قصص و روايات - نوفيلا :

نوفيلا ياسمين للكاتبة هاجر الحبشي الفصل الثالث عشر

نوفيلا ياسمين للكاتبة هاجر الحبشي الفصل الثالث عشر

نوفيلا ياسمين للكاتبة هاجر الحبشي الفصل الثالث عشر

الخذلان لا دين لهُ، فاحذر أفاضل الناس قبل أرذَلهم، قبل أن توقع في هُوَّة سحيقة فتهلك.

وصلت إلى القصر، وولجت من الباب الخلفي لكي لا تلتقطها كاميرا المراقبة أو يراها الحرس إن مرت من البوابة الرئيسية، فعمدت على الأضمن بالنسبة إليها، عبر غُرفة الخدم مرورًا بالمطبخ الذي كانت تتسلل من خلاله على أطرافها عِندما إقتربت منهُ لكن فاجأها الهدوء والظلام الدامس الذي عم الطابق وصاحبهُ سكون غريب.

وفي هذا الوقت تحديدًا، كان يعقوب يقف في منتصف غرفة الجلوس في شقة تايسون المزعومة، ينظر إلى الفوضى التي أحدثها رجالة بأمرٍ منهُ باقتضاب، لأجل أن يقلب الشقة رأسًا على عقب بعد أن جعلوا تايسون يُبدل ثيابه لأخرى طبيعية ذات ألوان فاتحة ولملموا حاجياته في حقيبة ظهر سوداء، ثم أخذ يعقوب الأوراق المطلوبة وهو يصفع ويُطوح كل ما يبصره أو يعوقهُ من النيران المُتقدة داخله، لوَّح لهم عِندما سأم من وجود شيء قد يمسكه عليهما، وتحرك للذهاب إلى المطار لكن رنين هاتفه برقم أحد الرجلين الذي بعث بهما إلى منزل جدته كان المُنقذ الذي قلب كل شيء رأسًا على عقب.

ها؟
سأله بلهفة ليأتيه رده ببعض التعجب وهو يحدق في وجه تلك الفتاة الشابة المذعورة التي تقف خلف تلك العجوز القعيدة التي ترمقه بنظرات مُحتدة.
البيت فيه بنت بتراعي جدتها.
خفق قلبهُ بعنف وسأله بلهفة.
مفيش حد معاهم مستخبي أو أثر تعنيف عليهم؟
أجابه مؤكدًا وهو ينحني على المنضدة، يُحملق داخل الكوب ليري محتواه.
لأ مفيش أنا لما جيت كانو قاعدين بيشربو سحلب.

طفرت عينا يعقوب بالدموع ووضع يده على فمهُ وقلبهُ ينتفض داخلهُ فرحة، إنها بخير لم يلحق بها أي مكروه، كانت مُجرد كذبة من كذباتها التي لا تنتهي، يشكر الله أنها كذبة، ردَّت إليه روحهُ فقط الآن.
أومأ بتفهم ومسح وجهه بكفه عِدة مرات وأمره بنبرة مغصوصة متأثرة.
ط، يب، قولهم إنك غلطت في العنوان واعتذر.
حاضر.

قال بطاعة وكاد يغلق لكن استوقفه يعقوب الذي أضاف وهو ينكص على عقبيه، وحدق في تايسون بأعين ومضت ب شرًا عظيم رأي به موته.
خلص وتعالى على الڤيلا عشان الكلاب هتاكل النهاردة.
أخذت تايسون الرعدة، بينما يعقوب أغلق الهاتف وظل ساكنًا لثوانٍ قبل أن يضحك. ، ضحك بملء فمه.
بحبور، حسنًا، حسنًا، لايُهم الأموال التي تم تحويلها لحسابها، لايُهم طالما ستكون ثمنًا لحياة شقيقها الصغير.

مط ذراعيه بحيوية، ولَفَّتهُ طاقة غريبة مَشجت بالسعادة والتفاؤل في آنٍ واحد، أسفرت عن ابتسامة مُنتصرة شيطانية ويده تحط على كتف تايسون كأحد أصدقائه أفزعه من وطأتها القوية، وطفق يقول بمرح.
تعرف أُختك أخر مرة هزرت معايا عملت إيه؟
هز تايسون رأسه بجهل، والخوف ينضح من عيناه بسبب تبدل يعقوب الذي يعرف تبعاته والتي ستلحق به هو وليس أحدًا غيره.

ضغط يعقوب على كتفه بقوةٍ مؤلمة، وأردف من بين أسنانه وهو يسوقه معهُ خارج الشقة.
متقلقش هعرفك أنا.
بعد فترةٍ وجيزة..
ووسط الطريق، كان تايسون ينظر من النافذة وأنفاسه تخبو رويدًا رويدًا، ولونه يكمد ويصفر بعد إدراكه أن هذا ليس الطريق الموصل إلى المطار ليس هو.
ثأثأ يسأل بوجل والعرق يتفصد من جبينه من فرط الخوف الذي تملكه.
ب، بس، د، ده، مش طريق المطار؟

التفت يعقوب برأسه من المقعد الأمامي وهو يكور قبضته، وسددها في وجهه أدت لسيل الدماء من أنفه وهو يقول بمرح.
ده طريق الآخرة.

وصلت ياسمين إلى الأعلى، مسحت المكان بنظراتٍ شمولية باحثة عن خالد الذي لم يكن موجود، لكن أبخرة الدخان المتصاعدة من سيجارة البني الموضوع على حافة المنفضة فوق المنضدة التي وكما يبدو أنهُ تم إشعالها حديثًا، جعلتها تتريث وتمتنع عن الصعود للبحث عنه، فهي لا تعرف ما قد تواجهه بعد، فقامت بحل رباطها الضاغط من حول كفها وأخرجت مطواة يعقوب بحذر عن طريق إزاحتها من فوق قماش بنطالها الجينز، وفتحتها وقامت بلف الرباط حولها لأجل بصماتها.

تنهدت وظلت واقفة، تعطي ظهرها إلى الدرج تتأمل اللوحات الفنية الثمينة المُعلقة وقبضتها تشتد حول مطواه، وضربات قلبها تتصاعد بدوى هائل، واحست بأناملها ترتعش ولانت ساقيها حتى شعرت بأنها ستفقد الوعي في أيَّ لحظة.

استفاقت على نفسها عِندما تناهى لسمعها صوت خُطى تأتي من خلفها، كان خالد يهبط الدرج ثم تقدم منها وابتسامته الحانية المسمومة تُزين ثغرة، يُشيعها إليها قبل أن يصِل، أخذت شهيقًا وفير وهي تضُم قبضتها بقوة أحالت ظهور ارتعاشها وضعفها أمامه، ثم أطلقت زفيرها وهي ترسم على وجهها الملامح المذعورة المطلوبة واستدارت تنظر إليه بحزن ويدها تخفيها خلفها واندفعت راكضة إلى أحضانه مستغيثة به بهلع.
أنا خايفة أوي أوي.

عانقها بقوةٍ شديدة مهشمة لأضلعها زادت من حِدَّةِ ألمها، شبيهة بعناقه الأول تمامًا، عِندما أتي بها يعقوب إليه، أخبرها بطريقةٍ خفِيَّة أنها أتت لموتها المحقق لا محالة، وأن المرء لا تكفيه سنوات عمره لكي يتخلص من دناءة النفس والبغضاء.
لقد تجاهلت فعلهُ سلفًا، الذي لم ينجح بإخفائه ولا السيطرة عليه فتجلي عبرهُ الحقد الذي يكِنَّهُ إليها من الوهلةِ الأولي داخل أحضانه ذلك المُدنس النجِس.

شششش كفاية عياط كفاية متعمليش في نفسك كده خلاص إنتِ في أمان.
المزيد من الحنان المُفرط المُضلل، والمواساة الخداعة، والتعاضد الكاذب، لن يتراجع كما هي لم تفعل، والنزال لن ينتهي طالما أحدهم مازال يتنفس.

قبل رأسها وأحاط عضدها بذراعه وساقها إلى الكرسي المُذهب المقابل لمحل وقفتمها فأنزلت ذراعيها بجانبها تخفي النصل خلفها، وأجلسها عليه برفق فدستها أسفل فخذها ثم رفعت رأسها إليه بغتة وسألته بأعين دامعة تسطع بومضاتٍ من حقدٍ دفين.
ليه، عملت كده ليه؟
إنكفى لون وجهه من تفاجئه بذلك السؤال المُوتر المذبذب، فهمَّ بالقول بنبرة غير ثابتة مُقارنة بنبرته المهيبة سلفًا فكان مثيرًا للشفقة.
ع، عم، لت إيه؟

عدلت قولها بإبتسامة جانبية متوارية.
ليه مجبتش فريد لحد دلوقتي؟
تنفس الصعداء وعادت الدموية تسير في كامل جسده، وحرر قبضته المتجمدة التي تعرقت جرَّاء ضمها بقوة، وعاد بخطواته إلى الخلف وجلس على الكُرسي المُقابل إليها بهدوء، وهو يُرتب حديث داخل رأسهُ أثناء تناول سيجاره المحترق القارب على الإنتهاء.

لم تمهلهُ وقتًا ليستجمع عباراته، بل تابعت بمرارة حقيقية، بغصة دون أن تكذب بكلمة، وأفضت بما في نفسها لقاتل عائلتها، بذلك الحديث الذي قمعته لسنواتٍ داخلها دون أن تبوح به لغيره، كان حديثها الخاص الذي جاهدت لتخوضه معه هو خاصة قبل أن يلحق بهم.
تعرف إني عمري ما هفكر أتجوز ولا أكوِّن عيلة زي أي بنت عادية؟!

نفث دُخان سيجاره الفخم وراقب سحابته وهي تتشقق وتتلاشى أمامه، ثم سألها بحزن طفيف نافذ كان يتجلى به الضيق، فمن الصعب عليه إتقان التمثيل أكثر من هذا وخصوصًا أنهُ يتفضل عليها بذلك الحوار في تلك الدقائق الأخيرة من عمرها.
ليه يا بنتي بتقولي كده؟

انسلت من بين جفناها عبرة حارة ضمائية أتت من أعماق روحها المحترقة المعذبة، تجسدت في تلك اللؤلؤة وهي تنظر إلي وجهه مباشرةً دون أن يرف جفنها، قائلة بنبرة مُرتعشة تثير الشفقة.
تعرف إني شفُته وهو بيطعن بابا في بطنه، وأمي وهو بيغتصبها!
تعلق كفه في الهواء بعد إن أخرجها من فمه وازدرد ريقه، ثم سألها بتعجب وبدى من نبرته أنها إنحسرت داخل حلقه وخرجت بصعوبةٍ بالغة كمن غصَّ وهو يتناول الطعام.

بجد؟ مقولتيش قبل كده يعني؟
أجابته بهدوء وهي تُراقب توتره بثقب متحينة الفرصة المناسبة لكي تباغته، وتأمل أنه قد يخِر ويعترف بذنبه ويُعبر عن ندمه، ويعمد على طلب عفوها الذي لن يناله حتى بعد موته.
مبحبش أتكلم عن الموضوع ده كتير بس تخيل كده إن طفلة شافت كل ده هتطلع عاملة إزاي؟
إبتسم بحنو وقال بنبرة هادئة راقية.
هتبقى أجمل بنت في الدنيا، واحدة عارفة يعني إيه حياة وتعرف قيمتها كويس.

أماءت بتفهم وعزمت أمرها، فهو لن يُحرك ساكنًا، وصبرها نفذ، ولن تتحمل رؤيته أكثر من هذا.
أضاف وهو ينظر إليها بعمق.
يعقوب بيحبك وبتحبيه هتبقو عيلة حلوة.
أنا هنهيها قبل ما تبدأ
كانت آخر ما أسمع بهِ نفسه وهو يدعس سيجاره ب غِل داخل المنفضة بعد أن ألقي جملته الأخري التي جعلتها تبتسم بمرارة.
سألته باستفهام وهي تعتدل في جلستها.
إتصل ب يعقوب مش قولت هتتصل بيه؟

وافقها بإبتسامةٍ مُبتسرة وتناول هاتفه من فوق المنضدة على مضض، فيجب أن ينهي هذا قبل وصوله.
داخل القبو في منزل يعقوب.
حرك تايسون رأسه بضعف، وجسده متشنجًا مُخدر، يُطلق صرخاتٍ قوية مدوية، مُعذبة قد تتسبب في إفقاد أحدهم سمعه، نمَّت على قدر الآلام التي يُكابدها وحده، مُشجت مع زمجرة الكلاب التي تلتقطها أُذنيه قبل أي شيئًا آخر كالمغناطيس الجاذب للمعادن.

زحف بجسده وهو يصرخ بحرقة كمن يتعرض للسلخ حيًا، متلويًا وقلبهُ يكاد يتوقف، كان لايزال في حالة استنكار أن اللحم الذي تنهشه الكلاب وزمجرتها تعلو على بعضها البعض هي ساقه التي يغترفوا منها.

تثاءب يعقوب بملل وصوت رنين هاتفه يخترق أُذنه يفسد عليهِ متعته بسماع صُراخ تايسون، وقف واتجه إلى الخارج بعد أن ركل المقعد الذي كان يترأسه يُراقب تايسون بغير تسلية، وكان عقله طائفًا بمكانٍ آخر يفكر، بالخائنة التي آمن لها وكان من المفترض أن لا يخشى غيرها، وجِدتهُ بالطبع التي كادت تذهب من بين يديه بسببه هو وليس أحدًا آخر، يمكنهُ أن يردع نفسه ويتراجع عن أيًا مما يفعله فقط لأجلها ولأجل المحافظة عليها سالمة غانمة.

ترك خالد يرِن دون أن يُجيب وجمع رجاله وألقي أوامره وهو ينقر على شاشة هاتفه، يحول النقود إلى حساب الشخص الوحيد الذي يثق به من بينهم ثقة عمياء.
لما الكلاب تخلص لو لسه فيه نفس اقتلوه، وبعدين اقتلوا الكلاب ونضفوا المخزن واقفلوا الڤيلا ومشوفش حد هنا تاني.
ووضع الهاتف في جيبه و استقل دراجته وانطلق إلى قصر خالد لكي ينهي معهُ أمره ويمضي في طريقه ويحيا مع جدته في سلام، لكن يبدو أن صحوته كانت متأخرة قليلًا.

أنزل خالد الهاتف عن أُذنه وقال بهدوء.
مش بيرد شكله مشغول.
ابتسمت بتوتر وطلبت مجددًا بنعومة لكي لا يشك في أمرها لأنه يُجب أن يكون ماثلًا أمامها في الوقت المُناسب وإلا إنتهت.
جاراها وأعاد الرنين عليه علهُ يرد وهو يحملق فيها بتركيز وثقب، ليطلب منها فجأة.
اطلعي غيري هدومك وريحي جسمك عقبال ما أكلمه ويوصل.

أومأت بطاعة وتحركت في جلستها، وامسكت بالمطواة ورفعتها إلى صدرها واستدارت إيهام أنها ستصعد وقبل أن تخطو خطوتها سمعته يقول زافرًا.
أخيرًا رديت فين..
إلحقني يا يعقوب هيقتلني هيقلتني.

قالتها بلهاث وهلع بعد أن اندفعت راكضة وضربت كف خالد بقوة، أسقطت الهاتف من يده وأغلق الخط في وجه يعقوب، فصرخ بإسمها بفزع من الجهة الأخرى وضاعف من سرعته أكثر على غير العادة ولم ينتبه إلى المزلق فانتفض من فوق المقعد بقوة وسقط الهاتف من يده وسط الطريق ليتم سحقهُ وسط السيارات ويصبح بخبر كان، وتابع هو قيادته فهو كان على وشك الوصول على أي حال.

فغير مفهومة هي ماهية العلاقة التي تجعله يُقدم شقيقها كوجبة شهية إلى كلابه الجوعا ثم يأتي إليها سعيًا كالمسعور لكي لا يُصيبها ضرر!
جأر خالد بغضبٍ سافر، واستل المسدس من حزامه من الخلف بلمح البصر، وصوب فوهته على رأسها سائلًا بنبرة مهددة.
إنتِ عملتي كده ليه ها؟

تقهقرت إلى الخلف بأعين جاحظة شاعرة بالخطر، وكفها تخفيه خلفها، وعمدت على سلاحها ومنقذها الذي تلجأ إليه دومًا قنواتها الدمعية بالتأكيد، فأدمعت عيناها وسألته بذعرٍ وعدم تصديق.
إنت هتموتني يا عمو؟
زجرها بغضب وهو يُلوح بكفه الممسك بالمسدس بإشارة لكي تبتعد إلى الخلف.
متقوليش عمك دي تاني واخرسي مسمعش صوتك.

انسلت عبراتها وهي تراقبه بصدمة وشحوب كمن تلقت خبر طلاقها وقتيًا، ولمحت ارتجاف يده الطفيف وملامحه التي استحلت للألم!، فيبدو أن خطبًا ما أصابهُ ويال سعدها بهذا.

تربصت به وراقبت حركاته عن كثب، ويده الأخري التي ارتفعت إلى صدره يُمسد فوق قلبه بألم وقد إشتد به، فارتعشت يده بشكلٍ ملحوظ، فتشجعت وأتتها فرصتها التي لن تُعوَّض، وتقدمت منهُ بشجاعة وقست ملامحها وجمدت قلبها، وانسلخت عن طبيعتها البشرية وتخلَّت عن كل ما يَخُص الإنسانية ورفعت يدها وضربت ذراعه فسقط مسدسه وحطَّ ذراعه جانب ساقه، ويدها المخفية ظهرت.

شددت قبضتها حولها من فوق رباطها وبدون أي تردد صرخت بانفعال وقذفت بجسدها عليه ويدها تسبقها طاعنةً إياه في بطنه كما فعل مع والدها تمامًا.

تأوه واحتقن وجهه وخفقاته تتعالى بشكلٍ غير طبيعي وألمه يتضاعف، لتبتسم من فوق كتفه بجانبية وهي تلهث وأنفاسها العنيفة تُطاير خُصلاتها المُبعثرة في مُداعبة خشِنة، تهدل ذراعه الآخر بجانبه بضعف، فشعرت به وتلذذت بسماع تأوهاته المكتومة، ومعاناته مع الآلم حتى لو ثوانٍ فهو يُعاني، لقد سكنت آلامها، واندمل جرحها، وانتهت معاناتها.

لهثت وحركت يدها وأدارت المطواة داخل معدته كما فعل بوالدها سواء بسواء والمشهد يتكرر لكن بمختلف الأشخاص.
كان يلفظ أنفاسه الأخيرة بالفعل، ويجاهد كي يخرج حرفًا سليم واضح من بين شفتيه الغليظتين لكنهُ لم يستطع، فمالت أكثر عليه وهسهست في أذنه ب غِل وهي تخرج المطواة ببطءٍ وتلذذ لسماع زمجرته وخبو أنفاسه، وهي تصر على أسنانها بحقد.
تبقي سلملي على فريد يا إبن (، ).

كان من يراها من الخلف يظن أنها من طُعنت وخارت قواها وليس هو، بل وستسقط على خالد القارب على جلوس القرفصاء جرَّاء دُنوَّهُ أكثر، وكان هذا المطلوب ليراها يعقوب على هذا الوضع، وهذا ماحدث عِندما وصل وولج من الباب الخلفي كما فعلت لكي لا يراه أحد وقد تجمدت الدماء في عروقه وتوقف عقله وقلبه معًا، وهرع إليها ناطقًا إسمها بفزع.
ياسمين.

تبسمت وأطلقت أنفاسها دفعةً واحدة نمَّت عن ظفرِها وراحتها وهي تسبل جفنيها، ثم أرخت قبضتها عنهُ وأمسكت بطرف رباطها الطاغط وقد سحبته معها مجردة المطواة منها بسلاسة عِندما أبعدها يعقوب سحبًا من خصرها يطمئن عليها ليصطدم بخالد الذي هوى ساقطًا واستقر أسفل قدميه يلفظ أنفاسه الأخيرة والدماء تسيل من بطنه.
استغرق يعقوب بعض الوقت استيعابًا لحالة خالد!، فلِمَ المفاجأة ألم يعرف أنها فعلت كل هذا لتصل إليه؟

حملق به يعقوب بعجز، في حالة صراع داخلي مُحيِّر، هل ينقذه أم لا؟ فهُناك أمل أن ينجو بالتأكيد، فإن أصابه مكروه ياسمين من ستتحمل النتائج وهو لا يُريد لأحدٍ أن يمسها بسوءٍ سواه، فلن تتقي ضيره تلك المرة!

مازال لا يعرف ما أُضمِر إليه وتم تجهيزه على أكمل وجه ويفكر بكيفية معاقبتها!، ستضحك ياسمين كثيرًا إن تمكنت من قراءة أفكاره التي يظن أنها شيطانية مُدمرة، لازال لا يعرف مع من يتعامل، إنها تلميذة إبليس وقد تكون إبليس نفسه.

انتشلهُ من أفكاره شعورهُ بيدٍ تمسك بساقه بضعف من أسفل، فنظر ليرصد خالد ويسمع همسهُ بصوتٍ مبحوح لا يخرج، متضرعًا دون أن يصل الكلام لمسامعه، فدني يعقوب بالقرب ليتثني له سماع ما يقول بتقتير وشق الأنفس.
م، مش، عاي، ز، أموت.

حزم يعقوب أمره ومن دون تفكير إنتزع المطواة من بطنه وقذفها أرضًا، ثم وضع يده فوق جرحة الغائر يكتم الدماء والتفت برأسه يبحث بعينيه عن شيء يساعده بكتم الدماء، فلمح طرف الرباط الذي كانت يتراقص في الهواء ويقصر رويدًا رويدًا، فلحقهُ ببصره وصعد معه ليجد ياسمين تلُفَّهُ حول كفها وهي تبتسم في وجهه ابتسامةٍ غريبة أفاضت بالكثير مما لم يفهمه، والخبث كان ينضح من عينيها قبل أن تميل برأسها إلى الجانب،.

وتسأله بشفاه ممطوطة.
ليه يا يعقوب؟
لم يفهم القول ولم يستوعب، لأن دافعه بسيط وهو إنقاذ خالد وتخليصها من براثنه بناءً على أنه لن يُبلِغ عنها وكل شيء سيكون في سريةٍ تامة، لأن خالد لا يحشر الشرطة في تلك الأمور، لكن خانهُ حدسه تلك المرة، وفاقت ياسمين توقعاته، وخالد ساعدها دون درايةً منه وزاد من إمكانية توريطه هو بمَ حدث وهذا ما سيحدث على أي حال، لأنهُ وببساطة وقع الاختيار عليه ككبش الفداء.

عادت تطرح سؤالها بأسف وهي تلومهُ كل اللوم.
ليه كده مش ده اللي ساعدك وخلاك إيده اليمين ده جزاءه القتل يا يعقوب؟
كم كانت نبرتها مقهورة بالغة في الأسف على موته جعلته يشك في نفسه لوهلة.
هدر في وجهها بوحشية.
إنتِ هتستهبلي ولا إيه إنتِ اللي ضربتي...
قاطعته بنبرة جافة متطلعة لإجابته وهي تدلك بين حاجبيها وجفناها منفتحين على آخرهها.
معاك دليل؟

حدجها بنظرات مستحقرة ولا يعرف إلى أي مدى ستصل بتلك التصرفات الحقيرة التي لا طائل منها، ألقي نظرة على تلك المطواة المغطاة بالدماء بفعل يده التي نزعتها من بطنه، وتناولها بيده يتفحصها ليتصلب جسده لوهلة وينعقف كلا حاجبيه، وفغر فاه بشدهٍ مبصرًا علامة العقرب التي عليها، وقد إئتلف ذلك الملمس أيضًا فهي «قرن الغزال» عزيزته!

لم تقوى على الثبات أكثر من هذا فهربت ضحكتها رغمًا عنها وهي تناظره بأسفٍ وشعور الألم يتأجج بين جنبات صدرها.
لقد انشطر قلبها نصفين بفعلتها الشنيعة، فهي أصابته بنصلٍ حاد أرداها هي، ظنت في البداية أنها تحيط نفسها بجدرانٍ عالية ولن ينالها أحد، لكنها اكتشفت أنها ليست سوى شرنقة نسيجها شفاف وقد سقطت سهوًا. ، تكفيها الذكريات ستكون بخير مع الذكريات.

هي آسفة حقًا، آسفة، فلا تستطيع أن تنسب تصرفاته إلى الغباء، لأنها تعلم أنها نابعة من اطمئنانه، وبسبب أن هذا حدث بسيط مما يمكنهُ تلافيه كما يحدث في العادة إزاء طبيعة عملهم، وبالتأكيد يظُن أن هذا مماثلًا وسيمر كما مرَّ سابقًا، وخالد سوف يستيقظ، وحتى إن لم يستيقظ سيجيد إخفاء كل شيء كما إعتادوا هُنا، لكن تأسف للغدر الذي سيلحق به، وبه سينقضى معهُ عصر خالد وسيتولد عصر جديد، بالتأكيد ليس عصر ياسمين بل يكفي أنه عصر خالٍ منهم جميعًا، يكفي نشرًا للفساد، واستحلال المحرمات، وإفساد الشباب والرجال بتلك الممنوعات.

إنها تري خيرًا متواري في صنيعها حتى وإن لم يظهر، هي فقط تحاول أن تقوِّم ما اعوَّج من سلوك حتى إن كانت هي صاحبة الخطيئة، لن تتراجع فربما كانت طوال الوقت مجرد وسيلة وسبب كي تنهي هذا وتفعل ما لم ينجح أحدًا بفعله، وهذا ما يحثها على التكملة دون ندم حتى لأجل يعقوب!، فهو بحاجة لمثل تلك الصفعة القاسية، فتنقشع تلك الغمامة عن قلبه والغشاوة عن بصيرته في آنٍ واحد، يستحق ولن تندم، فمن تخلى عن إنسانيته لا يستحق أن تأخذها به رحمة ولا شفقة، ولن يكون الحُب يومًا سبيلًا، لقد سطرت نهاية قصتهما وانتهى الأمر.

فارق خالد الحياة لأن طعنتها أصابته في مقتل وفرصة نجاته كانت ضئيلة على أي حال، ولأن قلبه المريض ساهم ليموت أسرع، وتوقف كف يعقوب عن الضغط فوق جرحهِ الغائر وترك المطواة تسقط من يده المشبعة بالدماء وحملق بخالد الميت وهو يُكذب نفسه وتصوراته التي أوصلته لنتائج لن يُحبذها قط. ، فلن تؤول الأمور إلى ما يفكر صحيح؟، ياسمين لن تلفق التهمة وتلصقها به، لن تتمادى إلى هذا الحد لن تفعل.

إقتربت منهُ بتروٍ، وبدأت مسرحيتها الهزلية واستعراض قدراتها التمثيلية معهُ.
يعقوب إنت عملت إيه؟
همست بأعين زائغة وقد اصفر وجهها وشحب وهي تجلس القرفصاء بجانبه أمام الجثة!
لم ينبس ببنت شفة، بل كان مصعوقًا، مذهولًا، مبهوتًا أكثر منها، كمن زاره ملك الموت دون أن يقبض روحه.
سألته بأنفاس مجهدة ونبرتها تخبو وتضعف.
ليه قتلتو يا يعقوب ليه؟

ضحكة خافتة نمت على ذهوله هربت من بين شفتيه الجافتين بعدم استيعاب وهو يحملق بينها وبين الجثة!
تمالكت نفسها ووقفت بأعصابٍ تالفة وبالكاد استطاعت الوقوف وتركته، ، تركته وهربت من الباب الخلفي للقصر عِندما تناهى إلى سمعها صوت إنذار سيارة الشرطة، و احتكاك الإطار بالأرضية في الخارج بعنفٍ عقب ذلك مداهمه الشرطة للمنزل.

تناهى إلى سمعه صوت خُطى أقدام تتسارع سعيًا للوصول إليه، وثانية، اثنتين، ولم يشعر بنفسه سوي وهو يُدفع على الأرض ويسقط على وجهه إثر ركلة عنيفة تخص ضابط زاخرًا بالقوة أصابت منتصف ظهره.
جثم فوقه وقام بتكبيل يديه خلف ظهره بالأصفاد بعنفٍ جلى، تلاه وقوفه وجرَّهُ خلفه إلى الخارج مِثل القاتل، بل كان القاتل نفسهُ!

عودة إلى الوقت الحالي..
وخلف القضبان، وأسفل النافذة الصغيرة، فوق تلك المجالس الإسمنتية الصلبة، والأرض المُتسخة التي يجلسان عليها، انطلقت ضحكات الكينج المُجلجلة عبأت الزنزانة تعبيرًا عن سعادته بما سمع، قصة مُثيرة وياسمين تستحق الثناء دون مبالغة.

سطعت عينا يعقوب بحنقٍ لا يُغالب متراشقًا معهُ نظرات نافذة نمَّت عن رغبته المميتة في الفتك به واقتلاع حنجرته وتركه ينزف حتى الموت لأنه لا ينفك عن استفزازه بمزيدٍ من الضحك المتعالِ يُثير في نفسه الاشمئزاز.
أسند يعقوب رأسه إلى الحائط وسبح بأفكاره مستذكرًا جُملتها التي ألقتها عليه سلفًا، بل من ساعات قليلة فقط، ف طنَّت في أذنه وتردد صداها داخله.
ولو لسه متعرفش دورك ايه في اللعبة دي فا هسيبك تكتشف لوحدك.

اعتلي مِحياه ابتسامة جانبية وهو يدرك دوره الآن كما أخبرته! ، لقد كانت تتخذه كذريعة في حربٍ يجهلها ليس إلا، بيدقًا تم تطويعه ليتماشى مع إرادتها ورغباتها لوقتٍ مُحدد حتى انتهت وشرعت في التخلص منهُ.

اللعنة عليها كيف سيقتلها وقلبه مازال يخفق بحُبها؟، كيف السبيل لصرف لُبَّهُ عن قتلها بذلك العزم والتصميم؟، كيف يتنصل أولًا من مُصيبته هذه ويمسك بها قبل أن تهرب كيف؟، أيهرب مع ذلك المعتوه الذي يجاورهُ وكل ما يشغل تفكيره
أن ياسمين لو عمِلت معهم ستجعل الجميع يتقاتلون حتى الموت ولن يبقي حيًا سِواها، إنها لا تكِن وليست خصمًا ودودًا وخسارة أن تذهب هكذا دون أن يستفاد منها.

عادت ضحکاته يتردد صداها داخل أذن يعقوب، فقارب إلى صوت دوي النحل، فكان قاب قوسين أو أدنى من لكمه رُبما يبلع لسانه إثر هذا، أو يعضه حتى الموت ويختفى للأبد.
وفي خَضم ضحكه وتسليته، تلاشت ابتسامته وسأل يعقوب بجهل وبعض المرح لأن الجزء الخاص بتحوُّل تايسون إلى وجبة طعام شهية لاكتها كلابه في فمها لم يذكرها يعقوب على وجه الخصوص لإبعاده عن ياسمين وتسليط الضوء على تايسون المتوفي.
عملت إيه في تايسون؟

لاح على مِحياه بسمة سخرية بسبب ظنه أنه نال من ياسمين ونجح بإحراق قلبها على شقيقها الوحيد ثم اجابه بنبرة قاسية متشفية.
سبتهولك تقتله أنت.
احتج الكينج بدون أي مرحٍ البتة.
بس أنا عايز ياسمين لازم أعرف بلَّغت عني ليه؟
ضحك يعقوب وهو يهز رأسه ثم قال بنبرة ناعمة قاربت للدلال.
كانت بتهزر.
ارتفع حاجب الكينج ونظراته تشمله بريبة قبل أن يسأله بجدية.
أنت عارف أنا هخرج ليه؟
سأله بعدم اهتمام.
ليه؟

أجابه بصياح وهو يبسط كفه إليه ممازحًا ضاحكًا ليتصافحا.
عشان اهزر معاها.
آثر الصمت لأنه لم يجد مدعاة للضحك، لكن ضرب كفه بكفه مجاملًا، ثم ألقي برأسه على الحائط خلفهُ واغمض عينيه بانهزام، فمصيبته مصيبة ولا مناص مما سيلقي.
أنا بُكرة هتحول على النيابة ومش عارف هكون معاك ولا لأ، بس عند كلمتي لو قابلك ههربك ولو هربت هساعدك تهرب.

كان قول الكينج بأسف أخرجه من صفونه كأن علاقة وطيدة كانت تجمعها معًا، جعل من يعقوب يسأله بريبة.
إنت ليه لحد دلوقتي هنا؟
رد بهدوء.
حبايبي كتير وبحاول أأخر الموضوع بشتى الطرق عشان أظبط طريق الهروب وهانت.

وصلت ياسمين إلى الملهي بعد نصف ساعة، كانت هيئتها شبيهة بفتاة ضامرة المرض يعيث في صدرها، واخري مُشردة بالية الثِياب رثة الهيئة، وثبت إلى المرحاض فور وصولها لكي تُنظف نفسها وترى وجهها بعد وضع لمسات يعقوب عليه كيف أصبح.

وضعت رأسها أسفل صنبور المياة ف عَلَتْ وتيرة تنفسها إزاء برودة المياة ك رد فعلٍ طبيعي، ثم رفعت رأسها تُحدق في انعكاسها في المرآة، ولا تعرف لمَ اعترتها نوبة ضحك هستيرية عِندما سقط بصرها على فكها الأحمر مستذكرة لكمة يعقوب.
مررت كفها على وجهها المُشوب بحمرة طفيفة، وقد تضاعفت الآن تلك الحمرة بسبب ضحكها، وجسدها أخذ في الاهتزاز بتلك الذبذبات القوية حتى تقلصت أمعائها وتألمت من فرط الضحك..

إنها تشعر بالانتعاش مُنتشية من السعادة والتفاؤل، والأمل والطاقة الإيجابية تحيطها بأسياجٍ عالية غير قابلة لتسلق أحدهم، وفجأة ينهدم ذلك السياج ويصبح رُكام، وتغمرها الحسرة والغصة، وتلُّفها الكآبة والحُزن وانعكاس ذلك الخاتم في المرآة يومض في عينيها، مُذكرًا إياها بفعلتها الشنعاء، والفرصة الذهبية التي أضاعتها، يومض ويسطع تأكيدًا على كونها ضحت ب عُمرًا كاملًا كانت ستحياه مغمورة في سعادةٍ أبدية.

توقفت تلتقط أنفاسها ببسمة باهتة وأبت أن تبعد نظرها عن المرآة، بل تابعت النظر لنفسها بكبرياء وثِقة أسفل الإضاءة البيضاء القوية وبيدها كانت تُرتب شعرها المُبلل وتطبطب على وجنتيها بخفة كمن وضعت مُرطب قبل النوم، ثم بسطت كفها أسفل المياه ومالت تروي ظمأها تجديدًا لطاقتها واستعادة لقوتها لأنها بِأمسَّ الحاجة اليها اليوم تحديدًا.

رفعت رأسها وابتسمت إلى نفسها بحبٍ ورضا عن هيئتها، فوجهها بخير وطرف شفتها العلوية فقط من جرح وأحمر الشفاه سيحل مشكلته ومساحيق التجميل ستواري أي كدمات أُخرى.
وثبت خارجًا إلى غرفة الملابس الخاصة بها، وترأست كرسي تسريحتها أمام المرآة المزودة بإضاءة على كلا الجانبين تتجهز لأنهُ حان وقت الرقص.
بعد ساعة..
وداخل نفس غُرفة تبديل الملابس.

محَت ياسمين مساحيق التجميل ومعهُ عرقها المُتدفق من جبينها ومسام بشرتها من فرط حركتها ورقصها المتواصل بالطبع.
قذفت قطعة القطن الدائرية أمامها واضطجعت على الكُرسي، دون أن تنزع الشعر الأسود القصير المُستعار، ولا عدساتها اللاصقة الزرقاء التي تُغير من طبيعة شكلها كُليًا، فتبدو كفتاة مُثيرة ثانية غير ياسمين الصهباء الماكرة.

طرقتين متتاليتين على باب غُرفتها تبِعها ولوج «طاهر» بابتسامة ودودة بادلته إياها بأُخرى مُبتسرة انعكست في المرآة، ثم حثته على التقدم بلا بأس ولُطفها يسبق نبرتها.
اتفضل اتفضل.
تقدم وجلس على الاريكة الدائرية الصغيرة في الزاوية وسألها بهدوء وهو يفرك كفيهِ معًا.
كُل حاجة تمام وحصل اللي إنتِ عايزاه؟
مطَّت شفتيها وهزت رأسها بنفي واجابته ببراءة.

مش كُل اللي انا عايزاه لسه في حاجة محصلتش وهي الأهم ولما تحصل تقدر تاخد الفلوس.
رفع حاجبه بشك وأردف
ياسمين!
قرأت ما يدور بخلده من ريبةٍ في أمرها، فابتسمت بنعومة وطمأنته بقولها.
أنا عند كلمتي مش انا اللي هعرفك بنفسي يا طاهر!
أومأ بتفهم وسارع بالقول.
ماشي ماشي وايه بقي الخطوة الجاية؟
إسمع.

داخل مركز الشرطة الآن.
قذف رئيس المباحث قداحته على سطح المكتب الزجاجي بإهمال بعد أن أشعل لفافة تبغ، وعاد ابهامه يتخذ موقعه على ذقنه في تفكير عميق، والأبخرة تتصاعد مُتكتلة أمام وجهه وانفاسه المُندفعة من فمه بانفعال ما تشُقها وتفرقها في الفراغ حتى التلاشي.
ها مش هتعترف قتلته ليه؟

كان السؤال موجه إلى يعقوب الذي كان يحدجه ببغض متناسيًا مكانته، و صدى شتم والدته هو ما كان يتردد داخل أذنه بينما يقول ببرود.
مقتلتوش.
إنت مقبوض عليك مُتلبس بسلاح الجريمة؟
كرر بملامح جامدة صلبة.
مقتلتوش.
أومأ رئيس المباحث وأنهي استجوابه وكتابة المحضر ثم أمرهم بإعادته إلى الزنزانة ليترحل غدًا مع البقية ويتِم عرضه على النيابة.

اليوم التالي في منتصف النهار..
داخل حُجرة وكيل النيابة.
ها لقيت حاجة؟
أتته الإجابة سريعًا وافية بكل ما يُريد أن يسمع وبدى على ذلك الشخص الإرهاق من عمله الدؤوب وتقصيه وبحثه الدقيق.

أيوا سعادتك فحصنا كل الكاميرات، للأسف كانت كلها مُعطلة يوم الحادثة من وقت مُعين وداخل في الوقت ده الجريمة طبعًا حتى الشغالين قالوا إنه اداهم اجازة اليوم ده، وكمان قالوا انه مكنش على طبيعته كان باين عليه متوتر وبيفكر كتير.
سحق المحقق لفافة التبغ داخل المنفضة وحثه على المتابعة.
وبعدين؟
استطرد وهو يفرد ذراعه على سطح المكتب.
سألنا الحراس قالوا محدش دخل ولا خرج وتفاجئوا بالبوليس وبيعقوب لما عرفوا.

فطفق المحقق يقول بتفكير.
يعني المفروض إنه دخل من الباب الخلفي للقصر عشان عملية القتل تتم على أكمل وجه من غير شوشرة.
أومأ الآخر وشاطره الرأي.
صح المفروض يا باشا بس كده في طرف تالت بلغ عنه يعني أكيد كان عارف بإن الجريمة هتحصل في الوقت ده بالذات، في حلقة مفقودة في النص!
مين قدم البلاغ؟
أجابه بأسف.
البلاغ اتقدم من تليفون في الشارع في وسط البلد.
سأله وهو يتطلع إلى ملف القضية.
ملاحظتش حاجة في التسجيلات؟

أجابه بهدوء.
كان فيه، بنت اسمها ياسمين دخلت حياة خالد من كام شهر بس وكانت عايشة معاه في القصر، وواضح جدًا إنها حد مهم بالنسباله، بس اللي عرفناه برضو إنها بقالها كان يوم مرجعتش القصر ولا حتى يوم الجريمة وده يبعدها عن الشبهات.
حذره المحقق برفع سبابته في أمام وجهه وأردف بخطورة.
مفيش حد بعيد عن الشبهات، أتحرى عنها واستدعيها هنا فورًا.
أجابه سريعًا بنشاط مفاجئ.
حصل وطلعت رقاصة.
طيب هاتوها.

أومأ ونظر في ساعة معصمه وردَّ نظره إلى وكيل النيابة وتمتم وهو يقف.
تحت أمرك.
تحرك للذهاب لكن استوقفه هتاف وكيل النيابة باسمه.
باسم.
نكص على عقبيه وصوب نظره إليه باهتمام، فأردف بضيق بسبب كون القضية تتعقد وبها بعض الحساسية لكون خالد شخص معروف وليس بقليل وستحدث ضجة إن تسرب أي خبرٍ للصحافة المتطفلة.
انا عايز اخلص من القضية دي بهدوء من غير شوشرة وصحافة.

ووقف بنهاية حديثه ولملم حاجياته من فوق سطح المكتب ليقف الآخر أمامه باحترام يراقب ذهابه فتذكر تلك المعلومة الهامة فقال مستوقفًا.
حاجة كمان مُهمة.
نكص على عقبيه وطالعه باستفهام، بجبينٍ مقطب ليخبره بهدوء.
البنت دي خطيبة يعقوب، والصدفة الغريبة إن الكينج طلب انه يتجوزها ورفضت.

عقف المحقق كلا حاجبيه بريبة واجتاحه ذلك الشعور بأن شيئًا ما خطأ يحدث، طالما دخل في تلك الدائرة «الكينج» فتنهد وعاد أدراجه وجلس خلف مكتبه والقى بأشياءه بسخط أمامه وأخذ يمسح جبينه بإرهاق، فيبدو أن تلك القضية لن تنتهي حتى يجمع الخيوط ببعضها البعض، والتقط علبة سجائره وأخرج واحدة يستنشقها بعصبية وعاد يدرس ملف القضية.

كانت تسير مع المحقق المسؤول بأنفاس مُتلاحقة لاهثة في الرواق الموصل إلى غرفة وكيل النيابة، ويبدو عليها الذعر الشديد، بوجةٍ كامد، والعبرات تشق طريقها فوق وجنتها الناعمة بخطٍ مُستقيم.
جلست على الكرسي المقابل إلى وكيل النيابة مستمرة في البكاء دون توقف جاهلة سبب الإتيان بها إلى هنا ليلقي وكيل النيابة أمره.
هاتي بطاقتك.

أومأت وأخرجتها من حقيبتها الجلدية الصغيرة المُعلقة أعلى كتفها بأنامل مرتعشة وناولتها إليه ليبدأ الكاتب الذي يدون كل ما يُقال أن يكتب خلفه.
ياسمين ممدوح الهناوي.
أومأت بحركة سريعة من رأسها تراقص إثرها شعرها الأسود المُستعار، وتدفقت المزيد من العبرات من مُقلتاها المغطاة بتلك العدسات اللاصقة الزرقاء وجسدها ينتفض جرَّاء بكائها.
سألها وهو يُضيق عينيه المتفحصة لها بتدقيق صقر يرصد فريسته الزاحفة في الأرض.

محل إقامتك فين يا ياسمين.
أجابته بلهاث وهي تلتقط أنفاسها المسلوبة بصعوبةٍ بالغة.
انا عايشة مع عمو خالد، ليه، ليه حضرتك؟
سألها بنوعٍ من السخرية وهو يريح قبضته فوق سطح المكتب.
وقبل عمو خالد كنتي عايشة فين؟

ردت وهي تكفكف عبراتها والسكينة تغمرها باطنًا، ومحافظة على ذعرها المتجلي على ملامحها ظاهرًا، يصحبه شحوبٍ مُقنع، وارتعاش أطرافها وشفتها الجافة يعاضدانها وهي تهتز محلها بخوف وكأنها رأت شبحًا، تحت أنظار وكيل النيابة الذي كان يجلس خلف مكتبهِ بأعين حمراء مُرهقة ويسند ذراعيه على المكتب وبصره شاخص عليها وحدها يدرس تحركاتها دون غيرها ويزدريها كذلك.

أتى إليها ذلك الباسم بكوب مياه وناوله إليها برفق، فأخذته وارتشفته على رمقٍ واحد بلهفة كمن لم يقرب المياة من أيام، واعادته على الطاولة لاهثة وصدرها يعلو بقوة دون توقف.
سألها ببشاشة لكي يذهب خوفها وهو يجلس مقابلها كي لا تدركها الرهبة منهما.
خايفة من ايه؟
ارتجف جسدها رجفةً ملحوظة، واتسعت عيناها كمن تلقى صدمة، وغارت بعيدًا وهي تستذكر ماحدث قبل أن يصلوا إليها.

أنا كُنت مروحة عادي وماشية في الطريق لقيت العربية وقفت وسألوني أسئلة غريبة وخدوني غصب عني إفتكرت إني مخطوفة وهيقتلوني.
طمئنها بقوله برفق.
لا متخافيش إنتِ هنا في أمان.
أومأت بعدم راحة ومن ثم أطلقت أنفاسها دفعةً واحدة وسألته بتلجلج وخوف.
هو، هو أنا هنا ليه؟
تبادل باسم النظرات مع مرؤوسه قبل أن يُقرر أن يخبرها أن خالد جُثة الآن داخل الثلاجة وسيتم تشريحه.

صرخت صرخةً مدوية وهتفت بحرقة وعبراتها تنهمر بغزارةٍ عجيبة كنهرٍ جاري.
لأ، لأ، ازاي مات مين عمل فيه كده مييييين؟

الفصل التالي
جميع الفصول
روايات الكاتب
روايات مشابهة