قصص و روايات - نوفيلا :

نوفيلا ياسمين للكاتبة هاجر الحبشي الفصل الرابع عشر

نوفيلا ياسمين للكاتبة هاجر الحبشي الفصل الرابع عشر

نوفيلا ياسمين للكاتبة هاجر الحبشي الفصل الرابع عشر

لا يشترط في الجاحد وغليظ القلب أن يكون من أرفع الناس وأعلاهم مقامًا، فيوجد لدينا هُنا ثعابين وثعالب، أقل شأنا واحط قدرًا نتعامل معهم كل يوم.

لو فقدت عزيزًا لم تكن لتبلغ هذا المبلغ من الحزن والعويل في آنٍ واحد، هي حتى لم تبكِ يوم مقتل والديها، لم يُبكيها رؤية منزلها يتفحم ويتناثر كذرات رماد في الهواء، لم يبكيها أحد كما فعل ذلك الخبر بها وكأنها لم تذهب حقاً ولم تفعل شيء، بل كانت ترقص وهي على أتم القناعة بهذا.
ضربت قلبها بقبضتها بعنف، وُرَثَتْ حاله وحالها معًا وهي تشهق بحرقة.

ده كان أبويا! محدش كان حنين عليا قده، يا حبيبي يا عمو يا حبيبي الموت خدك منى بدري، خدك مني.
لوح وكيل النيابة إلى باسم بضجر وهو يُحرك خِنصره في أذنه بسبب عويلها كي يسكتها وينتهي التحقيق.
امتثل للأمر وحمحم وعدل جلسته وقال مواسيًا.
آنسة ياسمين، إهدي، إهدي، ده عمره وقضاء ربنا.
رفعت رأسها إليه تلتقط أنفاسها باختناق ووافته ب ردِها وجسدها ينتفض، ونبرتها تخرج متحشرجة مبحوحة.

ونعم بالله بس، بس، بس، الوجع مُدمر ومش قادرة استحمل فكرة إنه مات، مش قادرة، يارب ده مكنش حد حنين عليا قده.
البقاء لله ربنا يصبرك ويغفرله ويرحمه.
أومأت وتمالكت نفسها وكففت عبراتها بظهر كفها المرتعش واعتذرت بندم.
أنا آسفة معطلة التحقيق بس مقدرتش أمسك نفسي.
وأجهشت في نوبة بكاء أخري اقترنت بنهاية قولها وهي تغمر وجهها بين راحة يديها.
صرَّ وكيل النيابة على اسنانه وطلب منه بنفاذ صبر.
اديها مَيه.

أذعن وأفرغ ما تبقي في قنينة المياه، وناولها فأخذته من يده وبدأت تهدئ من حِدة بكائها رويدًا رويدًا حتى ساد صمت يتخلله نهنهتها بعد البكاء.
بادر وكيل النيابة بالتحدث عِندما لاحظ هدوئها وقُدرتها على الاجابة.
كنتي فين بقالك كام يوم يا ياسمين؟
ازدردت ريقها وأجابته بكل هدوء.
كنت في الكبارية.
سألها وكيل النيابة بحاجبٍ مرفوع.
و بتنامي في الكبارية كمان؟
أومأت وهي تطرق برأسها وأجابت بخفوت.

أيوا في اوضة مخصصة ليا هناك بس انا كنت بنام في لوكاندة قريبة من الكبارية.
تناول قداحتهِ الفضية وبدأ يفتح غطائها ويغلقه متسببًا في توترها بحركته تلك.
بس الشغالين قالوا إن خالد قال إنك في رحلة مع يعقوب ايه رأيك في الكلام ده؟
أومأت واجابته بنفس هدوئها وثباتها الانفعالي.
عمو ميعرفش أني رقاصة واضطريت أخبي عليه واخلي يعقوب يساعدني عشان ميعرفش.
اعتلي طرف ثغره بسخرية وسأل.

يعقوب ده المفروض خطيبك وسايبك تشتغلي رقاصة وبيساعدك كمان؟!
عادت عبراتها تتدفق وبررت موقفه بحرقة لكي لا يظن به الظنون.
غصب عنه غصب عنه والله، انا ماضية عقد وكان لازم أفضل لحد ما ينتهي لاني مش معايا مبلغ الشرط الجزائي ولا يعقوب معاه، وانا اتكسفت اني اقول ل عمو اني رقاصة عشان مسقطش من نظره والعقد كان في آخره عشان كده.
أومأ وهو يرفع كلا حاجبيه وأغلق القداحة نهائيًا تلك المرة
وسألها سؤالًا آخر.

اه، ويعقوب شغال ايه عند خالد؟
مسحت على أرنبة أنفها بظهر كفها واسهبت في الشرح.
كان بدايته محاسب في شركته لحد ما اثبت نفسه وبقي مدير الحسابات ودراعه اليمين وساعات لما عمو بيسافر بيسيبه هو يدير الشُغ..
باغتها بسؤالٍ آخر قبل أن تنتهي
وأنتِ علاقتك ايه بخالد.
نظرت إليه بهدوء وداخلها لا يسكُن ولا يهدأ، ولا يرتاح كذلك إلى ذلك المتحذلق نهائيًا.

خالد كان بتجمعو مع بابا صداقة قوية حسب كلام عمو، انا مكنتش اعرفه قبل كام شهر بس، قالي انه كان بيدور عليا من سنين لحد ما لقاني وطلب مني أعيش معاه.
سألها ببرود.
وايه السبب.
بلعت لُعابها ببطء واجابته بهدوء.
هو قالي إنه مديون لأبويا ولازم يسدد دينه وحمِّل نفسه مسئولية موتهم لانه كان مسافر وقت ما اتقتلو.
أعاد قولها الأخير بشك.
اتقتلو!
أكدت قولها والبرود يسطو على نبرتها.

أيوة يا باشا وانا صغيرة بابا اتقتل وولعوا في البيت وانا اللي فضلت عايشة فا ودوني ملجأ وهربت منه لما كبرت.
وتابع عوضا عنها.
واشتغلتي رقاصة.
أومأت وظلت هادئة ثابتة زاهية كمن لا غُبار عليها.
ايوه وبعدين عمو خالد لقاني وعِشت معاه.
حك طرف حاجبه وسألها مستفهمًا.
ولما خالد لقاكي معرِفش إنك رقاصة؟
أزدردت ريقها وقالت وهي تعتصر مفاصل أناملها الرقيقة متسببة في سحقها سحقًا.

اللي لقاني واحد من رجالته مش هو وانا طلبت منه ميقولش إنه لقاني في الكبارية لحد ما الاقي وقت مناسب وأقوله أنا بنفسي.
ومين بقي ده اللي كِذب عشانك وهو ميعرفكيش أصلًا؟
خرج سؤاله متهكمًا وعقله يأخذه إلي استنتاج ما فعلت لكي يصمت، فبالتأكيد أغوته تلك الراقصة.
أجابته دون تردد
واحد اسمه تايسون.
أومأ بتفهم وأشعل لِفافة تبغ تزامنت مع سؤاله الجديد.
قصتك أنتِ ويعقوب بدأت إزاي؟

تسللت بسمة ناعمة إلى شفتيها وبدأت تقص عليه برحابة صدر لم تكتمل.
الصراحة كانت صدفة و..
قاطعها بسؤالٍ آخر عندما لاحظ شرودها وابتسامتها البلهاء الخاصة بفتاة والهه وقعت في الحب.
والكينج تعرفيه منين؟!
جعدت جبينها وقطب كلا حاجبيها وردت مستهجنة ذلك السؤال.
انا معرفهوش ده مجرد شريك ل عمو وشُفته في حفلة صُدفة وبس.
مكر بسؤاله المتعجب.
مالك اتضايقتي لما جبنا سيرته ليه؟، وعمد على المراوغة واسترد.

مش كنتي هتتجوزيه برضو؟
نفت بقوة رغبةً في إلغاء ذكره ووجوده في آنٍ واحد فمن الممكن أن يستجوبوه وينتهي كل شيء.
لأ طبعا محصلش الكلام ده، هو اللي طلب يتجوزني بعد ما شفني ب خمس دقايق بس ورفضته.
سبق قوله ارتفاع حاجبه.
وقبلتي يعقوب!
بررت موقفها بضيق.
الصراحة قبلته عشان اخلص من الكينج لانه طلبني وسط الحفلة وكان جنتل مان اوي فا اتحرجت، وفي نفس الوقت يعقوب أحسن من الكينج وسِنه صغير ومُناسب ليا أكتر، عشان كده.

حرك شفتيه وأفرج عن سحابة دخانه الرقيق فانقشعت قبل أن تصل إلى وجهها سائلًا.
وطبيعة شُغل الكينج ايه مع خالد؟
استردت ثقتها وأخذت نفسًا وفيرًا ثم أجابته.
الحقيقة معرفش اي حاجة عن طبيعة الشغل ولا كان بيتكلم قدامي عن أي حاجة تِخُص الشُغل.
اطفأ سيجارته في المنفضة وتبادر على ذِهنه خطة خبيثة يمكنها أن توقع بها إن كانت الفاعلة ولأنها كما قالت لم تعد للقصر من أيام فإذًا هي لا تعرف ما حلَّ بالكينج.

تعرفي إن يعقوب والكينج هنا؟
مثَّلت الجهل ولم تخرج عن النص التي دربت نفسها عليه ولا السيناريو المرسوم في رأسها وسألته مُتعجبة جاهلة وهي تنظر حولها.
هنا بيتحقق معاهم يعني؟
نفي بابتسامة خبيثة.
لا مُشتبه فيهم.
شحب وجهها وسألته بتلعثم وهي تدرك لعبته الحقيرة لكي يوقع بها لكنه خسئ، لقد أبلغت عن الكينج بنفسها، ذلك الأبلة مازال صغيرًا لكي يصل إليها.
ي، ي، عني، إيه؟
أجاب بهدوء.
يعني يعقوب او الكينج حد منهم قتلو.

نفت بهستيريا وهي تقف من محلها بانفعال.
يعقوب بريء مُستحيل يقتلو مستحيل يعقوب بريء ده ميقدرش يقدر يقتل نملة.
ضحك وكيل النيابة بغير مرح وسألها بأعين مُتسعة متعجبة.
ميقدرش يقتل نملة معقول؟
طفرت عيناها بالدموع وهمست بصوتٍ مبحوح ومقلتاها المُغطاة بتلك العدسة تزداد حُمرة وتدور بين الاثنين مستضعفة.
يعقوب مُستحيل يعمل كده صدقني والله..
وسعلت بحدَّة وسألت رؤيته بوجل.
ممكن اشوفه ممكن تخليني أشوفه.

اجابها بجمود بحرفٍ واحد لا غير.
لأ..
وضعت راحتيّ يديها على المكتب ووقفت تميل عليه وهي تستجدي عطفه.
أرجوك أطمِن عليه بس أطمِن عليه مش هناخد وقت.
تنهد وطالعها بتردد ليتكرر رجاءها إن كان هذا ما يُريده.
أرجوك خمس دقايق بس.
أومأ وهو يضجع على كرسيه ثم طلب حضور الشاويش وأمره بالإتيان بذلك المُستجد.
تناول سجائره وهاتفه وأشار إلى الكاتب وباسم ليخرجوا معًا ويتركونها معهُ خمس دقائق فقط لا غير.

توقف الشاويش به على باب الغرفة بأيدٍ مُقيدة بالأصفاد، فتصادم بصره مع المُحقق، فلم يطرف أو ترتد اهدابه، بل ظل شاخصًا عليه حتى يتحرك الشاويش ويكمل طريقة ويرى بمن سيتشرف عِندما يدخل ويرى الزائر وليته لم يدخل.
تخطاه وكيل النيابة دون أي اهتمام كأنهُ غيمة شفافة انقشعت بدخوله إلى الغرفة.
وقف خلف الباب مع صديقه وتناقشا معًا حول القضية ليذكر باسم فجأة ويقول ببعض الذهول.

المطوة مرسوم عليها العقرب! معقول يكون ده العقرب ومش مُجرد صدفة؟
فكر وكيل النيابة مليًا وهو يمط شفتيه وقال ممني نفسه.
تخيل لو ده العقرب ومعانا الكينج وخالد مات، ضربة واحدة قضت على أكبر تلت مصادر للفساد مُتخيل البلد هتكون فين لو ده حصل.
ابتسم باسم وقال ضاحكًا.
ولا حتة هيجي غيرهم.
داخل الغرفة..

تصلَّب يعقوب فور رؤيتها تقف بزاوية وغرور، تكتف يديها أمام صدرها وابتسامة خبيثة أبغضها شقت طرف شفتيها الناعمة الرطبة المُسكِرة التي نهل منها حتى ثمِل وتعثر وغشت عيناه وأضحت هي عيناه التي يسير بها فانتهى به المطاف سجينًا.
لا يعرف إلى أي تجهم وصل إليه وجهه حتى استحال إلى ذلك السواد الحالك الذي جعلها تخشى الاقتراب، إنه يخوض حرب شعواء داخله قتلها بها آلاف المرات.

مزق ذلك الجسد، وفصل تلك الرأس عنهُ، وحرق ذلك الشعر المُشِع كقرص شمس يتماثل للغروب، واقتلع تلكما الأعين، وسحق تلك الشفاة بحذائه، لقد جعل من جسدها فُتات، هي لم يبقى منها شيء ليجعله حتى، لقد تبخرت.

تبخرت وعادت تقف أمامه بتلك الزاوية والغرور والبسمة الخبيثة تشق طرف شفتيها، كأنه داخل لعبة ومازالت تمتلك المزيد من الحيوات، فكلما يقتلها تعود للحياة مجددًا، وسيظل على هذا الحال حتى ترهقه محاولة قتلها، ويفقد قواه ويخر جاثيًا على ركبتيهِ لاهثًا، وتتكرر تلك القصة وتهزم ياسمين يعقوب وتلقي به في الغدير، وتعود للوقوف بتلك الزاوية والغرور والبسمة الخبيثة تشق طرف شفتاها.

انتهت اللعبة بهزيمته، واستيقظ على اندفاعها لأحضانه كبرقٍ صاعق، وأريج عطرها النفاذ لفَّهُ حتى اذكمه، وتسبب في حرقة جيوبه الأنفية. ، ذلك العطر الذي تمنى لو يتنفسه لمَ تبقى من حياته.
لثَّمت نحره بتلك النعومة المُذيبة التي تسحقه وتخضعه إليها لكن قبل فعلتها الخسيسة، والآن في هذه الثانية التي يلتف ذراعها حوله في تملك، وتدس رأسها في حنايا رقبته وانفاسها تخبو وتتهدج كأنها اجتمعت به في غرفة النوم.

تلك الأنفاس التي كان يتنفسها في ليلته، كم يرغب في سلبها الآن لتتوقف عن ضرب بشرته ومفاقمة اشمئزازه من نفسه، تلك الحقيرة كان يُرتب لزفافهم اللعنة عليها وعلى حياتها القادمة التي سوف تحياها وحيدة كذبابة شتاء شاردة.
لم يحتمل قُربها أكثر، فكان سيدفعها لكن غضبه الأهوج هو من حركه لا إراديًا وركل معدتها بركبته، فجثت أمامه تتأوه بصوتٍ مكتوم وتعتصر بطنها من الألم.

وجثى أمامها وسحبها من ياقة قميصها الأسود بيديه المكبلين في عُنف وأنفاسها تخبو بضعف، وهدر أمام وجهها الشاحب مباشرةً أرعد فرائصها.
هقتلك يا ياسمين هقتلك.
مالت برأسها مُبتسمة نصف ابتسامة وهمست بحركة بطيئة من شفتيها استفزته.
لو خرجت أقتلني.

أطبق على عُنقها بكفه الحُر يخنقها، فابتسمت باستخفاف وشيَّعت الباب بنظرة لترصد تحرك المقبض، فرفعت جسدها بسرعة وقربت رأسها منهُ وهمست في أذنه بقنوط ويدها تشق طريقها باستقامة على رقبته.
إنت عيشت كتير يا يعقوب، سيبني أعيش وسامحني.
ورفقت قولها بنشيجها الكاذب تزامن مع دخولهم إلى الغرفة فتعلو نبرتها وتصيح بحرقة وهي تتشبث في رقبته، وقد أنزل يده وحرر رقبتها مُنذ أن سمع نبرتها اليائسة الصادقة التي لمسته.

متخافش يا يعقوب كان غصب عنك كنت بتدافع عن نفسك دفاع عن النفس متخافش.
ابتسم ابتسامة مميتة والشاويش يرفعه من مرفقة بعنف ليعيده إلى الزنزانة، وعيناه شاخصة عليها وهي تنتحب باهتياج متفوهة بكل ما تُريد ليسير كُل شيء حسب مُخططها.
متخافش يا يعقوب هوكلِّك محامي يا يعقوب هوكلِّك محامي.
نكص على عقبيه وسار مع الشاويش طواعية ليتوقف عِندما صرخت باسمه بلهفة وعيناها تفيض من الدمع.
يعقوب.

توقف عن السير واستدار بكتفه لتركض إليه باندفاع وضمته بقوة وهي تشهق بحرقة ممزقة لنياط قلبها، فلم يُصدقها وهذا أكثر وقت أبدت فيه صدقها، ثم فصلت العناق ورفعت رأسها واحتضنت وجنتاه براحتيّ يديها وودعته بنظراتٍ وهِنة وبإبهامها كانت تداعب بشرته الجافة وعيناها تفيض بالكثير.
أسندت جبينها على جبينه وخرجت نبرتها مرتعشة بهمسها الذي المُتألم.
هتوحشني.
وهسهس هو.
هقتلك.

وسحبه الشاويش بقوة خلفه وأغلق الباب، وأجهشت في البكاء وانهارت وسقطت خلف الباب تشهق بحرقة وظلت تردد إسمه بلوعة.
يعقوب، يعقوب، يعقوب.
جلس وكيل النيابة مكانه خلف المكتب بضيق وسأم من تلك البكاءة ثم قال بنبرته المهيبة وعصبيته المعتادة.
بطلى عياط يا آنسة وتعالي اقعدي هنا عايزين نخلص إحنا مش فاضيين للعياط!

كففت عبراتها بسرعة ووقفت بعدم اتزان وسارت إلى الكرسي الذي كانت تجلس عليه بترنح حتى بلغتهُ، واستقرت فوقه وتنبهت حواسها للمحقق، ونظرت إليه في انتظار سؤاله وهي تنهنه.
يعقوب قالك إيه؟
أجابته بعيون زائغة.
قال، قال، إن عمو خالد اتصل بيه يجِيله على القصر ولما وصل شدو مع بعض جامد وخالد هددو بالمسدس وكان هيضريه بالنار وهو دافع عن نفسه مش أكتر.
سألها مستهجنًا مُستنكرًا قولها.

دفاع عن النفس؟ في حد يدافع عن نفسه يلف المطوة عكس الاتجاه؟ كده بينقذ نفسه بسرعة يعني؟!
ردت بجهل وهي تهز كتفيها.
أسأله أنا معرفش تفاصيل حضرتك دخلت وهو بيحكيلي.
أومأ وهو يحدق في بطاقتها الشخصية.
تعرفي إن خالد كتب معظم أملاكه باسمك؟
أجابت بهدوء.
لا.
واستطردت بصدق.
ولو حصل فأنا مش عايزة حاجة، أفضَّل إني اتبرع بيهم لجمعيات خيرية، أو نعيد بناء الملاجئ عشان تكون أفضل والولاد يلاقوا الرعاية اللي يستحقوها بجد.

سألها وهو ينظر إلى الكاتب الذي يُدوِّن أقوالها.
يعقوب كان بيتردد عليكِ الأيام اللي مكنتيش فيها في القصر؟
ضغطت قبضتها في حِجرها وأجابته.
مش دايمًا ساعات كان بيجي يقعد معايا ساعة ولا حاجة وساعات كان بيكلمني يتطمِن عليا.
همهم وسأل وهو يخرج سيجارة من علبته.
وامبارح كنتِ فين من الساعة 10 ل 12؟
أجابته بثبات.
كان عندي نمرة حضرتك في كباريه (، ).
عندك أقوال تانية؟
أجابت بإيجاز.
لا.

أومأ وناولها بطاقتها الشخصية بينما يقول.
ماشي يا ياسمين أمضي على اقوالك وتقدري تتفضلي.
أومأت وقالت بوداعة وهي تقف ووقعت على أقوالها.
شكرًا..
وسارت بهدوء إلى الخارج لكن نكصت على عقبيها فجأة أمام الباب قبل الخروج وسألته بتلجلج.
هو، هو كده يعقوب هيحصله ايه؟
أجابها بجمود.
لسه بنحقق معاه.
الزيارة مسموح بيها؟
أجابها بجدية مُبطنة بسخرية
لما ياخد حكم ممكن تزوريه، ودلوقتي تقدري تتفضلي.

أومأت مستضعفة ثم أدارت مقبض الباب سائلة نفسها الثبات تلك الثوانِ دون أي أخطاء غبية، لكنه حال راحتها وجعلها تنقبض عِندما هتف باسمها بتلك النبرة الخبيثة كأنه سيقبض عليها.
ياسمين.
التفتت تنظر إليه بخوفٍ حقيقي وعيناها تتسع ببراءة طفلة لم تقترف أي خطأ وردت بتلعثم.
ن، ن، عم.
سألها باهتمام وهو يقف.
ده شكلك؟
توقفت الكلمات في حلقها وتعلثم لسانها بالأحرف وهي تجيب.
يع، ني، إيه؟
في كاميرات المُراقبة مكنش ده شكلك؟

مادت الأرض بها ولم تجد ساقيها من موطأ صلب، وتزايد شحوبها وجحظت عيناها، وضعفت نبضات قلبها فلم تعد تطرق قفصها الصدري، ولا يصل رنينها إلى أذنها، مع سلب أنفاسها الضعيفة، فكانت تتعرض للإختناق بالفعل وهي تنظر إليه.
أي كاميرا مراقبة؟ إنها تعرف أنه يضع كاميرات في الخارج وتم تلافيها وليس الداخل؟ هل أغفلت هذا؟! أغفلته وسوف تتعفن في السجن!
شملها وكيل النيابة بشكٍ واضح وسألها.
مردِتيش يعني؟

عاد صوابها واستعادة رباطة جأشها وطمأنت نفسها بكونه لم ينسب اي تهمة إليها وثأثأت مُجيبة بخوف.
ده، ده شكلي لما برقص ع، شان، عشان محدش يتعرف عليا لو شافني في أي مكان.
ثم عمدت على سؤاله بجهل اجادته جيِّدًا أبعدها عن الشُبهات.
هو، هو، كان في كاميرات؟
بالغ بسؤاله الذي نمَّ عن مفاجئته الزائفة.
إنتِ متعرفيش؟
أطرقت برأسها وأجابت بخفوت لأ، مكنتش أعرف.
شملها من أعلاها لأخمص قدميها لمرةٍ أخيرة وسأل.

هتعيشي دلوقتي فين يا ياسمين؟
رفعت رأسها إليه وقالت بهدوء وهي تضع إبهامها أسفل يد الحقيبة الحديدية.
هرجع اللوكاندة تاني لحد ما القضية تنتهي عشان انا ويعقوب المفروض نتجوز.
حذرها بجدِّية.
متستنيش كتير ومتحاوليش تختفي عشان لو احتجناكي نجيبك، وسمح لها أن تذهب على مضض.
تقدري تتفضلي.
أومأت بخنوع والتفتت لتذهب ولا يعرف كم طمأنتها كلماته البسيطة هذه، وساعدتها على الثبات وإدارة المقبض بسلاسة دون إثارة الشك.

أسندت ظهرها على الباب بعد إغلاقه كغريق استغاث ليبقي حيًا فدفعته الأمواج ليرسو على الشاطئ، تنفست بظفر وهي تضُم جفناها بعُنف فور خروجها، ورفعت كفها تُمسد فوق قلبها الخفاق لتهدئ من روعها.

عشر ثوانٍ فقط وانقشع همَّها، ورفعت رأسها بشموخ واستقام كتفها المحني وسارت في الرواق المؤدي إلى الخارج، لكن لم يمنع سيرها بذلك التكبر كأنها أحد الشخصيات المخملية أتت للزيارة والآن ذاهبة في طريقها عدم رؤية أحدًا أمامها.

بل تصيَّد بصرها ذلك المُريب الذي يتلفت حوله بتوتر، ويسير متعثرًا في خطواته بسبب حيطته وحذره المبالغ به، وبيده يحمل ذلك القلم والمُذكرة الصغيرة التي يدون بها ما تلتقفه أذناه بسرعة البرق كما إعتاد في أداء مهنته.
تبسمت بخبث وتبعته بحذرٍ مماثل وتحينت الفرصة واقتربت أكثر وهمست في أذنه أجفلته جعلته يلتفت إليها مذعورًا، عائدًا بجسده إلى الخلف.
بتدور على حاجة؟

ابتسم بتوتر وهمس بارتباك عندما تبين له إنها إمرأة لا شاويش كان سيزج به في السجن إن لمحه.
أنا الحقيقة بشمشم على خبر كده ولا كده مش بدور خالص.
همست بالمثل وهي تبتسم بمكر والثقة تطغو على كلماتها.
عندي ليك خبر بمليون جنية بس مش هنا عشان محدش يسمعنا.
ورفقت قولها بسيرها إلى الخارج وهي ترفع حاجبها بتألق مع ابتسامة جانبية تاركةً إياه يطرف بتعجب ويستوعب قولها بتلك الثقة، قبل أن يركض خلفها بلهفة.

داخل غرفة التحقيق..
هتف وكيل النيابة وهو يمسح وجهه بكفه بحركة عصبية.
شوفولي مين تايسون ده ويكون حاضر قدامي، وهاتولي يعقوب دلوقتي.

بعد دقائق كان يعقوب ماثلًا أمامه صامتًا جامدًا، وملامحه وكأنها نُحِتت من أصلب صخرة وُجِدت على وجه الأرض، لا يتوقع اعترافه والبوح، ولازال في مريةٍ من أمر تلك الياسمين!، فمن رؤية يعقوب يجزم أنه لم يُحرك شفتاه الغليظة قط ليعترف إليها بتلك الصراحة المُبالغة بأنه القاتل!، وإن كانا سيتزوجان، وإن جمعتهم علاقة لأشهُر ليس مبرر ليخبرها!، فهي من أبدت الحميمية وشوقها في علاقتهما وليس هو، بكت وكان جامدًا، صرخت وكان جامدًا، انهارت وظل جامدًا!

أقعد يا يعقوب.
جلس أمامه وملأ الكرسي بجسده الضخم، دون أن يلتفت إليه، بل كان يحدق في العدم دون أن يُحيد قط، فلم يُرهق وكيل النيابة نفسه بزجره وجعله ينظر إليه، لأن لا فائدة ستعود عليه إن حدق في وجهه مباشرةً، فعمد على الأسئلة العملية الطبيعية.
قتلتو ليه؟
أتاه رده بعد خمس ثوان دون أن يلتفت إليه أيضًا.
مش هتكلم إلا في حضور المُحامي بتاعي.

مسد وكيل النيابة جبينه بعصبيه بعقده حاجبه المنزعجة ثم قال بهدوء ظاهري.
ماشي، لما المحامي يجي خدوه وهاتولي الكينج.
وتم الأمر، وجلس يعقوب في زاوية داخل الزنزانة الجديدة التي لا تقل سوءًا عن التي بات ليلته فيها مُسهدًا أمس وحيدًا منذويًا، فتعجب الكينج من حاله واقترب يسأله ما الخطب لكن سحبه الشاويش معهُ إلى الخارج.
أهلًا بالكينج اللي منورنا.

رحب به وكيل النيابة بحفاوة وهو يدير لفافة التبغ على حافة المنفضة بتركيز، لتتسع ابتسامة عوض وجلس أمامه بأريحية كأنه يجلس في مكتب صديقة بكل تبجح.
منورة بالصقر بتاعنا.
ضحك وكيل النيابة بتسلية وأبخره التبغ تتسلل من بين أسنانه إلى عوض الباسم مباشرةً.
خالد اتقتل يا كينج.
ضم شفتيه بأسف وقال متأسيًا.
الله يرحمه كُنت بحب الشغل معاه.
وصمت ثوانِ يُحرك دبلته الفضية داخل إصبعه ثم سأل بجهل.
بس أنا مالي بالموضوع؟

معندكش فكرة عن مين ممكن يقتله؟
عقف حاجبيه وتصنع التفكير ثم قال بعملية.
لا خالد معندهوش أعداء.
ويعقوب؟
سأل متعجبًا.
يعقوب؟ مين يعقوب ده؟.
وآثر الصمت ومط شفتيه وسبح إلى ذاكرته بحثًا عنهُ حتى وجده وتجلَّت معرفته بقوله بتفاجؤ أمام نظرات وكيل النيابة المتربصة المُدركة لمراوغته جيِّدًا.

اه الولد بتاع الحفلة ماله؟ ده مجرد موظف شايف نفسه مش أكتر، وقصَّ له ماحدث بعدم رضي كأنه يستشيره ليقترح عليه كيفية التصرف معه.
تصور شقط مني المُزة في الحفلة!
ابتسم وكيل النيابة بعصبية وسأله وهو يطرق على المكتب بأنامله.
المزة! حلو كُنت عايز ترتبط بيها ليه؟
أجاب بعملية وهو يضم طرف سترته معًا.
مصالح شخصية مش اكتر لأنها مُهمة لخالد فا قولت أمسك نقطة ضعف ليه بس طارت.

اضطجع وكيل النيابة على كرسيه بأريحية وعقد يديه أمام صدره سائلًا باقتضاب.
وليه عايز تمسك عليه نقطة ضعف؟
حك رقبته وقال بعدم فهم وهو يُعدل جلسته.
لأ ده شغل ودخليات بينا الحُكومة مالهاش إنها تدخل فيها معلش.
ضرب سطح المكتب بقبضته بقوة وهدر بعنف جعله يعقد كلا حاجبيه بانزعاج من حِدة صوته.
عوض يا شكري رُد على الأسئلة واتعدل وانت بتتكلم متنساش نفسك.
طالعه عوض بتعجب ومن ثم هتف بتفهم محادثًا وكيل النيابة.

دلوقتي بس عرِفت ليه اللي شغالين في الحكومة بيموتو ناقصين عُمر، خِف عصبية مش كده يا بيه!
هدر بنفس العصبية والانفعال.
ماشي هخف عصبية إتفضل رُد على السؤال إيه طبيعة الشغل اللي بتجمع بينك وبين خالد.
أجابه عوض بتهكم.
كلكم عارفين طبيعة الشغل اللي بتجمعنا بس مش شايفين غير عوض لمجرد إن اسمي اتذكر مره مرتين شُرطة غريبة!
ضحك وكيل النيابة وردد.
مرة مرتين؟ طيب إحنا ظالمين يا أخي سبنالك إنت العدل ها مين قتل خالد؟

قهقهة عوض وقال بقلة حيلة.
صدقني لو كُنت أعرف كُنت هقول!
زفر بغضب وسأل.
ويعقوب شغال معاكم؟
أجاب بإيجاز
لأ.
لم يأتِه رد فرفع رأسه ونظر إليه ليُباغَت بذلك السؤال الماكر الذي رابهُ وشتته.
يعني مش هو العقرب؟
تعجب عوض في بادئ الأمر وتقلصت ملامحه بشدَّة وكان هذا أوضح تعبير صدر عنهُ منذ أن دخل إلى هُنا ليستطرد وكيل النيابة.
المطوة مرسوم عليها العقرب وعليها بصمات يعقوب.

شرد مطولًا يُفكر بكل تلك الأحداث المتتابعة بريبةٍ مماثلة والشك يمد جُذوره عميقًا داخله، فهذا لم يخطر له قط؟، لطالما كان يعقوب واثقًا يعرف أين يضع قدمه، راسخًا لا ينهزم، لم يبدو يومًا كأنه تابِع إلى خالد، هل جاراه بخطته لكي يقبض على العقرب وهو العقرب وعامله ك أبلة!، وسرعان ما نفذ خطته وقتل خالد ونسب فعلته إلى ياسمين وفعل تلك الضجة ليظل الوحيد القائم في هذا الكار؟!

هبت رياح قوية بعثرت أفكاره وحملتها بعيدًا قرنت بهتاف وكيل النيابة باسمه.
عوض!
ابتسم ومحى التعجب عن معالمه وقال بهدوء.
معرفش أنا بدور على العقرب بقالي فترة ولو كان في اشتباه بيعقوب كان زماني عرِفت عشان كده فِكرة إنه يكون العقرب مُستبعدة.
عندك حاجة تانية هتقولها؟
أجاب بإيجاز.
لأ.
تنهد وطالعه بشك ثم هدر بصوت أسمع من في الخارج.
خدوه من وشي.

ابتسم بتسلية في وجهه مستفزًا إياه كأنه هو المجرم وسار مع الشاويش طواعية دون أي مقاومة تُذكر، وتلاشت وتجهمت ملامحه فور خروجه من الغرفة، وصرَّ على اسنانه متوعدًا بالقتل لكليهما ليس لها فقط.

الفصل التالي
جميع الفصول
روايات الكاتب
روايات مشابهة