قصص و روايات - نوفيلا :

نوفيلا طفلة في قلب الفرعون للكاتبة رحمة سيد الفصل التاسع

نوفيلا طفلة في قلب الفرعون للكاتبة رحمة سيد الفصل التاسع

نوفيلا طفلة في قلب الفرعون للكاتبة رحمة سيد الفصل التاسع

ارتجفت كل خلية بجسدها، نعم، فقد كان اسوء كوابيسها ينشب اظافره بأرض الواقع الان...!
كان ياسر يقف امامها بكل برود، يضع يداه في جيب بنطاله وعيناه كصخرة على اعتاب بحر ثلجي...
رسم ضحكة سخيفة على ثغره وهو يهتف:
-مش عارف اشكر ازاي الراجل اللي في المطار اللي أكدت عليه من بدري لو شافك يكلمني، انا نفسي نسيت اني كنت قايله بس سبحان الله نصيبك إن هو مانسيش!

حاولت استجماع شجاعتها فصاحت فيه بحدة قطة أظهرت مخالبها:
-عايز إيه يا ياسر؟
لم يتخلى ولو للحظة عن بروده وهو يتمتم مجيبًا:
-إنتِ عارفة كويس أنا عايز إيه، عايز دنيا اللي حبتها وكنت ناقص ابوس ايدها عشان ترضى عني وفي الاخر راحت تحب ف عدوها!
صرخت فيه عاليًا وأعصابها بدأت تهلك من بروده:
-مايخصكش، احب عدوي احب عفريتي مايخصكش، ثم اني قولتلك مليون مرة اني مش بحبك ومش هحبك، هو البعيد ما بيفهمش؟!

عصبيتها، ودفاعها بتلك الطريقة عن شخص لم يكن يستحق قلبها الذهبي من وجهة نظره، إنتشلوه من قمة بروده المرسوم على محياه، ليسقطوه على الجمر المشتعل في ارض الواقع...!
اقترب منها بخطى مجنونة شبه هيستيرية وهو يصرخ فيها:
-انا بقا هوريكي إني بفهم كويس اوي
وفجأة كان يجذبها من خصلاتها بعنف يكاد يقتلعها بين يداه وهو يزمجر مردفًا:.

-خلاص خلصتي من مسعد الشامي وخلتيهم يقتلوه من غير تردد وحتى قبل ما البوليس يقبض عليه، ومفكره إنك هتخلصي مني بالمرة، لا يا دنيا انا عملك الاسود في الحياه طالما قررتي ماتكونيش ليا!
ملامحها التي كان الغضب يتأرجح في ساحتها اصبحت حجرية كوجهة صنم...!
في البداية لم تستوعب وعجز عقلها عن ترجمة تلك الكلمات التي اخترقت طبلة اذنها، لتهمس بحروف مرتجفة:
-ق، قتلوه!؟
لم يأبه بحالتها وهو يكمل زمجرته العصبية بوجهها:.

-ايوه قتلوه، قتلوه ومفكرين إنه غدر بيهم! ماتحسسنيش إنك اتصدمتي
نعم صُدمت، صُدمت وبشدة، هي تكرهه، كانت تتمنى أن تقتله بيدها ايضًا، ولكنها لم تستطع ترميم كافة جوارحها حتى لا يخترقها غبار حاني لذلك القاتل رغمًا عنها...!؟
رفعت رأسها له ببطء، عيناها موجهة عليه ولكنها لم تكن هنا، كانت عالقة في الماضي!
فهمست بشحوب:
-انا مكنتش اعرف انا لسة عارفة حالًا، بس عمومًا دي النهاية المناسبة ليه!

جذبها ياسر بعنف من ذراعها يدخلها في سيارة اخرى ويردد بصوت قاسي شيطاني:
-وانا بقا هوريكي نهايتك هتكون ازاي قبل ما البوليس يقبض عليا زي ما قبض على الكل!
بينما هي كل ما يشغل بالها هو يزيد الفاقد للوعي...
كانت تنظر نحوه بقلب ملتاع، قلبها يصرخ بأسمه قبل لسانها والدموع تواسي ألمه العميق...!

بعد فترة في منزل مهجور...
كان ياسر يجلس في غرفة ما ويضع اللابتوب امامه يراقب من شاشته ما يحدث في الغرفة الاخرى التي حبس بها دنيا جوار يزيد الذي لم يستعيد وعيه بعد...

بمجرد أن اُغلق عليهم الباب ركضت دنيا نحو يزيد بلهفة لم تصيب تصرفاتها يومًا، اصبحت امامه مباشرةً، بدأت تتحسس رأسه بلهفة امتزج بها القلق، زفرت بارتياح حامدة الله وهي تدرك أنه لم يصاب بنزيف...
رفعت وجهه بين يداه برفق تهمس بصوت مبحوح تأججت به مشاعرها التي ألهبها الخوف:
-يزيد، يزيد حبيبي فوق رد عليا، يزيد قووووم بالله عليك.

أخذت تهزه ببطء، تلح عليه أن يعود، فتعود إليها قشرة صلابتها التي تغطي كيانها امام هؤلاء الشياطين...!
وبالفعل اخيرًا بدأ يزيد يهمهم بألم شيءً فشيء، ضحك قلبها كما لم تضحك شفتاها والفرح يعلن إنتهاء حداد دقاته...
كانت دنيا تمسح قسمات وجهه الرجولية بإصبعها ببطء وأسمه يغادر شفتاها كهزيان عاشقة لم تدرك سواه وسط ضجة تلك الدنيا المأسوية:
-يزيد، يزيد انت سامعني، انا دنيا.

وما إن فتح عيناه لتشرق شمسها حتى هجمت عليه ترتمي بحضنه بلوع تكاد تبكي كطفلة صغيرة كادت تفقد والدها في حرب شنيعة، فضمها هو له اكثر وتلقائيًا يسألها بنبرة لم تخلو منها رائحة الغيرة الحادة:
-إنتِ كويسة؟ عملك حاجة؟ لمسك؟ ردي!
رفعت رأسها له تجيب بابتسامة مُرهقة:
-انا كويسة متقلقش ماعمليش حاجة
-عايزك باردة جدا قدامهم، ومتقلقيش احنا مش هناخد وقت هنا وهنخرج!

همس بها بصوت حاني وزاد من ضمها لحضنه، كلاً منهما يطمئن الاخر ولكن ليس بالكلمات، ولكن بالشعور، بذلك التوحد الروحي والانتماء الجسدي بينهما...!

نهض ياسر بجنون في غرفته يضرب تلك المنضدة بعنف صارخًا:
-انا هاوريكي يا دنيا...
يغااار نعم، ولكن ليست غيرة رجل على امرأته، بل غيرة من نوع آخر، غيرة زرعها الشيطان داخله وهو يجنيها بجنونه!
غيرة رجل يشعر بالفقد، فقد كل شيء، حتى صغيرته عهد التي كان يعتقد أنه ينزوي بها بعيدًا عن عالمه المتشبع بالظلم وجدها اول من تجرعت من ذلك الكأس...!؟
ركض بجنون نحو الغرفة التي يقطنون بها لينظر للرجل آمرًا:
-افتح الباب.

في تلك اللحظات أتى أيمن الذي لم يكن يدري بأي شيء يفعله ياسر إلا بعدما تم خطفهم، ركض مسرعًا نحوه يسأله بقلق:
-في ايه يا ياسر مالك؟
هدر بعنف فيه:
-ملكش دعوة انت يا أيمن
وبالفعل دلف لتلك الغرفة في اللحظة التي كانت دنيا تحاول فك السلاسل المقيد بها يزيد، ليقترب منهم بسرعة يسحب دنيا من ذراعها فصرخت هي فيه بشراسة بينما يزيد عروقه كادت تنفجر من شدة الانفعال الذي احرق دواخله، فزمجر فيه بهيستيرية:.

-ابعد ايدك عنها يا * لو راجل فكني
إلتوى فمه بشبح ابتسامة باردة وراح يتابع:
-مش هبعد، هقرب وهقرب وهقرب، هقرب لها وهلمسها أكتر من اي راجل ووريني ساعتها هتقدر تكمل معاها ازاي
ازداد صراخ يزيد المنبوح، يشعر أن وحش الغيرة يكاد يمزق احشاؤه بمخالبه القاسية بينما ياسر يجذب دنيا بعنف نحو غرفة اخرى وأيمن عاجز عن التفكير...

رماها ياسر على ارضية تلك الغرفة وبدأ يفتح ازرار قميصه ببرود وهو يقترب منها مستمتعًا بذلك الرعب المتجلي في عيناها والرعب المختلط بالجنون في صراخ يزيد الذي لم ينقطع...!

في منزل قديم جدًا كان يسكن به ياسر ووالدته وابنة خالته عهد قديمًا...
كانت والدته تجلس على الأريكة وعهد متمددة على الأريكة تضع رأسها في حجر خالتها، تشكيها همها بصمت، تصرخ تلك الألام بين احضانها ولكن ايضًا بصمت، الصمت اصبح يطبق على انفاسها فيخنقها كما لم يفعل يومًا...!

بدأت تشعر أن الألم يتضخم ويتضخم، حتى ما عادت قادرة على طرد اشباحه من بين ثنايا روحها...!
كانت عيناها مُسلطة على اللاشيء، عهد لم تفقد عذريتها وحسب، بل فقدت بريقها، فقدت ذلك الوهج الذي كان يميز خلفية عيناها، فقدت ذاتها! فعهد لم تعد عهد، بل اصبحت بقايا عهد تناثر برياح الخطيئة..!؟
انتبهت على يد خالتها التي اخذت تربت على خصلاتها بحنان تسألها:
-مش هتقوليلي برضو مالك يا قلب خالتك؟

عاكست كل شيء يتوجع داخلها وهي تجبر لسانها على ترديد:
-انا كويسة مفياش حاجة
ولكن خالتها لم تصمت بل تابعت بتساؤل مُلح:
-هتخبي عني انا برضو؟ ولا عشان بقالك فترة بعيدة عني، طب لو مفيش حاجة لية ياسر جابك تعيشي معايا فجأة وانتِ بالمنظر ده؟ وهو كمان شكله مش طبيعي..
لم تنل اجابة ايضًا من تلك الشريدة فزفرت بيأس وهي تمط شفتاها وصوتها يتأرجح ما بين التحسر وعدم الفهم:.

-مش عارفة ايه اللي حصل، من ساعة ما ياسر راح اشتغل مع الراجل اللي اسمه مسعد وكل حياتنا اتقلبت، ياسر مابيحكيش ليا اي حاجة وانتِ سبتينا ومشيتي لما هو مابقاش مهتم بيكي، وانا بقيت قاعده زي المقطوعة من شجرة هنا لوحدي!
كل حرف كان يخرج من فم خالتها، كان يصيب منتصف جراحها مباشرةً، ذلك الرجل، اللطخة الوحيدة التي صُبغت بحياتهم في الماضي وتأبى الزوال من الحاضر...

رفعت كتفاها ورغمًا عنها تنجرف كلماتها نحو هوة الحقيقة:
-مش عارفة إيه اللي حصل، بس اللي اعرفه اننا خسرنا كتير اوي، خسرنا حاجات منقدرش نرجعها خلاص، الراجل ده ما أخدش ياسر بس، الراجل ده سرق ارواحنا واحنا عايشين يا خالتي..!

وكعادة البشر، تُقابل الشكوى بالصمت، بالمواساة الخفيضة، بيد تربت على كتفك لتخبرك تحمل، ولكننا لن نجد يومًا تلك الشكوى تُقابل بالتغيير، تُقابل بحل جذري يقتلع المشكلة من بين جذور حياتنا، لذلك نصمت، وسنصمت...!

كان ياسر يجثم فوق دنيا التي بدت وكأنها تجاهد شيطان متمثل في جسد حجري لا ينكسر بضرباتها الهيستيرية المُرهقة...!
صراخ دنيا المستمر يعانق صراخ يزيد الذي كان اشبه بزئير ذئب كشر عن انيابه استعدادًا لإلتهام فريسته...
وفجأة كان أيمن يدفع ياسر عن دنيا بقوة وبالفعل ترنح جسد ياسر ليبتعد عنها بأنفاس مضطربة، ويأتيه صوت أيمن المزمجر:
-أنت اتجننت؟! إيه اللي كنت هتعمله ده يا مجنون فووووق.

كان ياسر في حالة غريبة، كان في مخض الجنون فعليًا، ما الذي كاد يفعله بها؟!
إلى أي درجة من حالة فقدان الوعي وهو واعي اوصلته غيرته..!
بدا غريبًا، غريبًا بحق، وكأنه كان طيلة يسير على طرف خيط رفيع، رفيع جدًا، ثم وبلا مقدمات تمزق ذلك الخيط وظلت بقايا فقط!..

نهض دون وعي يغلق ازرار قميصه، ومشهد دنيا التي كانت تبكي لأول مرة امامه لن يغادر ذاكرته ابدًا، ستظل تلك الذكرى تحفر في عقله حفرة غائرة تمتص اي بوادر سعادة تقتحم حياته...
ثم غادر بخطى بعيدة كل البعد عن الثبات...!
ليركض أيمن نحو دنيا التي إنكمشت تلقائيًا فأشار لها بيده برفق مرددًا:
-إهدي متخافيش انا مش هأذيكي.

مد يده بالچاكيت الخاص بها الذي كان ملقي ارضًا لتنتشله هي من يده بجنون تغطي الاجزاء التي ظهرت من جسدها...
خرج أيمن بهدوء وحذر ليرى إن كان ياسر مازال هنا ام غادر ليجده غادر بالفعل...
حينها اشار لدنيا بسرعة:
-تعالي ورايا بسرعة قبل ما حد من الرجالة اللي برا يجي
وبالفعل ركضت دنيا خلفه ولكن بحذر ودموعها لم تجف بعد، سار بها أيمن نحو الغرفة التي يقطن بها يزيد، وما إن دلفوا حتى صرخ يزيد في أيمن بانفعال:.

-اتأخرت لية يا ايمن؟ ايه اللي حصل لدنيا عملها ايه والله لاقتله ال* اللي اسمه ياسر
هز أيمن رأسه بسرعة يهدئ من روعه:
-متقلقش ماحصلهاش حاجة هو مشي، معلش ماقدرتش اتصرف غير لما مشي
وخلال دقائق معدودة كان قد فك قيد يزيد الذي ركض بلهفة يلتهم خطواته نحو دنيا التي كانت في حالة شبه هيستيرية، زرعها بين أحضانه بعنف، يضمها له بقوة ونشيج بكاءها لا يساعد ذلك الألم الذي استوطن قلبه ليهدئ...

دفعها اكثر له بشغف ملتاع وكأنه يود ادخالها بين ضلوعه ليكن ملمس جسدها مسكنًا لتلك الألام...
لم يستطع أن يمنع نفسه من سؤالها بقلب محترق وكرامة رجل شرقي تناثرت هنا وهناك:
-عملك حاجة؟ ايه اللي حصل فهميني ابوس ايدك انا هتجنن!
هزت رأسها نافية، وخرجت حروفها مشتتة كحالتها الباكية وهي تخبره:
-محصلش، حاول ي...

ولم تستطع نطقها، الكلمة كانت ثقيلة على روحها قبل لسانها، وازدادت السعرة احتدادًا بعينا يزيد حتى شعرت دنيا أن مصير ياسر كله متعلق بين شفتاها...!
اخذت نفسًا عميقًا تحاول تهدئة نفسها، ثم اردفت:
-بس ايمن ده جه وزقه وهو مشي
عاد ليضمها لصدره مرة اخرى بجنون اكبر ولكن الارتياح صاحبه، ولكن ذلك النداء العاجل لقتل ياسر لم يخفت، لم يختفي من عقله ولكنه يزداد علوًا وشحذًا...
نظر يزيد نحو أيمن متابعًا بجدية:.

-ايمن تعالى امن لنا طريق الخروج وهاتلي سلاحي، واما نخرج من هنا انت خليك على تواصل مع ياسر على التليفون واوعى تخليه يجي هنا تاني، يمكن يهرب، هو مش هيلحق يهرب المرة دي بس ممكن!
اومأ ايمن مؤكدًا وهو يقدم له سلاحه بسرعة، ليربت يزيد على كتفه كحركة معبرة عن امتنانه وشكره:
-ماخيبتش ظني فيك يا ايمن وماغلطناش لما زرعناك في حضن ياسر من بدري وكنت عارف إننا هنحتاجك كتير...

ابتسم ايمن ابتسامة عملية مفتخرة، ثم تقدم امام يزيد وخلف يزيد دنيا التي لم تخف ارتجافتها المصدومة، ليخرجوا جميعهم وما إن خرجوا لم يعطهم يزيد الفرصة للتصرف فانطلق الرصاص منه ومن ايمن لينبطح الخمس رجال ارضًا نازفين دماءهم...
ركض كلاً من يزيد ودنيا فسمع يزيد صوت ايمن يهتف:
-انا اتصلت بيهم وزمانهم وصلوا يا باشا.

اومأ يزيد برأسه واستمر في ركضه هو ودنيا حتى خرجا فوجد بالفعل سيارة شرطة تنتظرهم حينها صعدها هو ودنيا وهو يتنهد بارتياح، ولكن ذلك الارتياح مطعون بأشواك الحقد والجنون داخل يزيد تجاه ياسر...!

في نفس الوقت...
دلف ياسر منزله القديم بنفس الحالة الغريبة، عيناه تبحث عن كنه تلك الحالة التي بعثرت مكنونات حياته الساكنة...!؟
كان يبحث عن عهد، وقد كانت اسمًا على مسمى، هي عهد، ولكن عهد بالقسوة، عهد بالقتل!..
وجدها كما كانت متسطحة على الأريكة وقدمها على حجر والدته فتقدم منهم بخطى سريعة لتسأله والدته بقلق:
-مالك يا ياسر؟

لم يجبها وهو يمسك ذراع عهد يهزها بعنف صارخًا بغضب متهور شاحذ كان يلون ادراجه بالثبات امام والدته على الاقل:
-قومي، قومي يلا يا قذره
إنتفضت عهد من نومتها القصيرة تحدق به بعين قط مذعور، ولكن والدته لم تتمسك كثيرًا برداء الصمت المذهول بل راحت تهدر فيه بعدم تصديق:
-انت اتجننت! شكلك فعلًا اتجننت
وهو لم يكن بحالة اقل جنونًا من الوصف فكان يستطرد بصوت اجش عالي:.

-ايوه اتجننت، اتجننت بسبب بنت اختك الفاجرة العاهرة
لم تتردد والدته وهي ترفع يدها لتصفعه بعنف، تصفعه...!؟ ليت الصفعات تمحي الخطايا، ليت الصفعات تنتشل جذورنا من ماضي ملوث لتنبطح في ارض الواقع ولكن بصورة أنقى...!
كان ساكنًا للحظات فقط، ثم سحب عهد فجأة من ذراعها بعنف نحو الغرفة، دفعها نحو الغرفة ثم دلف واغلق الباب بالمفتاح متجاهلًا صراخ والدته المحتد عليه...

كانت نظراته تتفحص عهد التي كانت شاحبة، مرتعدة، قتل ولازال الخوف والعذاب يقتل فيها بريق الحياة الذي كان يلفت الانظار بأعجاب لها...!
بدأ يتقدم منها بخطى بطيئة، بينما هي تهز رأسها نافية ترجوه بضعف:
-ياسر انت هتعمل ايه، ابعد والنبي ماتقربش يا ياسر خلاص بالله عليك.

رفع يده عاليًا ينوي صفعها ليفرغ تلك الطاقة المشحونة بالقسوة، فصرخت وهي تخبئ وجهها بخوف، ولكن بلحظة إنقلب كل شيء، فوجد ياسر نفسه يجذبها لأحضانه بقوة، يدفعها بجسده نحو الحائط ويداه تشدد من عناقها لتنفجر هي باكية في طوق تلك العاطفة التي اغدقتهم فجأة...
تبكي ضياع شرفها، تبكي كره ياسر لها، تبكي خسارته، تبكي خسارة نفسها وذاتها...!

غرز وجهه عند رقبتها يستنشق رائحتها بشغف غريب، الوجع والدواء منها، كيف لها أن تكون بهذا التناقض في حياته؟..
قطع رنين بكاءها صوته الذي اتاها من وادي بعيد يسألها وكأنه ليس هو:
-عايز أعرف كل حاجة حصلت، ازاي وصلتي لكده؟!
رفعت رأسها على استحياء له، ببطء كطفلة مرتجفة تسأله بصوت متحشرج:
-هتصدقني؟
كان مستسلم لطوفان فطرته فهز رأسه يجيبها بما يريد أن يفعل:
-هصدقك.

وكاد يبتعد عنها ولكنها تشبثت بأحضانه وكأنها تستمد القوة والجرأة منه، فهمست واخيرًا:.

-ماتبعدش! خليني في حضنك، الموضوع بدأ من بدري اوي، كنت قاعده معاكم عادي بس انت ماكنتش مهتم بيا اطلاقا، حتى ماكنتش تعرف انا بروح فين وباجي منين، في مرة كنت راجعه من الكلية بس اتأخرت مع صحابي شوية، نزلت من الميكروباص وقررت اتمشى شوية وكنت مخنوقة جدا، بس حصل اللي ماكنتش اتوقعه، فجأة لاقيت واحد شكله غريب قدامي، تقريبا كان شارب حاجة، فضل يقرب مني، حاولت اهرب منه، حاولت اجري، حاولت اضربه، اعمل اي حاجة بس المهم ماسبهوش ياخد اغلى حاجة عندي، ماكنتش قادرة امنعه، حاولت بس كنت ضعيفة مقدرتش كنت عامله زي الفرخة اللي بيدبحوها، كنت شايفه كل حياتي بتدمر، مكنتش حاسه بالالم الجسدي على قد ما كان قلبي واجعني اوي، وكأنه بيعيط معايا، تخيل يا ياسر، ساعة كاملة وفي حد بينتهكك بكل ما تحمل الكلمة من معنى، ساعة كاملة وفي ايد قذرة بتلمس كل حته في جسمي ببشاعة، ساعة كاملة بعيط وبصرخ لحد ما حسيت إن صوتي راح!

وضع يده بسرعة على فمها، يريد إيقاف سيل تلك الكلمات التي تنطلق من بين شفتاها لتنغرز واحدة تلو الاخرى كالسكاكين في منتصف قلبه، يكفي، يا اللهي لم يعد يحتمل سماعها اكثر، يشعر بروحه تنزف، تتوسل الرحمة، سيختنق حتمًا من تلك الرائحة بالعجز التي احاطت به من كل جانب وهو يستمع تفاصيل انتهاك حقه...!
خرجت حروفه مختلطة بدموعه التي بدأت تسقط رغمًا عنه وهو يهمس لها:
-اسكتي، كفاية، مش عايز اسمع ارحميني.

هزت رأسها نافية، ستخرج تلك الحكاية من بين ثنايا لتستطع التنفس حتى، ثم اخبرته دون روح:
-لا، انا عايزه احكي، سنة وانا شايله في قلبي ومحدش حاسس بيا!
لم تنظر لعيناه التي تقطر وجعًا وندمًا وراحت تكمل:.

-اخدت تاكسي في نفس الليلة بعد ما الحيوان هرب، مش هنسى في حياتي نظرة الشفقة اللي سواق التاكسي كان بيبص لي بيها، مع انها كانت شفقة بس انا كنت حاسه ان نظرته بتعريني، في اليوم ده ماكنش في حد في البيت وخالتي كانت شغالة في الفندق فكانت بتخرج من ١٢ الضهر وترجع ١٢ بليل، بمجرد ما دخلت البيت انهرت، حتى اني فكرت انتحر، بس حتى ده كنت عاجزه فيه ومقدرتش اعملها، فكرت فيك، كان نفسي تبقى موجود في حياتي زي زمان، كان نفسي اجري استخبى في حضنك، بس ماكنتش لاقياك، انت كنت بعيد اووي، وانا كنت في حالة غريبة، وفجأة لاقتني قررت اروح اعيش في شقة بابا وماما الله يرحمهم، رجعت اخد معاش بابا و اخدتلي حوالي شهرين مش بخرج من البيت وصحبتي كانت بتجيلي احيانًا وبتجبلي المعاش كل شهر، وفي مرة افتكرت ان واحدة اعرفها بتشتغل في كباريه! ومحدش كان يعرف بس انا عرفت منها في مرة صدفة، كلمتها، قالتلي إنها بتشتغل كجرسونة مش اكتر! ومن غير اي مقدمات لاقتني بشتغل معاها، ك جرسونة برضو بس بطريقة غريبة، اللي هو اقعدي مع الزبون اشربي كاسين واضحكي وهزري وممكن ترقصي وخدي منه النقطه وامشي، بس انا كنت في حالة مش طبيعية، زي اللي من غير عقل، خدت فترة بشتغل كده وبعد كده لاقتني بقول لنفسي طب ما انا اساسًا خلاص خسرت الحاجة اللي مفروض ما اعملش كده عشانها، يعني لو طورت شغلي وزودت مرتبي محدش هيعرف اصلا، واكيد انا مش هتجوز اساسًا ف عادي بقا، وفعلًا بقيت كده، بس مع اول ليلة واول زبون مقدرتش، مقدرتش اسيبه يكمل كنت حاسه كأن نار بتولع في جسمي والليلة اياها بتتعاد في ذاكرتي تلقائيًا، طبعا خربت الدنيا والزبون اتصدم وطفش وساعتها صاحب الكباريه بهدلني ورجعني مجرد جرسونه تاني، لحد ما انت شوفتني في اليوم اياه، شوفت الموضوع سهل ازاي يا ياسر؟

وما إن انهت كلماتها كان هو يهز رأسه نفيًا وهو يتراجع بسرعة نحو الخارج، بدا وكأنه يحاول التملص من بين مخالب الماضي القاسية التي ركض لها بقدماه...!
خرج من الغرفة دون كلمة اخرى، لا يحتمل اساسًا، يشعر أن كلماتها تحرق جلده، تخترق روحه لتنشر به سم اصعب من الموت، سم يشعره أن يموت وهو على قيد الحياه!
بمجرد أن رأته والدته صرخت فيه بجنون:.

-انت عملت فيها ايه؟ وايه اللي انا سمعته ده؟ ايه اللي انت بتقوله عن بنت خالتك ده انت اتجننت
تنعته بالجنون بينما هي التي بدت في قوقعة الجنون تمامًا، بالرغم من أنها سمعت كل اعترافات عهد ولكنها لا تريد الاستيعاب...!؟

فتح ياسر باب المنزل وكاد يخرج ولكن هاتفه رن فأخرج بصمت يجيب:
-خير يا أيمن؟
-انت في البيت القديم يا ياسر صح؟
اومأ ياسر مؤكدًا:
-ايوه لية حصل حاجة؟
ولكن بمجرد أن أطلق سراح سؤاله، قرر القدر عدم اطلاق سراحه فكانت طرقات حادة على الباب تصدح، فتح ياسر الباب ليصدم بوجود الشرطة امامه...
لم يتوقع قط أن يعلموا بمكان منزلهم القديم الذي لا يعلم مكانه سوى، أيمن!

صديقه الوفي الذي أعتقد أنه درعه الواقي، فوجده فجأة السهم الذي يصيبه بضراوة!..
كان متخشب مكانه صامت، لا يعلم كيف اتفقت دنيا مع الشرطة، ولا يريد أن يعلم...
خسر كل شيء، عمله الفاسد، رب عمله، صديقه، وصغيرته عهد!؟
رفع يداه امام الضابط بصمت فوضع الضابط السلاسل في يداه حينها انتبهوا على صرخة عهد باسم والدته التي سقطت ارضًا ممسكة بقلبها بألم...
حينها ادرك أنه خسر والدته ايضًا...!

في القصر الذي يقيم به يزيد...
كانت دنيا جوار يزيد الذي كان يجلس على الفراش ممسكًا برأسه المضمدة من الألم الذي لم يزول...
اقتربت منه دنيا حتى اصبحت ملتصقة به فابتعد هو بتلقائية بهدوء، ليجدها تقترب مرة اخرى، فابتعد مرة اخرى، فاقترب اكثر وهي تحدق به متمتمة بنبرة مشاكسة تخصه بها وحده:
-يا زانقني وجمبك فاضي، ازنقني كمان وانا راضي!

فانفجر يزيد ضاحكًا، وتلقائيًا تسللت الضحكة لثغر دنيا، عندما تفعل شيء وتصدح ضحكاته كهذا كأعزوفة ايقاعها الشغف، تشعر أنها فعلت شيء، فعلت شيءً كبيرًا...!
توقف عن الضحك وهو ينظر لذلك الضجيج العاطفي بعنياها، فاقترب هو بخبث هذه المرة يهمس بعبث واضح...
-من العين دي قبل العين دي!
اخذ يقترب ببطء منها فهتفت هي بنفس المرح الطفولي:.

-يا جارحني بلُقمه ناشفة والعيش عندك طري، تقلان عليا لية ما تحن يا مفتري! إيه بقا هفضل مستنيه كده كتير؟
ظل يهز رأسه نافيًا من وسط ضحكاته يخبرها مشاكسًا:
-لا لا إنتِ مش معقولة، بتفكريني ب دقدق القهوجي، نفس شقاوته!
حينها لم تتحمل فنهضت واقفة تتخصر وهي تهتز ببطء مزمجرة بغضب لذيذ:
-نعممم ياخويا! يعني انا بقالي ربع ساعة عماله اقولك حِكم واعاكسك عشان افكرك بدقدق القهوجي؟

ثم إنقضت عليه تمسكه من ياقة قميصه وتهز رأسها نافية بجدية مصطنعة:
-لا لا أنت ڤيروس عاطفي، أنت اللي زيك مش لازم يعيش!
مال يزيد للخلف ليتمدد على الفراش متنهدًا ولم يكتم ضحكاته الرجولية التي لم تكف عن التوغل لثنايا روحها فتجعلها أسيرة، اسيرة له، لضحكاته، اسيرة لا تريد حريتها!..

فاقتربت هي منه حتى اصبحت تطل عليه، خصلاتها الطويلة تحيط وجههما سويًا، تفصلهما عن عالمنا هذا، لينغمسا في جذور عالم آخر، عالم النظرة فيه بمثابة الكلمة، والتنهيدة فيه بمثابة حرف، حروف وكلمات منبعها العشق منسدلاً من خيط العاطفة...

اقتربت اكثر وهي تهمس له بما يشبه التوسل الطفولي:
-يزيييد، انت بتحبني ولا لا؟
لم يتخلى عن ابتسامته وهو يجيبها بنفس الهمس:
-لو ماحبتكيش احب مين غيرك؟!
رفعت كتفاها تصطنع التمنع متابعة:
-فيه بنات كتير
-كلهم بالنسبالي غفر!
ازدادت جرعة الحماس تدفقًا داخلها فاقتربت منه اكثر تسأله بابتسامة واسعة:
-وانا بالنسبالك ايه؟!
رد بنفس البساطة:
-شيخ الغفر..!

تجمدت تلك الابتسامة على فاهها لتنصهر شيءً فشيء تذوب بين ثورة الغضب التي اندلعت داخلها وهي تندفع تكاد تبتعد وهي تصرخ به بجنون:
-شيخ الغفر! انا مهزقه اصلاً عشان بحب واحد بارد زيك مفكر نفسه الخليل كوميدي..
ولكن يزيد التقطها قبل أن تبتعد ضاحكًا، كبل خصرها بيداه وهو يقربها منه عنوة، ولكن عندما وجدها تبتعد بتمنع مصطنع نهض في حركة واحدة لينعكس الوضع وتصبح هي اسفله وهو يطل عليها بهيئته الرجولية...

ليقترب منها ببطء، وعندما تتلمس ذلك العبث في بُطء حركته ونظراته الرجولية تشعر أن عظامها تذوب، بل تشعر بكيانها كله يذوب بين يداه...
شاكس أنفها بأنفه ثم غمغم بخشونة مثقلة بعاطفة حادة:
-مش بحبك بس، لا انا بعشقك، بعشقك بكل الجنون اللي في الدنيا، بعشقك لدرجة اني مش هخليكي تخلفي عشان مايجيش حتة عيل خلبوص يشاركني فيكي!

هذه المرة هي من ضحكت، والضحكة لم تكن من شفتاها فقط بل كانت من منابع تلك الروح التي طال بكاءها فحل الربيع ضاحكًا عليها اخيرًا...!
طبع يزيد قبلة عميقة على رقبتها ارسلت رجفة خفيفة لها، فهمست هي بتوهان عاطفي:
-يزيد
-روحه...

همس بها ولم يبتعد بل اقترب اكثر، وشفتاه تلقائيًا تبحث عن مأواها، يحلق بها في اعلى قمة للاكتمال العاطفي الذي يسكن كلاهما، ينسى بها ما مر به وما سمعه وما عاشه اليوم، وهي تنسى به كل مساؤها، بل تنسى به حياتها السابقة بأكملها، فتبقى هي بالجزء الحالي، ويبقى هو بجزء الحالي، ويكمل كلاً منهما الاخر يقيدهما ذاك العشق...!

الفصل التالي
جميع الفصول
روايات الكاتب
روايات مشابهة