قصص و روايات - نوفيلا :

نوفيلا ياسمين للكاتبة هاجر الحبشي الفصل الحادي عشر

نوفيلا ياسمين للكاتبة هاجر الحبشي الفصل الحادي عشر

نوفيلا ياسمين للكاتبة هاجر الحبشي الفصل الحادي عشر

يفرض الجميع أن المرأة لا شيء، أقل من أن يوضع أسمها بجانب رجل!، يظنون أنها صيدًا سهلًا، لكنهُ هو من كان صيد لبؤةٍ شرسة!

نعم؟
كانت لهجته مصدومة أكثر من كونها متعجبة، مِثل هذا الأمر المنافي لتصرفاته السابقة بلا استثناء، أنه وربما أظهر جانب ساخط أو حاقد تجاه أحدهما؟ بل العكس تمامًا! كان وديع وحاني أكثر من اللازم.
نظر إلى خالد المتجهم وسأله بهدوءٍ وتحفظ، محافظًا على إحترامه كي لا يتهمه بتخطي الحدود الآن.
بس ليه يا باشا؟ يعقوب دراعك اليمين وياسمين كنت بتدور عليها وكتبت نُص ثروتك بإسم!.
هدر مقاطعًا بعنف.

أنت هتناقشني؟ نفذ وأنت ساكت!
أومأ وقال بإذعان قبل أن ينصرف.
حاضر.
استني عندك.
أمره قبل أن يخرج نهائيًا استوقفه قبل فتح الباب، واسترسل بإبتسامةٍ شيطانية تعتلي وجهه فقط في أكثر أوقاته حماسة وسعادة.
تروح بكره بالرجالة بعد نُص الليل وتولع في المزرعة. ، وأكد بضغطه على بقية كلماته وهو يرفع حاجبه بخطورة.
مفهوم
أجابه طائعًا.
مفهوم.

تمتم خالد بعد ذهابه بحقدٍ لم ينجح الزمن بزواله، كما لم يصفي قلبه الأسود من نار الكُره والبغضاء التي يحملها لوالدها حتى بعد قتله، فإن وُجود إبنة ذلك الرجل وتنفسها فقط يُضيِّق عليه الخناق، ووجودها في الأرجاء بل وتجولها داخل قصره وانفاقها من أمواله يجعله يرغب في نحر عنقها بنفسه، تقربها منهُ وابتسامتها تصيبه بالغثيان، بحثه عنها كان لأجل قتلها لأنه عرف أنها نجت من الحريق بطريقةٍ ما، وكتابة نصف ثروته إليها ما كان إلا تمويه لا أكثر لكي يخرج من دائرة الشك إن تم قتلها تحت سقف قصره، فهو في كل الحالات سيحرص على عدم حيازتها لفِلس واحد من أمواله، ستموت محروقة حد التفحم كما حدث لأفراد عائلتها، يعقوب كان بارقة الأمل التي اشتعلت في وجهه وتطايرت كذرات رماد و افسد عليه خطته ولم يتمم أي أمر، فيبدو أن خطة تقريبهما من بعضهم البعض أتت بثمارها لكن بنتيجة عكسية ستؤدي بحياة كليهما معًا.

صباح اليوم التالي..
في المزرعة..
داخل غرفة النوم.
كانت ياسمين مستغرقة في النوم على صدره بينما هو كان يبحر بأفكاره بعيدًا، ويمسح على شعرها بنعومة وهو يستذكر حديثها من أمس.
عودة لوقتٍ سابق..
كان نائمًا يتوسد ذراعه، يحدق في ظهر ياسمين العاري الذي توليه له بحجة كونها مستغرقة في النوم بينما هي مستيقظة تفكر وعقلها يكاد ينفجر من الضغط.

الذكريات كانت تتعاقب وتتوالى، بدءًا من تلك الليلة المشؤومة التي فقدت بها عائلتها حتى يومها هذا، لقد كانت تُكابد شتى ألوان العذاب ولازالت، يتبقي أخذ خطوتها الأخيرة وتتمنى أن تنجح ولا يعوقها عائق، آسفة لِمَ سيحدث فيجب أن تضحي بشيئًا ما ثمين، ولن تكون هي الضحية مجددًا، تكفي سنوات عُمرها المنقضية التي ذهبت سدى وهي الضحية لا غيرها، فلتتوقف الآن وليأخذ أحدًا آخر هذا الدور عوضًا عنها، فلم يتعرض أحدًا للظلم بقدرها قط فما المانع إذا؟

استدارت فجأة بجسدها لتكون مقابلة وهتفت باسمه برقة.
يعقوب.
همهم وهو يسند وجنته على ذراعه، ينظر إليها بنعاس لتقول هي بنبرة مُحملة بالحزن.
تعرف إني عمري ما روحت ملاهي.
نبض على ثغره ابتسامة هادئة، ولانت ملامحه أكثر وسألها بحنو وابهامه يمتد إلى وجنتها مداعبًا.
نفسك تروحي؟
هزت رأسها مع كتفها نفيًا وقالت بهدوء.
لأ، انا بس حبيت أقول.
أومأ بتفهم وسألها باستفهام.
منمتيش لحد دلوقتي ليه؟

أجابت وهي تحرك وجنتها بنعومة مع حركة ابهامه.
مجاليش نوم وأنت؟
أجاب بنعاس.
هنام
حثته على النوم بنبرة هادئة أكثر من اللازم، استشف من خلاله انكسار دفين وهي تضع كفها على يده.
طب نام.
طلب بنعومة ونبرته تزخر حبًا وحنانًا.
طيب تعالي في حضني عشان أنام.
أومأت وتقربت منهُ، فدثرها في أحضانه باحتواء، ثم سألها برفق وهو يطبع قبلة أعلى رأسها.
صوتك حزين ليه؟
همست وهي تدس رأسها في صدره المُعضل بقوة رغبةً في الاختفاء.

مش حزين أنا كويسة.
شعر برغبتها في عدم إطالة الحديث، فلم يعقب بالمزيد بل ظل يغمرها بحنانه، يقبل رأسها تارة، ويمسح على شعرها تارة أخرى، حتى غلبه النعاس وقبل أن يغفو سمع همسها الناعس الثقيل الذي كان كحبل النجاة تشبث به، ووقعه كان كالبلسم، ويجهل معرفة أكانت واعية أم تهذي.
مش عايزة اليومين يخلصو.

تجمد لبرهة وتوقف العالم من حوله مرددًا قولها داخله، فهو يغفل هذا وينسي دومًا بعدما تُذكره كل مرة، فهو لا يُريد الابتعاد مجددًا ويتجهز للخطوة القادمة كي لايفترقان، فما بالها هي تذكره كأنها تنتظر مرور اليومين باستماتة؟!
غدًا يسألها، غدًا سيتغير كُل شيء بالتأكيد وهو متفائل أشد التفاؤل والآن، سيغفى مطمئن.
قبَّل رأسها بحنان وهمس بصدق، وقبضته تشتد حولها.
انا كمان مش عايز كده.
الحاضر..

وضع كفه أسفل رأسها وهو ينتصب وجلس، ثم أراحها على الوسادة برفق، والتقط بنطاله على عجاله وهرول إلي الأسفل.
صنع شطيرة من أجلها، وافرغ كوب عصير مُنعش، واكتفي ببعض اللقيمات من أجله وصعد بسرعة إلى الغرفة وهو يبتسم والحماس ينبع من حركاته، وضعهما على الكومود وبدأ يوقظها بنوعٍ من الاضطراب وهو يهزها من كتفها بغير رقة كي تقتنع بمَ سيقول.
ياسمين، ياسمين، ياسمين..

فتحت عينيها ببطء سرعان ما تحول إلى فزع وهي تبصره يميل عليها بتلك الملامح ويهزها كي تستيقظ، انتصبت بخضة وسألته بخوف وهي تضم الملائه حولها.
ايه، ايه، حصل ايه؟
حثها على القيام بعجاله وهو يتحدث بتوتر كأن مصيبة قد وقعت على رأسيهما.
قومي بسرعه كُلي واجهزي عقبال ما اجهز انا كمان.
بس ي..

اختفى من أمامها بلمح البصر دون أن يتثنى لها قول ما أرادت، خللت أناملها في شعرها وهي تتنهد ب همٍ ثم نظرت إلى الشطيرة بلا شهية وهي تعض شفتها العلوية بقوة، وتثائبت بنعاس ويدها تمتد وتناولت كوب العصير، ارتشفت منه رشفه واسندت رأسها على جزع الفراش وأطراف شعرها المبعثر يحتضن رقبتها وهي تفكر بعمق، شاعرة وكأن صخرة تجثم فوق صدرها تخنقها، اليوم يومها الأخير وستعود المياه تتدفق في مجراها الطبيعي، حتى البُغض والنقم بينهما سيعود ووجب أن يعود.

ياسمين!
هتف باسمها بتعجب أخرجها من صفونها بعد أن خرج من المرحاض ووجدها كما هي على حالها دون أن تبرح مكانها!
حركت رأسها بتثاقل وارتكزت بنظرها عليه وآثرت الصمت وهي تطرف بهدوء دون أن تتكرم وتسمعه صوتها.
أعاد مناداتها بتعجب تلك المرة.
ياسمين؟
نعم.
أجابت بعفوية وكانت نبرتها مغصوصة والكلمات عالقة في حلقها غير قادرة على اخراجها وقول المزيد.

كاد يعيد قوله من جديد لكنها بادرت وتركت العصير من يدها ووقفت واتجهت إلى المرحاض لكي تتجهز بسبب لا تعرفه.
خرجت بعد بعض الوقت، ترتدي بنطال هفهاف أسود وقميص أبيض وحذاء رياضي، عاقدة شعرها الرطب ك ذيل حصان، فلم تنل طلتها استحسانه كثيرًا واحس بهالة الكآبة تحيطها، وتلاشي مرحها الذي عهده منها في اليومين الفارطان، فقال لها وهو يتجه إلى الحقيبة في الزاوية التي تحمل الملابس.

غيري اللبس ده مش هينفع المكان اللي رايحينه.
ظلت واقفة محلها متيبسة تحملق به بصمت تراقبه وهو ينتقي إليها ما ترتديه بحماس بأعين خاوية.
استقر على بنطال خامة جينز أبيض وفوقه قميص وردي وطلب منها تصفيف شعرها وفك عقاله لأنه يعجبه رؤيته مسترسلا يتراقص خلفها.

أومأت وتناولت الثياب وتحركت بآلية وبدلتها، ورتبت شعرها وتركته يتهدل فوق كتفها وأطلت عليه من جديد، ابتسم باتساع وأطلق صفيرًا نمَّ على مدى إعجابه ب طلتها وأمسك بكفها وأدارها أمامه في حلقات دائرية وعيناه تتوهج بأعجاب، شاملًا لها من أعلاها لأخمص قدميها متفحصًا بتدقيق، إنه أروع مما تخيل عليها، لاح الرضا على محياه وشابك أناملهما معًا وسحبها خلفه وغادر.

ألقي الخوذة إليها لترتديها لكنها امتنعت عن ارتدائها وصعدت خلفه على الدراجة طواعية، وهدوء غريب سيطر عليها منذ أن استيقظت، تبدو ك شخصًا محبط حد اليأس، فاقد القدرة على الحديث، لكن لا يهم بعض الدقائق فقط و سيجعلها تعود إلى مرحها وانتعاشها المعتاد.
أحاطت خصره بقوة من أسفل سترته الجلدية ومن فوق قميصه الرمادي، ثم أسندت رأسها على ظهره وظلت نائمة طوال الطريق دون أن تنبس ببنت شفة معهُ أو مع نفسها.

توقف أمام مدينة الألعاب وصفَّ دراجته النارية جانبًا وهو يحثها على الاستفاقة والتركيز معهُ.
ياسمين يلا وصلنا.

رفعت رأسها بتكاسل ونظرت حولها في الفراغ والهواء يداعب أطراف شعرها، لم تعرف أين هي بسبب توقفه بعيدًا جدًا، جعدت جبهتها بتفكير وظلت محلها بلا حراك لكنه حملها من خصرها بغتة بسبب تجمدها، وأنزلها أمامه ثم سحبها خلفه دون أي حديث أو تبرير، سارت سليبة الإرادة وهي تتطلع حولها، فاختلج قلبها وتراقص عِندما رأت إعلان ملتصق بعرض الحائط عرفت من خلاله أين هي.

ارتعشت شفتيها ونظرت إليه بعينين غشيهما التعب والعبرات، مُقدرة ممتنة شاكرة بسبب ما يفعله لأجلها، وسارت خلفه بخنوع دون أي أسئلة، سارا فوق العشر دقائق حتى وصل أخيرًا إلى مكانه المزعوم وذهب لشراء تذكرتين لهما.

استقر أمامها بعد نجاحه في الحصول على تذكرتين من وسط الاحتشاد والتكدس أمام شباك التذاكر، وقام بسحبها خلفه بحماس وهو يبتسم بحيوية انتقلت إليها مباشرةً، فاليوم مازال بأوله وتملكهُ كلهُ فلمَ الحزن من الآن ويمكنها أن تستمتع بيومها على أكمل وجه.
سألها بتسلية.
بتخافي؟
هزت رأسها بنفي فاشتدت قبضته على كفها يمدها بدعمه وساقها إلى أخطر لعبة توجد هُنا وقال بمرح.
وهو المطلوب نبدأ بقطر الموت وبعدين نشوف الباقي.

أومأت ورسمت ابتسامة لطيفة على محياها وهي تتقدم معه وتم ركوب اللعبة، جلسا الاثنين معًا في المقدمة، تَشبث الجميع جيِّدًا قبل أن ينطلق بهم، و العجيب أن ياسمين كانت جامدة في بادئ الأمر لأنه لم يكن سريع كفاية ليتسبب في ذعرها وكانت متشبثةً كذلك، وهذا جعلها تستخف به وتنهدت وكادت تحرر يدها لكن شعرها تطاير فجأة إلى الخلف والقطار يهبط بهم بسرعة قسوى، لتبدأ وصلة من الصراخ الجماعي ذعرًا وهلع من كلا الجنسين مع زوبعة القطار، دون أن تقوي على فتح عينيها جيِّدًا من دفع الهواء فلم تستمر فوق ثوانٍ قليلة قبل أن تصرخ بملء فمها والأفعوانية تتلوى بهم هبوطًا ونزولًا قالبةً إياهم رأسًا على عقب، فكان مخيفًا للبعض ومرِحًا للبعض الآخر ك يعقوب الذي كان يضحك وهو ينظر بجانبه، فلم يستطع أن يُميز إن كان صراخها حماسًا أم خوف غريزي، ولا أن يُبصر ابتسامتها او هلعها، لكنه كان يستمتع بالتجربة و بصراخها الذي نمَّ على حماسها.

انتهت الجولة بعد نصف ساعة من الصراخ والعويل وتوقف القطار، تناهى إلى سمع يعقوب نشيجها وهي تسند رأسها إلى الخلف، تقبض على يد كرسيها بقوة وتوصد عينيها وتضم جفنيها بعنف، طرف بتعجب وأعاد الحملقة بها فكانت تبكِ بحرقة وقهر لا يعرف سببه!، ساعده الرجل ب حل وثاقه المحكم الآمن كي لا يسقط وتحرر واقترب من ياسمين بقلق، جثي أمامها وكفف عبراتها بأطرافه وهو يسألها جاهلًا ما أصابها لكل تلك الحرقة.

ياسمين مالك بتعيطي ليه؟ خايفة؟!
هزت رأسها بنفي دون أن تفتح عينيها، وصدرها ينقبض وينبسط بقوة، وقلبها يخفق بعنف، يلكم قفصها الصدري بضراوة، وبصوت مبحوح من كثرة صراخها المقهور الذي نفست به عن ما يعتمل صدرها المكلوم قالت بلهاث.
أنا كويسة، كويسة.
أومأ بتفهم وساعدها بالوقوف وسرعان ما أحاطها بسبب ارتخائها جسدها وتلف أعصابها، أدي إلى عدم توازنها وقرابه سقوطها، فأخذها لأحد المقاعد كي تستريح.

جلس القرفصاء أمامها يتطلع إلى وجهها الناعم المتشبع بحمرة كثيفة وهو يحتضن كفها في راحة يده بنعومة منتظرًا مبادرتها هي بالحديث.
عايزة أركب تاني.
طلبت مع رفع رأسها فجأةً جعلته يرتاب ويتردد وهو يراقب حالتها، فأكدت بابتسامة عذبة ويدها تتحس وجنته بنعومة لكي لاتترك مجالًا للشك أنها تمزح.
أنا كويسة متخافش عليا!
استبد القلق به ولم يصدقها فأردفت راغبة في إقناعه بإصرار.
أنا استمتعت جدًا صدقني.

هتف باسمًا قاصدًا السخرية وهو يتأملها.
باين على وشك.
ضحكت بخفة وضربت كتفه بتذمر وحركت شفتيها قائلة بدلال.
يلا بقي عايزة اركب تاني.
أومأ مجيبًا بطاعة.
حاضر بس الأول تعالي كُلي حاجة عشان متتعبيش.

لم تعترض وتُجادل كي لا تخسر وقتًا إضافيا لأنها تحتاج إلى كل دقيقة بجانبه، وتناولت الطعام معهُ بغصة لا تغادرها منذ أن فتحت عيناها واستقبلت يومها هذا، تجولت معهُ وسط الألعاب، واشتري مثلجات لكليهما وأحاط عضدها وأكمل جولته معها، يتسامران بتحبب، ويتبادلان الضحكات ك عاشقين حديثين لا يشغلهم شاغل، ولا يقلقهم الغد أو لا يقلقه هو على الأقل.

توقفت فجاةً وسط الطريق وهي تلعق حلواها المجمدة ثم نكصت على عقبيها تنظر إليه بريبةٍ، وسارت عكسًا تولي ظهرها إلى الطريق وخطواتها تتباطئ عائدة إلي الخلف، والشك يسطع من عيناها تجاهه جعلته يضيق عينيه ويسألها مستعجبًا حالها بينما يتقدم وهي تبتعد.
إيه في إيه؟
سألته باستفهام وهي تحرك رأسها.
إنت ليه بيقولولك يا سندباد؟
ابتسم وأجابها بغرور وهو يدس يد داخل جيب بنطاله والأخرى يمسك بها المثلجات.

عشان انا صعب حد يمسكني، ومهما كان الخطر قريب مني بعرف أهرب والحق نفسي فا سموني سندباد.
أومأت وهي تزم شفتيها وشعرها يرفرف حول وجهها بنعومة ثم قالت مستمرة في السير عكسًا.
بس إنت العقرب!
أكد وهو يلعق حلواه.
أه وبحب أكون العقرب
أسبلت جفنيها ومالت برأسها تسأله.
إشمعنا؟
ابتسم بتسلية وأحب طريقة سيرهما ورؤيته لوجهها أمامه أثناء الحديث وأجاب بإيجاز.
عشان لدغتها والقبر على طول اما سندباد..

قاطعته بقولها وهي ترفع حاجبها الأيسر متوقعة إجابته.
مبيموتش!
شاطرها الرأي وأضاف.
هو مش بالظبط بس انا اللي عملت العقرب فا تلاقين..
قاطعته مجددًا وهي تبتسم برقة دون ان تنتبه إلى الشخص الذي يسير خلفها عثَّرها.
بتميل ليه حبتي..

وصرخت بذعر وهي تشعر بجسدها يهوي إلى الخلف لكن قبضته الفولاذية التي احاطتها بعد أن أسقط مثلجاته حالت سقوطها وحل محلها خصرها النحيل الهش، جاذبًا إياها جذبًا إلى صدره المعضل فاصطدمت حلواها بوجهه لوَّنت أرنبه أنفه.
ضحكا معًا بمرح وهي تسند جبينها على جبهته وذراعها المحرر يلتف حول كتفه من الخلف والآخر أمام فمه بالحلوى.
ابتسم بروعة وتابع ما أرادت هي قوله وهو يضرب جبينه بجبهتها بخفة.

بميل ليه حبتين تلاته أربعة.
ضحكت بنعومة وتحركت أصابعها فوق كتفه بحنو وراقبت تناوله ل حلواها عقب كلماته وتمتمت بحنان.
بالهنا.
مازحها قائلًا.
حاطة فيها سِم ولا إيه؟ إيه بالهنا دي؟

قهقهت برقة ووضعت قطعة البسكوت الأخيرة في فمه، وقبلت وجنته برقة ومسحت أنفه بأكمام قميصها باهتمام، ليلثم جبينها ب قُبلة طويلة ثمينة دافئة محملة بمشاعر عظيمة خدرت أطرافها، كانت أجمل قُبلة حصلت عليها، حُلوة، مُعبرة عن عُمق مشاعره الرقيقة الصادقة التي يحملها.

أدبر النهار، و دجي الليل على مدينة الألعاب المضيئة بالأنارات المبهجة المرحة، وعلا صوت صراخ ياسمين والزوبعة تهبط بها للمرة الثالثة هذا بعد تجربة كل الألعاب الخطيرة بسبب الازدحام والتكدس عليها هُنا، فلم يتثني لها ركوبها كثيرًا كما أرادت، بينما يعقوب كان يقف يراقبها في الأسفل وكل ما يجول بخاطره أنها جاحدة لا تملك قلبًا! كيف تستمتع والجميع يبكِ بجانبها ومنهم من يفقد الوعي!

يال قوة قلبها وصمودها، أنها ستنال العروس الراقصة خاصته وعن جدارة، مشمشة الحديدية، قهقه على ذلك اللقب في نفسه ثم ابتسم وتقدم عِندما ترجلت وسارت تجاهه بترنح وعدم اتزان، فالتقمها وأحاطها سريعا وجسدها يتهاوى للسقوط بسبب الدوار تلك المرة، فقهقهة وأجلسها على أقرب مقعد قابلة وجلس بجانبها يبتسم وناولها قنينة المياه فسقطت على فخذها بسبب تلف أعصابها أضحكته.

فتح القنينة بنفسه ورفع ذقنها بأنامله برفق وساعدها على ارتشافها بحنو، فلكم قلبها قفصها الصدري بعنف إزاء هذا الدلال المُفرط، وعادت ذكرياتها عن معاملته السيئة إليها سلفًا تُحلق في الأفق، لتبصق المياه من فمها فجأة وأخذت تضحك بصخب حتى أدمعت عيناها.

طرف بتعجب، وطالعها بعدم فهم لتقرص وجنته بلطف جعلته يرفع حاجبه ظنًا أن خطبًا ما أصاب عقلها في الأعلى، وتابعها وهي تجفف حول فمها ثم ارتشفت بقية المياه لتسمع قوله الهامس الساخر.
قال استمتعِت قال.
ازدرته وحدجته بطرف عينيها، وهتفت باستياء وهي تمسد جبينها بضيق.
انا استمتعت بجد بس زودتها شويه مش مهم بقي.
أومأ بتفهم وصمت يتأملها حتي تستعيد قوتها وبعدها يذهبان.
ها هنروح فين دلوقتي؟

سألته بجزل وهي تدور أمامه ك طفلة صغيرة، وكفها مُعتقل من قِبله، فضيق عينيه بعبث وسحبها من ذراعها للأمام لتصطدم بصدره طارفة بتعجب بسبب المباغتة، متطلعة لمَ سيقول بسبب تلك البسمة الرائعة وتوهج عينيه الآسر، ليكتفي هو بتلك البسمة الماكرة وغمزته الخبيثة واستدار وسحبها معهُ للذهاب فلن يتحدث حتى منتصف الليل فهو ليس جاهزًا بعد.

استقلا الدراجة النارية معًا، بدأ هو في قيادته السريعة، وهي أراحت رأسها على ظهره وتشبثت في خصره بقوة محافظة على ذهنها صافٍ دون تضارب أفكار وتشتت، وخصوصًا وهي معهُ.

توقف أمام مول تجاري، وترجل لترفع رأسها بانزعاج وتعجب في آنٍ واحد، حثها على الانتظار هُنا وهو يبتسم بغموض وهرول إلى الداخل، استغرق الكثير من الوقت في الداخل، وهي في الخارج يكاد عقلها ينفجر جرَّاء التفكير، كوَّرت قبضتها وأخذت تضرب راحة يدها بقوة وهي تكز على أسنانها، وبدأت في الاهتزاز من فرط التوتر وتقدمت خطوتين عازمة على الدخول لكن ظهر طيفة من بعيد فتوقفت وانتظرته بلهفة.

ناولها الحقيبتين الممسك بهما وهو يبتسم بهيام ثم أمرها بجدية وحزمٍ لطيف.
هوصلك المزرعة، تلبسي وتظبطي نفسك عقبال ما اعمل مشوار صغير وجايلك على طول اتفقنا؟
انعقد جبينها وخفضت رأسها على الحقيبة وسلطت أنظارها على اللون الأحمر الفاقع القابع في الداخل، وانتقلت بنظراتها واناملها تفتح الحقيبة الثانية ليقابلها الحذاء، فأردفت تسأل باستفهام.
هتروح فين؟
أجاب بعبث وهو يستقل دراجته مفاجأة.

ارعبها قوله الأخير، بل وجعل قلبها ينقبض، وجسدها ينتفض، وعلا هدير قلبها، فأي مفاجئة هذه التي يخطط إليها؟، هي لا تستطيع توقع ما يفكر به ولا قراءته عبر تصرفاته، فماذا سيفعل تكره المفاجآت.

الشيء الجيد الوحيد الذي يطمئنها هو وجود هذا الفستان الأحمر والحذاء الأسود المرتفع اللامع كأنهما سيتناولان عشاء رومانسي، ف حدثها يخبرها أنه خير وليس شرًا، أو فعل يعقبه سوء!، يعقوب أظهر وجهه الآخر وتم ترويضة بنجاح، فليبدأ عملها الجاد الآن والشروع في تنفيذ مهمتها الأساسية، لأنها هي من ستفجر المفاجأة.

وصل إلى المزرعة بعد ساعة، حثها على الترجل بإبتسامة وناظرها بحنو بعد أن استقرت ووقفت أمامه تنتظر حديثه عن وجهته القادمة فلم يتحدث، بل أطال النظر إليها متأملًا وعيناه تنطقان بوعدٍ صادق، وعدٍ بالبقاء وعدم الفراق، وهي لم تختلف كثيرًا لأنها كانت تحتضنه بنظراتها الشغوفة، لكن لم تعِد بالبقاء بل كانت مودعة.
خلي بالك من نفسك وسوق براحة.

قالتها بحنو وهي تبتسم وتقدمت تعانقه بقلبٍ مضني، فأحاطها بقوة ودسَّ أنفه في نحرها ويديه تشتدان من حولها طابعا قُبلة رقيقة دافئة على بشرتها، ثم فصل العناق ونظر إلي عينيها الحزينتين واعدًا بكل ما يزخر قلبه من اندفاع وحرارة.
متخافيش هنفرح ومش هنفارق
صدقيني.

أومأت وعيناها تطفر بالدموع وشفتيها بدأت ترتعش فعضتها كي لا تظهر، وأولته ظهرها وسارت إلى الداخل وهي ترفع رأسها إلى السماء محتجزة تلك العبرات غير سامحة لها بالتحرر فلن تسقطها لن تفعل.
وانطلق هو في طريقة باسمًا سعيدًا متفائلًا ومتحمسا للقادم، استغرق مشواره المزعوم ساعة تقريبا والآن كان في طريقه إلى جدته يُبشرها أولا بهذا الخبر السعيد.

ترجل ووثب داخل المنزل الذي لا يضع عليه أي حراسة لأنه آمن ولا يعرف به أحد سوى ياسمين إلى الآن.
تتسلل إلى الداخل وهو يبتسم مُحفزًا نفسه على إفزاعها بإطلاق صوتًا مخيفًا لكن تلاشت بسمته وأُحبط عِندما وجد غرفة الجلوس فارغة!

تنهد بإحباط وتهدل ذراعه الذي يمسك به باقة الورود الحمراء المنمقة، وشدد قبضته فوق العلبة المخملية الدائرية التي تضم خاتم داخلها، وصعد الدرج في طريقة صوب غرفة جدته، فيبدو أنها صعدت لأجل النوم.

أدار المقبض بهدوء وأطلَّ برأسه بلطف، فأبصرها في فراشها تجلس نصف جلسة تمسك بالمصحف وتقرأ فيه، تلاشت بسمته وتنهد بحزن ورغمًا عنهُ باغتته ذكريات الماضي وبدأت تتوافد عليه كأسواط لاسعة تحرق جلده، مستذكرًا أيام طفولته عِندما كان يُحب أن يقرأ معها القرآن الكريم، وأحيانًا كان يراقبها ويستمع ببراءة، يال سخرية القدر أين أصبح الآن؟

بدد حزنه لكي لا يفسد سعادته، فما حدث قد حدث وانتهى والطفل أصبح رجلًا الآن، ابتسم بحنو وتقدم نحوها، فلم يرغب في مقاطعتها لكن وجب أن يفعل، حمحم بخفة كي لا تفزع، فانتبهت ورفعت رأسها عن المصحف وابتسمت بحنو وصدَّقت وأغلقت المصحف ووضعته فوق الكومود، وفتحت يديها على مصراعيها تستقبله بين أحضانها برحابة صدر.
ألقى بنفسه داخل أحضانها، فغمرته بحنانها وعاطفتها الجياشة، وقبلت كتفه وهمست بحنان.
حبيبي وحشتني.

ثم قبَّلت رأسه ومسحت على شعره بحنان وهتفت مشاكسة.
الورد ده ليا؟
رفع جسده من أحضانها وزم شفتيه وعلق عينيه على باقة الورود ثم قال بأسف.
الصراحة مش ليكي بس ممكن تاخدي وردة.
ورفق قوله بإخراج وردة من وسط الورود وقطع جذرها الطويل، ثم دسها فوق أذنها، بين خصلاتها البيضاء المتوارية خلف تعصيبة رأسها ووشاحها الذي تضعه فوقها.
ضحكت وهي تمسح على وجنته بحنان ثم سألته ببشاشة عن سبب توهج عينيه بهذا القدر.
ياسمين؟

تألقت ابتسامة جذابة على محياه وأومأ مؤكدًا كي لا يترك مجالًا للشك، ثم قال بهدوء عميق مراقبًا تقاسيمها بتركيز شديد.
هتجوزها.
اتسعت عيناها وهتفت بعدم تصديق ببعض الصياح كأنه أعادها شابة بهذا القول.
بجد يا يعقوب؟ أخيرًا هفرح بيك قبل ما أموت.
تبخرت بسمته وقال بحزن وهو يلقي نفسه على صدرها.
بعد الشر عليكِ إن شاء الله أنا وانتي لا.
همست ببسمة وهي تمسح على شعره برقة بيدها المجعدة التي ترتجف بعض الشيء.

وأنا هعيش إيه أكتر من اللي أنا عشته يا حبيبي الحمد لله اني شفتك مبسوط وهتتجوز هعوز ايه اكتر من كده؟
هتف بحزن والغم يزحف إلى قلبه.
أنا اللي عايز، اوعي تسيبيني لوحدي انا معرفتش غيرك في حياتي ومليش إلا أنتِ.
تبسمت بحنان وحثته على الذهاب وعيناها تطفر بالدموع بتأثر وهي تربت على كتفه.
قوم ياحبيبي يلا روح اطلبها وفرحني.

أومأ وهو يبتسم وصدره انقبض فجأة وشعر بغصة في حلقه لا يعرف مصدرها أثناء فتح العلبة لكي يريها الخاتم الذي أتي به لأجل ياسمين.
الخاتم إيه رأيك؟
تبسمت وقالت بنبرة مرتعشة وهي تتحسس ذلك الفص اللامع بأناملها.
حفيدي مش بيجيب حاجة وحشة أبدًا، ربنا يوفقك ويستر طريقك وينور قلبك يا حبيبي.
لمَ تتحدث كأنها لن تراه مجددًا!
سألها بغصة وهو قاب قوسين أو أدني من البكاء.
ليه بتقولي كده دلوقتي؟

مسحت على وجنته بحنان قائلة بابتسامة.
بدعيلك ياحبيبي عشان ربنا يسترها معاك وتبعد عن الشر وعن طريقه.
أومأ وقبَّل يدها وأسند جبينه فوقها مغمض العينين وهمس بتضرع.
ادعيلي، ادعيلي كتير.
دايمًا ولحد ما أموت يا حبيبي، يلا قوم بقي متخدنيش في دوكة روح اطلبها قبل الوقت ما يتأخر.
رفع رأسه باسمًا خلافًا لعينيه شديدة الإحمرار وهتف بمرح غير حقيقي.
ده وقت مناسب ليها جدًا متقلقيش..

أومأت بحنو ونظراتها تمر على ملامحه ببطء وتروٍ ليبتسم ويقبل يدها سائلًا.
فين دعاء كل ما اجي تكون في أجازة؟
نفت واخبرته بهدوء.
لا يا حبيبي مش أجازة بتغير في الأوضة اللي جنبي وبعدين هتاخدني تحت ونشرب سحلب.
ابتسم بحنان وقبل يدها ثم سألها من جديد.
هي بتنام فين؟
قالت بهدوء.
في الأوضة اللي جنبي.
حرك شفتيه للأعتراض فأوقفته قبل أن يطفح بأي مما كان سيقوله.

حبيبي كفاية أنها معايا ليل نهار ومش بتاخد أجازة كتير تستحق يكون ليها اوضة بدل ما أتعبها بنومة الكنبة جنبي هنا؟
قال بتهكم.
ماهي بتاخد مقابل مش ببلاش، دي لو اشتغلت بشهادتها مش هتاخد المرتب ده كله؟
ذكرته وضغطت على وتره شديد الحساسية بقولها بسلامة نية وفخرٍ به واعتزاز.
بس متنساش شهادتك اللي بتخليك تجيب الفلوس دي وتتكلم بثقة أوي كده وبعدين هي لسه بتدرس.
اغتصب ابتسامة على شفتيه تمتم بهدوء.

لو احتاجت فلوس او حاجة تروح الشركة زي ماهي متعودة.
سألته بحزن.
ليه إنت هتتأخر؟
نفي وقال بثقة.
لأ طبعا بُكرة هكون عندك أنا وياسمين.
ماشي ياحبيبي مستنياك.

في المزرعة..
في الغرفة في الأعلى..
كان الفستان الأحمر القصير الواسع يفترش السرير والحذاء اللامع بجانبه، وهي تجلس على طرف السرير تضم ساقها إلى صدرها وتسند رأسها فوق ركبتيها تحملق بهما بأعين خاوية، لقد أوشك على الوصول تعلم ولم تجهز بعد، لقد انتهى اليومين كما اتفقا، فما بال الملابس والمفاجأة.

تنهدت بحزن ووقفت تخلل أناملها في شعرها بحيرة، كيف تقضي وقتها! فالنوم لا يجافيها قط ولا تعرف ما تفعل، تقدمت من النافذة التماسا لمزيد من الهواء الذي لا يصلها، جعدت جبينها بتعجب عِندما لاحظت اختفاء الحراس من أسفل! أين ذهبوا؟، دق ناقوس الخطر واختلج قلبها بقلق ونكصت على عقبيها وراحت تبحث في الأدراج الخشبية عن شيء تحتمي به إن حدث شيء.

صادفتها مطواة رصدتها في درج الكومود تستقر بجانب مُسدس يعقوب، فبالتأكيد هي له أيضا، امتدت يدها تتناولها لكن توقفت في الهواء قبل أن تصل وابتعدت إلى الخلف وهي تعقد حاجبها قاصدة الخزانة بحثًا عن شيء مُعين هي بحاجته.

لم تجد شيء في الخزانة، فقصدت التسريحة وبحثت داخل أحد أدراجها حتى وجدت ضالتها، وكان رباط ضاغط طويل، عادت تقترب من درج الكومود وأمسكت طرف غطاء السرير ورفعت به المطواة بتريث تفحصها، ثم قامت بالضغط على موضع مُعين لتبرز شيفرتها اللامعة لتتأكد أنها ملكهُ فقط عِندما أبصرت نقش العقرب فوقها، لفَّت يدها بالرباط الضاغط بعناية شديدة وبإصرارٍ وعزيمة لا تُغالب، ثم دست المطواة في جيب بنطالها الأمامي دون أن تلامسها قط وعادت مكانها فوق السرير، فهي أخذتها ل شيئًا آخر لا لحماية نفسها، لأنها متأكدة أن ما من مكروه سيلحق بها هنا.

وفي هذا الوقت تحديدًا، كان تايسون والأربعة الذي أتي بهم يخفون جثث الحراس خلف المنزل، عدا ذلك الذي جثى على ركبتيه في الحديقة وأنزل الحقيبة السوداء من فوق كتفه، وأخرج القنينات الزجاجية المعبأة بمادة مشتعلة مولوتوف.

أشعل واحدة وقذفها عبر النافذة لتحط على البساط فنشبت النيران في نسيجه وسط الأثاث في الداخل، وهمَّ بقذف الثانية على الباب الخشبي الموصل للداخل فأضرمت به النيران، وقذف بالبقية في أماكن متفرقة، التي تهشم إثرها الزجاج وتآكلت الأخشاب أسمعها في الأعلى.

انتفضت من مكانها بخوف وهرعت إلى النافذة بأعين زائغة تري ما يحدث، فرصدت ذلك الذي يقذف زجاجة مشتعلة تجاهها قاصدًا بها غرفتها، جحظت عينيها وتقهقرت إلى الخلف والذعر يتقافز من مقلتاها، تلجَّم لسانها وعجزت عن النطق، وبدأ قلبها يخفق بجنون جرَّاء ذعرها وكاد يتوقف، لقد أخذ خالد خطوته وسبقها، أعجزها من نقطة ضعفها والتي تكون النيران.

اخترق أذنها صوت تهشم زجاج نافذة الغرفة و الزجاجة في آنٍ واحد، فمادت الأرض بها وسقطت محلها بقوي خائرة مصطدمة بالأرض بعنف، وألسنة اللهب طالت الستائر واشتعلت بسرعة كاشتعال النار في الهشيم.

زاغت عيناها وبصرها سُلط على النيران المنعكسة داخل مقلتاها المرتعبة، ووجهها متغضن شاحب شحوب الموتى، تلتقط أنفاسها بإجهاد شاعرة بالاختناق، كأنها مازالت محتجزة داخل خزانة والديها منذُ تلك الليلة، ويدًا تطبق على فمها مانعة صرختها لكي لا يلتفت خالد إليها.

تطايرت زجاجة ثانية حطت أسفل الباب وبدأ في الاشتعال، وثالثة حطت على السرير دون أن تنكسر لكنها انفجرت وتناثرت شظاياها لتصرخ بهلع وتحيط رأسها بكفيها وصراخها يتعالى بحرقة وهي تنحني حتى لامست جبهتها الأرض وحرارة الغرفة تكاد تصهرها، و النيران تبلع أماكن متفرقة من حولها وتكاد تصلها، عندما بدأ طرف البُساط في الاشتعال.

هي محاطة ولا أمل في النجاة ستحترق كما حدث مع عائلتها، ألن تثأر، لن تثأر؟، تلك الفكرة جعلتها تنتفض وتقف لكن لم تملك شجاعة التقدم، بل تراءى إليها الحريق بوضوح وبالخطر المحدق بها فإن لم يخلصها أحد، سيكون موتها محقق لا محالة.

راقب تايسون تحركات رجاله عن كثب محفزًا نفسه للخطوة القادمة، فهم تم تكليفهم بمراقبة المزرعة حتى تتحول إلى رماد كما تم الأمر، وهو لن يسمح بهذا فوجب عليه الغدر والمباغتة كما هي طبيعة عمله، فيجب أن يفعل شيئًا لأجلها.

زفر وهزَّ رأسهُ بيأس ويده تمتد إلى موضع مسدسه، وباغت أحدهما من خلف ظهره، مصوبًا فوهة المسدس على رأسه وأطلق حتى قبل أن يلتفت ويدافع عن نفسه أرداه قتيلًا، فالتفت الآخر بسرعة وسحب سلاحه لكن رصاصة تايسون كانت أسرع اخترقت قلبه، والثالث كان في حاله ذهول يحملق به بأعين جاحظة والخوف يتقاقز من مقلتاه كأنه يبصر ملك الموت، فأطلق تايسون في منتصف جبهته أراح عقله من التفكير، وركض إلى الداخل في الوقت الذي توقف به يعقوب بدراجته على بُعد سنتيمترات من المزرعة بقلبٍ مُنقبض مبصرًا اللهيب المنعكس داخل مقلتيه الحالكتين تحوط المزرعة وتشملها من أعلاها لأسفلها، واختضَّ قلبه عِندما سمع صوت إطلاق النار، وتهدل ذراعه بباقة الزهور واندفع وركض إلى هُناك بكل سرعته، استوقفه الرجل ضخم البنية يقف في الحديقة يرفع رأسه عاليًا مستهدفًا النافذة بنظراته، يشاهد اللهيب المشتعل بانتصار يتجلى على بسمته المقيتة أعلى شفتيه، فاهتاج يعقوب وقذف باقة الورد لتحط أرضًا ويسقط من بين رؤوس الورد علبته المخملية، وهجم عليه دون تروٍ أو تبصر واعتقل رقبته أسفل ذراعه خانقًا إياه بقوةٍ وعروقه تنفر من الانفعال وتكاد تنفجر، وعيناه حمراء دامية، وملامحه تقسو وتستوحش دون أن يرأف بحاله، فأخذ الآخر يقاوم ويضرب ذراعه والدماء تتفجر في وجهه محركًا فمه باختناق بأعين جاحظة واعصاب مشدودة يحاول التحرر لكنه سقط يتلوي كالذبيحة وقدمه تتحرك بتشنج على العشب وروحه تصعد لخالقها رويدًا رويدًا ويعقوب بدوره جثي معهُ على ركبتيه بملامح صلبة جامدة حتى توقف عن المقاومة وسقطت يديه بجانبه وبقي فمهُ فاغر وصُلبة عينيه منقلبة كمثل من ينظر إلى السماء، معلنًا عن مغادرة روحه لخالقها.

دفعه على الأرض كقمامة، وأنتزع مسدسه من خصره وركض ووثب إلى الداخل مرورًا من فوق الباب الذي تخترقه النيران بعد أن ركله تايسون بقوة ليسقط ك ورقة من التفحم وتندفع في وجهه تلك الموجة الحارة والسخونة المذيبة والدخان الخانق يتصاعد ويشوش الرؤية.

وضع يعقوب ذراعه على أنفه وفمه ورفع ذراعه الآخر بالمسدس وجال بنظراته في الداخل وهو يفتح عينيه بصعوبة بسبب الحرارة، ليستوقفه قليلًا في المنتصف صوت خُطى بعيدة راكضة في الطابق الثالث تضامن مع صياح بإسم ياسمين بلهفة، يبدو ك صوت تايسون! هل انتقلت مهمة قتلها إليه؟
اتسعت عينيه وركض بسرعة قاطعا الدرج الخشبي الذي طالته النيران منطلقًا إلى الغرفة التي جمعتهما في الطابق الثاني قبل أن يصل إليها تايسون.

كانت في الداخل مقوسة على نفسها وسط الغرفة تحتضن جسدها ونشيجها بصوتٍ مبحوح يمتزج مع تآكل النيران للأثاث والنيران تكاد تلتهم ساقها. ، خائرة القوى دون أن تقدر على الحركة، مستنشقة الدخان الخانق بإفراط الذي جعلها قاب قوسين أو ادني من الموت خنقًا، وأنفاسها تخبو والرؤية تتلاشى وألسنة اللهب تتراقص أمامها نصرًا، هي لا تريد الموت ليس الآن.

وضع يعقوب يده على المقبض الحديدي فتأوه ونفض يده عنهُ بسرعة بسبب سخونته الحارقة، فركل الباب واستقبله دفعة جديدة من الدخان والحرارة في آنٍ واحد، سعُل باختناق وشق السُحب الدخانية المتصاعدة بذراعيه، وولج ليجدها متكورة على نفسها، فقام بكتم أنفاسه وقذف المسدس وهرع إليها، امتدت ذراعه أسفل رأسها رفعها عن الأرض، وصفع وجنتها بخفة وهو يهتف اسمها بهلع.
ياسمين، ياسمين، فوقي.

لم يصدر عنها حركة وبدت منقطعة الأنفاس فحملها بسرعة لتستقر رأسها على كتفه، وركض بها إلى الأسفل ومنه إلى الخارج في الحديقة تزامن مع نزول تايسون إلى الطابق الثاني مستمرًا في الصياح بإسمها بلهفة.
فتحت عينيها بوجل ورفعت كفها بضعف تشير إلى تايسون الذي يبتعد كلما تقدم يعقوب بها، محاولة التكلم وتنبيهه أنها هُنا لكنهُ ركض مندفعًا في الطابق الثاني يبحث داخلها.

خرج بها يعقوب زافرًا بقوة يلهث والهواء الرطب يلفحه، فأخذ شهيقًا طويل يُنقي به رأتيه وصدره يرتفع بعنف، ثم وضع جسدها على العشب برفق وجلس بجانبها يلتقط أنفاسه وجبينه يتفصد عرقًا، ووقف على ركبتيه ومال يمسد صدرها وحثها على التنفس بانتظام.

سعلت بقوة والعبرات تنهمر من عينيها كالأمطار دون توقف، وانتصبت جالسه وقامت بثني ساقها أسفلها بوجل، واسندت راحة يدها على العشب تلتقط أنفاسها بعنف، وذراعه يدعمها ويلتف حول خصرها، بينما يمسح على شعرها بيده الأخري بنعومة ويناظرها بقلق لتهمس بضعف.
تاي، تايسون
جعد جبينه وهدر بلهاث.
ايوا زفت واكيد خالد اللي بعته!
هزت رأسها بنفي وطلبت منهُ بوجل وهي تضع يدها على صدرها.
أن قذه يا، يعقوب، أنقذه.

حدجها باستنكار وهدر بعدم فهم.
أنقذ مين سبيه يولع.
انتفضت من مجلسها وهتفت بهستيريا كاذبة وعبراتها تنهمر.
لأ، لأ، إنت هتنقذه لازم تنقذه هو ميقصدش.
هبَّ واقفا بغضب وصرخ بها بتعسف.
هو ايه اللي ميقصدش! مش هنقذ حد!
وقفت مقابلة بوهن وأمسكت ياقته بضعف وطلبت بتضرع مستجدية للموافقة.
أرجوك يا يعقوب أنقذه أرجوك.
أمسك يدها بقبضته وضغط عليها بقوة صارخًا في وجهها بسبب تلك الهستيريا الغير مبررة.
ليييييه.

صرخت بالمثل وهي تضرب صدره.
عشان أخويا، أخويا يا يعقوب انقذه لازم تنقذه.
تيبس مكانه وعلا هدير أنفاسه وعينيه تغيمان في سوادٍ قاحل، ومقتطفات من حديثهما تمر أمام عينيه مرور البرق مستذكرًا، كل ماحدث وبصره مُسلط عليها شاخص كالسهام دون أن يطرف.
هل تم خداعه من قبلهما الآن؟ هل تم الإيقاع به ولم يكن شيء محض صدفة قط؟ سوف يقتلهما إن كان صحيحًا.

الفصل التالي
جميع الفصول
روايات الكاتب
روايات مشابهة