قصص و روايات - نوفيلا :

نوفيلا ياسمين للكاتبة هاجر الحبشي الفصل التاسع

نوفيلا ياسمين للكاتبة هاجر الحبشي الفصل التاسع

نوفيلا ياسمين للكاتبة هاجر الحبشي الفصل التاسع

«إنها حواء، إنها الكبرياء، إنها التحدي والأصالة، لن تستطيع مجابهتها، وأن حدث وفعلت، وشعرت بلذة الانتصار! تذكر فقط أنك ستخسر أمام ما لا تقدر على احتماله فيما بعد».

مدللة ومغوية هي تلك الياسمين، تبتسم وتتغنج بدلال وتتمايل بكتفيها المالسان مع انحنائها وتلويها الناعم بذراعيها على أنغام الموسيقى الشرقية وهي تبتسم بروعة أفروديت، كأن العالم أصبح خاوي عدي منها ومن رنين تلك الموسيقى المعزوفة التي تأتي من خلفها.

وصل يعقوب إلى وجهته المحددة بدراجته النارية، ولا ينتوي خيرا البتة، وسيارة سوداء مدججة بالرجال لحقت به لكي يزج بها داخلها بعد إنتزاعها من ذلك المكان القذر!، وكأنه صدق بأنه تعرف عليها من خلال مكتبة وهذا المكان سيلحق بها عيب!

شعر بوخز في خاصرته بينما كان يعدو عدوا لكنه لم يهتم، فكان الامر يبدو كأنه لم يخطو على الأرض بينما كان يمشي، في طريقه إلى الداخل وهو يدفع السكيرين الذين أخروا حركة سيره إثر الترنح أثناء السير بذراعيه، فمنهم من كان يصفع على مؤخرة رأسه، ومنهم من تم ركله بعنفوان أسقطه على وجهه، وقد بدأت بوادر الغضب تظهر وتعصف بثباته وهدوئه النسبي.

توقف عن السير وتيبست ساقه محلها رغما عنه هنيهة عندما أدركها بصره، فتحولت عيناه إلى جذوة جمر مشتعلة، وأحس بدبيب الغضب في قلبه وهو يراها تتمايل على بعد خمسة عشر مترا بسعادة وكأنها لم تتركه خلفها هكذا؟!

زاد غضبا على غضب، وتأججت النيران بين جنبات صدره الملتهب وبدي كوحش هائج مرعبا، وهو يتربص بالرجل الذي صعد يرقص معها ويقذف عليها النقود بأعين حالكة تكاد تحيله إلى رمادا، والأنكى أنها تتجاوب وتمايلت عليه بدلال أنثوي تحضه على إلقاء المزيد والتقرب أكثر، الحثالة.

ضحك الرجل بثمالة وظهرت نواجذه وهو يمدد كفه ببعض الوريقات المالية فئة المئتين، وقام بدسهم داخل صدريتها، اهتاج يعقوب وضم قبضته بقوة واندفع دفعا ساحقا الأرض بخطواته الجحيمية ومن دون سابق إنذار، وأثناء التفاتها شهقت بخضة، وارتدت إلى الخلف عندما انتزع يعقوب الأموال من صدريتها بيد و بالأخري قام بجذب الرجل من شعره بعنف، رافعا رأسه معه كالذبيحة وقبضته تشتد وكاد يقتلعه من منابته مزمجرا بقوة وبدون مقدمات، قام بحشو الأموال داخل فمه وهو يكز على أسنانه و أنامله تزداد قسوة وتعمق داخل فم الرجل حتى كاد يتقيأ بين يديه، فدفعه على أحد العازفين في الخلف أدى إلى سقوطه من فوق كرسيه وإستقرا الإثنين معا في الأرض.

توقف عزف الموسيقى، وهدأت الأجواء، وعلت وتيرة الهمهمات المنزعجة المتذمرة، فكانت كدوي النحل بسبب توقف تلك المتعة البصرية.
كادت ياسمين تركض مبتعدة جازعة بسبب نظره المستوقف التي حدجها بها وأفاضت بالكثير، لكنها خشيت أن يجذبها من شعرها كما فعل مع الرجل، فظلت ثابتة كالتمثال بثوب الرقص العاري.

لم ينتظر أكثر من هذا وقام بالقبض على ساعدها بقوة وسحبها جبرا، وسار بها إلى الخارج يجرها خلفه كالسارق، لأنها سرقت قلبه بالفعل واختفت.
لكن حال بينه وبين الخروج تدخل الحراس، وقبل أن يضايق نفسه أو يتطاول بيده كان رجاله قد بدأوا بالتوافد وفتحوا الطريق إليه.
يعقوب إيدي بتوجعني سيبني!

هتفت بألم وهي تجذب ذراعها من قبضته لكنه أعجزها بقوته، وكأنه لم يسمعها أستمر يجرها خلفه دون ترفق حتى بقدمها، فأي قدم مصابة هذه التي سترقص بها بهذا الشكل؟ تلك المخادعة!
فتح باب السيارة ودفعها للداخل بعنف كادت رأسها تصطدم بسقفها، ثم صفعه خلفها بقوة وصرخ باسم الحارس كي يأتي للقيادة وأخبره بمكان توقفه، أمام أي متجر يخص الملابس كي تنزع تلك القمامة، واستقل دراجته وذهب خلفهما.

توقف بعد نصف ساعة أمام أحد المتاجر وولج إلى الداخل، خرج بعد دقائق معدودة يحمل حقيبة بها ملابس.
بينما في السيارة، تلفتت حولها بضجر بسبب توقفه في الطريق عاقدة اليد أمام صدرها عازمة على الانفجار والصراخ به إن رأته ماثل أمامها الآن، ستفتك به بالمعني الحرفي، لكن لن تكذب إنها سعيدة برؤيته ومتلذذه بهذا السحل،
وقد انتعش قلبها بعد يومين من الهدوء المثير للإكتئاب.

فتح باب السيارة، وانحني بنصفه العلوي في المقدمة وأمر السائق باقتضاب.
أقفل الشبابيك دي وأخرج من العربية.
أذعن وأطاع وترجل بعد أن فعل ما أنيط له، تحت أنظار ياسمين المترقبه وليتها لم تفعل وتترقب بكل هذا الشغف فلقد قذف الحقيبة بوجهها بقوة مؤلمة وأمرها بحدة ناقمة.
غيري القرف ده والبسي بسرعة.

وانتصب بجسدة وصفق الباب أغلقه وظل منتظرا في الخارج، وهي تشتمه في الداخل بينما تبدل ثيابها، انتهت في وقت قياسي لكنها لم تخبره، بل ظلت جالسة تراقب أظافرها المطلية بمتعة وهي تضجع بأريحية على المقعد الخلفي تارة، وتارة أخرى كانت تحدق في المرآة الأمامية وترتب غرتها المشعة بابتسامة تشبه خاصة آريس، هو لا يريد الابتعاد وتركها فلا يلومها فيما بعد!

ملت الوحدة بعد نصف ساعة، مضت عليها وحدها في الداخل كي تتركه يحترق من الغيظ في الخارج ورغك هذا لم يقتحم السيارة، بادرت هي بالخروج وقامت بفتح السيارة، وترجلت وأسندت ذراعها فوق الباب وسلطت بصرها عليه في الجهة المقابلة وهي تميل برأسها بدلال، مبتسمة بنعومة وهي تسبل جفنيها.
اختلج ذلك الثائر في يسار صدره وبدأ يخفق في عنف، إنها المرة الأولي التي يراها بهذا القدر من الجمال رغم بساطة الملابس! ما الخطب؟

مش هنمشي؟
أخرجته من رحلته المتأملة في وجهها بسؤالها المقتضب.
حرك رأسه وكاد يتحدث لكنها تعمدت تجاهله وصعدت إلى السيارة وصفقت الباب خلفها بقوة، أخبرته من خلالها أن ما فعله معها لن يمر وسيكون هناك حساب، أو شجارا أيهما أقرب؟!

اختلج فكه وضم قبضته وهو يحملق في السيارة بوجوم، دون رؤيتها لكنها هي من رأته من الداخل عبر النافذة وكم كانت منتشية متلذذة بغضبه، حتى أنها بعثت إليه قبلة في الهواء وهي تضحك وتضم كتفيها معا بلطف. ، فكانت ترتدي قميص كريمي بسيط أدخلته داخل بنطالها البني خامة الجينز الذي زينه حزام جلدي بني أنيق، وفي قدمها كانت ترتدي حذاء رقيق كريمي.

كان الطريق طويل وممل على كليهما!، كان تواق إلى العودة مضاعفا سرعته، وهي كانت تفكر فيما سيحدث عندما يصلان، كيف تهرب من براثنه دون ضرر!
بعد ساعة تقريبا، من الشرود، وسباحة الأفكار، وتخيل موتها بأبشع الطرق على يديه، خنقا تارة، وضربا حتى الموت تارة أخرى، وتمزيق الكلاب جسدها لأشلاء، كمد وجهها وشحب، وفي خضم تلك التخيلات المخيفة كانت السيارة تصف جانبا لأنهم وصلوا بالفعل.

سارعت بالترجل بعد توقف السيارة مباشرة، مهرولة إلى الأعلى باندفاع لاهثة كي لايتسنى لهما المقابلة وخوض أي نوع من الحديث، لكنها تحلم لأنه ترجل بملامح صخرية، وصعد خلفها بغضب موشكا على الانفجار فحان الآن وقت الحساب.
كانت تقف تحدق في الحديقة المهملة عبر النافذة تولي ظهرها إلى ذلك الذي صفق باب الغرفة رج أركان المزرعة بعنف كاد يكسره.

انتفض جسدها واستدارت على عقبيها وهي تحرك شفتيها للصراخ، لكن بلعت مابجوفها واهتزت مقلتيها بخوف عندما سحبها من ياقتها بيديه الاثنتين كاللص الذي أمسك بالجرم المشهود، منتزعا إياها من مكانها لتستقر أمامه وجها لوجه، طافحا بالقسوة عبر سؤاله بغضب سافر.
إيه اللي إنت عملتيه ده؟
كان ما يدور بذهنها سؤالا واحد فقط وهي تنظر إليه، متى إقترب كل هذا والباب صفع من برهة!

طرفت بأهدابها ببطء وإعتلي ثغرها إبتسامة ناعمة وأجابت برقة مستفزة إياه أيما إستفزاز وهي ترفع ذراعيها وعقدتهما معا أمام صدرها رغم وضعها.
عملت إيه يعني؟ مشيت زي أي حد ما بيمشي!
شدد قبضته على ياقتها مقربا جسدها منه، حتى أن أنفاسه أصبحت تلفح صفحتي وجهها وهو يهدر من بين أسنانه بشدة.
ومين سمحلك ب كده؟
رفعت حاجبها الأيسر بتحدي وقالت بنزق.

أنا سمحت لنفسي، وبعدين مش إنت مش طايقني ولا عايزني؟ قلت اريحك مني، ها مفيش شكرا يا يعقوبي؟!
كز على أسنانه وحذرها بنبرة متبلدة أثلجت أطرافها.
ولو اتقبض عليك دلوقتي كنتي هتعملي إيه؟
أسبلت جفنيها وقالت مبتسمة وجهها يزيد إشراقا كأنه ألقي عليها جملة غزل مغذية لأنوثتها أرهفت سمعها، مع هزة بسيطة من رأسها متضامنة لكل كلمة تنطق بها.

على فكرة أنا مش خايفة منك ولا من الجعجعة وحلاوة صوتك العالي، ولما يتقبض عليا هشيل شيلتي متخافش مش هعيط وأقولك الحقني!
وتوقفت متأملة لثوان معدودة وهي ترفع حاجبها بشك كأنه أصبح كتابا مفتوحا لديها، ثم ضيقت عينيها ومطت شفتيها وقالت بنبرة واثقة وهي ترتكز بعيناها داخل عمق عينيه القاتمة التي تزداد سوداوية كلما حركت شفتيها المطلية بالحمرة القانية للحديث.
إعترف يا يعقوب إعترف وريح نفسك.

أبعد يداه وحرر إياها وتمتم بعدم فهم واستنكار.
أعترف؟!
أجابت بثقة وهي ترفع رأسها بشموخ وصرحت بما ينكره، متحدية متشفية وهي تعدل ياقتها كأنها تخبره أن ينكر إن إستطاع.
أعترف إنك بتحبني وكنت هتتجنن عليا اليومين اللي فاتو، حتى إن النوم معرفش طريق ليك! إعترف يا يعقوب وبطل تكابر إعترف.

زمجر بغضب جامح واجتذبها من ياقتها بإهمال أدى إلى وقوع أحد أزراره العلوية فظهرت بشرتها الناصعة أكثر، وهزها بين يديه بعنف مهسهس.
قولتلك متديش لنفسك أكبر من حجمك عشان متتعبيش! كلاب السكك كتير وأنا عمري ما هسمح لحد غيري يأذيك.
ضحكت بقرف وقالت بتهكم وهي تصفع يده.
تقصد كلب! كويس انك عارف انك كلب.

تأجج الغضب داخله وقبض على فكها بعنف هادرا بخطورة وعينيه تومض ب شر دون أن تحيد عن عيناها المشتعلة بغضب مستعر وخصلاتها الحريرية مبعثرة حول وجهها.
لسانك طول وهقطعهولك.
ردت بإبتسامة باردة تواري خلفها تألمها بفعل قبضته القاسية.
مش قبل ما اقطع رقبتك!
ضحك بسخرية وسأل باستخفاف وهو يدفع جبهتها بكفه بحركة مستفزة تثير الغضب.
ده إنت احلويتي وطلعلك صوت؟

ردت من بين أسنانها باندفاع وهي تعتصر قبضتها وتراشقت معه نظرات مزدرية، دون أن تحدد ردها على أي كلمة.
طول عمري.
سأل بحاجبين مرفوعين والبسمة تشق تصلب شفتيه.
طول عمرك إيه؟
ازدردت ريقها، وقالت بزعيق تواري بلاهة كلمتها المندفعة خلفه.
طول عمري جميلة، نعم ايييه!
أنهت قولها ممتعضة وابتعدت عنه بخطوات عديدة وعادت تحدق من النافذة بإحباط والحزن يغمرها، بينما هو تخصر خلفها وتابع الكز على أسنانه.

لقد كانت طامعة بعناق دافئ، دافئ، دافئ، ظلت تردد تلك الكلمة في رأسها أصابتها بهستيريا ضاحكة وهي توليه ظهرها! هل تتوقع أن تحصل على عناق دافئ منه هو!، هل تظن أنها وقعت مع رشدي أباظة أم عمرو الشريف! يا إلهي أحيانا تشفق على الأنثي المدفونة داخلها.
لايعرف مالذي يجعله هادء ورزينا معها بتلك الطريقة، دون أن يعلمها بعضا من آداب الحديث معه هو تحديدا؟!

دس يديه داخل جيب بنطاله ووقف يطالع ظهرها الذي يهتز بتذبذب بسبب ضحكها المكتوم الجاهل سببه، تلك التافهة يبغضها، قليلا فقط.
استدارت فجأة فأشاح عينيه عنها سريعا، وحك منحدر أنفه بارتباك نجح في اخفائه وهو يحمحم، لتسأله بلطف وهي تتقدم منه.
هناكل إيه يا يعقوب أنا جعانة!
رد عليها بجفاء.
معرفش انزلى اعملي لنفسك.
وعقب قوله بسيره إلى الخارج وصفق الباب خلفه بنفس عنف ولوجه.

غمغمت مقلدة صوته الغليظ بسخط وهي تلوح بيدها.
معرفش انزلي اعملي لنفسك نينينينينينني أبو دمك سم.
وراقصت كلا حاجبيها واستطردت بعبث.
بس قمر.
بينما في الأسفل..
كان يقلب في المطبخ بضجر، يبحث عن طعام لكي يطهو، لكن للأسف الثلاجة كانت فارغة، فمن يومين لم يلقي بالا بما حوله، بل كان مشتت يكاد يفقد صوابه بسبب اختفائها.

تنهد بضيق وتأفف، وكاد يهتف باسم الحارس صارخا، لكن تقلصت ملامحه بألم وأطلق تأوها قويا وهو ينحني مستندا على الحاجز الرخامي بكفه، والأخر كان يعتصر خصره من الألم وهو يحاول تذكر أين وضع الحبوب المسكنة.

خرج من المطبخ وجبينه بدأ يتفصد عرقا بغزارة بينما داخله يرتجف وأطرافه متثلجة، والرؤية تتشوش لديه أكثر فأكثر، فتح درج الخان بأنامل مرتجفة وهو يكتم أهاته لكنه لم يجده، استدار بمشقة كمن يحمل ساقه ونظر في أرجاء غرفة الجلوس بزيغ عله وضعها هنا أو هناك لكن نسبة حدوث هذا كانت ضئيلة فهو لايذكر أنه أستخدمها.

سقط على ركبتيه بضعف مستسلما لذلك الوجع الفتاك صارخا بألم، تزامن مع نزول ياسمين على الدرج بتبختر في رحلة بحثها عن الطعام.
تبخرت ابتسامتها كتبخر الدخان عندما أدركه بصرها، واختض قلبها وشهقت بخوف وهرعت إليه سريعا بجذع، ونزلت السلم ركضا، درجتين فدرجتين.
جثت على ركبتيها أمامه ورفعت رأسه على فخذها سائلة بهستيريا وهي تراقب حالته بفزع.
فين الدوا يا يعقوب! فين الدوا؟

تلوى ألما واحتقن وجهه بحمرة شديدة كشخص يختنق، أرعبها وصوته يكاد يسبب لها طنين، فتركته ووضعت رأسه أرضا برفق وبحثت عن الدواء في غرفة الجلوس بأعصاب تالفة، بين وسادات الأرائك قالبة كل شيئا رأسا على عقب، وصراخه يخترق أذنيها يكويها كيا ويعتصر قلبها بطريقة مخزية لأنها عاجزة عن مساعدته.

صرخت بجنون وركلت حافة الطاولة بقدمها وخللت أناملها داخل شعرها بفقدان صواب وصدرها يعلو بعنف، وطفرت عيناها بالدموع وهي تنظر حولها بزيغ وصوته المتألم لا يتوقف عن نخر عظامها، ركضت إلى الخان وبحثت داخل أدراجه فلم تجد، وسارعت بالبحث داخل المطبخ بهمجية وهي تصفع الضلف وتركل الأواني بعصبية فلم تجد كذلك.
عادت إليه ركضا وجثت أمامه وتوسلت إليه بشفتين مرتعشتين وعيناها تفيض من الدمع.
يعقوب فين الدوا شلته فين؟

همس بتقطع وجسدة يتشنج والألم ينتشر أسفل ظهره وكلا خصره.
مش، ف، اكر.
ثنيت قدميها أسفلها وضمت رأسه إلى صدرها وهي تشهق وعيناها تجيب الغرفة بفقدان أمل، هل انتهى أمره وسيموت الآن بتلك الطريقة؟
شددت قبضتها حوله أكثر بقوة، وأسندت وجنتها على جبهته وهي تنتحب وتهتز به كأنه سيهدأ بتلك الطريقة، وصرخت بالحراس تستنجد بهم لكنهم كانوا أبعد من سماعها.

أخذ جسده في الرجيج وتقيأ وأخذ جفنيه في الاهتزاز بقوة، وقلبت مقلتيه حتى ظهرت صلبة العين، فانقبض قلبها وظنت أنها نهايته وستكون بين يديها اليوم، لكنها لا تعرف كيف لمحت انتفاخ جيب بنطاله الأمامي، فتوقفت عن الحركة لوهلة وامتدت يدها دون تفكير بأعين متسعة تري ما هذا ولم يخيب أملها عندما وجدتها علبة الدواء.

فتحتها سريعا ودست الحبوب في فمه بسرعة، فبلع واحده وسحق واحده أسفل أسنانه وبدأ الألم يخف ويزول تدريجيا وهي تضمه وتمسح على وجهه بكفها بحنان ودمعاتها تنهمر وتتساقط عليه بخوف، دون أن تدرك وقع تصرفها الغاية في الانسانية والحب هذا على قلبه الذي اهتاج وأخذ بالخفقان بقوة، ولا الذهول الذي أصابه يبسه عندما قبلت جبهته ووجنته بحنان بالغ مستمرة بإبعاد شعره إلى الخلف بنعومة كطفل رقيق هش مهتزة به بخفة، وهي تحكم الحصار حول كتفه تلفه بحنانها غير مكترثة بملابسها التي اتسخت أو صورتها أمامه عندما يعود للسخرية منها، كان هو إهتمامها الأوحد، وسلامته تأتي في المقدمة، فأحس بتلك الحالة الغريبة التي ألمت بفؤاده.

تحركت كي تأتي بمياه لكي يرتوي، لكن قبضته التي التفت حول خصرها ورأسه التي استقرت على صدرها واستكان حالت قيامها، وقد إعترف الآن وبكل جوارحه صارخا بداخله أنه يحب تلك الفتاة، الإعتراف الذي لن ينطق به يوما.

فشتان بين تصرفها الآن وتصرفها عند نوبته الأولي وسحقها للحبوب وبصقها فوقها، فهذا تصرف عجيب من قبلها لشخص بوهيمي كان يؤذيها طوال الوقت!، متأكد أنها تحمل مشاعر حقيقية إليه، حتى إن كانت مخادعة وكاذبة لكن أحيانا بعض الكذب يتوارى خلفه صدق خالص.

بعد نصف ساعة..
بعد أن لملم شتات نفسه، واعتدل جالسا واتكئ بظهره على الأريكة، يحدق في العدم وخصره ينبض بألم طفيف يتلاشي مع الوقت، وهي استقرت بجانبه تضم ركبتيها إلى صدرها وجسدها مازال يهتز إثر البكاء بوجة خوخي ذابل، شاردة في تلك اللحظات المرعبة، فكانا مثلهما كمثل من فعل الخطيئة وينتظران أن يبادر أحدهما بالحديث.
قطع الصمت سؤالها بصوت مبحوح متأثر دون أن تنظر إليه.
ليه مش بتعمل العملية؟

طال صمته قبل أن يقرر الإجابة بصدق، عوضا عن إحراجها لكي لا تتدخل فيما لا يعنيها، فلو كان بظرف آخر لكان عنفها بالتأكيد.
بخاف.
كانت إجابة غير متوقعة تستدعي السخرية، فكان متوقع السخرية وكان ينتظرها لكنها فاجئته للمرة الثانية على التوالى بقولها المترفق الحاني.
بس لازم تعملها عشان كده خطر على حياتك!

لكل شخص منا مخاوفه الخاصة في هذه الحياة، الكاذب فقط من يتصنع الشجاعة طوال الوقت ويدعي أنه لا يخاف شيء، فهنا فقط تكمن مخاوفه أن يكتشف أحدهم أنه يخاف!
لم يجد إجابه ولا يمتلك واحدة والحقيقة أنه لايهمه، فالموت يلازمه طوال الوقت، يعيش كل يوم منتظرا الموت برصاصة طائشة، أو رصاصة غدر أيا يكن، فحياته على كف عفريت كما يقولون.

علمت أنه لن يجيب فآثرت الصمت مثله لدقائق، مرت عليهما كدهور دون أن يجد أحدهما ما يقال.
رنين هاتفه الملقي في غرفة الجلوس بعيدا صدح نبه كليهما، حدقا به بصمت حتى توقف عن الاهتزاز واستقر لكن أضاء وعاد رنينه المزعج يملأ المكان.
هو لم يستعد للتحرك بعد وهي أحست بهذا، فوقفت واتجهت صوب الهاتف والتقطته لأجله فكان المتصل خالد.
جلست بجانبه على ركبتيها، ووضعت الهاتف على أذنه وظلت حاملة له أثناء حديثه.

فينك يا يعقوب؟ من يومين بحاول اكلمك؟!
سأله خالد بانزعاج جلي والشك بدأ يساوره، ليأتيه اجابته بهدوء ممازحا.
مفيش يا باشا المزرعة جوها حلو بس الشبكة مش حلوة خالص، في جديد؟!
ضحك خالد مجلجلا، كأنه سمع نكته شديدة الفكاهة جعلت من يعقوب يقلب عينيه، وياسمين كانت تخفض رأسها متجهمة، يستمعان لبقية الحديث.
تقدر ترجع دلوقتي الموضوع إتلم ومفيش أي مشاكل.
أومأ بتفهم وقال بهدوء.
بكره هكون عندك.

همهم خالد وبدي عليه التفكير العميق قبل أن يصل رده الجامد إلى يعقوب.
كلمني قبل ما تسيب المزرعة.
عقف يعقوب كلا حاجبيه بتعجب، ورفعت ياسمين رأسها وحدقت في الهاتف بتركيز، بل واقتربت حتى تلاصق كتفيهما ومالت على أذنه بجانب الهاتف تستمع.
في حاجة؟
أجابه بهدوء وهو ينفث دخان سيجارته.
لما تكلمني هتعرف سلام.

أنزلت الهاتف وأغلقته بحيرة وظلت شاردة غير منتبه إلى تقارب وجهيهما الوشيك وتحديقه الطويل إليها بإبتسامة غير عادية.
هزت رأسها بتيه وابعدت تلك الأفكار عنها، لتنتبه إلى ابتسامته وهدوء ملامحه الغير مسبوق! وما كان لها سوي أن تبادله ابتسامته بأخري ناعمة أكثر حيوية مفعمة بالمشاعر ويدها تمتد إلى وجنته سائلة بلطف.
بقيت أحسن؟

أومأ بهدوء، ووضع كفه فوق كفها وطبع قبلة رقيقة خاطفة على باطن كفها حملت بطياتها الكثير، دبت القشعريرة في أوصالها واهتزت مقلتيها وارتجف ذراعها وجذبت كفها منه ببطء ورفق لكن أنامله أشتدت عليها، أدت إلى رفع بصرها إليه بعدم فهم لتقرأ رجائه الغير منطوق داخل عينيه كي تبقى!، ولكن أين تبقي ما الفائدة من جلوسها معه وهو صامتا مبهما طوال الوقت؟

عرف حيرتها وكان رده بأن امتد كفه إلى مؤخره رأسها مغلغلا أنامله بين سلاسل شعرها وسحبها إلى رحاب صدره لكي تستكين عليه.

إنها تحلم هذا ليس يعقوب؟ إنه أحمد رمزي، ضحكت داخليا وأغمضت عينيها لحظات تنعم بهذا الهدوء، وحركت رأسها بنعومة فوق صدره المعضل متنهده بسعادة و اضطراب، تستشعر ملمسه أسفل رأسها لأنها لا تستوعب، ثم رفعت يدها في تردد واراحتها على قلبه ف تم لكم راحة يدها بقوة، فضحكت بنعومة وأحاطت خصره بيدها الأخري بحرية واستكانت صامته سعيدة ويكاد قلبها يتوقف من الفرحة.

همست بخفوت وهي تمسد صدره برقة والحزن بدي في نبرتها رغما عنها.
وبعدين يا يعقوب؟
تحركت أنامله في شعرها بنعومة وهمس بترجي وهو يخفض رأسه على شعرها.
نص ساعة خليك نص ساعة.
أومأت بخفة واستعمر الحزن قلبها وهي تحرك وجنتها ضد صدره لأنها تعرف أن هذا لن يدوم طويلا، بينما هو أخفض رأسه ومرغ أنفه في شعرها مغمض العينين باستمتاع يملأ رئتيه برائحة النعناع في شعرها، فمعه زهرة الياسمين نفسها فكيف لن تكون ذكية الرائحة.

لم تعرف كم مر عليها من الوقت تنعم بدفء أحضانه بذهن صافي ولو تلك الدقائق فقط، ثم رفعت رأسها تنظر إليه بحب وعيناها الناعسة لا تحيدان عنه والعاطفة تتقافز داخل مقلتيها، فحرك إبهامه على وجنتها بنعومة وهو يبتسم بحنو إزاء فيض مشاعره، لتطلب بتوسل هامسة وهي تحرك وجنتها بتجاوب معه.
يومين يا يعقوب، يومين بس خلينا كده.

يومين فقط سوف تحيا بهما كيفما تشاء، وبالطريقة التي تريد، دون قيود وتفكير بما يتعبها، يومين ستحرص على أن كليهما بكل تفاصليهما بسعادة كأنهما أخر أيام حياتها، لأنها لا تضمن أن تجد فرصة أخري.

أومأ بتيه وانامله تأخذ طريقها إلى شفتها السفلية يتحسسها ببطء مغري مثير وهو يزدرد ريقه، وثباته يهتز أمامها وحصونه تنهدم على مهل، منتقلا بنظراته بين شفتها التي لا يطيق ذرعا حتى يتذوق شهدها، وعينيها الناعسة وهو يميل برأسه يقتنص قبلة طال انتظارها بشغف قوي، جعلها تغمض عينيها بخدر سار في أنحاء جسدها مسببا إليها قشعريرة مذبذبة لذيذة جعلتها ترفع كفها وتريحة على وجنته متجاوبة معه بتناغم يحسدان عليه، ويديه تحيطها بتملك وهو يميل بها إلى الخلف حتى لامس ظهرها الأرض، ويدها إلتفت حول رقبته في حميمية، وظلا يتبادلان القبلات المحمومة المدججة بالمشاعر المكبوتة.

لم يتوقع أن يتمادى معها للحد الذي يجعله يفقدها عذريتها، هو لم يكن متأكد من الأساس إن كانت عذراء لكنها لم تترك له مجال للشك الآن.
فهو لم يشعر بنفسه سوي وهو يحملها وصعد بها إلى غرفة النوم وانتهى بهما المطاف في الفراش معا، مرت عليهما بعض الساعات القليلة التي دمغت في الأذهان، وتوجت في ربوع الذكريات، ووشمت في القلوب.

حرك رأسه إلى الجانب ببطء ينظر إليها بحيرة أثناء استغراقها في النوم وشعرها متناثر حول وجهها المتورد، يفترش الوسادة بجانبها وبداية كتفيها العاري، فهذه الناعمة المدللة التي أخبرته أنها تحبه وأفاضت بالكثير من الكلمات المعسولة و أغرقته بعاطفتها الجياشة، مضيفة أنها أصبحت زوجته حتى إن لم يعرف أحدا يكفي هما، مختلفة عن الأخري، مفتعلة المشاكل، لاذعة اللسان، قليلة الذوق، و كثيرة الوقاحة.

فماذا هو بفاعل معها الآن؟ لقد سبق وكانت لديه علاقتين فاشلتين، لكنه لم يصل مع إحداهما إلى هذا الحد الذي يوقع عليه عبء فعلته معها! إنها الأولى التي يلمسها، والأولى التي رغب بلمسها بشدة.
هل العقد العرفي يكفي لخوض علاقة كهذه؟!

زفر بقوة واحتجز تلك الأفكار المؤرقة في رأسه لوقت محدد حتى يعود إليها فيما بعد، وصب تركيزه الآن على قطعة البان كيك الناعمة المشبعة بالعسل التي تغفى بجانبه، شعلة النيران المتوهجة التي تحرقه متسببة في ذوبانه كأمس.

تنهد ورفع ذراعه يداعب وجنتها بظهر يده بحنان دون أن يقاوم شفتها التوتية المكتنزة حد الإثارة، فمال وسرق عدة قبلات ناعمة لنفسه ثم أحاطها بتملك وأراح رأسه على صدرها يستمع لنبضات قلبها الهادئ، متابعا وتيرة تنفسها المنتظم، وهمهمتها التي تطلقها بين الفنية والأخرى ك ترنيمة سلام.
سلام، سلام، لو يدوم فقط وتتشابه الأيام لكان خيرا..

الفصل التالي
جميع الفصول
روايات الكاتب
روايات مشابهة