قصص و روايات - نوفيلا :

نوفيلا ياسمين للكاتبة هاجر الحبشي الفصل الرابع

نوفيلا ياسمين للكاتبة هاجر الحبشي الفصل الرابع

نوفيلا ياسمين للكاتبة هاجر الحبشي الفصل الرابع

إنه نفس شعور الراحة، الظفر بالنصر كأن معمله تغيب اليوم عن المدرسة، فرقص وعاد إلى المنزل سعيدا.

خيم صمت عظيم في المكان، بعد صمته ومراقبتها بثقب، متريثا ينتظر تحين الفرصة كي ينقض ويفسد المهزلة هذه، هل تفكر اللعينة حتى! يذبحها قبل أن توافق عليه، فالجميع مترقب، الجميع مشدودا، الجميع ينتظر الموافقة أو الرفض، كلمة فقط أوافق لا أوافق.

تعمق الكينج النظر داخل عيناها وعينيه تنطقان بإلحاح وإصرار شديد لأجل موافقتها، يجب أن توافق لأجل المصلحة، فإن كانت ثمينة إلى خالد بشدة ورغبته سيكون معه ورقة رابحة، كما أنه سيكون تحالفا عظيم أن يكون هو وخالد في نفس الصف.
بادر وقطع الصمت بسؤاله بعد تأمل طويل من قبلها، دام لثوان نم على استغراقها في التفكير مليا بعمق في قرار مصيري مثل هذا.
ساكتة ليه؟

حركت شفتيها للرد لكن أوقفها بل وجعلها تبتسم بجانبية أدت إلى انغلاق عينيها نسبيا مما أظهرها بشكل أجمل وأرق، صوت يعقوب البارد بسؤاله الذي تردد في أرجاء المكان.
هتقدملها إيه؟
ابتسم الكينج بعصبية وتمالك نفسه قبل أن يفقد السيطرة أمام الجموع، بدد عصبيته وحل محلها شاعرية تحدث بها وهو يلوح بيده، والتف برأسه يناظر الجميع وهو يقول ومازال على وضعيته راكعا أمامها منتظرا موافقتها كأنه يقدم عرضا مسرحيا.

كل ما أملك تحت رجليها، وكل حياتي ملك ايديها، موافق ومستعد أعمل كل اللي تطلبه في سبيل إنها توافق.
كان خالد يتابع مايحدث بإعجاب وهو يحك طرف ذقنه، منتظرا نهاية هذا النزال ورؤية أيا منهما الذي سينالها في النهاية، هو إن إختار ك خالد بالتأكيد لن يجد شخص مناسب أكثر من يعقوب إليها، وإن فكر ك أب كما من المفترض أن يحدث فا بالتأكيد لن يناسبها أيا منهما.
مش جايز اقدملها حاجة إنت مش هتعرف تقدمها؟

سأله يعقوب باستخفاف وقدميه تسوقانه إليهما، مسلط الأنظار عليه وابتسامة مستفزة تشق وجهه بتحد سافر وغرور.
وقف الكينج من مكانه وتجلي الإنزعاج على ملامحه بسبب تدخله وإفساد الأمر عليه، فقرر قلب الطاولة عليه ولفظ بتهكم.
شايفها سلعة للي يقدم أكتر عشان تقول كده؟

أكتفي يعقوب بنظرة واحدة معبرة رشقه بها أثناء تقدمه منها كأنه لم يسمع قوله قط ولم يره شخصيا، ك حفنة من التراب بلا قيمة، لا تسترعيه للتحدث، تكفيه نظرة.
تنهدت هي بإحباط، وتحركت كي تذهب وتجاور خالد، فيبدو أن تسليتها قد إنتهت الآن وستبدأ تسلية يعقوب الثقيلة.

شهقت بتفاجؤ عندما تم جذبها من خصرها المياس إليه بنعومة أكثر من كونها جذبة قوية، فلامست أنفها وجنته إثر الدفعة، واصطدمت بعض خصلاتها البرتقالية المدغدغة وجنته كذلك.
وضعت يدها فوق كفه تبعده عن خصرها بضيق، فاشتدت قبضته حولها وهو يصر على أسنانه، وضغط فوق لحمها بقوة مضاعفة جعلها تئن وهو يخرج هاتفه من جيب بنطاله، وفتحه وأخذ يقلب في الصور أمام مرأي من عينيها التي تطالعه باستنكار شديد.

توقفت أنامله فوق صورة العقد العرفي التي إلتقطها، وقرب رأسه منها، وهمس وشفتيه تلامس أطراف شعرها ل يبدوان بمظهر حميمي للجميع، كأنها ليست المرة الأولى لهذا القرب الحميمي.
ياتري لما الكل يشوف العقد ده شكلك هيبقى عامل إزاي بعد كل الثقة دي؟
وهمهم ك دب واسترسل بهمس وطرف شفتيه يرتفع بسخرية.
واضح إن فرحتك بفستان العيد اللي إنت لابساه خلاكي تنسي نفسك؟!

احتقن وجهها، وزاغت عينيها، وتضاربت مشاعرها بين كره، وحقد، وتفاجؤ واستنكار وهي تحملق في الصورة، وأشع وجهها بألوان قوس قزح السبع، قبل أن يشحب شحوب الموتى، وتهتز مقلتيها وترفع عينيها إليه تستجدية بنظرات مستضعفة.
ياإلهي إنها تجعله يرغب في الضحك! هل طبيعي هو تصنعها البراءة والضعف فجأة؟، أم أنه عرض من عروضها الكثيرة؟! في كلتا الحالتين لن تؤثر به.
إنت مش هتعمل كده يا يعقوب!

كان سؤالا أكثر من كونه تحذيرا فلم يعبأ ويكترث، بل ضم شفتيه وركع على ركبتيه أمامها وهمس بفحيح وصلها، والجفاء سيطر على نبرته والشر سطع في عينيه.
ارفضي لو تقدري وشوفي هعمل إيه؟
وعقب هسهسته صياحه بصوت مرتفع فجأة عارضا عليها الزواج مثل الكينج ونظرة شيطانية تعلو وجهه.
تتجوزيني؟

تغضن وجهها، وتجلي الرفض ووضح على معالمها، فكانت قاب قوسين أو أدني من البصق في وجهه بعد ذلك الطلب الصريح بكل تبجح، كيف ستتعامل مع شخص مثله يا إلهي؟
كان يضعها تحت طائلة الإكراه، وقلة حيلتها، وضعفها ومشاهدة الجميع وعودة الهمهمات، كان له النصيب الأكبر من التأثير عليها وكبح جماحها عنه، فهم لا يبرحون أن يعودوا للمحادثات الجانبية والتعليقات الساخرة.

ترددت كثيرا قبل الإجابة لكن، رفعت راية الإستسلام في النهاية، وأبدت موافقتها بتلك الكلمة التي لاتعني لها شيء ولا حتى وعد.
موافقة.

أفترت شفتاه عن إبتسامة جذابة بل وعيناه أيضا كانت تبتسم، تلمع ببريق لاتعرف كنهه قط، لكنه كان مشبع بالتميز لأجلها فقط!، ذبذبها وترك أثرا عميقا وقعه على قلبها لم يكن هين البتة، تلك النظرة لم تكن مستحقرة أو متدنية، بل كان بها شيء من العزة والإعتزاز، الذي جعلها تغتر لثانية وتظن أنه حارب من أجل تلك اللحظة العظيمة التي قدمت إليه على طبق من ذهب.

فيبدو أن كونها أميرة هذا القصر لم تكن سيئة كثيرا، بل ليست سيئة بتاتا فهي ستكون صاحبة إنفة وشكيمة ولن تهان كلما سنحت الفرصة.
إلتقط يدها برقة وطبع قبلة رقيقة على باطن كفها مدغدغة مذبذبة داعبت حواسها، جعلت ملامحها تلين رغما عنها وهي تتطلع إليه.
تبدل لشخص ثان لا تعرفه وهو يطلب بلطف وبراءة عاشق.
تسمحيلي بالرقصة دي؟

أومأت موافقة على استحياء، وتوردت كي تكتمل صورة الثنائي الكاذب المتقن، أمام هذا الذي سيموت غيظا منه والغضب يفتك به.
وقف قبالتها يناظرها بجانبية وقربها من جسده بقوة، ارتدت داخل صدره إثرها، ولفها عطره المميز ضاربا أنفها، نافذا إلى أعماقها بضراوة عبر تنفسها، شاعرة بكونهما كيانا واحد، كأنها منه!

راقصها برقة أمير، ومداعبة زير نساء، ويدية تحط على مناطق معينة، بخطوات صحيحة مدروسة يمنة ويسرة وإلى الأمام وإلى الخلف برومانسية، بلغت من العطف أنها كانت مذهولة منه ومن احترافيته وهو يبعثها من ذراعة هذا إلى ذاك ك فراشة، وفستانها يلتف حول ساقة مظهرا نصاعة بشرتها، منغمسا بشغف مع حركاته وجسدها الطري الذي كان ك عروس الماريونيت بين يديه، لين ناعم يحركه كيفما شاء دون صعوبة.

فبجانب أنه قاسي، مجرم، متعجرف، متسلط، لا يملك قلبا، وأحيانا يتزود ببعض النرجسية ألا أنه يملك جاذبية لا تقاوم، لكنها تقاومه، تراه راق بطريقة مزعجة، فهو مجرم، مجرم، ومجرم، وصفة كهذه وجب أن يكون مفتقرا إليها!، يمتلك أعين دقيقة عميقة تبلغ من العمق تلك الدرجة التي تجعلك لا تعرفين طريق العودة، فظاهريا لايقاوم وباطنا لا يعاشر، لأنه وبجانب كل تلك الصفات، يمتلك خسة وخبث يفوقان إبليس بدرجة لكن ليس ك خبثها قط.

بعد ساعة..
ومن داخل عرين الأسد، ومع استمرار الحفلة وأجوائها الهادئة المزودة ببعض المرح، كان ثلاثتهم يقفون معا أمام البار كعائلة، يتبادلان أطراف الحديث كما من المفترض أن يحدث.

لكن بدي خالد مشغولا بالحديث مع أحد ضيوفه مجاملا، فتثاءبت ياسمين بملل وحولت نظرها عنه وهي تريح ذراعها على كتف يعقوب، بينما هو كان يستنشق من لفافة التبغ خاصته ويده الأخرى مشغولة بإحاطة خصرها بتملك، فهي رسميا قبل أي خطوبة ملكه والآن أثبتت ملكيته لها أكثر أمام الجميع.

كان شاردا، بعيدا عنهما كل البعد، وأنفاسها الدافئة منذ أن كانا يتراقصان معا مازالت تضرب وجهه، شهقاتها المفاجئة التي كان يجبرها على إخراجها كلما كان يميل بنصف جسدها بغتة وما أجملها بغتة مازالت تطن في أذنه، منشغلا بنعومة جسدها الغض، بأطراف شعرها المداعبة لصفحتي وجهه، بأعينها التي كانت تموجان في حزن تارة، وتارة أخري في شموخ وترفع، وتارة في تحدي وهي تدرك نظراته التي تنفذ إلى طويتها، تلك الأعين التي إن لم تكن لراقصة لأضحي عبدا إليها طوال حياته دون منازع.

كأنه ملاكا ولا تليق به!
رفعت رأسها عن كتفه، وسارت بنظراتها على أنحاء وجهه متأملة، وابتسامة ماكرة زينت ثغرها راصدة تلك الحمرة التي لم تنمحي عن وجنته بعد.

سحق لفافته وأطفأها في المنفضة، والتفت برأسه على حين غرة ونظر بجانبه، ليرصدها تحدق في وجهه بتيه كما أعتقد، بل وهيام إن أراد الدقة!، طرفت وازدردت ريقها وأنفه تكاد تلامس أنفها جراء إلتفاته المفاجئ، ليقطب جبينه ثم سألها بنبرة جامدة مرتابة وعينيه تشملها من اعلى لأسفل بسبب نظراتها.
إيه؟
قالت بعدم فهم وهي تهز رأسها بتعجب، ووجها يتخضب بحمرة على حمرته.
إيه؟
أجابها بسخط، وبنوع من الزجر لأنه رصدها تتأمله.

عمالة تبصيلي إيه هترسميني! بصي قدامك!
ضحكت بتقطع تداري خجلها ووجها ينصهر من الحرارة، وعمدت على سحق قدمه بكعب حذائها ب غل وهي تميل عليه، هاتفه من بين أسنانها بهمس أمام ملامحه التي تقلصت بألم.
هو ده القدام بتاعي إذا كان عاجبك.

سحق شفتيه بعصبية، وغرز أنامله في لحم خصرها فأطلقت تأوه قوي وهي ترفع حذائها عن قدمه، ويدها تمتد إلى خصره تقبض عليه بقوة، وعيناها تكاد تخرج من محجريها، محفزة تحثه على تركها بنظرات ضارعة، لكنه عزم على تعذيبها وتأديبها كي تنضب.

لم تقوي على الصراخ كي لا تتسبب في فضيحة، فرفعت رأسها وضربت جبهتها بجهته بعنفوان ليتبعثر شعرها حول وجهيهما، والمتألم كانت هي وحدها من صلابة جبهته، فابتسم بوحشية ورد إليها الضربة لتشعر برجيج داخل رأسها، وترنحت إلى الخلف موشكة على البكاء من فرط الألم، ف كتمت صرخة مقهورة ورفعت يديها تقبض على ياقته ب غل، ليزمجر وقد عيل صبره ويده امتدت لإقتلاع شعرها من منابته لكن استوقفها هتاف خالد المستنكر.

يعقوب ياسمين ايه اللي بيحصل!
تبدلت ياسمين لأخرى وضحكت
ب صوت شجي، ويديها أخذت طريقها إلى صدره، وراحت تمسده بحنو ودلال، ليمسح هو على شعرها بدوره مرتبا إياه برقة، وهو يبتسم من بين أسنانه متمتما بحب وهو يميل وقبل قمة رأسها بمقت شديد.
حبيبتي.
ابتسم خالد بجذل، وتناول كأس ورفعه نخبهما محتفيا، وسأل مستفهما.
هنعمل حفلة خطوبة إمتي؟

وكأنه تفوه بأعجوبة من العجائب السبع، وطلب شيء غير لائق أخلاقيا يستدعي تلك الحملقة من كليهما بتلك الطريقة المريبة دون النبس بحرف!
صحيح أنه قال إنها ملكه، لكن لن تصل إلى حفل!، هل يصدقان نفسيهما أم عرضه للزواج كان مقنعا جدا؟!
يعقوب معايا؟

سأله خالد أنتشله من سيل أفكاره ل تمد هي كفها أسفل ذقنه جعلته ينظر إليها، سائلة بنعومة ونظراتها تحط على شفتيه مما جعل هيئتهما حميمية كليا، وتبخر الشجار الذي كان قائما من دقائق وكأنه لم يكن قط.
يعقوب رد على عمو!
رفع يعقوب حاجبه الأيسر، وأبعد نظراته عنها ساخطا وسلطها على خالد كما تريد الوغدة.
نعم يا باشا؟
باشا إيه بقى أنا دلوقتي بابا.

ورفق قوله بضحكة سخيفة، كانت الخاصة بياسمين أسخف وهي تجاري خالد، جعلته يشعر بالقرف واللزوجة كأنهما كتلتين من المخاط يقفان أمامه.
أبتسم بنزق، ورفع كوب الخمر يشربه لكي ينسي هذا التلوث، لكن كفها الذي وضع على حافة الكوب بقوة أدى إلى اصطدامه بالرخامة وتخليف صوت قوي إلى توقفه، تلاه همسها بتحذير كأنها هي الآمرة والناهية.
هتشرب خمرة إزاي وإنت بيجيلك مغص كلوي؟

ابتسم بمكر، وسألها متخابثا ونظراته تجيل على أنحاء وجهها الجميل.
خايفة عليا؟
ارتفع طرف شفتيها بسخرية وقالت بصلف.
لا خايفة على شكلي وشكل عمو من الفضيحة!
ورفعت كتفها وتابعت سيل حديثها سائلة بتعجب، وهي تميل برأسها فوق كتفه بشفتين مزمومتين، والبراءة تشع من عينيها.
لما تشربه وبعدين تتلوي من الألم وسط كل ده! متخيل السخرية وشكلنا قدام الناس.

ضحك بمتعة شديدة مجلجلا ك منتشي، وأشعل لفافة تبغ جديدة وسألها بسخرية حقيقية، خلاف سخريتها المثيرة للشفقة وهو ينفث الدخان في وجهها.
شكلك وسط الناس؟ إنت مين إنت؟!
رفعت حاجبها الأيمن بكثير من التكبر، وابتسمت إليه بثقة أكبر دون تأثر رغم تغير ملامحها قليلا، ودست يدها من فتحة سترته ولفتها حول خصره ك ثعبان، قائلة بدلال وهي تمسح رأسها على كتفه ك قطة أليفة.

أنا دلوقتي تبعك وهشيل إسمك أكيد مش هتفكرني كل شوية إني (، ).
لم تعتمد القول بأنها راقصة، بل إختارت الأسوأ والأكثر دنوا وحقارة، اللقب الذي لم يلحقها قبلا لكنه ألحقه بوالدتها بسهولة سلفا.
انتظرت صفعة، أو حتى ضغطة قاسية على خصرها كي لا تشبه نفسها بالعاهرات، لكنه لم يقابلها سوى بإبتسامة ساخرة باردة ممزقة، لا حياة بها كأنه كان يعرف إجابتها ويتوقعها ولم تفاجئه قط، بل أكدت ظنونه.

طغت عليها مرارة أعتيادية لم تعد تؤثر بها كثيرا، لا أحد يؤمن بطهارتها ولا ببراءتها لكونها راقصة فقط ومعهم حق!

انتهي الحفل بسلام دون أن يقتل أحدهما الآخر، دقت الثانية عشر منتصف الليل، كان خالد في طريقة إلى الخارج بسبب سفره العاجل وياسمين معه تودعه.
ويعقوب كان في الخارج يجلس على دراجته النارية نازعا حذائه، ويمسد أصابع قدمه التي سحقتها بكعب حذائها وهو يلعنها، يستفرد بها فقط وستندم، انتهي وهم بارتدائه بصمت ليجذب انتباهه خروج خالد وبصحبته ياسمين.
يعني السفر ميستناش شويه يا عمو؟

سألته ياسمين بعبوس وهي ترافقه إلى بوابة القصر الرئيسية بحزن، ليتوقف ويوقفها أمام الحرس قبل أن تخرج أكثر قائلا بحنو وثقة.
متقلقيش ياحبيبي هو سفر أسبوع واحد بس ويعقوب هنا وهوصيه عليك.
مسدت عنقها وهي تخفض رأسها، لاويه شفتيها للجانب بتبرم، فما بال تلك النبرة والثقة! كأنه سيتركها مع مربية ستنتبه عليها كي لا تصاب بخدش! بينما كل الخدوش هو المتسبب بها!

كان يتحدث ووتيرة صوته الأجش تعلو بين الفنية والأخرى، فانتبه على صوته يعقوب وحول نظراته من فوقها عليه، فهو كان منتبها إليها هي منذ أن وطأت قدميها خارجا معه، بتلك المنامة الحريرية النبيذية ذات البنطال الواسع، والكنزة ذات الأكمام.
تقدم منه باهتمام مزج بتعجب بسبب خروجه الآن، فأوصاه خالد بجدية فور توقفه أمامه مربتا على كتفه.
مسافر أسبوع في شغل مهم برا مش هوصيك على الشغل يا يعقوب.

أومأ ورد بابتسامة ملتوية ونظره مسلط عليها.
تحت أمرك متقلقش.
حملق به خالد قليلا جعله يهز رأسه باستفهام، وهو يعقف كلا حاجبيه بنوع من التعجب والانتظار ليضيف.
ومشمشة تحطها في عينيك وكل يوم تجيلها تشوفها محتاجة حاجة ولا لأ، وبكره تاخدها وتنزل تشترى هدوم لأنها محتاجة حاجات معينة عايزة تجيبها بنفسها.

قطب جبينه بعدم فهم متسائلا بنفسه عن جنس المسماه ب مشمشة لأنه ظن أنها كلبا في بادئ الأمر لكن فهم الآن أنها هي.
أومأ بتفهم وراقب استقلاله السيارة ومغادرته من أمام القصر بسلام، واستدار ينظر إليها ليستشعر هالة الخجل والإحراج تحوم حول تلك المشمشة، فضحك بخفوت ساخر بسبب هذا الإسم فلاحظته ونظرت إليه بطرف عيناها ثم كتفت يديها أمام صدرها بوجوم، وأولته ظهرها بتكبر رافعة رأسها بشموخ وولجت إلى الداخل.

صعدت إلى غرفتها في الطابق الثاني التي تطل على المسبح الضخم، وطفرت عيناها بالدموع وهي تلقي بجسدها على السرير بسبب هذا الأسم مشمشة، اللقب الذي ألحقه بها والدها وهي صغيرة بسبب جمالها، إن قلبها يستعر بنيران الإنتقام، والسواد يغشى قلبها، حقدها هو ما يدفعها للأمام، هو ما يجعلها صامدة لكي تأخذ بثأرها، تشعر بالقهر كل يوم لأنها استيقظت، لأنها مازالت حية ولم تحرك ساكنا، مقهورة لأنها من المفترض أن تنتظر فوق انتظارها الذي طال لسنوات، لقد أقسمت على قتله وأن كان هذا آخر شيء ستفعله في حياتها سوف تقتله وقد اقتربت كثيرا وهذا كاف الآن.

كففت عبراتها بعنف، لأن هذا ليس وقت البكاء والضعف، ووقفت تفكر في يعقوب بعمق، وهي تذرع الغرفة ذهابا وجيئة، دون أن تعرف كم مر عليها من الوقت غارفة في زخم من الأفكار المتضاربة، قبل أن يسترعى سمعها موسيقى هادئة كلاسيكة تأتي من الأسفل!

هرولت إلى الشرفة وباعدت بين الستائر وولجت إلى الداخل لتبصر يعقوب في الأسفل مسطح فوق مقعد أمام المسبح، متوسدا ذراعه يحدق في العدم، يستمع إلى الموسيقى الكلاسيكية بمزاج رائق.
استندت على سور الشرفة وراقبته باهتمام من مكانها، والهم يطبق على صدرها يخنقها، وما لبثت أن فغرت فمها وتم صرفها عن حزنها عندما تبدلت الموسيقي تلقائيا ووقف يرقص!

عادت بخطواتها إلى الداخل وهي تبتسم بحماس، والتقطت وشاح رقيق نسيجه شفاف وركضت إلى الأسفل.
وقفت خلف إطار الحائط الزجاجي تراقبه ذلك المجرم المثقف! إنه يتقن رقصة الفلامنكو المكسيكة ببراعة، تابعته بنظراتها وظهرت بل وتقدمت إلى الخارج وهي تراقبه بإبتسامة و اهتمام، فكان مختلفا ساحرا ذو جاذبية، مختلف عن شخصه الآخر وهو يبتسم بروعة أثارت فضولها، كأنه يمارس ويفعل مايحب.

توقفت قرب حافة المسبح متجاهلة وجوده وهي تأخذ شهيقا طويلا كأنها خرجت تستنشق هواء نقي، ففاجأها بجلوسه على ركبتيه أمامها وأخذ في التصفيق اليدوي ثابت يحضها على تكملة الرقصة معه وهو ينظر إليها!
استغرقت ثوان كي تفهم مقصده، وبدأت تحرك قدميها بليونة، وتزامنت مع الموسيقي مؤدية الرقصة، وهي تميل وتلوح بالوشاح بدلا عن الفستان المناسب للرقصة الذي لا ترتديه.

اتسعت ابتسامته وهو يراقبها ودار حولها مستمرا بالتصفيق بقوة كفيه الغليظين، وهي تضحك بسعادة، معتمدة على الدوس الشرس في الأرض ب خفيها الخفيفين فلم يصدر لها سوي صوت خفيف بسيط على الأرضية السيراميكة، وحركات ذراع رشيقة وهي تشد جسدها وتتقن الرقصة أكثر فأكثر.
هي تحب الحرية وتلك الرقصة خير معبرة عن هذا.

توقف الموسيقى وتوقفت تلتقط أنفاسها لكن سحبها لأحضانه غفلة، ومحاوطة ظهرها بيده والتقاط كفها وفرد ذراعه أسفل ذراعها بسرعة إثر تغير الموسيقي حال راحتها.
رقص بها ب رومانسية على حافة المسبح، أسفل ضوء القمر وتهادي النجوم، ودار بها في حلقات كأنه في حفلة راقصة يراقص الأميرة بثوب النوم!

سقط الوشاح أسفل قدميها وتم دهسه بواسطة حذائه اللامع الأنيق وهو يسحبها معه، وبعضا من شعرها المتطاير يضرب وجهه، وعينيها العسليتين ثابتتين متمركزتين على عيناه العميقة التي أسرتها للحظة بفضل هذا البريق المتلألئ داخلها، كانت شعلة تنير مقلتيه الغارقتين داخل عقيق عينيها.
إنه يعقوب المحب، وكم أحبت أبعاد شخصيته، إنه مميز بلا منازع.

انتقلت يديه إلى خصرها مع تبدل الموسيقي إلى رومانسية بحته تستدعي الإلتصاق، وكان يعقوب خير من لبى نداء الرقصة، وقربها منه بحميمة حتي لامست ذقنه أعلى جبهتها وتمايل بها على أنغام الموسيقي وهو يغمض عيناه بمتعة!

فإن وجد ما يحب أن يفعله فهو ممارسة الرقص، يتخذه كهواية في أوقات فراغه وخاصتا بعد أن هجرانه من قبل حبيبته المكسيكية التي كانت تعلمه رقصة الفلامنكو كلما انفردت به، هي من جعلته يهوي الرقص ويبحث عنه ويتعلم منه الكثير، غريب صحيح؟!

حظة العاثر دائما ما كان يوقعه مع الساقطات، في بادئ الأمر تكون العلاقة لطيفة مليئة بالصدق سرعان ما تتحول اللطيفة إلى ساقطة، أو هو ما يكتشف هذا بعد الانجراف بمشاعره، فمن يصدق أن هذا القاسي قد تم تحطيم فؤاده مرتين متتابعتين من قبل إمرأتين؟!، فهو لم يكن قاسي وجبار كما أضحى الآن.
فالأولي كان والدها تاجر أسلحة قابلها في لبنان، وكانت هي من تقابله على الدوام في أحد الملاهي الليلية لتعقد معه الإتفاق.

أما الثانية فهي كانت راقصة الملهى الذي كانا يتقابلان به لكي يعقدان الإتفاق! الأولى كانت عربية ليست لبنانية لا يذكر من أي بلدة كانت لكنها كانت ناطقة بغير العامية المصرية، ولطالما كانت تقلد نبرة المصريين في الحديث بكل ظرافة وهذا كان سبب من أسباب انجذابه إليها وإعجابه بها، فهو يفضل الفتاة المرحة عامة، لكن تلك المرحة إكتشف محض صدفة أنها ليست إبنه تاجر السلاح بل كانت عاهرتة الصغيرة.

أما الثانية فكانت مكسيكية يتم استغلالها من صاحب الملهى ولا تتقاضى أجرا، ترقص مقابل مكوثها وواجباتها فقط، فلم تمسك قرشا في يدها يوما قبل أن يتدخل يعقوب بالطبع، كانت شفقة في بادئ الأمر لكن تحول لشيء آخر مع الوقت، لكن تلك اللعينة ناكرة الجميل، ينطبق عليها مثال أتقي شر من أحسنت إليه لأنها وبطريقة ما، وبعد مرور وقت أصبحت تتهرب منه وتكره الجلوس معه ووصل الأمر معها أن جعلت حراس الملهي يلقوه في الخارج!، كان عديم الخبرة مثيرا للشفقة، ولا يفكر بإعادة الكرة مع المسماة بياسمين ولا يخطط لأي علاقة أو حب، فقط يريد كسر أنفها وأنف جميع الراقصات والساقطات لظنهم أنهن أكثر من ساقطات.

دائما ما يسقط مع شبيهات إمرأة، لكن هذه الياسمين لن يقول أنها مختلقة لأن أي إمرأة طبيعي أن تكون مختلفة عن غيرها، فلا معجزة بكونها مختلفة فجميعهن مختلفات على أي حال، هي فقط تستفزه بعض الشيء، وتزعجه وهذا مزعج ويضايقه، فما يجعله راضيا عنها قليلا أنها لا تتصنع كونها ضعيفة، بل تدافع وتقاوم وتحمل بعضا من الشجاعة والثقة.
إبعد عني يايعقوب.

طلبت بصوت متألم خافت، وهي تحاول التملص من قبضته القوية التي كانت تعتصر خصرها المتألم بسببه من وقت الحفل دون أن ينتبه، ويضغط على كفها بعنف ساحق ل عظمها من عصبيته إثر تدافع الذكريات التي عصفت برأسه نغصت عليه صفوه، ودمرت اللحظة الوحيدة التي يستطيع أن يصفها بلحظة إستكانة.

فتح عيناه العاصفة التي تحولت من النقاء إلى الإحمرار الشديد، كأن هناك من قذفه بمسحوق حار دون أن تدمع، وملامحه تقسو وهو يطالع وجهها الذي شحب وذهب لونه، جعلها تجزع وتظن أنه سوف يؤذيها الآن كما إعتاد، كانا على حافة المسبح ويفصلهما عن السقوط في المياه خطوة واحدة فقط.
فطلبت منه برجاء وهي تستجديه بنظراتها، تخبره من خلالها أنها لم تفعل شيء لكي يتبدل هكذا معها.
يعقوب إنت بتوجعني سيبني من فضلك!

أتاها رده بعد حملقة دامت دقيقة، والغريب أنه كان يبتسم في وجهها قبل أن يسألها بصوت مرتفع بسبب الموسيقى.
متأكدة؟
أومأت وهي تحرك شفتيها للحديث لكن أطلقت صرخة مدوية مذعورة، وجحظت عيناها وهي تشعر بجسدها يتهاوى إلى الخلف، قبل أن يصطدم ظهرها بالمياه وتسقط عميقا في المسبح.

ضحك باستمتاع وهو يضع يديه داخل جيب بنطاله القماشي الأسود، ووقف بزاوية ك عارض يراقبها بسخرية قبل أن ترتفع مع المياه، وتطوح برأسها يمنة ويسرة تبعد عنها المياه، وهي تلتقط أنفاسها بعنف صارخة وهي تمسح وجهها بكفها المبلل بمقت شديد.
يا حقير إلهي تموت.
التقط سترته من فوق المقعد وزاوية شفتيه ترتفع بجانبية، قبل أن يقول بتهكم وهو يسير مبتعدا غير مباليا ب هرطقتها.
على أساس إنه هيستجيب يا طاهرة!

إمتقع وجهها وأخذت تسحق أسنانها غضبا وقهرا منه حتى ظنت أن المسبح سيتم تدفئته من فرط الحرارة المنبعثة من جسدها.
صرخت ب ملئ جوفها بحرقة، وضربت المياه بكفها بقوة، وهي تتحرك خارج المسبح وصعدت بغضب وهي ترتجف داخليا.

انحنت وحملت الوشاح وأحاطت به كتفيها وهي ترتعش، وولجت والمياه تقطر من جسدها ونسمة هواء باردة تلفحها، سارت صوب الدرج لتصعد لكن تباطئت خطواتها فجاة، وأغمضت عينيها بنفاذ صبر واهتاج صدرها بقوة، عندما تضاعف صوت الموسيقي وعلا في أذنها أكثر، فهرولت بسخط إلى تلك السماعة الكبيرة ودبيب خطواتها يسمع، وقامت بغلقها بحقد وضربها بيدها أدت إلى سقوطها من فوق الكرسي المذهب القريب من أحد المقابس التي كانت موصلة به.

تأففت وتخصرت بغضب وبدأ شعرها في الهياج، بعد أن جف من المياه قليلا، فتحركت للصعود قبل أن تلتقط بردا، لكن رنين الهاتف الأرضي استوقفها.
رفعته بعصبية وردت بصوت غير مرحبا البتة.
ألو!
أتاها صوته الجاد الذي انتهي بتسلية.
جايلك بكرة الساعة عشرة تكوني جاهزة يا، مشمشة.
وعقب قوله بإغلاق الهاتف في وجهها، فقامت بصفع سماعة الهاتف فوقه بغيظ وصعدت ساحقة الأرضية بخطواتها وهي تحترق داخلها من الغضب.

صباح اليوم التالي..
الثانية عشر ظهرا.

زفرت بتأفف وهي تعقد يديها أمام صدرها وأخذت تقطع الحديقة ذهابا وجيئة بعصبية بسبب تأخيره عنها، ومنع الحرس لها من الخروج دون تأمين بناء على توصية خالد، رفعت نظارتها البنية فوق شعرها البرتقالي المصفف بعناية بنفاذ صبر ووجهها يتخضب بحمرة غاضبة نافذة لا تعرف سببها، فكانت ترتدي ملابس أنيقة باهظة، مكونة من بنطال خامة الجينز أسود يعلوه قميص أسود أدخلته داخله وتركت أول ذرين مفتوحين أظهرا لون بشرتها الحليبية ورقبتها بسخاء، وفوقه سترة شتوية مصنوعة من الفراء الناعم لا يتخطى خصرها، وارتدت حذاء جلدي لامع مدبب.

أصدر الباب صريرا تضامن مع ولوج يعقوب إلى الداخل، وما لبث أن وقف عندما أدركها بصره، فصاح يقول وبدت عليه آثار النوم.
ياسمين يلا.
استدارت على عقبيها بغضب، وحفزت نفسها على الطفح بالوقاحة كما كانت مستعدة، لكن لم يمهلها الوقت لأنه استدار على عقبيه وسبقها إلى الخارج.

عضت على شفتيها بغضب وانزلت نظارتها الشمسية فوق عينيها بعصبية، وخرجت خلفه بضيق شديد وهي تصر على أسنانها، توقفت متعجبة عندما شاهدت ابتعاد يعقوب بدراجته النارية! فحركت رأسها وحولت نظرها إلى الحارس الذي فتح إليها باب السيارة باحترام وقال بلباقة.
هيسبقك ياهانم وإحنا هنحصله.

أومأت بتفهم وركبت السيارة بهدوء، وظلت تراقب الطريق من خلف نظارتها بتفكير، فهي ظنت أنها ستصعد معه على الدراجة النارية اليوم، لكن ربما لم يحدث هذا مجددا لأنها بمثابة إبنة رب عمله الآن ولن تعامل بتلك الهمجية من جديد، هذا مريح.

أوقف السيارة أمام مركز تجاري كبير، فلم تنتبه وظلت شاردة، أصدر حمحمة عالية وصلت إليها، فرفعت حاجبها بتفاجئ ك رد فعل ثم حولت نظرها إليها لتنتبه على توقفه، فامتدت يدها إلي المقبض لكن سبقتها يد فتحت إليها من الخارج فإذا به يعقوب.

أنزلت ساقها أولا كالعادة قبل أن تطل عليه برأسها بغرور ووقفت أمامه، وظل الباب حائلا بينهما وعطرها الياسمين ينفذ إلى أنفه، فقامت بتحيته بإيجاز وهي تخلع نظارتها وعلقتها في فتحة قميصها.
صباح الخير!
لاحظ حركتها الأخيرة وابتسم مجاملا، ورد التحية بلطف وهو يضيق عينيه.
صباح النور.
سألته بلامبالاه ظاهرة كي لايغتر وهي تمسك باب السيارة، بينما الفضول ينهشها نهشا.
موصلتنيش يعني؟
مط شفتيه وقال بعبث مهولا الأمر.

معقولة ياسمين هانم تركب ورايا موتوسيكل؟
رفعت كلا حاجبها وهي تلوي شدقها، ثم سألت بفضول وهي تفرد ذراعها أعلى باب السيارة بأريحية.
مش المفروض إننا مخطوبين وعادي؟
وضع كفه فوق يدها الموضوعة أعلى باب السيارة، وقرب رأسه منها وهمس بمكر وعيناه تجيل على ملامحها متأملا.
عايزانا نتصرف زي المخطوبين يا مشمشة؟

توردت وخفق قلبها تلك المرة، هذا اللقب القديم، يجعلها متذبذبة عندما ينطقه بهذا الهدوء والعمق! احبائها فقط من يحق لهم استخدامه!، تحركت رأسها وتمايل شعرها بحركة نمت على إرتباكها، لكنها كالعادة تخطت هذا وسيطرت على نفسها وظلت ثابتة بينما داخلها يعيث فسادا.
ازدردت ريقها وابتسمت بجانبيه وقالت بصلف.
وإيه المشكلة مش دي الحقيقة وأنك خطيبي!

قرب رأسه أكثر من وجهها، وهمس ببحة رجولية وهو يلف خصلة حول سبابته، جعلتها تقشعر وتلاشت تلك البسمة من على محياها واضطربت أيما اضطراب.
وماله خطيبتي وقريبا هتبقي مراتي وبتاعتي.
لكم قلبها قفصها الصدري بعنف حقيقي، جعلها ترفع يدها من أسفل كفه كالمصعوقة وأبعدت رأسها إلى الخلف وهي تبتلع لعابها بحلق جاف، وهرولت إلى الداخل تاركة باب السيارة مفتوحا دون أن تضيف شيء أو تنبهه على ذهابها.

أغلق الباب واستدار يحملق بها بإبتسامة جانبية عابثة ودس يديه في جيب بنطاله وذهب خلفها.

دلفت إلى متجر خاص بالملابس الداخليه وسألت عن ثوب خاص بالسباحة ذات لون أبيض، فتركها البائع وذهب يأتي باللون المطلوب وظلت هي واقفه تنتظر وهي تتفقد الملابس والألوان باهتمام، أجفلها صوته الجاد من خلفها، وهو يتقدم بينما توليه ظهرها لكن حذائه كان يخبرها بمدى قربه منها، فلم كل هذا التذبذب بسببه الآن؟ بل والتركيز مع صوت خطواته لتعرف مدى قربه وخطورته عليها!

تحدث بهمس مشبع بالمكر حرص على وصوله إليها، مسلطا الأنظار على قطعة واحدة معلقة، وهو يستدير شاملا البقية بنظرة عابرة دون أي اهتمام، وظهره يكاد يلامس ظهرها.
الأحمر هيبقي أحلي عليك!

رسمت الجمود على ملامحها واستدارت تطالعه ببرود صقيعي، وقبل أن تتفوه بكل ماهو أحمق وصل البائع باللون الأبيض وناوله إليها باحترام، لكن يعقوب المتطفل التقطته من يده قبل أن يصل إلي يدها، نظر إليه بتدقيق ثم سقط بصره على صدرها وطالعه بنفس التدقيق وبعض التفكير وبتركيز مضاعف، اخجلها وجعلها تتحرك في وقفتها بعدم راحة وهي تتلمس النظارة بأناملها النحيفة، ووجهها يصطبغ بحمرة و أنفاسها تخرج عنيفة نافذة، ويجمدها قوله بعد كل تلك الحيرة، وكأن أحدهم أخذها جولة تزلج على الجليد بملابس صيفية.

الأبيض هيجي صغير الأحمر هيكون مظبوط عليك.
نظر الرجل بينهما وقال وهو يمط شفتيه.
أظن إن الابيض هيبقى مظبوط اكتر!
دحجت البائع بنظرات قاتله وهي تنفخ أنفها من فرط الغضب، ثم اختطفت الثوب القطعتين الأبيض من يد يعقوب، وفردته أمام عينيه التي تطالع جسدها بخبث رجولي شامل، قائلة بابتسامة مستبدة وهي تكوره بين يداها.
تعرف عندك حق صغير عليا بس هيبقي مظبوط عليك.
وعقبت قولها بقذفه في وجهه وخرجت من المتجر نهائيا.

التقطه بكفه، والتفت يراقب ذهابها بثقب بعد أن تناهى لسمعه دبيب حذائها الغاضب أثناء السير، التوت رقبته بسبب تحديقه الطويل بها، فتنهد وحرك رقبته يمينا ويسارا طرقعها، ثم نظر إلى الرجل وطلب منه بلا مبالاة.
هات الأحمر.

أومأ بطاعة وقام بتجهيزه وناوله إليه بكل إحترام، خرج من المتجر يتجول ويبحث عنها لأنها اختفت عن انظاره فجأة، وهو يراقص الحقيبة في الهواء بيد ويدس الأخرى في جيب بنطاله، ويتساءل بنفسه بإلحاح عن سبب خجلها من تحديقه؟ ألا ترقص بملابس مشابهة؟ أم حراما عليه وحلالا للجموع؟

صرفه عن التركيز بياسمين وجعله يلتفت باهتمام، تلك البلورة الكرستالية التي يغلفها زجاج شفاف، بداخلها راقصة ترتدي الأحمر ترفع يديها الاثنتين عاليا بتحرر، وتدور مع المكعب الموسيقي، خلف زجاج واجهة المتجر، كانت مألوفة بالنسبة إليه، وأكثر ما أثاره بها ذلك اللون، إنه يحب كل ماهو أحمر، وليعترف أنه رأى تجسيد ياسمين.

ولج داخل إلى المتجر ورفعها من فوق ذلك الرف الزجاجي برفق وحدق بها مطولا، حدق لوقت طويل جدا وقبضته تشتد عليها وعروقه تنفر واحدا تلو الآخر، و ذكريات تتوافد وتتدافع بقوة وزخم دون رحمة، كأنها تتسابق على عرض الذكرى الأسوأ التي سوف تضني قلبه وتحزنه أكثر.

نسي نفسه ونسي أنه في مكان عام والأهم نسي أنه لا يملكها، فقام برفع يده لأقصاها وقذفها أرضا بقوة هشمتها وجعلت منها فتات، تنفس بعنف وظلت رأسه منخفضة، معلق البصر فوقها وصدره ينقبض وينبسط بقوة، والسواد يبتلعه ويلقي به في الغدير.
توقف الأصوات من حوله وهمهمه وحيدة خافته أعادته لواقعه، رفع رأسه بملامح قاسية مخيفة يصدرها إلى الجموع بعد أن أستلم منهم نظرات الاستنكار والتعجب الشديد بسبب الفعل الغير مبرر!

مسح وجهه بكفه بقوة، وحرر زفرة مختنقة أثناء تقدمه إلى الداخل، وهو يخرج بطاقته الإئتمانية من حافظة أمواله كي يدفع ثمن هذا، قائلا بهدوء دون أن يكبد نفسه عناء الاعتذار عما حدث، ويرجو أن يقتنع العامل لأنه لن يعتذر عن هذا بل وسيهشم المزيد إن طلب إعتذار.
حدفع تمنها.
أومأ العامل ونظر مرة أخري إلى موضعها على الأرض، وحرك شفتيه باعتراض على شيء ما فقاطعه قول يعقوب بحزم.
اللي انت عايزو خدو.

أومأ طواعية ولم يطيل الحديث معه بل أخذ التكاليف وناوله بطاقته، فتناولها يعقوب وسار إلى الخارج تزامن مع دخول عامل النظافة كي ينظف هذا، فلفت انتباه يعقوب الراقصة الساقطة أرضا دون أن تتحطم مع الزجاج!، ف دنى بالقرب وجلس القرفصاء و انتشلها من وسط شظايا الزجاج، فوجدها حديدية لا تسحق بسهولة، فوقف ووضعها داخل جيب سترته وذهب، فهي سوف تذهب إلى إمرأة حديدية مثلها غير قابلة للكسر.

أراحت رأسها فوق ظهره وهي تطالع السيارات من خلف نظارتها دون أن تكمل برهة وتتبدل لأخري والهواء يلفها من كل الجوانب، شدت قبضتها حول خصره متشبثة به بقوة، وشعرها يرفرف خلفها إثر قوة الرياح أثناء قيادته السريعة وسط السيارات كعادته.

لقد تجول باحثا عنها كثيرا داخل المركز التجاري لكنه لم يجدها فا قرر الخروج وانتظارها في الخارج، ليفاجأ بها هي من تنتظره على دراجته النارية كي يعيدها إلى المنزل، والعجيب أنها لم تشتري أي شيء!
لوح للحراس كي يفتحو باب القصر إليه فبدأوا بالتنفيذ مباشرة ليلج بها إلى الداخل.

أطفأ المحرك وأنزل ساقه في الأرض وحثها على النزول بعبث ظنا أنها غفيت على ظهره، وهذا احتمال بعيد بسبب قيادته المتهورة التي تجمد الدماء داخل العروق.
وصلنا يا مشمشة.
نزلت من خلفه بهدوء دون تعقيب على أقواله، وسارت مباشرة إلى الداخل لكن صياحه استوقفها.
استني.
توقفت عن التقدم متنهدة، ثم استدارت على عقبيها تنظر إليه، فكان يخرج الحقيبة المعلقة في ذراع دراجته، ويبدو أنها تلفت بفعل الرياح الشديدة أثناء قيادته.

جبتلك ده.
قدمها إليها بابتسامة لطيفة رفقت نهاية حديثه برقة، فأومأت بخفة وامتدت يدها، وأخذت الحقيبة من يده دون فضول لمعرفة القابع في الداخل، وهو لم يطلب أن تلقي نظرة.
سارت إلى الداخل بهدوء غريب استعجبه، فعاد يهتف بإسمها.
ياسمين.
زفرت تلك المرة بضيق، واستدارت على عقبيها بنفاذ صبر ليسألها بإبتسامة عابثة غامزا.
وراكي حاجة باقي اليوم؟

طرفت بتعجت وهي تفكر وما لبثت أن هزت رأسها بنفي، فأخذ قراره وأشعل محرك دراجته بينما يلقي عليها القرار الذي اتخذه الآن.
هاجي أخدك بعد ساعة.
وانطلق وذهب في طريقه وتركها وحيدة تفكر وتضع افتراضات وتسرح بخيالها.

بعد ساعة..
في الغرفة في الأعلى.

تنهدت وهي تطالع نفسها في المرآة للمرة العاشرة باضطراب، وجلست على الكرسي الخشبي الملحق بتسريحتها، فلم تبدل ملابسها كليا، فقط أضافت قبعة صوفية سوداء ظنا انها ستعود في وقت متأخر من الليل ويتحول لطف الطقس نهارا إلى عاصفة ليلا، وأضافت المزيد من عطرها الياسمين وتبرجت ووضعت بعضا من مساحيق التجميل، لكن إعتمدت الهدوء والرقة عدي عيناها التي ظللتها بألوان داكنة مزيجا من الأسود والبني.

سمعت صوت ضجيج في الأسفل وصدح صوت بوق سيارة مرتفع، فهبت واقفة وهرولت إلى النافذة تتلصص من خلفها، مسترقة النظر إلى الأسفل، ف رصدته يتقدم في الحديقة ببنطاله خامة الجينز الأزرق! وكنزته الشتوية الرماديه ذات القلنسوة! لقد بدل الملابس السوداء التي ترهب أكثر مما تجذب ولون بعض الشيء!
كان يبدو ك شابا في متقبل العمر شغوف بالحياة وسعيد وليس رجلا ثلاثيني متجهم قاسي.

رفع بصره مع رأسه إلى الأعلى فجأة، فعادت إلى الخلف بسرعة بديهية وظلت واقفة تفكر حتى سمعت رنين الجرس وفتح الخدم له، تحمحمت ورفعت رأسها بشموخ وأخرجت زفيرا طويل ثم وقفت باستقامة، وسارت إلى الخارج ببطء ودلال وهي ترسم الجمود على ملامحها.

لم يستمر هذا البطء كثيرا لأن نصف الدرج أخذته درجة ف درجتين مهرولة حتى منتصفه، ثم توقفت عندما تراءى إليها حذائه وبداية ساقه، فأخذت شهيقا طويلا استنشقت من خلاله عبير رائحة عطره الفاج الذي نفذ إليها وهي تهبط آخر درجة، تقدمت منه بابتسامة لطيفة بعض الشيء.

ليبتسم إليها بلطف مماثل وامتدت يداه وبسط كفه طلبا لإمساك يدها!، ترددت في بادئ الأمر وهي تحدق بها وبالخطوط العريضة التي ترسم رقم الثامن عشر على راحته، استسلمت في نهاية المطاف واذعنت إلى الأصوات الصاخبة داخلها، وناولته كفها فاحتضنه بين يده الغليظة وسار بها إلى الخارج.

توقفت مشدوهة عندما فتح إليها باب سيارته البيضاء الفارهة التي لم تراها من قبل! ألن يذهبا بالدراجة؟ إنها تروقها بعض الشيء وكانت قد بدأت تعتاد عليها!
نظرت إليه بعدم فهم وقد قرأ الحيرة والفضول المتجلي من خلال نظراتها فقال بهدوء بنبرة مطمئنة.
النهاردة هيكون يوم مختلف من أوله لآخره اركبي.

أومأت واستقلت السيارة جالسة في المقدمة جواره، ودار هو حول السيارة واستقل مقعده الأمامي، وقاد صوب وجهته المحددة عبر الطريق الذي لم تراه قبل اليوم.

الفصل التالي
جميع الفصول
روايات الكاتب
روايات مشابهة