محياها، ثم تتجرعه مرة واحدة و تضعه على الطاولة بعينين تترقرق بالدموع. جذبتنى إليها بشدة. أحسست أن ورائها قصة أو ربما لغزا. تغلب علي فضولي الصحفي لأحسم أمرى، لن أظل بعيدا يجتاحنى الفضول لمعرفة قصتها. فملامحها تذكرنى بشخص عزيز على قلبى فقدته من زمن بعيد حتى بهتت تلك الملامح وبقيت الذكرى. ذكرى بعيدة لألم وفراق، ربما استطعت ان أساعدها في حين عجزت عن مساعدة عزيزتى بالماضى، اقتربت بخطوات بطيئة مترددة حتى توقفت أمامها تماما.

رفعت عيونها إلي. عيون تغمرها الدموع فطرت قلبى حزنا عليها، شعرت لوهلة بالصدمة تقبع في تلك العيون ولكنى أيقنت أنى واهم حين وجدتها ترفع يدها وتمسح تلك الدموع ثم ترمقنى بفضول كسول، قلت لها بهدوء لا يعكس اضطرابى: مساء الخير.
قالت على الفور ودون لحظة تردد: عايز إيه إنت كمان؟
جلست دون استئذان وانا أرمقها بنظرة هادئة قائلا في حزم: عايز أعرف قصتك، حاسس ان وراكى لغز كبير، احكيلى. مش يمكن أقدر أساعدك.

أطلقت ضحكة ساخرة وهي تعود برأسها للوراء، ثم اعتدلت فجأة وهي ترمقنى بابتسامة كسول قائلة ببطئ: واضح. مباشر و جرئ. تعجبنى ياأستاذ.
لتصمت للحظة قبل ان تستطرد قائلة: وتفتكر هتقدر تساعدنى؟

ابتسمت وأنا أومئ برأسى مؤكدا، لتضطرب دقات قلبى من نظراتها، فرغم سنوات عمرى التي تقترب من الثلاثين ورغم أنها تبدو على مشارف الخمسين إلا أن نظراتها المتفحصة قد أشعرتنى بالارتباك والخجل. فملامحها جميلة حقا، حتى اننى بدأت أعدل عن قرارى بمساعدتها. و كدت ان أنهض مبتعدا لولا أن رأيتها تشيح بنظراتها بعيدا عنى وهي تنظر الى قنينة الخمر لتسكب منها في كأسها قائلة: اممم. وماله ميضرش؟ عايز تسمع حكايتى؟ هحكيهالك بس تسمعنى للنهاية. والأهم بقى هو انك متحكمش علية، كفاية علية اللى بقوله على نفسى طول السنين اللى فاتت دى. اتفقنا؟

أثارنى الفضول بشدة لأومئ برأسى قائلا بلهفة: اتفقنا.

تراجعت بظهرها الى الوراء وهي تمسك كأسها بيد بينما باليد الأخرى تمر على حافته قائلة: هحكيلك حكايتى من بدايتها. من اليوم اللى باعنى فيه أبويا. كنت بنت صغيرة. حلوة و ساذجة، باعها لراجل أكبر منها عنده فلوس كتير وكتب عقد. في الظاهر كان عقد زواج شرعي بتقره الدولة والمجتمع، ولكنه في الحقيقة عقد عبودية لرجل سادى بيعمل فية اللى هو عايزه، بيعاملنى زي الجارية اللى بتلبى له كل طلباته في أى وقت واى مكان. وان اعترضت على شئ او حاولت أقول رأيي؛ يجلدنى بالكورباج لغاية ماأترمى في ركن من البيت عاجزة عن إنى حتى أفتح عيونى من شدة الألم. اتعودت على عذابه وقسوته. اتعودت حتى على عقابه، هعمل إيه يعنى وهستنجد بمين؟ أبويا؟ اللى باعنى بأرخص تمن؟ ولا أمى؟ اللى لا حول لها ولا قوة؟ مرت الأيام والشهور وحملت منه وخلفت. قلت هيبطل يإذينى بس مبطلش، زاد جبروته و قسوته. بدأت أشرب عشان أنسى مأساتى وأتحمل العذاب. مكفهوش اللى بشوفه على إيديه وإحنا لوحدنا، جاب صحابه البيت كمان وبدأو يسهروا ويشربوا، وفي النهاية يهينى ويضربنى أدامهم، اكتفيت. طلبت الطلاق وكان رده علقة موت. ضيعت كل أمل لية في الخلاص، وقعدتنى في السرير شهر بحاله عاجزة، بعدها بفترة سافر ولما رجع، لقيته بيتهمنى بخيانته مع صاحبه، وبعدين رمانى في الشارع، خبطت على الباب كتير، صرخت وبكيت. طلبت منه أن يدينى ابنى، يرحم ضعفى، توسلت اليه ان يرجعنى خدامة تحت رجليه بس عشان أعيش جنب إبنى. مردش علية. وفي اليوم اللى بعده روحتله تانى عشان أستعطفه، فلقيته مشى مع إبنى، سافر. أخده منى لمكان بعيد معرفوش. حرمنى منه.

مش عارفة قعدت أدام بيتنا أد إيه أستنى يرجعوا. أستنى أى إشارة تدلنى على مكانه. لغاية مافقدت الأمل، وعرفت إنى خلاص فقدت إبنى للأبد. رجعت لعيلتى فطردونى. روحت لصاحبتى وقعدت عندها، قالتلى ان صوتى جميل، ولقتلى شغلانة هنا. مغنية زي ماإنت شايف. ومن يومها وأنا أنام بالنهار وأشتغل هنا بالليل أحاول أنسى كل اللى فات، لكن اللى فات مبيتنسيش والمرارة فاضلة جوة الحلق.

سالت دموعها وترقرقت دموعى في مقلتي تعاطفا مع تلك السيدة التي عاشت حياتها في مأساة، تباع من قبل أبيها لمن يدفع أكثر بعقد زواج. لرجل بلا رحمة عاملها بسادية ثم ألقاها في النهاية بالشارع محرومة من المأوى، و الأنكأ من ذلك. محرومة من أمومتها. من طفلها الذي يبدو انها تكن له حبا.

منحتها منديلى لتجفف دموعها فأخذته منى على مضض وهي تمسح به دموعها الخائنة، نظرت إلى ملامحها الجميلة رغم سنوات عمرها المتقدمة. وأنا اقول بهدوء: وليه مدورتيش على إبنك؟ ليه رضيتى بقدرك ومحاولتيش تغيريه؟

ابتسمت بمرارة قائلة: هغير قدرى إزاي وهو مكتوبلى؟ وهعمل إيه أدام جبروت راجل عنده فلوس وسلطة تمحينى من حياته وتخليه يبعد عنى، بعد السما عن الأرض، هلاقيه إزاي وهو مش عايزنى ألاقيه؟ وحتى ان لاقيته هيدمرنى في ثوانى؟
قلت في حيرة: طيب وإبنك؟ موحشكيش؟ مش يمكن حابة تشوفيه مرة تانية؟
نظرت إلى نظرة طويلة غامضة لم أدرى كيف أفسرها، لتتجرع كأسها ثم تقول بهدوء: هو كويس من غيرى، الماضى بتاعي هيدمره.

قلت في أمل: بالعكس هيفرح لو لقاكى، أنا متأكد.
تأملتنى للحظة قبل أن تقول: مستحيل ياسى الأستاذ. مين بس اللى هيعوز أم خاينة في حياته؟
عقدت حاجبى قائلا في حيرة: فين الأم الخاينة دى؟
نظرت إلى عينى مباشرة وهي تقول بحزم: أدامك أهى.
تراجعت بظهرى للوراء في صدمة لتبتسم في مرارة قائلة: أيوة أنا. خنته. خنت جوزى، ومش ندمانة.

لم أستطع أن أتفوه بكلمة لتتراجع هي الى الوراء بدورها وترمقنى مجددا بكسل قائلة: بصراحة مشيت ورا قلبى، وبعديها عشت لنفسى ونسيت ابنى وقلت أجرب أعيش مرة لمزاجى وبس. ها. قولى بقى. بعد ماسمعت قصتى لسة مصمم تساعدنى؟
أطرقت برأسى في خجل لأسمعها تقول بملل: قوم ياسى الأستاذ. قوم وإمشى من هنا ومترجعش تانى. المكان ده مش للى زيك، قوم بقى وسيبنى في حالى.

نهضت وكدت أغادر ولكن لا أدرى لم توقفت ومددت لها يدى بمفكرتى وقلمى قائلا: طيب ممكن تكتبيلى إسم جوزك هنا؟
نظرت إلى في دهشة قائلا: لسة مصر تساعدنى؟
قلت بهدوء: مش عارف. يمكن. ويمكن هو الفضول وبس.
زفرت بقوة ثم أمسكت المفكرة وخطت داخلها اسمه لتناولنى اياها وهي تشير إلى بالذهاب.
أخذت المفكرة وخرجت من الملهى، لأفتح المذكرة بهدوء وأقرأ الاسم المدون بها. (سعيد الراوى).

اتسعت عيناي وأنا أشعر بالصدمة تغمر كيانى، ظللت هكذا لثوان أتذكر كلماتها، كل حرف تفوهت به. لأطلق ضحكة ساخرة مالبثت ان تبدلت بأخرى دامعة. أمسكت الورقة والتي خط بداخلها الاسم ومزقتها الى فتات ثم إبتعدت بخطوات حزينة وظهر منحنى وقلب منفطر. قلب أدرك اليوم حقيقة مؤلمة، قاسية، فمن كنت أظنها مثال للطهارة، من تحملت الحياة مع رجل سادى فقط من أجلى. من أخبرنى والدى أنها متوفاة، اليوم ومنذ لحظات اكتشفت أنها حية ولكنها مع الأسف ماتت، ماتت بقلبى للأبد بعد سماعى لاعترافاتها منذ قليل. فبالفعل لن استطيع ان امنحها غفرانا لا تستحقه. ومعرفتى بحقيقتها أشقتنى.

فمهما كانت اسبابها لم يكن عليها ان تخون والدى ولم يكن عليها أن تتخلى عنى وتتركنى أعانى وحدى معه لأكون هذا الرجل الضعيف الذي أصبحته. نعم أصبحت رجلا ضعيفا دونها واليوم سأصير أضعف وأنا أدرك خيانتها التي قتلت كل المشاعر بداخلى.
عذرا، ربما شعرتم بالحيرة للحظات ولكن كل شيئ سيتضح لكم حين أعرفكم على إسمى فأنا أدعى أكرم، أكرم سعيد الراوى.

الفصل التالي
جميع الفصول
روايات الكاتب
روايات مشابهة