قصص و روايات - نوفيلا :

نوفيلا ياسمين للكاتبة هاجر الحبشي الفصل السادس عشر

نوفيلا ياسمين للكاتبة هاجر الحبشي الفصل السادس عشر

نوفيلا ياسمين للكاتبة هاجر الحبشي الفصل السادس عشر

لا أحد يحصل على الإنتصار كاملًا أبدًا، كما أن النهاية لا تكون سعيدة كذلك، بل دومًا ما تجد هنالك حقائق أليمة متوارية خلف كل نهاية سعيدة.

كانت الرياح مُعبقة برائحة الموت، الفقدان، الألم، ونسماتها المداعبة حادة كأطراف مقصٍ حاد يتغلغل الرأس مستهدفًا منابت الشعر حتى لا تبقى خصلة واحدة ترفرف وتحجب رؤيتها لإسم والدها المنقوش فوق قبره.
سارت بأناملها على أحرف أسمه المغطى بالأتربة برقة كأنها تداعب بشرة طفل رضيع، وعيناها تفيض من الدمع، وجسدها يهتز بخفة وشفتاها ترتعش وعبراتها تتوقف فوقها تجبرها على تذوق طعمها المالح المرير.

وضعت رأسها فوق الحائط الصلب المحتضن أسمه وهمست بانكسار وهي تنتحب.
أنا وفيت بوعدي، وخالد مات، و..
وصمتت وشهقت بقلبٍ مُحترق دون أن تتابع خشية إحياء شوقها إليها، خشية أن تغلبها رغبتها في ضمها إلى صدرها واستنشاق رائحتها الطفولية الناعمة كما عهدتها، تخشي إفساد حياتها السعيدة بوضع قدمها داخلها، تخشي أن تنقلب حياتها رأسًا على عقب بسببها.

ستظل دائمًا وحتى الممات تطمئن عليها من بعيد، تراقب سير حياتها وتحقيق أحلامها التي تمنتها هي يومًا ما، الحياة كانت قاسية وسلبتها منها طفلة صغيرة لا تفقه شيء لتحيا الحياة الكريمة التي عجزت عن توفيرها إليها.
إن كان مصير كليهما الفراق لكي تحيا احداهن عزيزة وأخري ذليلة، فلا مانع لديها أن تكون هي الذليلة لكنها لم تحيا ذليلة كل الذُل أيضًا، لقد نالت من الحياة كما نالت منها سواء بسواء.

همست بوجل حرصًا على أن لا يسمعها أحد ولا أن تسمع نفسها حتى.
محدش هيعرف مكانها، ولا حد هيعرف إنها موجودة.
توقفت ورفعت رأسها وتحدث وهي تطالع إسم والدها بخجل كأنه هو من تحادثه وليس أسمه.
مش هتعرف إن ليها أُخت عشان أنا مشرفش لا كأخت ولا كبنت.
وكففت عبراتها الجارية على وجنتها التي تعجز عن الرؤية بوضوح من غشاوتها واستردت بنبرة لا حياة بها.
يارا هتفضل ميتة، وانا كمان مُت في نفس اليوم اللي سبتوني فيه.

يكفيها بكاءً يكفي، توقفت عن البكاء، ووقفت باحترام أمام القبر وأردفت بابتسامة عذبة مُودعة.
انا هسافر ومش هرجع هنا تاني، هحاول أبدأ من جديد لو قدِرت.
وهبت رياح شديدة مزمجرة حملت مع ذهابها زفرتها المهمومة، وشق وِحشة المقابر وهدوئها المُخيف بكاء يأتي من مكانٍ قريب، نكصت على عقبيها وشملت المكان بنظرة مُدققة، وتخلل أُذنها صوت البُكاء المقهور البعيد، فاختلج قلبها وارتدَّ داخل قفصها الصدري.

تبعت الصوت وسارت وسط القبور وحذائها الأسود اللامع تغمره الأتربة، وبدأ الصوت يوضح أكثر فأكثر.

هربت شهقة متفاجئة من بين شفتيها تزامنت مع اتساع عيناها حتى كادت تسقط من محجرها عندما أدرك بصرها يعقوب يجثو أمام أحد القبور بيدين مُقيدة بالأصفاد، ووكيل النيابة ذاك يقف خلفه بهيبته المعتادة ويخفي نظراته الجامدة خلف نظارته الشمسية، وتلك الفتاة التي تعتني بجدته تقف في المقدمة محاذية إليه، لمَ هي هُنا؟ رباه! هل جدته وافتها المنية؟ سوف يتدمر يعقوب إن حدث!

كانوا يستمعون إلى الشيخ الذي يقرأ القرآن بعد إن تم دفنها بآذانٍ صاغية وذهنٍ حاضر، ويعقوب يجلس كالطفل مطرق الرأس، محني الكتف، منكسرًا ضعيفًا، كمن فقد والدته بعمر السابعة، يبكِ ويبكِ ويبكِ حتى اخضلَّت لحيته، إنه فقد ماضيه وحاضره ورُبما مستقبله معها، لقد جرفه الدهر، فلمَ لم تنتظره كان سيذهب إليها ويأخذها بعيدًا ويبدأ من جديد، لمَ لم تمنحه الحياة فرصته معها لمَ؟ أيلوم نفسه أم دُعاء لأنها من أعطتها الجريدة! أم الخبر وأم كاتبه!، أم من أخبر بالخبر؟ من فعل؟!

اختبأت ياسمين خلف إحدي المقابر وجلست فوق التراب الكثيف تستمع إلى نحيبه، ولم تسيطر على نفسها وانتحبت معهُ وكتمت صوتها بكفها وظلت تبكِ حُزنًا وندمًا عليه، الحياة ليست عادلة، ولا تمنح كل شيء، وإن منحت تسلب أضعاف مضاعفة بالمقابل، هذا ما تعلمته.
كفاية كده.

قالها وكيل النيابة وهو ينصرف وجلس داخل عربة السجن «البوكس» في المقدمة بجانب السائق وحثَّ الحارسين على سحب يعقوب عنوة ووضعه داخل السيارة وانطلق، تاركين الفتاة تقف محلها بلا حول ولا قوة.
أظهرت ياسمين عن نفسها بعد اختفائهم من هُنا، وتقدمت من القبر وهي تبكِ، وقفت بجانب الفتاة فالتفتت إليها وتفاجئت بوجودها وطفقت تسألها بتعجب فور رؤيتها.
حضرتك هنا؟ شوفتي حصل إيه؟

أومأت ياسمين بحزن، وجثت أمام قبرها واعتذرت بألم لخيانة حفيدها العزيز والزج به خلف الجدران.
أنا آسفة.
ربتت دُعاء على كتفها مؤازرة وجثت بجانبها تواسيها بحزن.
ربنا يرحمها.
وضعت ياسمين كفها فوق كف دعاء وهزت رأسها بإيماءة بسيطة والتفتت تنظر إليها وسألت باستفهام.
ماتت إزاي؟
ولم تؤخر دُعاء ردها واجابتها.
تعبت لما شافت خبر القبض على يعقوب في الجرنال.

تجمدت محلها، وتلبسها الذعر وهي تعقف كلا حاجبيها باستنكار، وعلَّت وتيرة تنفسها بانفعال، ثم حانت منها إلتفاته استقر بصرها إثرها على القبر بحسرة، لقد قتلها، هي من قتلتها، لقد دمرت عائلته الصغيرة التي لم يطمع بغيرها.
ظلتا لدقائق صامتتين هادئتين حتى بادرت ياسمين بسؤالها دون أن تنظر إليها.
إنتِ هتشتغلي فين؟
أجابت بحزن.

مش هشتغل أنا أصلا لسه بدرس وكُنت بساعد أمي في المصاريف وهي وافقت اشتغل بس لما عرفت اني هراعي واحدة قد جدتي أما دلوقتي أشك أنها هتسيبني أشتغل.
إلتفتت إليها ياسمين وأمسكت بكفها وربتت عليه بحنو وقالت بلطف ونبرتها غلبت عليها الرعشة.
انا هديكي فلوس كتير تقدري تساعدي والدتك، بس تخلي بالك من يعقوب، زوريه دايمًا وهاتيله أكل وسبيله فلوس وخليكي جنبه مش محتاجة منك أكتر من كده.

سحبت دعاء كفها من بين يدها ورفضت بلباقة.
مقدرش اعمل كده، أمي مش هتسيبني أخرج وهتسألني عن مصدر الفلوس.
طمأنتها ياسمين بقولها بتلهف رغبةً في إقناعها لكي لا تخاف. متخافيش أنا هفتحلك حساب تسحبي في أي وقت منه، ووالدتك تقدري تقوللها حفيد الست اللي كنتي بتراعيها اداكي مكافأة نهاية الخدمة، أو خصصلك راتب شهري اللي يريحك، ويعقوب مش لازم تروحي كل اسبوع روحي كل شهر كفاية محدش هياخد باله ها؟

ردت دعاء بتوتر، دون أن تبدي موافقتها لكي لا تبدو بتلك السهولة، فهي لا تملك أُم تسأل ولا قريب يؤرق حياتها على أي حال، وحيدة وتلك المرأة هي من آنست وحدتها لكنها ذهبت الآن وستنتقل رعايتها إلى حفيدها.
هفكر.
امسكت ياسمين ذراعيها وتوسلت لتنال عطفها.
دعاء وافقي أرجوكِ أنا محتجالك.
أومأت دعاء بتردد وتفوهت بما جعل ياسمين تبتسم.
حاضر، موافقة.
وقفت ياسمين وأوقفتها معها وحثتها على السير معها.
طيب تعالي معايا.

أومأت وسارت معها طواعية وهي تفكر لتقطع ياسمين حبل أفكارها بقولها بجدية وحذر وكلتاهما تبتعدان عن المقابر.
مش عايزة حد يعرف عن مقابلتنا ولا اني كُنت هنا ولا كأنك شوفتيني.
وشدد على بقية كلماتها بحذرٍ أكثر.
ولا حتى يعقوب ممكن؟
تعجبت موقفها وسألتها مشدوهة.
ليه مش إنتِ خطيبة يعقوب؟
طفرت عيناها بالدموع، وأطبقت على كفها بقوة، وضغطت على أسنانها بعصبية، ولم تلتفت إليها، بل ظلت تسير بشموخ مرفوعة الرأس وهي تجيبها.

إحنا سيبنا بعض ومش هنرجع وهو مش هيقبل أي مساعدة مني لكن هيقبلها منك إنتِ أرجوكِ متعرفيش حد مقابلتنا.
أقنعتها بقولها ونبرتها الصادقة فلمست قلبها وحصلت على عطفها ووافقتها.
حاضر متقلقيش.

بعد يومين..
ووقت الظهيرة في طريق فارغ لا تسير به الكثير من السيارات كانت سيارة الشرطة «عربة الترحيلات» المُحملة بالمساجين مقلوبة رأسًا على عقب وإطارها مازال يدور وقد نشبت النيران في مقدمتها ولقي السائق مصرعه بعيارٍ ناري.

تأوه الكينج بقوة وهو يزحف على بطنه بتعب، والدماء تغرق وجهه فلم تتبين معالمه سوى بظهور أسنانه البيضاء، وأنفاسه بالكاد يخرجها بانتظام، ورؤيته مشوشة، والدوار يفتك برأسه من قوة ارتطام السيارة بالأرض، وجسد ذلك الحقير الذي علق معهُ في أصفاد واحدة يحيل تحركه ورؤية ضوء النهار، فكان يعقوب هو ذلك المقيد بالفعل، وفاقدًا للوعي كذلك ورأسه تنزف بغزارة ويحتاج لمن يحمله.

يئِس من الخروج رغم قرابة وصوله وسقط رأسه يتنفس بتقتير واستسلم للإغماء المُداهم لكن وقع أقدام وهمسات متبادلة مألوفة منعته عن الاستسلام للإغماء.
باشا، باشا، إنت بخير؟
هتف بها أحد رجاله وهو يسحبه إلى الخارج ويعقوب يُجر خلفه فهتف الكينج بأعين نصف مُغلقة وبالكاد يعي ما يحدث.
كنتوا هتموتوني يا (، )
آسفين يا باشا.

إعتذر وساعده بالسير وذراعه متهدل بسبب ثقل ذراع يعقوب وتعلقه به، فمال رجُلهُ الآخر على ذراع يعقوب يفك وثاقه فشعر الكينج بحركته وبذراعه الذي خفَّ وزنه وتحرر فأمرهم قبل أن يفقد الوعي.
هاتوه وحطوه في المخزن.

داخل الفندق الذي تقطن به ياسمين، في المطعم الملحق به، كانت تجلس تتناول فطورها بدون شهية الحُزن يكسوها، والكآبة تحيطها، والألم يموج داخل عيناها، وبين كل لقمة والأخرى تشرد خمس دقائق، فاليوم محاكمة يعقوب، وفي أسوأ الظروف ربما يحكم القاضي بسجنه سبع سنوات، وأقل تقدير ربما أربعة أو خمسة لا تعرف فهذه وجهة نظر المحامي، في الحالتين ستغادر مصر اليوم، تمنت لو تذهب وتراه مرة أخيرة لكنها خشيت أن تزيد من قهرته برؤيتها، يكفي ما حدث إلى الآن ستطوي تلك الصفحة وتذهب.

اهتزاز هاتفها الحقيقي وأزيزه فوق سطح الطاولة استرعى انتباهها، نظرت إليه بتعجب، ثم رفعته تحدق في اسم المحامي باقتضاب وعلى مضض أجابته.
ألو..
أتاها رده بعملية.
الراجل بتاعى واقف قدام الفندق مستنيكي، اديله باقي الحساب.
قلَّبت عينيها وابتسمت بسخط وقالت مُرحبة.
طبعًا، فورًا الفلوس تكون جاهزة مع السلامة.
وتلا قولها إغلاق هاتفها بمقتٍ وتمتمت بتهكم وهي تقف وسحبت حقيبتها خلفها.

أومال لو كان جابله براءة كان عمل ايه!
وسارت إلى الخارج بتبختر ووجهتها أقرب ماكينة أموال لكي تسحب منها نقديًا، لتتخلص من ذلك الجشع الجائع المتعطش للأموال.
تلفتت حولها بتشتت وهي تزفر، وعيونها تدور وتبحث فهي متأكدة أنها رأت واحدة في القُرب عِندما أتت إلى الفندق.
ها أهي..

حدثت نفسها بخفوت وهرولت إليها بسرعة، ثم خفضت رأسها على الحقيبة لكي تخرج بطاقتها الائتمانية ولم ترتفع، واختفى أثر ياسمين عن المنطقة بأكملها.
داخل المخزن..

تأوه يعقوب وتحرك بألم في محله شاعرًا بسيل الدماء من أسفل رأسه المُحطم مخلفة بركة دماء أحس بها كما أحس بتهتك جسده، وتهشم عظمه، وعجز عن الفصل بين جفنيه الملتصقان ببعضهما البعض، وحاول تحرير ذراعه المقيد من ذلك الحبل الغليظ القاسي بحركة بطيئة، موهونًا متلويًا ك حية مكانه وجفناه يفترقان ببطء.

أبصر تلك الصناديق المصفوفة فوق بعضها البعض خلفه باهمال، والتقفت أذنه سماع خطوات ثقيلة تقترب، فسكن وعاد يستلقي كما كان وظل متنبها بأذنه لوقع الأقدام عقبه قذف جسد بجانبه ليحط ك جثة ثم ابتعاد الخطوات وذهابها والإغلاق خلفهم.
اختلج قلبه وانقبض وهذا العبير الذي يعرفه أكثر من نفسه يتسلل إلى أنفه مذهبًا برائحة صدأ الدماء واتربة المخزن واستقر هو، ليكون كالنَفس لا يفارقهُ ولا يتلاشى كذلك.

لمَ يخاف فتح عينيه؟، لمَ ترعبه فكرة أن يفتح عينيه على رؤية جثتها؟، لمَ يخشى موتها بل وتنكوي أحشائه وتتمزق أوصاله، ويتوقف عقله عن الاستيعاب لتخيل أنها غادرت الحياة هي الآخرى.
همس باسمها بنبرة مرتعشة وجِلة دون أن يفتح عيناه لكي لا يري فداحة ما أصابها.
يا، سمين.

السكون، السكون هو ما كان يسود المكان، فإن كان قتلها لم يكن ليأتي بها إلى هُنا، إنها حيَّة بالتأكيد حيَّة، لن تموت بسهولة هذه الياسمين، لقد فعلت كُل شيء لتنتقم وتمضي في حياتها، فليس من العدل أن تموت، لن تستلم للموت بسهولة لن تموت.
استجمع شجاعته وفتح عيناه بحذرٍ شديد كأن هُناك من يقف ينتظره أن يطرف كي يفقأ عينيه.

زفر محررًا أنفاسه دفعةً واحدة وألقى برأسه إلى الخلف عِندما أطمئن، حامدًا شاكرًا يُحملق في السقف ثوانٍ فقط قبل أن تتوافد على عقله أفعالها واحدة تلو الأخرى بتفاصيلها التي نُحتت في أوغال ذاكرته، تمر أمام عينيه مرورًا هيضهُ وفتح جرحه الذي لم يندمل بعد.

حرك رأسه إلى الجانب يناظر سكونها وهدوء ملامحها البريئة أثناء النوم، فمن يُصدق أنها نفس الشخص!، هيئة ملائكية تتلبسها روح شيطان يتنقل بين البشر يعيث فسادًا هُنا وهناك.
عوض لن يغض الطرف عن فعلتها، فإن وعد بموتها سيفعل حتى ولو بعد مئة سنة سيفعل، إنه لا يمزح بتلك الأشياء.

يشك أنه هرب طلبًا للحرية، أكثر من كونه أراد أن يأتي بها لكي يُلقنها درسًا، إنه ذلك الشخص الذي سيفعل المستحيل ليأتي بحقهُ ويثأر لنفسهُ كما فعلت هي، والعاقبة وخيمة وليست مُبشرة، لكن لمَ هو هُنا معها؟!
حركت ياسمين جسدها بعدم وعي وأنينها يسبقها كطفلة تري كابوسًا مُزعج، فتحت عينيها بوهن ولازال أثر المُخدر قائمًا يؤثر عليها وعلى حركاتها المتباطئة كشخصٍ ثمِل.

رفعت رأسها بوجل، واستندت على قبضتيها المضمومتين معًا بقوة تحت وطأة الحبل القاسي على رسغيها، ونظرت حولها برؤية مشوشة وعلامات الاستفهام تتقافز على معالمها، وكل شيء تراه اثنين اثنين.
قطبت جبينها بانزعاج وطوحت برأسها إلى الجانب تبعد خصلاتها المُبعثرة المشوشة لرؤيتها والمعطلة لرحلة استكشافها لذلك المكان الغريب عليها، فاصطدمت عينها بأعين يعقوب الشاخصة عليها.

فغرت فاه بشدهٍ أفاقها وجعلها تتبصر جيِّدًا وهتفت باسمه بتعجب علهُ يكون حلم.
يعقوب!
لو يوافيها ب رد، بل طرف وبُنيته تموج وسط أمواجٍ من الغدر والخيانة داخل مقلتاها.

لم تهتم بالمكان، ولا بمن المختطف بقدر اهتمامها بالإطمئنان عليه ومعرفة كيف انتهى بهما الحال معًا، فزحفت بجسدها إليه ك دودة القز ورفعت كلا قبضتيها المقيدتين إلى وجهه المشبح بالكدمات، الشاحب، الفاقد زُهوه، والذابل الذي غزته الهالات السوداء إرهاقًا وسهدًا من قلة النوم، فلم يكن يعقوب الذي عهدته، بل كان جثته.
ابعدي.

كلمة فقط قالها مُحذرًا متجافيًا خرجت من ظلمات قلبه لكي لا تقترب ولا أن تلمسه، فأوقفها وتوقفت يدها في الهواء قبل أن تلامس وجهه، وابتسمت بألم وبلعت غصتها المعلقمة وسألت عن أخباره بنبرةٍ خافتة متعبة.
عامل إيه؟
لم يريح قلبها الذي أضناه قطع الوصال ب رد، ولم يشبع فضولها الذي استبدلته بسؤالها عن حاله بالرغم من رغبتها المطموسة لتعرف أين هي ومن اختطفها.

رفع جسده بخفة متأوهًا لأن الألم لا يحتمل ويجزم أنه سيكون ميت إن لم يُضمد جرحه لأنه نزف كثيرًا، انتصب جالسًا، وزحف إلى الخلف واتكئ بظهره على أحد الصناديق خلفه وكذلك الحال مع رأسه التي لوَّنت الصندوق الكرتوني بالأحمر.
هادءًا، صامتًا، ساكنًا، كهدوء الرياح في فصل صيفٍ حار.

خفضت رأسها أمامه بهوان، وهمست بندم وعبراتها تتسابق عن التي ستهرب أولًا، وصِدق نبرتها الآسفة النادمة لم يترك له مجالًا للشك أنها تُمثِّل أو تسخر.
أنا آسفة.
كانت صعبة، ثقيلة على اللسان لتخرج، جاثمة على القلب لتتنحى، مُعبرة خرجت من فاه نادم رغبةً في إصلاح ما فسد وأخذ العفو.

كان تصرفًا نبيلًا، بمثابة من أخطأ واعترف بخطأه عِندما أدرك شناعة تصرفه ولم يُكابر ويُجادل في باطل، كان مِثل جمع جُذاذ الزجاج لإعادة إصلاحه وترميمه لكن فشل، كذلك الاعتذار كان بلا قيمة.
فالاعتذار لا يصلح لإعادة تشكيل الزجاج والعودة كسابق عهده، وأن عاد مرة ثانية سيظل مهددًا بالانهيار، فمصيره التفتت حتمًا، إنه إعتذار عقيم بلا قيمة، لن يُشكل فارقًا، ولن يُحدِث تغيُّرًا، ولن يشفي جرحًا، ويمحو إثمًا.

طال صمته، وطال سكونه، حتى نظره كان خاوٍ، كان يملك تلك النظرة التي تعود لشخصٍ تائه مسلوب الإرادة، مثله كمثل من تحمله الرياح دون دراية منهُ، يطوف معها وسط معالم الطبيعة تقلبهُ يمنةً ويُسرة، وترفعه معها وتهبط به داخلها ثم تعود للزمجرة وسحبه معها في دوامة لا خلاص منها.
عِندما يئست من إجابته أو رؤية رد فعل بسيط على الأقل همست مُتضرعة صادقة كل الصدق.
سامحني.

علام تطلب السماح؟ لقد قدم شقيقها كوجبة!، رُبما يكون هذا عادلًا ومكانهِ الآن طبيعي يليق بمجرم قاتل، فلطالما كان لكل شيء نهاية كما كان له بداية.

لكن لم يتخيل يومًا قط أن تضحي هذه نهايته، كانت نظرته للنهاية سعيدة دومًا رغم علمهِ بالخطر المحدق به، وموته الذي من الممكن أن يتحقق في أي وقت، أن ياسمين لم تفعل شيء سوى مساعدته على الذهاب إلى المكان الذي ينتمي إليه وسيذهب برحابة صدر ويختلي بنفسه دون إزعاج، ينتظر فقط ظهور الكينج ووصول الشرطة وانتهاء تلك الضجة لكي يعود إلى موطنه الجديد الذي سوف يكفر به عما اقترفه في موطنه الآخر.

سيحتفظ بجريمته الأخيرة سرًا لنفسه ولن تعرف ياسمين يومًا، كما ستحتفظ هي ب سِر شقيقتها كذلك، فلن تسأله عن تايسون خشية اعترافه وسط الطريق خوفًا من يعقوب، وكشف كذبها بشأن جدته. ، وهو لن يسألها عن عدم سؤالها عن شقيقها خشية اكتشاف الحقيقة، فإن كانت مطمئنة وتعرف أنه في الخارج الآن ووصل بسلام لا يهم فليتركها تعتقد كما تعتقد حتى يختفي وتحزن وحدها.

إنها الشخص الوحيد الذي بقي له على وجه الأرض، حتى إن وهم نفسه بهذا، حتى وأن كذب على نفسه وبرر أفعالها التي اقترفتها يداها بأدلة وبراهين تدعم موقفها!، فهي ضحية في النهاية ومكلومة لن يؤاخذها، بل سيحيا يتلمس لها الأعذار طوال السنوات القادمة أملًا في اللقاء يومًا.

وبعد هذا التصارح النفسي وسكينة نفسه الغريبة، لاحت ابتسامة نقية على شفتيه المشققة نمَّت عن رضاه العجيب بوضعه. ، كان مبتهجًا مسرورًا وهو يخبرها بابتسامة رضا تخص شخصٍ ثالث حكيم لم يحمل ضغينة يومًا.
عيشي يا ياسمين.
وانت مين عشان تسمحلها؟

قطع اللحظة، والتفت رأس الاثنين تباعًا إلى مصدر الصوت البغيض المُتسبب في تلوث سمعي، فكان الكينج يتقدم، وعيناه تنذر بالشر، ومسدسه المُلقم يحمله بيده، والملابس متسخة كما هي، فقط ضمد جرحه لكي يستفيق إليهما وأتي لينفذ وعده.
طالعة يعقوب في علو مستصغرًا ورأسه يسندها على الصندوق، وقد بدأ وغز خاصرته يشتد بعد إن كان لا يلقي له بالًا ويكتفي بالمياه طوال الأيام الفارطة.

شحبت ياسمين بدورها وخسف وجهها مفاجئةً به، كيف هرب؟ ماذا يُريد بها؟ بالتأكيد لم يعرف قصة حبهما الملحمية وأراد أن يتصرف بنُبل ويجمعهما معًا!
فكما يبدو لها أنه سيقتلها مثلما أخبرها يعقوب، وتلك النظرات الخطرة في عينيه التي راقصت أوتار قلبها هلعًا تجعل قول يعقوب كقرار وزاري مهما تأخر تنفيذه في النهاية سيُنفذ على أكمل وجه.

تبسمت ياسمين بتوتر وقالت بغير مرح وهي تقف على ركبتيها، منتبه إليه كأن معلمها قد دخل.
الكينج مش معقول إنت كمان هربت؟
ضحك الكينج وهتف باسمًا وهو يطلق بعشوائية متعمدة
خادشًا الأرضية برصاصة صلبة أمام قدمها مباشرةً، فانحصرت أنفاسها في رِأتها وهي تُطالع قُرب الرصاصة منها، ورفعت رأسها متوجسة تناظره بوجل.
أه هربت.
وأقرن قوله برصاصةٍ أخري،.

فصرخت برعب وسقطت على مؤخرتها وابتعدت إلى الخلف زحفًا بملامح مذعورة، محتها رغما عنها وحل محلها الضحك بصوتٍ اشبه للبكاء حتى أدمعت عينيها ورحبت به بخوف.
حمدلله على سلامتك، حمدلله على السلامة.
كان يعقوب يتمزق بجانبها من الألم كاتمًا تأوهاته وعرقه يتدفق من أنحاء جسده، ورأسه يدفع بها أكثر في الصندوق الكرتوني اللين والطري بعض الشيء.

سألها الكينج ببرود وهو يتفقد خزنته حاصرًا عدد الرصاصات المتبقية لكي لا يُضيعها هباءً.
بلغتي عني ليه يا ياسمين؟
توقفت عن أخذ أنفاسها، وتجمدت ملامحها وتعالت خفقاتها عُنفًا وصدرها بدأ في إيلامها بالفعل، وزاغت عيناها وهي تفكر في كذبة قد تنطلي عليه لكنها فشلت، وچُل ما خطر لها ليس سوى ترَّهات ستجعله يضع رصاصته منتصف جبهتها دون تردد.

لم تخاف يومًا كما تفعل في هذه اللحظة، إنها مرتعبة واعضائها تتخبط داخلها، مذعورة، مذعورة ولا تُريد الموت تلك الميتة البشعة على يدِ مجرم.
انسلت عبرة من عينيها اقترنت بإيجابتها بصوت واهن مرتعش بلغ أقصي مراحل ضعفها، مُبطن باستجداء حُجِب عنه لأنهُ ليس أهلا للشعور بهذا.
صدقني، صدقني، مكنش قصدي دي كانت حركة كده عشان اخوفكم..

تسللت بسمة يتيمة إلى شفتا يعقوب وهو يسمع رجائها باستماته لكي تنجو بنفسها، من الجيد أنه رآها تخاف شيء قبل موته.
كان يطالعها الكينج بتشفي وعيناه متسعة تعجبًا من موقفها وتحولها إلى تلك الرقيقة الخائفة عوضًا عن الساحرة التي سمع عنها!، كم يتلذذ برؤية فريسته خائفة مُرتعبة.
إنت قولتي إنك بلغتي عني بالاسم ليه يا ياسمين ليه؟

هزت رأسها بنفي وشهقت وتساقطت عبراتها بغزارة غمرت وجنتها الشاحبة وطفقت تنفي عن نفسها هذا.
صدقني، صدقني مقصدش أنا آسفة، آسف، آآآآه.
صرخت وخفضت رأسها ودوي تلك الطلقة صمَّ أذنها، واستقرت خلفها مُخترقة الصندوق الكرتوني الذي بدأ يتساقط منهُ ذلك المسحوق الأبيض «هيروين»، فوق رأسها كتساقط المياة من الشلال.
أرعدها وانتفضت محلها جرَّاء نبرته الجهورية الزاعقة.
آسفة دي هعمل بيها إيه؟

سعلت باختناق وهزت رأسها بحدَّة تُسقط المسحوق عن شعرها الذي تلوَّن بالأبيض، واقترنت أنفاسها باستنشاق بخار ذلك السُم، وابتعدت من مكانها وهي تهتف باسم يعقوب مستنجدة بخفوت دون أن يتسنى لها رؤيته، وذلك الخط المستقيم المنساب من الصندوق مستمرًا في التساقط خلفها.
يعقوب، يعقوب، إلحقني.

هو من يحتاج لمن يلحقه، هو من بحاجة ماسة للمساعدة، وتلك الشرطة الكاذبة تلك التي تأخرت فلن ينجو احدهما إلَّم يقتحموا المكان ويخلصوهما من براثن هذا المريض.

كان كلوح من الثلج، وعظامه تصطك ببعضها البعض، واسنانه تسحق داخل فمه، واعضائه آيلت للتجمد، يرتجف وينتفض دون توقف من الداخل، بينما الخارج جسده لا يتوقف عن إفراز العرق بغزارة وصدره لا يتوقف عن التذبذب فاقدًا شعورة بأطرافه، وجسده ينزلق وينخفض بتروٍ عن الصناديق، وبالرغم من حالته المثيرة للشفقة حاول بكل جهده أن ينقذها بقوله الذي جمعه بشق الأنفس.
إح، نا، م، تفق، ناش، على كده!

لكن أكان ينقذها أم يفاقم غضبه الذي سيودي بهم إلى الهلاك، وكأن يعقوب قذفه بلفظٍ مُقذع بتلك الكلمات فصوَّب تجاهه وأطلق بجانب رأسه مباشرة أثقب صندوقًا خلفه فأخذ الهيروين يتساقط على كتفه.
صرخت ياسمين بذعر ووقفت على ركبتها واقتربت تقف أمام يعقوب مُفادية وحامية له بانفعال مقرون بخوف، فسخر الكينج بحركة فمه الملتوية وأعاد تفحص خزينته رغبةً في إرهابها وزيادة ذعرها.

ومما استرعى انتباه يعقوب والتفاته بمشقة لرؤية ما هذا الذي يثقل كتفه! والغريب أن نوبة ضحك ليس ميقاتها قد اعترته وعيناه تجيل في المخزن يُعدِّد الصناديق المعبأة بالهيروين.
عجز عن وقف ضحكاته المجهدة ك عجوز بلغ عقده التاسع ويضحك من داخل غرفة العمليات. ، وتألم أضعاف مضاعفة وسعُل دماءًا دون أن يتخلى عن الضحك وأخبره بتقتير حمل بطياته التشفي.
هت، تع، دم، يا، كينج.
هسهس بفحيح وعيناه تقدحان بالشر.

مش قبل ما أخلَّص عليكم يا عقرب.
زادت ضحكاته وسالت الدماء من فمه وتزايد معها ألمه تباعًا، فاقتربت ياسمين أكثر بجسدها منه دون النظر إليه، أعينها كانت جاحظة تكاد تخرج على ذراع الكينج متنبهة لكل حركة تصدر عنهُ، وجبينها يتفصد عرقا ويكاد يغشى عليها من الخوف، فهي مدينة إليه ولن تجعله يموت مهما كلفها الأمر حتى إن كانت تلك التكلفة حياتها.
صرَّ الكينج على أسنانه وجاس محله هادرًا بنبرة اوجفت قلبها.

بقي أنا تلبسني العمة وتقولي هساعدك أمسكه وإنت هو؟!
نفت ياسمين بدلًا منهُ بهيستيريا.
لا مش يعقوب ده خالد هو خالد مش يعقوب.
مط شفتيه وهزَّ رأسه بأسف على محاولاتها المضحكة التي نجحت وحازت على شفقته من كثره اليأس المستنبط منها، وطفق يقول بابتسامة ويده ترتفع مصوبًا فوهة مسدسة على رأسها بتركيز.
لو خرجتي من هنا حية واتقابلنا مرة تانية هشغلك معايا وعد.

استجمع يعقوب قوته المسلوبة التي تخبو كما أنفاسه، ورفع ساقه وركلها فلم تكن ركلة قوية بقدر دفعة أفقدتها توازنها فسقطت واستقرت على جانبها، واخترقت تلك الرصاصة نفس الصندوق خلف يعقوب، وتبسم عوض بعصبية واشتدت قبضته حول مسدسه يعتصره بغير صبر، وبسمة باغضة عَلت ثغره وهو يهدر بغضبٍ سافر.
إنت حبيتها بجد بقي!
استقر يعقوب بقوى خائرة، ربما يلفظ أنفاسه الأخيرة وخفقاته تضعف، لكن أذنه التقفت سؤال الكينج الساخر.

بقي دي أخرتها رقاصة؟
طال صمته واستسلم وذلك السؤال يطوف داخل رأسه بحثًا عن إجابة، ولم تستلم ياسمين وجاهدت لتقف على ركبتيها وعادت تحجب جسد يعقوب عن ناظريه، فزجرها بصعوبةٍ بالغة، ومشجَت روحه مع كل حرف هامس نطق به بالكاد سمعته هي.
اب، عدي، يا، غبية.
ارتعشت شفتيها وتقلَّصت ملامحها بأسي وتساقطت عبراتها بألم والتفتت تودعه بنظراتٍ عاشقة، آسفة، هي أرادت رؤيته مرة أخيرة ولم تطمع بغير هذا.

والتفتت تنظر أمامها متجاهلة همسته الآخيرة ثم ثنيت ساقها وجلست مستسلمة تخفض رأسها كأنها موضوعة داخل مِقصلة، وتغمض عيناها التي تفيض من الدمع وقد قبِلت قرار إعدامها.
ثقل جفنا يعقوب وتبسم مُجيبًا على سؤال الكينج بخفوت.
مجرم، هي، هيحب إيه غير رقاصة؟
عدل عوض قوله وهو يرفع سبابته بخطورة ومسدسه يتوقف على قلبها.
تؤ تؤ رقاصة ميتة.

واقترن قوله بدوي إطلاقه واستقرار رصاصته في قلب ياسمين، فشهقت شهقة خافتة جرَّاء سماع الطلق لم تكتمل وشعورها بروحها تُسلب منها قضى على حواسها ووعيها في آنٍ واحد، فسقط جسدها بلا حراك على ساق يعقوب.
ساد صمت قاتل تخلله زفرة عوض بعدم إهتمام وهو يفحص خزينته مجددًا، ويعقوب هُناك كان مشلول لا يُحرك ساكنًا ولا يبرح مكان، إنه يحلم يحلم، ياسمين قوية ستصمد، ما حدث خارج حدود عقله ولا يستوعبه لكن، لكن، ياسم..

انهي حديثه الذي لم يفوق خمس ثوان وصرخ بأعلى صوته المبحوح كنعيق غراب مقهور.
ياسمين. ياسمين، ياسمين، قومي قووووومي، ياسميييين.
تغضَّن وجه عوض بأسف وتمتم مؤازرًا.
تؤ تؤ تؤ يا حرام..
زحف يعقوب من محله بعنفوان وأنينه يمتزج مع زمجرته تحديًا لأي ألم، فأي ألم الذي سيمنعه عنها!، حاول رفع ظهره للاستقامة فلم يتوازن وسقط على جانبه فوق كومة المسحوق الأبيض التي تشبعت بدمائه المبصوقة من فمه.

جاهد ليقوم لكن حركته كانت مستحيلة، كان مستعدًا للوقوف وحملها وقتل عوض إن تطلب الأمر لكن جسده المُنهك وآلامه الضارية كان لها القرار.

راقب سكونها، وسكن هو الآخر وغمره شعورًا بالتحرر وكأنه يطوف بعيدًا وجفناه يُغلقان بتباطؤ عقرب الساعة، وتراءي إليه عوض يُصوِّب تجاه رأسه بابتسامةٍ خبيثة، وخُيِّل إليه اعتدال ياسمين واستدارتها اليه بوجةٍ بشوش وضاء كالبدر وابتسامة عذبة تعلوه أسكنت روحه وأوقفت عذابه، وأخبرته أن لا بأس، فليهدئ من روعه فحان وقت راحته الآن.

وتم إطلاق النار، فلم تكن تابعة لمسدسه ولا أصابت يعقوب، بل أصابت ساقه وخر ساقطًا يتأوه دون أن يعرف من المُداهم.

بعد مرور أسبوع..
جلست دعاء على الكرسي الحديدي أمام سريره في المستشفى تسأل عن حاله برفق.
عامل ايه النهاردة يا يعقوب؟
ابتسم بمشقة وأجابها بهدوء وهو يُحدق في المحلول الموصل بظهر يده.
الحمدلله بخير.
تبسمت وقالت بلطف.
يارب دايمًا.

هزَّ رأسه بخفة وآثر الصمت وهي كذلك، وأراح رأسه على الوسادة بتعبٍ نسبي وحاول تناسي الألم وحقيقة كونه خاض تلك الجراحة المُخيفة التي ظلَّ سنوات يخشاها دون أن يموت، لا يعرف من رسَّخ بذهنه أنه سيموت إن خاض جراحة، كما لا يعرف لمَ يرهب وتأخذه الرعدة إن تحدث أحدهم عنها!، لا يهم الآن لقد تخلص من الآلام المباغتة والمعاناة التي كان يكابدها وحده، ليبقي ألم قلبه المنشطر فقط.

طالع ذراعه الأيسر المُكبل في هيكل السرير الحديدي لكي لا يهرب بيأس، فهو لن يهرب يرغب فقط في رؤيتها ما المانع وما المشكلة التي سيتسبب بها إن رآها وأطمئن عليها وأسكن روحه وداوى قلبه ما المشكلة؟!
يعرف الإجابة يُعاقب، كُل شيء يمر به ينسبه إلى العقاب، ولن يسأم لأنه يرى كونه يستحق العقاب، لكي يسكن ضميره الذي بدأت صحوته وتقريعه كذلك.
أوصد جفناه وسأل متلجلجًا خائفًا من اجابتها.
هي عاملة إيه؟

تبدلت ملامحها لأخرى آسفة وأجابته بحزن.
ياسمين دخلت في غيبوبة يا يعقوب ومحدش عارف هتفوق إمتى.
انكمشت ملامحه وتجعد جفناه بعُنف جرَّاء ضغطه وعاد الصمت يسود.

الفصل التالي
جميع الفصول
روايات الكاتب
روايات مشابهة