قصص و روايات - نوفيلا :

نوفيلا لعبة الهوى للكاتبة زينب محمد الفصل السادس

نوفيلا لعبة الهوى للكاتبة زينب محمد الفصل السادس

نوفيلا لعبة الهوى للكاتبة زينب محمد الفصل السادس

دخل حمزة إلى الكافية في وقت باكر، يحتاج إلى مراجعة بعض الأمور والأوراق المالية قبل الافتتاح الثاني في نهاية الأسبوع، انشغل بضع ساعات في مراجعة الشؤون المالية بالكافية، يرصد الأموال ويقوم بمراجعتها، وتحديدًا ما تبقى في رصيده، فرك جبينه بأصابعه وهو يزفر بضيق بالغ عندما تذكر أمرًا كان يحاول نسيانه حتى تعود إليه روحه التي غادرت بمجرد موافقته على عهدًا خسر بسببه أخلاقه، حتى وإن كانت أسبابه قوية، فهو الآن يشعر بالندم الشديد اتجاه ماضي ود حرقه ليس نسيانه فقط، لعن شهامته التي كانت السبب الأكبر في ضياعه بين أهل الخداع.

حاول مرارًا وتكرارًا أن يبعد تلك الذكرى السيئة بعيدًا عنه في هذه اللحظات، فقلبه مرهق وعقله متجمد، ويكفي ما يشعر به من عذاب ضميره، كأنه تجسد في صورة جلاد ويقوم بمعاقبته كل دقيقة بلا رحمة.

وكالعادة عندما يفشل في نفضها بعيدًا، يعود إليها رافعًا الراية البيضاء، متذكرًا ما حدث منذ ثلاثة أشهر تقريبًا، تدفقت إليه تفاصيل اليوم من بدايته حتى مجيء شهاب له للمرة الثانية ووقوفه مع صديق لهما ثالث يدعى محمود على باب الكافية متحدثين بصوت خافت، أما هو فكان منغمسًا بالتفكير في اتصالاً هدد ما كان يخطط له، تنهد بعمق وهو يغلق عيناه بهدوء ليعود بذاكرته للخلف..

دخل شهاب الكافية من الباب الخارجي بعد انقطاع دام أسبوعان، دخل مهمومًا وكأنه يجر خلفه هزيمته، وجه المبتسم، كان عابسًا، وعيناه كانت تشع غضبًا وحقدًا، أنفاسه كانت كفيلة في إحراق المكان بأكمله، وعقله كان عبارة عن ساحة كبيرة يعم بها ضجيج يؤرقه، لم يعرف لِمَ قادته أفكاره إلى حمزة مجددًا، ولكن يبدو أن هناك مازال بصيص من النور والأمل يصر على إخراجه من تلك القوقعة البائسة التي وقع بها بسبب رقية.

فكر مليًّا بأن يحاول استعطافه ولكن كيف وحمزة تقريبًا أنهى معه في المرة السابقة ذلك الموضوع، ، ترك للدقائق حرية التصرف مع ثبوت تلك الخطة بداخله، تنسج خيوطها وقواعدها بحرية، وبالطبع ترك نفسه لتخيل مكاسبها، ولِمَ لا، همس بها لنفسه مبتسمًا بسخرية، وبدأ في إقناع نفسه بأن الخداع فن، وبالتأكيد ضرره ليس بضرر الانتقام، هو لا يريد الانتقام منها، بل يريد أن يخادعها حتى ينهى تلك الفجوة التي بدأت تتفاقم بينه وبين أيسل، وتواصل على إنذاره بفشل علاقتهما، وهو بالتأكيد لن يتخيل حياته بدونها، ولن يخسر أمام رقية أبدًا.

خرج من أفكاره على رنين هاتفه، فقرر الإيجاب قبل أن يدخل للباب الثاني المؤدي لداخل الكافية..
- ألو.
استمع لصوت أنفاسها الغاضبة قبل أن تجيبه في حدة وغضب:
- أنت عاوز تعصبني يا شهاب، أنت إيه وصلت خلاص للمرحلة دي معايا، مبقتش فارقة معاك!
شدد على خصلات شعره في جنون وهو يقول بعصبية خافتة:
- أنتي عبيطة يا أيسل، أعصبك إيه هو أحنا تقريبًا مش متخاصمين بقالنا أكتر من أسبوع، أنا بقى ضايقتك في إيه.

- في إن حضرتك، عملت كومنتات سخيفة أنت وواحده زميلتك في الشغل وبتهزروا فيها مع بعض على صورتك اللي لسه منزلهاه امبارح، وأنا شفافة ولا كأن ليا لزمه.
ارتفع صوت ضحكه وهو يقول ساخرًا:
- هي لحقتك قالتلك!، والله كنت عارف، عمرها ما تعدي فرصة إلا وتخليكي تكرهني أكتر.
- هي مين دي؟!
تساءلت أيسل في بلاهة...
رد هو في انفعال، أحمر له وجهه، وبرزت عروق يده التي كان يضغط بها فوق هاتفه:.

- رقية أختك، اللي ناوية على كل شر بينا، أصل أنتي هتعرفي منين غير منها وانتي عاملالي بلوك.
قالت أيسل في انفعال مماثل له:
- لا مش هي..
قاطعها هو صارخًا، ولم ينتبه لحمزة ومحمود بالداخل، بل هو كان في حالة أشبه بالجنون وهو يهز رأسه في عنف مجيبًا:
- لا هي يا أيسل، هي السبب في كل حاجة، مش ناوية تجيبها لبر، أنا بكرهها بجد، ياريت تبعد عن حياتنا، علشان زهقت منها..

- أنت بتتكلم كده عن أختي، أنت اتجننت، خلاص بقى نسيب بعض أحسن.
- يبقى أحسن.
قالها ثم أغلق بوجهها الهاتف، كاد أن يدفعه أرضًا، ولكنه تراجع في اللحظة الأخيرة، حينما لمس أحد كتفه من الخلف، التفت بسرعة وهو يتنفس بوتيرة سريعة، فوقعت عيناه على صديقة محمود وملامح وجهه المستفسرة بقلق..
- في حاجة يا شهاب، صوتك كان عالي جدًا.

اندفعت الكلمات على طرف شفتاه ولكنه منعها بأعجوبة وهو يلمح حمزة بطرف عيناه منشغلاً في ألوان الدهان من اللوح الزجاجي..
عاد وهز رأسه في نفي، ليقول بصوت هادئ زائف:
- مفيش، شوية مشاكل بس مع خطيبتي.
ربت محمود فوق كتف شهاب مردفًا برزانة:
- روق وحكم أعصابك، أنت لسه ياما هتشوف.
قال جملته الأخيرة بمزاح، فابتسم شهاب نصف ابتسامة مجاملة، هاتفًا بعدها:
- يلا ندخل لحمزة.

هتف محمود بتردد، ظهر جليًا على ملامحه، وقرأه شهاب بسرعة:
- لا أنا ورايا، مشوار، ادخله أنت.
ظل شهاب ينظر له بضع ثوان، ثم التفت وقبل أن يخطو خطوة واحدة، أوقفه محمود متسائلًا:
- هو أنت في إيه بينك وبين حمزة يا شهاب.
عقله لم يسعفه بأي أفكار قط، فانفعاله قبل قليل جعله في حالة هياج دون تركيز، كل ما خرج من يده، هو أن يجيب في ثبات:
- في إيه مش فاهم، أنا وحمزة زي الفل.

نظف محمود حنجرته من حشرجة سيطرت عليه تمنعه مما وعد به حمزة ألا يتفوه به، ولكن حمزة بأزمة ويجب عليه أن ينصح شهاب من باب الصداقة والأخوة.
- في إيه وصله، إنه يسحب الفلوس اللي كان واخدها منك علشان الكافية، ويدهالك قبل معادها، أنت طلبتها منه ولا إيه!
اتسعت أعين شهاب غير مصدقًا لحساسية حمزة المفرطة في تلك النقطة ليقول:
- لا أنا طبعًا مطلبتهاش منه، أنا عارف كويس إن معادها مجاش.

اقترب محمود منه وهو يقول بصوت خافت:
- ده مُصر يدهالك، واللي زاد وغطى، أخوه اتصل عليه وطلب منه مبلغ كبير علشان ابنه هيعمل عملية، وحمزة محتاس، والدنيا قلبت فوق دماغه فجأة، وفوق ده كل مُصر يديلك فلوسك، أساله وأقوله طب وأخوك والمبلغ اللي عاوزه يسكت وأحس أنه ضايع، الله يكون في عونه، أنا لو مش بجهز أختي وعريسها مُصر على الفرح، والله كنت وقفت جمبه، حمزة جدع، وعمره ما قصر معانا.

رفع شهاب عيناه وهو يرمقه بضيق بعدما لمح تنبيهاته المبطنة فقال:
- طبعًا، ومتقلقش أنا لا يمكن أخدها منه، روح أنت مشوارك، وأنا هدخله.
وافق محمود برضا وترك شهاب وحده يواجه حمزة في مواجهة حاسمة، ينتظرها حمزة منذ الصباح..

ألقى حمزة المبلغ المالي فوق الطاولة في إهمال، يخالف تلك الثورة التي تندلع بنيرانها بداخله، لعلمه بما سيحدث وكيف سيؤثر عليه ذلك المبلغ وهو في بداية حياته، ومما زاد الطين بلة عملية ابن أخيه، كل ذلك جعله في حالة من التخبط والضياع..
- فلوسك أهي يا شهاب، كويس إنك جيت كنت هبعتلك رسالة.
أبعدها شهاب بيده وهو يقول بلامبالاة أشعلت لدى حمزة فتيل الغضب:
- مش عاوزاها، ومش جاي علشانها.

مالت ملامح حمزة للغيظ، فقال بغلظة خرجت من بين حروف كلماته:
- امال جاي علشان مين يا صاحبي، ياللي كنت بتساومني ما بين الفلوس وطلبك.
تنهد شهاب بعبوس ليقول:
- اعتبر كأني مجتش، ولا حكيت حاجة، أنا كنت بتعشم فيك، وأنت مش حابب كده، خلاص الموضوع انتهى أساسًا، واحنا فركشنا.
رمش حمزة عدة مرات وهو يسأله بعدم فهم، أو بمعنى أصح غير مصدقًا:
- أنت فركشت مع خطيبتك بسبب أختها، انت اتهبلت يابني.

زفر شهاب بقوة وكأنه يخرج همومه التي تكدست فوق صدره في المرحلة الأخيرة، متحدثًا بعدها بحزن أثار عاطفة حمزة نحو قصته:
- اه، هي أصلا حكايتنا كانت مسيرها هتنتهي، طول مافي أختها أنا وهي لا يمكن نجتمع مع بعض، ربنا يجازيها أختها بقى على تدمير حياتنا.

التزم حمزة الصمت مفكرًا بعقلانية في حالة شهاب البائسة، لأول مرة يراه بهذا الشكل الغريب، فقد ذبلت عيناه وملامح وجهه، واختفت البسمة تمامًا من على ثغره بعد أن كانت تلازمه في السراء والضراء، يبدو أن تلك الفتاة بالفعل شخصية سيئة، فهي لو لم تكن بذلك الشكل، لم يصل شهاب إلى تلك الهيئة..
انتبه على وقوف شهاب وهو يتمتم بجدية:.

- بقولك إيه، أنا ماشي، اليوم انتهى واتقفل معايا لغاية كده، وانت خلي الفلوس دي علشان عملية ابن أخوك وأنا بكره هبعتلك فلوس كمان علشان لو احتاجت سيولة تانية.
رفض حمزة، رفض قاطع قائلًا:
- لا، مش عاوز منك فلوس، أنت اصلا كتر خيرك، خد فلوسك يا شهاب.
ربت شهاب فوق كتف حمزة في عتاب:
- بقولك إيه أنا مش هاخد ولا مليم منك، أنت أخويا يابني، واللي بينا مكنش عشرة يوم ولا اتنين، دول عشرة سنين.

- مكنتش حابب محمود يقولك حاجة.
لكزه شهاب في خفة ليقول:
- يا جدع اسكت بقى، وربنا يطمنك على ابن اخوك.
ارتاح حمزة قليلًا ولكن مازال هناك جزءًا بداخله لم يرضى الرضا الكامل، وتحديدًا مع نظرات شهاب له، وكأنه يخبره، بمدى شهامته معه دون مقابل، وهو مع أول عقبة احتاجه صديقه بها، لم يوافق، ولكن كيف له بأن يوافق على شيئًا يخالف مبادئه، حتى وإن كانت تلك الفتاة سيئة لهذه الدرجة.

استغل شهاب صمت حمزة الطويل، وقرر أن يخوض تجربة إقناعه مرة ثانية، حتى وإن انتهت بالفشل، فهكذا ستوضع نهاية علاقته بمن ينبض لها قلبه.
فقال بصوت يغلبه الانكسار والضعف:
- حمزة، صدقني، أنا مش عاوز أذية لحد، بالعكس أنا كل اللي محتاجه منك، إنك تبعدها عن طريقي..
صمت لبرهة يستجمع أنفاسه قبل أن يعود ويهتف:.

- أنا بحب أيسل جدًا، وقبل ما أدخل الكافية نهيت معها كل حاجة، أنا مش متخيل إن هبعد عنها، مواقف كلها كانت من تدبير رقية الزفتة أختها تخيل يابني.
وبدأ شهاب في سرد بعض المواقف والتي كانت رقية بها تحاول هدم خطبته بأيسل من وجهه نظره، استمع له حمزة بتركيز وهو يحاول كشف ملامحه الحزينة التي سيطرت على وجهه، وخاصةً مع لمعة الرجاء التي كانت تلمع بين الفنية والأخرى بعيون شهاب المحترقة على فشل خطبته..

انتبه على كلمات شهاب له وكان في أشد قلقه، خوفًا أن يرفض حمزة مرة أخرى، وينتهي رصيد محاولاته معه:
- فكر يا حمزة مش هتخسر حاجه، أصلاً مفيش خسارة لحد، اعتبر كأنك شفتها وحبيت تقرب منها، وبعدين لما اكتشفت شخصيتها بعدت عنها، بسيطة.

توقفت الموافقة على طرف شفتاه، وقرر خوض ذلك الصراع للمرة الأخيرة، قبل أن يحسم جدلاً ينتج عنه عواقب وخيمة، ولكنه تغاضى عن كل شيء، في سبيل إنقاذ خطبة صديقه من تلك الفتاة المعقدة ذو الأفكار السيئة، اندفعت شهامته تحثه على الموافقة، وكأنه يتصور نفسه في عمل بطولي، أخمد الصراع وضميره معًا، وقرر خوض تلك التجربة بكل ما فيها، فقال كلمة واحدة كانت حروفها مترددة نوعًا ما، ولكن شهاب أمسك بها وكأنه عثر على كنز ثمينًا بعد رحلة بحث طويلة شاقة ومرهقة:.

- موافق، وفلوسك.
قاطعه شهاب سريعًا بحماس:
- مش عاوزها ياعم والله..
حسم حمزة تلك النقطة بجمود:
- لا، فلوسك هتاخدها بس لما عملية ابن اخويا تتم، ياعني على أخر السنة هديهالك.
هز شهاب رأسه بقوة، وهو يحاول منع ابتسامته، فقال حمزة بلامبالاة ظاهرية:
- ابقى ابعتلي رقمها ازاولها..
- لا لا لا، دي مش بتاعت كده يا حمزة، دي بتاعت ادخل من باب البيت، خطوبة ياعني.
- خطوبة لأ.

قالها حمزة في إصرار، فحاول شهاب اقناعه بشتى الطرق:
- يابني اسمع، انت بطولك مفيش ولا اب ولا ام ياعني عادي محدش هيسألك في حاجة، زائد إنها مش من بنات اليومين دول، بص أنا هفهمك شخصياتها واشرحلك كل حاجة بالتفصيل، أنت بس متقلقش وسيبها عليا وكل حاجة هتبقى زي العسل..

عاد من شروده على مرارة العلقم بحلقه، فتقريبًا انقلبت الموازين، وما خطط له، قلب ضده، وانصدم بشخصية غير تلك التي كان يتخيلها، أو يتصورها بناءًا على أحاديث شهاب له، فكان ذلك أول درسًا يتعلمه في تلك اللعبة، ولكن ما لم يحسب حسبانه هو شعوره بالندم، ظن أنه يستطع إخماده، ففشل، بل وقف عاجزًا أمامه، كالسجين في متاهة لا يوجد بها منفذ واحد للهرب، كلما ظن أن تلك الجهة هي النجاة، يعود مجددًا لنقطة الصفر، بدأ يتفاقم بداخله بطريقة أرعبته، جعلته غير قادرًا على التمتع بلحظاته معها، والتي من المفترض حفرها داخل أعماق ذاكرته، ليحيا بها فيما بعد، عندما تنطفئ روحه وتفارقه، فبدأ تدريجيًا ينسحب بعقله لعالم آخر مظلم ينذر بنهاية قاسية ومؤلمة..

في أحد الأماكن المشهورة لبيع الأثاث..
دخل شهاب أولاً وبعده أيسل ورقية، الساعة الآن الثانية ظهرًا وهذا المحل الرابع تقريبًا، وقع اختياريهم عليه، حينما أبدت رقية إعجابها بأثاثه وأصرت عليهما لدخوله، رغم رفضه ولكن عاد ووافق مرغمًا من أجل أيسل فقط.

تجول بلا هدف، وقرر ألا ينظر نحو شيئًا، فدارت عيناه بملل في أرجاء المحل، حتى وإن لمح بطرف عيناه شيئًا جميلاً سيرغم نفسه أنه قبيحًا وكل ذلك من باب العناد فقط، هو لن يرضخ لرغبة رقية أبدًا، لاحظ سعادة أيسل بغرفة نوم معروضة وبدأت تتفحصها بدقة، فحرك رأسه الناحية الأخرى ورسم على وجهه ملامح العبوس وعدم الرضا باحترافية..
التقطت أذناه صوت رقية وهي تقول:
- مش قولتلك هنا زوقه جميل، أحسن من المحلات التانية.

تبسم ساخرًا بداخله، لحريتها الزائدة وتداخلها غير المبرر في حياتهما، ازدادت عيناه عناد وقسوة حينما التفت نحوهما قائلًا:
- بس أنا مش عاجبني الفرش هنا.
قالها بصوت مرتفع قليلًا، فأشارت له رقية بخفض صوته وحذرته بصرامة:
- شهاب أنت مش واخد بالك من صوتك ولا إيه!
تسربت مشاعر الحقد والغيظ لديه، وسيطرت على مشاعره، فظهر ذلك بوضوح عليه، ليقول:
- وأنتي ده كل اللي أنتي اخدتي بالك منه.

رمقته بلامبالاة استفزته حينما مسكت لوحة السعر المثبتة على ألواح الخشب:
- ماهو الصراحة، رأيك مش مهم، على قد رأي أيسل، هي عاجبها المكان هنا، براحتها بقى.
تقدم شهاب منها وهو ينظر لأيسل بقوة، يمنعها من تدخلها، فوقفت المسكينة بينهم تنتظر اللحظة الحاسمة لتدخل، وعقلها ينذرها بأن حظها لليوم بالتأكيد تعيس لدرجة أن فرحتها باختيار أثاث منزلها تبددت وتحولت لكسرة، رمقتهما بنظرات غير راضية بالمرة عما يحدث.

- لا حقيقة اللي أنا مش قادر افهمه، هو إيه لازمتك أنتي، واحد وعروسته، أنتي إيه جابك بقى!
جذبت نفس طويل تحاول به إدخال الهواء لرئتيها بعدما ضاقت بها لشدة إحراجها، وما زادها ضيقًا، هو ارتفاع نبرة أيسل محذرة بقوة:
- شهاب.

حول بصره متجاهلاً، ولم يبدو عليه أي علامات للندم عما تفوه به، لملمت شتات نفسها ثم قالت بنبرة مختنقة، تكاد تخرج الحروف بصعوبة من ثغرها، وخاصةً إن كانت تخوض صراع مع عيناها، تمنعها من البكاء أمامهم، تحدثت تزامنًا مع إخراج هاتفها من حقيبتها:
- حمزة اتصل كتير، أنا لازم أمشي حالاً.
تحركت خطوة دون أن تستمع لردهم، فأوقفتها أيسل واقتربت منها، تهمس بحزن:
- متزعليش من شهاب، أكيد ميقصدش.

التوى فمها ساخرة، تخفي ضعفها الدفين من بين حروفها الخارجة في كبرياء:
- يقصد، ولا ميقصدش أكيد مش فارقة معايا، سلام.
خرجت من المحل بأنف مرفوع، كغزال يأبى اتباع بقية القطيع، أما أيسل فاستدارت بسرعة رهيبة نحو شهاب تتقدم منه في هجوم، قائلة:
- ينفع اللي أنت قولته ده، أنت ازاي تعاملها كده.
ضغط فوق حروف كلماته فخرجت غليظة، حادة:
- بعد اللي هي قالته، جايه تلومني على ردة فعلي.

- أنت مجنون يا شهاب، أنت بتتكلم وكأن رقية قاصدة كده، أنا بقالي كتير بحاول افهمك إنها مبتعملش معاك أنت كده بس، بالعكس دي طريقتها مع الكل.
ضغطت فوق أسنانها وهي تخرج مافي جبعتها دفعة واحدة دون انقطاع، فقال هو بلا مبالاة ظاهرية وبداخله كالمرجل يغلي من شدة عنفوان مشاعره:.

- بقولك إيه، متحاوليش تقنعيني بحاجة أنا مش شايفها، بالعكس معاملتها الجافة دي معايا أنا بالذات، وخصوصًا بقى لو أنا وأنتي بنعمل خطوة مهمة في حياتنا.
عقدت ما بين حاجبيها، وهي تسأله بحدة:
- قصدك إيه؟!
- افهمي اللي انتي عاوزة تفهميه!
رفعت إصبعها في وجهه تحذره بقوة، وعيناها تقسم له بالوعيد، إن ظن تفكيرها:.

- إياك، تفكر كده في أختي تاني، أتمنى أن أكون فهمت غلط، أنا أختي ولا عمرها كانت حقودة ولا بتغير مني، بلاش تلعب اللعبة دي، علشان أنت اللي هتكون خسران.

توقفت رقية أمام الكافية، بعدما قادتها قدمها نحوه، ترددت كثيرًا في دخوله، وخاصةً إن كانت في تلك الحالة الضعيفة، بحثت عن قوتها بين مشاعرها، لم تجدها، وكأنها تبددت مع انهيار أخر حجر كانت تحاول التشبث به للدفاع أمام هجوم شهاب الشرس.
لاحظت عيون الأناس المسلطة عليها، فقررت أن تدخل وكعادتها تحاول إخفاء حزنها بين نظراتها الحادة...

وقفت كالضائعة في منتصف الكافية، تبحث عنه باحتياج جهلت تفسيره، ولكنه تملك منها لدرجة أن أنفاسها حبست بين صدرها، والمخرج الوحيد لديها، هو فقط.
انتفضت بذعر خفيف حينما شعرت بصوته خلفها يقول بنبرته الرجولية المميزة:
- القمر واقف وحده ليه؟!
التفتت نحوه، وتجمعت الدماء في وجهها من شدة خجلها، فقالت برقة:
- كنت بدور عليك.

ابتلع لعابه من رقتها وذلك الضعف الذي يقرأه مجددًا بين ثنايا عيناها، لم يعرف لِمَ يشعر وكأنه يريد أن يختلي بها بعيدًا عن عيون البشر، تزايدت تلك الرغبة بداخله، فقرر الانصياع لها، حينما قبض بكفه الكبير فوق كفها الصغير بتملك، وجذبها بعيدًا عن الضجة، ثم أدخلها غرفة مكتبة والتي كانت تقبع في نهاية الردهة الطويلة، أدخلها ثم أغلق الباب خلفهم، فارتبكت قليلًا ولكنها حاولت تجاوز قلقها، بالنظر داخل مقلتيه، فالأمان هنا مختلف، يكفي أنها هنا تشعر بالحياة والحب..

لم يترك حمزة يداها من بين قبضته بل زادت قوتها عليها، وكأنه يشعرها أنه دائمًا سيكون مأمنها من أي تخاذل قد يؤرق قلبها..
- مالك، زعلانة لية!
نبرته كانت خافتة، تحمل تناقض رهيب ما بين القوة والحنان، تركت لنفسها العنان، وقررت أن تتخلي عن أي ثوب قد تتلون به حتى لا يفتضح ما تكنه بداخلها، فأردفت بنفس خفوت نبرتة، ولكنها كانت مهزوزة، ضعيفة للغاية:
- مفيش.

خانتها دمعة وسقطت فوق خدها، تسير في بطء رهيب، وكأنها تشق طريقها للخلاص من تلك القيود التي تحاول أسرها تحت كبريائها..

مد أصابعه ولمسها في حنو، حنو داعب قلبها في مشاعر جميلة، تتذوقها تحت سيطرته عليها، سيطرة خاصة، حانية، تحمل مشاعر دافئة، حقيقة، ونظرات شغوفة، وأفكارً تزج بيه، بأن يتذوق رحيق شفتيها دون انقطاع أو ملل، هناك بركان ثائر بصدره وحده من يعلم بعواقبه، حاول ألا ينجذب نحو أفكاره الهوجاء، وقرر أن يخمد تلك النيران، بقبلة دافئة، حنونة، طويلة، داخل باطن كفها، متمتمًا بنبرة تحمل مشاعر الحب:.

- زعلك عندي بالدنيا، حتى لو كنتي بتحاولي متبنيش.
نطق قلبها بكلمة ودت أن تتحلى ببعض الجرأة لتتفوه بها، ولكن كيف، وهو حتى الآن لم يصرح بها، لكن تشعر بها من خلال أفعاله وكلماته، أغلقت عيناها بقوة تحاول الهدوء من فرط مشاعرها، وما أنقذها هو طرق الباب، ابتعدت عن حمزة في خجل، وقلبها يرفض ويثور، ولكنها كلما أرادت الابتعاد عنه، جذبها نحوه مجددًا رابط خفي، حتى بدأت تدرك أنه ببساطة لها المنفى والوطن.

الفصل التالي
جميع الفصول
روايات الكاتب
روايات مشابهة