قصص و روايات - نوفيلا :

نوفيلا نوتفكيشن للكاتبة دينا ابراهيم الفصل العاشر

نوفيلا نوتفكيشن للكاتبة دينا ابراهيم الفصل العاشر

نوفيلا نوتفكيشن للكاتبة دينا ابراهيم الفصل العاشر

بعد مرور أسبوعان، غرقت فيهما ميرا في الأجواء التي هيأها لها زيدان وأصدقائه التي صارت تتعلق بسيداتهن كثيرًا بشكل سريع لا تصدقه، فقد صارت تتحدث معهم من بداية اليوم حتى نهايته في متعة غريبة لذيذة لم تتذوق حلاوتها مع اصدقاءها يومًا.
تنهدت في صمت حزينة على عدم ظهور أيًا من أصدقائها وسيطر عليها مشاعر الخذلان والاحراج وهي تستكشف قيمتها الشبة منعدمة لديهم.

فلم يتعب أحدهم نفسه للمرور عليها والتساؤل عن سبب غيابها أو سبب حجبها لهم في مواقع التواصل الاجتماعية وكأنهم سعيدون راضون عن تبخرها من حياتهم.
حركت رأسها تنفض أفكارها السوداوية الحزينة ووقفت تكمل ارتداء الفستان الكُحلي الذي أهداها إياه زيدان بالأمس مقررة الذهاب إلي مطعمه الذي صارت تقضي فيه معظم وقتها، رغم انه أخبرها بالراحة في المنزل، بعد اصابتها بالغثيان عقب غداء يوم أمس.

ابتسمت حين انتقلت افكارها نحوه، فهذا المجنون يجبرها على التسوق وشراء الملابس لها كلما كانت حسنة التصرف أو شطوره على حد قوله، والعجيب أنها كانت متوقعة أنه يرغب في إذلالها بإجبارها على التواجد هناك إلا أن كل ما تفعله طول اليوم هو التغنج حول المكان دون العمل بشكل حقيقي، حتى أنه دعا والدتها أكثر من مرة لتناول الغداء وقضاء وقت معهما متعمدًا إحضار أبيه متحججًا ب صلة الرحم، ابتسمت متذكرة كيف ندمه والده على هذه الصلة فوالد زيدان خفيف الظل وكان يتعمد إحراجه بالحكي المتواصل عن طفولته.

عضت شفاها وهي تمرر يدها فوق قماش الثوب القطني تستشعر نعومته فرغم ان الملابس مختلفة عن ذوقها المعتاد فهي لا تحبذ الفساتين التي تلامس نهاية حذائها لأنها في مخيلتها تلقي الضوء على قصر قامتها كما أنها تفضل الاثواب بلا اكمام أو بأكمام قصيرة عكس ذوقه الذي يميل للأكمام المغطية على الأقل ثلثي ذراعها، إلا انها تكون سعيدة للغاية حين ترتدي منها فهذا يعني يومًا كامل من المديح والكلام المعسول الذي يلقيه على مسامعها وكأنه يكافئها على إتباع ارشاداته.

في أعماقها الثائرة هي لا تريد الاعتراف بسعادتها لكن البقاء غاضبة منه درب من دروب المستحيل، فمن يغضب على خفقات قلبه، لن تنكر انها تلقي باللوم عليه كلما اشتد عليها التفكير كل مساء في محاولة لتفسير عدم الاهتمام من أصدقائها لكن هذا اللوم يتلاشى مع كل تفكير وتصرف جديد تتأكد من خلاله صدق كلماته وصواب قراره.

ولا تدري كيف استطاعت في وقت قياسي أن تتحول من الانزعاج والتخبط إلى الحماسة والاندفاع لقضاء يومها داخل عالمها الجديد الذي حاكه هو لها من نسيج عالمه الرائع.

انعقد حاجبيها في تعجب عندما علا صوت جرس الباب فخرجت من افكارها تنادي والدتها والتي على غير العادة أخذت عطلة بلا مرتب من عملها وأصبحا يمضيا وقتًا أكثر سويًا حتى أنهما اشتركا في نادي رياضي معًا بحجة إخراج طاقتهما السلبية بدلًا من إخراجها على أحدهم الاخر.
-هفتح يا ماما اهوه.

ردت على أماني الهاتفة من المطبخ تخبرها بفتح الباب، ثوان قليلة وفتحت للطارق لكنها وقفت متسمرة في مكانها حين رأت ريناد صاحبة الملامح المتجهمة المشعة باللوم.
-اهلا يا ميرا، هدخل ولا هستنى على الباب؟
-لا طبعا اتفضلي.
أخبرتها متلعثمة ثم ابتعدت قليلًا عن الباب سامحة لها بالدخول، خرجت والدتها التي توقفت في منتصف الطريق ثم أخذت تتفحص ريناد في غموض قائلة:
-ريناد، غريبة بقالي كتير ما شوفتكيش.

-سوري يا طنط انشغلت.
لم يفت على ميرا كيف رمتها ريناد بنظرة معاتبة في المنتصف لكنها وقفت كالتائهة لا تدري كيف تتصرف فلم تكن المواجهة في الحسبان، حسمت ريناد الوضع بقولها:
-كنت محتاجة أتكلم مع ميرا شوية.
صمتت ناظرة نحو ميرا التي بللت شفتيها ثم اشارت نحو غرفتها قائلة:
-اتفضلي.
دخلا معًا تحت عيون والدتها الثاقبة التي ركضت نحو الغرفة الخاصة بها تسحب هاتفها تجري اتصالًا هامًا:.

-ألو، لازم تيجي بسرعة، ريناد هنا وطلبت تكلمها لوحدها.
صمتت تستمع إلى الجانب الأخر ثم هزت رأسها تخبره:
-حاضر هحاول، أرجوك بسرعة.

داخل جدران الغرفة لم تضيع ريناد الوقت وبدأت في جلدها دون انتظار:
-متشكرة على البلوك، مكنتش متخيله ان دي قيمتنا عندك.
-وأنتوا لسه فاكرين تلموني.
تمتمت متهكمة في نبرة منخفضة تحاول التحلي بالشجاعة لمواجهتها ومواجهة أحزانها، فقالت ريناد مهاجمه حصونها:
-الشلة كلها خدت بالها وكلنا زعلنا عشان الرسالة كانت واضحة.
-رسالة أيه؟
-انك اختارتي زيدان علينا.

عجزت ميرا عن إيجاد ردً مناسب وكل الأحاسيس والغضب المشحون طوال الأسبوعان الماضيان تبخرا أمامها وجعلها تتساءل عن قراراتها وظنونها من جديد، أنقذتها ريناد من الرد حين أكملت في نبرة ماكرة:
-بلاش تخسرينا احنا بنحبك، وعشان نثبتلك انك مهمة أنا جيت بنفسي عشان أخدك ونتجمع سوا من تاني،
احنا مستعدين ننسى تصرفاتك واللي حصل منك ومتأكدين ان زيدان اللي أجبرك.

شعرت ميرا بالتخبط والاضطراب وبأن أنفاسها بدأت تقصر وتثقل، تشعر بمصيرية القرار وأن فيه الاستمرار أو الانتهاء لأنها ببساطه بمرافقتها ستثور ثائرة زيدان ولن يرحمها تلك المرة.
كما ان هناك صوت طفيف داخلها يعلو بكونها ترتكب أكبر أخطاءها بسيرها وراء تعاليم زيدان، وهناك صوت أعلى يصرخ بأنه لم يجبرها وأن من عصر قلبها كان هؤلاء الرفاق وهم بقسوتهم من أخسرها الرهان أمامه.

لا تعرف كم مر عليها الوقت وهي صامتة ولكنها ممتنة ل ريناد التي تركتها غارقة في أفكارها ونقلت اهتمامها إلى مكالمته تدور بينها وبين أحدهم على هاتفها لبضع دقائق ولكنها التفت لها ما أن انتهت محفزة:
-تعالي يا ميرا كلنا مستنينك حتى ليلو مستنياكي عشان تعتذرلك.
كان عقلها مرجوج، كزجاجة فاغرة ألقيت على الطريق فظلت تتدحرج وتتدحرج بحثًا عن الاستقرار والثبات ولكن مُكر الهواء من حولها كام لها بالمرصاد.

غرقت في حيرتها غير قادرة على رفع عيناها عن اصابعها المشبوكة فوق حجرها حتى إنها لم تهتم بفتح الباب أو عن الزائر حين أعلن الجرس عن وصول أحد الزائرين حتى إنها لم تنتبه وتتعجب حين وصل صوت ترحيب والدتها المتبوع بحجة أغرب وأغرب وهي تطلب من أيًا كان الانتظار حتى تنتهي من الاستحمام!

توقف زيدان أمام باب الغرفة بعد أن صارع الزمن والطريق ليصل في هذا الوقت القياسي وأجل سيكون هناك عدة مخالفات تنتظره في إدارة المرور، وما أن تحركت والدتها للاختفاء في الداخل اتجه نحو باب غرفة ميرا ثم رفع كفه يطرق مرتين في هدوء يخالف الغضب الأهوج في صدره.
فتحت ميرا المذهولة من تواجده، فارتفع حاجباه باتهام وهو يطالع هيئتها وملابسها فعلى ما يبدو أنها كانت على وشك الخروج.

انتقلت عيناه الجاحظة فورًا إلى ريناد من خلفها ساخرًا:
-واضح إني وصلت في الوقت المناسب.
دفع ميرا للداخل، وانضم لهما مغلقًا الباب خلفه ثم أكمل في نبرته الساخرة:
-ناوين تروحوا مكان؟
التوى فم ريناد في غرور تحاول اخفاء ارتباكها من حضوره الغير متوقع، فهاجمت في لا مبالاة:
-أيوة رايحين.

جلس فوق مقعد مكتبها وكأنه يمتلك الغرفة ثم حرك أصبعه مشيرًا لميرا بالاقتراب تحت انظار ريناد وكأنه يوثق ملكيته عليها، فشعرت ميرا بالذعر وكأنها كانت على وشك ارتكاب جريمة شنعاء، دائمًا ما تحيطها لفحة من الارتباك أمامه وكأنها طفلة مدللة على وشك تلقي العقاب من أبيها.
تعلقت أسنانها بطرف فمها في توتر واتخذت خطوتين مقتربة منه قبل أن يسألها في كامل هدوءه الغامض:
-عايزة تروحي معاها؟

حركت رأسها لليسار واليمين نافية مرات عدة دون تفكير بينما تجيبه:
-لا مكنتش.
انشقت على وجهه ابتسامة ماكرة أثناء تعلق عيناه ب ريناد التي على وشك الانفجار من الغضب، كانت ابتسامته كريهة تحمل مشاعره القبيحة نحوها ثم استطرد مشيرًا جواره في نبرة آمره لا تتحمل النقاش:
-أقعدي يا ميرا، عشان في موضوع مهم ريناد هتقوله ليكي دلوقتي ولا أقول أنا؟

انكمشت ملامح ريناد في ضيق لا تفهم مقصده وتكره هذا الشعور الذي يصاحبها كلما رأت زيدان فهو يجعل مهمتها في التأثير على ميرا شبة مستحيلة وكأنه يضعها تحت التنويم المغناطيسي فتجلس لا ترى ولا تشعر بسواه.

تأففت تقنع ذاتها بأنها لا تخشاه إلا أن نظراته الناعسة دوما ما تثير القلق والرهبة داخلها وتجعلها خائفة من القيام بأي تصرف خاطئ قد ينتج عنه ردًا عنيفًا، رغم انه دوما كان يلتزم الصمت ويحاول عدم الاحتكاك بهم إلا أنها كانت ترى الأحكام القبيحة وعدم الرضا في مقلتيه.

قطعت أفكارها ميرا التي جلست جواره تنظر لها تارة ولزيدان تارة أخرى في حيرة متعجبة من احتمالية وجود أمرً مشتركً بينهما لكنها كسرت الصمت بسؤالها:
-موضوع أيه؟
-أنا أعرف، أسألي جوزك اللي قاعد يصيح من الصبح وأنتي بكل هدوء راضية وساكته،
مش مصدقة الخضوع والعبط اللي وصلتي لي يا ميرا!

جزت على حروفها تلعن في سرها تغير مسار مخططها، فقبل دخول زيدان إلى حياتهم لم تكن لميرا أي تأثير لا بالإيجاب ولا بالسلب بل كانت مهمشة يمكنك تشكيلها كالصلصال في أي اتجاه تريده ولكن مع وجوده فقد أجبر ميرا على إشغال حيز من تفكيرهم لسببين الأول حضوره الطاغي الغير مريح بينهم، والثاني هو ازدياد ضغط رامي عليهم لمساعدته في استدراجها.

-طيب هنجز أنا، عشان مش فاضي لهري صاحبتك، عارفين القلم اللي في ايدي ده بيعمل أيه؟
قاطع زيدان فرصتها في ترتيب أفكارها وهو يجذب قلمًا من مقدمه قميصه، نظرت له ريناد وكأنه فقد عقله تمامًا مجيبة في تهكم:
-يمكن قلم وبكتب بيه وكده،
لا كده كتير مش هقدر استحمل.
فردت ذراعيها في عدم تصديق وهي تهم بالمغادرة فأوقفها زيدان سريعًا بكلماته الصادمة:
-دي كاميرا مراقبة بتسجل صوت وصورة.

غامت عيون ريناد في غموض وهي تتفحصه متسائلة في صمت وقد سرق انتباهها بالكامل، فاستكمل مجيبًا أسئلتها الحائرة:
-كاميرا كنت بسجل بيها كل زياراتي معاكم، وقد أيه أنتم بتقضم وقت لطيف سوا...
ضغط حروفه على وقت لطيف وراقب كيف بدأت نواقيس الخطر تدق في رأس ريناد ثم استكمل باعتياديه وهو يعيده داخل جيبه:
-وأنتم في التقضيه مفيش ياما ارحميني، سُكر تلاقي مخدرات تلاقي و...

صمت لبرهه يرمقها بنظرة خبيثة ثم قال وكأنه يخشى على مشاعرها:
-ولا بلاش أصل لما بعترض على البوس اللي عيني عينك رائف بيتقمص عشان أنتي لا مؤاخذه مراته.
تعمد مط الكلمة الأخيرة في سخرية مشيرًا إلى موقف سابق بينهما، وشاهد في تشفي كيف تبدلت الالوان وتلاحقت فوق وجه ريناد التي ابتلعت القطة لسانها ولم تقدر على الحديث لكنه لم يرأف بها واستكمل في نبرة جدية متحدية:.

-تفتكري لو الفيديوهات دي وصلت لبابا هيعمل أيه يا ريناد، أو أفظع لو وصلت للبوليس أو أبشع لو نشرتها على السوشيال ميديا، هيحصلكم أيه؟
شحب وجه ريناد تمامًا ولكنها حاولت التماسك امامه، قائلة في تلعثم:
-أنت كداب وحتى لو انت مستحيل تشير الفيديوهات دي تعمل لأن ميرا كانت معانا وأنت مستحيل تفضحها.
-ليه متأكدة أوي كده؟
-عشان أنت بتحبها ومش هتأذيها.

مال رأسه لليمين نحو ميرا التي كانت تجلس كتمثال منحوت في عالم الإغريق يسبح حولها هدوء غريب يخالف العاصفة الهوجاء النافرة أسفل سوداويتيها الواسعة.
كانت تطالعه وكأنه كائن غريب لا يمت للبشرية بصله ثم ابتسم ساخرًا لها كأنه يخبرها في صمت:
أتسمعين حتى الشياطين يعلموا بمدى حبك الغائر في قلبي!
تعمد تثبيت عيناه فوق عيون ميرا المرتجفة بينما يصرح:.

-صح أنا عمري ما هأذيها، بس لو بعت الفيديو لأهلك معتقدش الاذية هتكون ليها.
التفت ينظر إلى ريناد وهو ينهي جملته مؤكدًا صدق تهديه وشاهد كيف اتكأت على الفراش خلفها جالسة وهي تخبره في استسلام:
-أنت عايز توصل لأيه؟
-طلبي بسيط جدًا قولي لميرا على اللعبة من البداية وما تحاوليش تماطلي.

ابتلعت ميرا ريقها في صعوبة وهي تعلق نظرها بوجه ريناد منتظره حديثًا سيصدمها بشكل كبير ولم تخذلها توقعاتها حين بدأت حديثها في نبرة جامدة:
-وأنا أيه يضمني إنك مش هتعمل حاجة بعد ما أقولها.
-كلمة ووعد من راجل حر، اعترفي وأبعدي عنها وصدقيني عمري ما هفكر أدور عليكي حتى.
أغمضت جفونها تستجمع قواها وهي تقلب الأمور داخل عقلها ثم فتحت عيونها، زافره في استسلام مسترسلة في الحديث دون النظر إلى ميرا:.

-رامي هو اللي أجبرنا ندخلك في الشلة ونرحب بيكي ونتقبل وجودك وسطنا عشان عايزك،
وهو اللي اتحايل عليا أجي انهارده بعد ما كل الشباب رفضوا يتعاملوا معاكي من تاني وشافوا انك بتعيشي الدور عليهم وخدتي حجم أكبر من حجمك لما عملتي بلوك ليهم.
-عايزني في أيه؟
همست ميرا الغارفة في صدمتها وقد اغرورقت عيونها السوداء بالدموع المكتومة فقلبها مليء بمشاعر مرعبه تضغط فوق مكنونات صدرها.

حدقها زيدان بنظرة مخيفة قائلًا من بين أنفاسه الغاضبة:
-هيكون عايز أيه أكيد مش عايز يفسحك، أسكتي وأسمعيها للأخر.
نظرت ريناد بينهم بارتباك لكنها استكملت:
-كان عايز يخليكي بيكي زي البنات اللي معاه.

ثبتت ميرا نظراتها الحزينة والمحطمة على صديقتها بسبب ما تسمعه منها وفوجئت بالجحود النابع ممن كانت تظنها صديقة لها، وهي تجلس أمامها دون خجل أو الشعور بأي ذنب، فكل ما تفسره في نظراتها هي مشاعر عدم الراحة وكأنها لا ترغب بتضييع وقتها بالبقاء والتحدث أكثر.

حركت رأسها في خيبة أمل على قدرها الأسود وغباءها فلا أحد أحبها يومًا، تزايدت دموعها رغمًا عنها وشعرت باهتزاز عالمها من حولها ثم وجدت نفسها تهتف فيما ظنته صوتًا قوي لكنه خرج ضعيفًا منكسرًا:
-عشان كده كنتي دايمًا بتقنعيني ان انسب حل ليا الارتباط عشان ابقى طبيعية وابعد عن قوقعتي!
كاد يخرج منها نحيب قاتل محمل بعمق قهرها إلا إنه تحشرج في حلقها رعبًا حينما استقام زيدان مزمجرًا في وجهها:.

-إياكي تعيطي وتحزني عشان الكلاب دول.
لم تجيب ريناد أيًا منهم لكنها وجهت بصرها نحو زيدان متعمدة تجاهل ميرا المنهارة، دون إظهار أي نوع من المشاعر الإنسانية سواء شفقة أو اعتذار نحوها، ارتفع جانب فم زيدان في اشمئزاز وتقزز قبل أن يبصق كلماته الحادة ناحيتها:
-أمشي من هنا وإياكم تظهروا في حياتها تاني!

وقفت دون جدال وكأنها تتمنى سماع تلك الحروف للهروب فنهضت فورًا وفي ثوان كانت تغادر المكان، دون أن تعي مدى قسوة انسحابها الصامت وتأثيرة المدوي داخل قلب ميرا المتهتك، تاركة مكانها فراغًا كما كان دومًا.
تحرك زيدان نحو ميرا التي مالت تخفي وجهها بين كفيها دون تصديق لما يدور في حياتها، فجثا أمامها يلامس أناملها لأبعادها عن وجهها هامسًا:
-ميرا.

لكنها قاومت رافضة الافصاح عن وجهها، وانفجرت مجهشه في البكاء، علا صوت بكاءها وشهقاتها وفي ثوان كان صداها يدوي في أرجاء الغرفة وكأن بلمسه منه انكسر الجزع الأخير من مقاومتها وتحملها.

شعر بأن أحدهم اقتلع قلبه من مكانه وأخذ يطعنه طعنًا مع كل أنين باكي يخرج من فمها، سبحت الشفقة داخل عيناه فلا أحد يستحق مثل هذا الخداع والانكسار، فشخص مثلها محب بلا ثمن وكل ما يتمناه الاحتواء لا يستحق أن يتذوق قلبه الخذلان.

أحاط وجهها بكفيه يحثها على الهدوء بهمساته، لكنها فاجأته بالارتماء على صدره ساندة وجهها فوق كتفه، لم يجد في قلبه التمسك بالمبادئ أو التفكير فيما هو خاطئ وصحيح، فمد ذراعه فوق جسدها الباكي يضمها مجبرًا رأسها على الاستقرار أكثر فوق كتفه واستكمال البكاء، ربت عليها في حنو بالغ وبالرغم من سعادته لاكتشافها أمر الحقراء إلا أنه حزين على حالتها وما مرت وستمر به.

ربت على ظهرها رافضًا التراجع عن فعلته الغير لائقة بضمها إليه، ثم همس في نبرته الحانية:
-كفاية عياط واحمدي ربنا انك خرجتي سليمة من بينهم.
ابعدت وجهها الأحمر الملطخ بالدموع عن صدره، مردفه في حزن:
-أنا مش سليمة يا زيدان.
حركت رأسها بالنفي تحاول استعاده انفاسها المتقطعة من كثره بكاءها لتستكمل معبره عن صدمتها الكبيرة:
-أنا مش مصدقه انهم ممكن يعملوا حاجة زي دي، أنا عارفة اني بحبهم أكتر بس متخيلتش.

سحب كفيها يضمهما بين كفيه أمام جسديهما وهو لايزال جاثيًا أمام مقعدها قبل أن يبثها بنظرة مليئة بالعتاب واللوم مؤكدًا:
-أفهمي أنك أغلى من أنك ترضي ببواقي مشاعر، أنتي تستحقي ناس تحبك وتصونك مش ناس تقدمي تنازلات عشان تحافظي عليهم.
-أنت مش فاهم احساسي.
تقطعت جملتها المغطاة بالندم والحزن لكنه أوقف حديثها في صرامة وهو يمسك بأنامله وجهها المبتل:.

-أنا فاهم حاجة واحدة أن كل انسان بيغلط وكل انسان لازم يعيش تجارب فاشلة، لكن الانسان الواعي هو اللي يعترف بغلطه ويتعلم منه ويبدأ من جديد.

ثبت نظراته الودودة فوق نظراتها الحزينة يكاد يفقد صوابه ويميل لتقبيلها معترفًا بعشقه لها حتى ينسى كلاهما الألم، لكنه جذب نفسًا عميقًا لتمالكه رغباته، فما حدث كان حتمي وأمرًا لازم فوجود مثل هؤلاء الأشخاص في حياتها كان سيعيق تغيرها للأفضل، عاد انتباهه نحو ميرا الهامسة:
-لكن هما...
رفض جعلها تكمل حديثها بأن وضع أصبعه فوق فمها مردفًا:.

-خلاص مفيش حاجة أسمها هما، هما موضوع انتهى من حياتك ومن اللحظة دي مش هنتكلم فيه.
خبط سبابته بجانب جبينها متسائلًا في جدية وهو ينتقل ليرفع ذقنها رافضًا هروب عيناها منه:
-أنا هسألك سؤال واحد، ميرا كانت فعلًا سعيدة ومبسوطة وراضية عن نفسها وسطهم؟
دارت عجلة التفكير داخل رأسها الواقف عن العمل وقابلت سؤاله بصمتٍ طويل فتنهد مجيبًا عن سؤاله بشكل واثق:.

-صمتك فيه الإجابة، ما تحزنيش على حد ما يستحقش، أقعدي مع نفسك فكري في الناس اللي بتحبك فعلًا وبتهتم بيكي.
لمعت عيناها السوداء في لحظة بمشاعرها نحوه حتى أنه كاد ينكب كجردل الماء معترفًا بكل مشاعره ولكنه لا يرى حالتها مناسبة لمثل هذا الالتزام العاطفي الآن، وهي تستحق اعترافًا سعيدًا يخلد بينهما.

ارتبك وانحصرت أنفاسه عندما مالت من نفسها تحتضنه مشعله بذلك حواسه، فسعل بخفه لان ضمه لها في البداية كان احتواء معنوي يساعدها على تخطي أسوأ مخاوفها ولم يكن هناك فرصة لتلصص مشاعره.
أما الآن وقد هدأ كلاهما وتحولت كالهلام بين ذراعيه بدأ يشعر بمدى رقة جسدها الصغير وحلاوته المحرمة ضد جسده المتشنج.

رفع ذراعيه يبعدها عنه برفق وقد غزى لون وردي طفيف أذنه ولم يعطها فرصة للتساؤل عن سبب ابعادها، فقال بصوته الخشن المفعم باختلاط مشاعره:
-حاولي تلجئي لمامتك شوية، اديها فرصة يا ميرا وصاحبيها، صدقيني محدش هيتمنالك الخير قدها.
-أنا مش ببعدها يا زيدان بس هي...
-لا يا ميرا متبرريش، خدي الخطوة الأولى أنتي وصدقيني عمرك ما هتندمي.

هزت رأسها موافقة قبل أن تخفض نظراتها لأسفل في صمت فابتسم ابتسامه خفيفة رافعًا رأسها ثم سأل في نبرته المشاكسة:
-أنتي بتاخديني على قد عقلي.
حاولت الابتسام لكنها انتهت بهزة صغيرة من شفتيها وهي تجيبه:
-لا بجد أنا فعلًا محتاجة أرتب كل حاجة في حياتي من جديد وده أكتر وقت هحتاج ماما فيه،
أنا هديها فرصة تاني عشان نفسي أكتر منها.

مرر إبهامه فوق وجنتها دون وعي منه غارقًا في ملامحها الحزينة وود لو يتركها ويقتنص أصدقاءها الواحد تلو الأخر كي يشفي غليله.
بلل شفتيه يحارب سواد أفكاره ثم أخبرها في نبرة خافته:
-أنا هسيبك تهدي وتحكي اللي حصل لمامتك وان شاء الله بكره الصبح هجيلكم،
هتخكيلها بجد يا ميرا اتفقنا.
شدد على كلماته وهو يمسك بنظراتها الغائرة فأكدت هامسة:
-اتفقنا.

غاصت يده في رأسها يعبث بخصلاته قبل أن يستقيم ملوحًا وداعه لها، خرج مغلقًا الباب خلفه ثم جذب نفسً عميقً يؤهله للنصف الأخر من المواجهة.

رفعت أماني وجهها الغارق بعبراتها تطالع زيدان من مجلسها بمنتصف الصالة، فقلبها الحزين لم يسمح لها بالوقوف خلف باب طفلتها وتستمع إلى حالتها دون اقتحامها وافساد الأمر بعد كل هذا التخطيط.
استقامت تقابل زيدان ذو الملامح المنهكة في منتصف الطريق متسائلة في لهفه:
-قدرت تهديها؟
-ايوه بس هي مش محتجاني أنا حاليًا، اللي جاي دورك أنتي وفي ملعبك.

حركت رأسها في صمت كما تفعل أبنتها حين تغلبها المشاعر، ثن أغمضت جفونها تشعر بغصة مريرة تتملكها والذنب ينهش داخلها دون رحمه، فقد سارت خلف الأنانية وقلبها المحطم من زوجها عديم المشاعر واغرقت نفسها في كل أمر قد يليها عن حياتها مهمله بذلك أهم شيء في حياتها، ابنتها الصغيرة الرائعة ذات القلب الذهبي التي فشلت في احتوائها وتغذيه مشاعرها.
انهمرت في بكاءها من جديد فصدح صوت زيدان سارقًا إياها من رثاء الذات:.

-الانهيار والاستسلام مش الحل، حضرتك يا طنط لازم تكوني قوية لأن هو ده الوقت اللي يا تستردي بنتك فيه يا تخسريها للأبد.
-عندك حق.
هزت رأسها في موافقة ثم أمسكت يده تعبر عن امتنانها له:
-أنا مش هقدر أوفيك حقك ولو شكرتك من هنا لنهاية عمري.
قالت وهي تعود بذاكرتها إلى اليوم الذي تواصل فيه زيدان معها والذي أصابه الخوف والهلع حين رفضت ميرا التواصل معه وحاولت إبعاده عنها.

في هذا الوقت كانت في رحلة عمل لكنها قطعت وقتها وهمت عائدة إلى أبنتها متخيله المخاطر التي تجبر زيدان على إفشاء سر خطير كهذا على الهاتف، كما ارعبها حديثه المستمر عن استسلامها المريب لألاعيب أصدقاءها القذرة.
تحمد الله انه نبهها للحياة التي تعيشها ابنتها في غيابها وكيف كادت تغرق في مستنقع كريه مع الأفاعي المحيطين بها.

ستظل شاكرة لزيدان وسعيدة انها واقفت على مخططه بترك زمام الامور له في محاول أخيرة لاستعادة ابنتها، لأنها متأكدة انها لم تكن ستنجح في انتشال ابنتها ابدًا دون إلحاق الضرر بها.
-ادخليلها يا طنط.
بذلك تحرك زيدان للمغادرة ولم يتوقف حتى ركب سيارته وسند رأسه فوق المقعد متنفسًا الصعداء، لا يصدق أن الأمر انتهى، نعم الطريق أمامه صعب وخطير لتخطيه ولكنها بداية العبور في قصتهما.

مرر كفه فوق وجهه مرات متتالية ولأول مرة يشعر بالراحة تكتسي صدره، سعيدًا للغاية ان قراره في إخبار والدتها كان صائبًا فميرا تحتاجها الآن أكثر من أي وقتً مضى.

ولولا خوفه عليها من أصحاب السوء وبقاءها بمفردها في غياب والدتها مع تلك الحرباء التي استمرت في ملئها بالأفكار السوداء نحوه لما كشف خططه، لكنه الآن يشعر بالفخر والسعادة والأمل ينتشران داخل عروقه، فقد انتصر على منبع السرطان المتوغل في حياتها واقتلعه قبل أن ينهش حياتها وحياته معًا.

الفصل التالي
جميع الفصول
روايات الكاتب
روايات مشابهة