قصص و روايات - نوفيلا :

نوفيلا طفلة في قلب الفرعون للكاتبة رحمة سيد الفصل العاشر والأخير

نوفيلا طفلة في قلب الفرعون للكاتبة رحمة سيد الفصل العاشر والأخير

نوفيلا طفلة في قلب الفرعون للكاتبة رحمة سيد الفصل العاشر والأخير

بعد مرور أيام...
وفي المنزل الجديد الصغير الذي انتقلوا له مؤخرًا...
كان يزيد يتحدث في الهاتف مع احد زملاؤه بخصوص القبض والحكم على ياسر وما شابه ذلك، فأوشك على الاغلاق عندما اقتربت منه دنيا تدندن كالأطفال بصوت مزعج ومضحك:
-علمني هواك إيه معنى الحيرة، علمني اشتاق أكلني فطيرة!

اقتربت منه اكثر فأكثر، حتى وقفت خلفه مباشرة، رفعت عيناها لخصلات شعره القصيرة الناعمة، لتمد إصبعها تتفحص تلك الشعرة التي طالت عن باقي الخصلات، ظلت تتفحصها بتمعن طفولي وكأن الكون يدور حول تلك المشكلة!..
أغلق يزيد الهاتف ليجذبها من خصرها يقربها له بحركة مباغتة صائحًا فيها بصوت ضاحك:
-اهدي يا حبيبتي أنا مش عايش مع بنت اختي!
هزت رأسها نافية بسرعة وهي تشير للشعرة وتهتف ببراءة:.

-لا لا بجد، في شعرايه طويلة جدًا عن باقي الشعر، هو انت بتحلقه وبتسيب دي؟!
كانت ملامحه مبهمة، مغلقة حتى شعرت أنه على وشك الإصابة بأزمة قلبية...!
فعض على شفتاه يتمالك نفسه قبل أن يخبرها بهدوء:
-ياسر اتحكم عليه ب ١٥ سنة
ظلت صامتة للحظة، تكاثرت عليها مشاعرها ما بين الشفقة على ذاك الشاب، والارتياح لأنه نال عقابه...!
-ربنا يهديه لنفسه
ثم ابتلعت ريقها بتوتر تستعيد مرحها تهمس له:.

-خلاص المهم بص عايزه اسألك سؤال بحق وحقيقي!
اجبر شفتاه على التمسك بازدال الابتسامة السمجة التي تهدد انفجار ضحكاته وقال:
-قولي، قولي يا عملي الاسود في الدنيا
مطت شفتاها بعدم رضا ثم سألته:
-هو انت مش بتخرجني لية من ساعة ما ام المهمة دي خلصت؟!
هز رأسه نافيًا بكل هدوء:
-معلش مش بخرج مع ستات متجوزه!
صاحت فيه بذهول طفولي:
-بس انا مراتك!
رد بنفس الجدية التي كادت تقتلها:
-اسف جدًا مفيش استثناءات...

إنفجرت ضاحكة بقوة وهي تبتعد عنه شيءً فشيء، استمرت ضحكاتها وهي تمسك بطنها من قوة ضحكاتها، لم تضحك يومًا بهذا الارتياح والسعادة، لطالما كانت السعادة كالجنة مُحرمة على الشياطين، ولكن عندما هجرت مكمن الشياطين شعرت أن جنتها اصبحت على الارض...!؟
وعندما انتهت لاهثة، استدارت تتركه بكبرياء مزيف ليرمي هو نظرة عابرة نحو المنزل المقلوب رأسًا على عقب، ليشير نحو تلك الفوضى مزمجرًا فيها بغضب مصطنع:.

-وبعدين ايه ده، انتِ مهملة وهتعلمي ولادك الاهمال، إنتِ عايزه الناس تقول عليكي ايه؟!
ردت ببساطة:
-ام المهملين!
وفجأة وجدته يركض خلفها وهو يضحك فركضت هي الاخرى، كالأطفال تمامًا في غمرة فرحهم، في ضحكاتهم، في عبثهم اللذيذ الذي يجذب كل من حولهم كالمغناطيس...!
سقطت على الفراش فكان هو خلفها يكبل خصرها وهي تردف له من وسط ضحكاتها:
-خلاص طب خلاص والله سبني.

ولكنه لم يتركها بل بدأ يدغدغها بقوة لتتعالى ضحكاتها المرحة، ضحكاتها التي تبثه طاقة من نوع آخر، تشعره بل وتؤكد له أن نصفك الاخر مهما تأخر، مهما أبتعدت السعادة عنك اميال واميال، ستأتي دفعة من حيث لا تدري تدفعك نحو رحاب تلك السعادة...!

في السجن...
كانت عهد في الغرفة التي سترى بها ياسر، مشوشة، يعتمل داخلها ضجيج فكري عنيف، أصبحت تشعر أنها داخل متاهات، لم تعد تدري تسلك أيًا منها؟!..
وصوت واحد يعلو تلك الضجة، صوت كان كالناقور في حرب لن تنتهي!
صوت قلبها، ذلك الصوت الناشذ الذي اصبح كالضوء الخافت ينير ظلمة عقلها...

قلبها يصرخ، بالرغم من كون ياسر ربما يكون مذنب فيما حدث لها، وبالرغم من صدمتها هي ووالدته ما إن سمعوا التهم الموجه له، ولكنها تبرر له، تبرر له كما لم تبرر لنفسها...!

فُتح الباب ودلف ياسر ببطء، لم تراه منذ أن حُكم عليه بخمسة عشر عامًا...!
نهضت بأقدام متجمدة، تحدق به، شعره الأشعث وملامحه التي ازدادت ظلمة، ولكن ربما تلك الظلمة تختلف عن سابقتها، تلك الظلمة ستزيد وتزيد حتى ينفجر من بين ثناياها النور...
اقترب منها ببطء ينظر لها بنظرة غير مفهومة بالنسبة لها، ثم سألها بخشونة:
-امي عامله ايه؟
اومأت برأسها بسرعة تطمئنه:.

-متقلقش هي كويسة جدًا والله وخرجت من المستشفى بس انا مرضتش اجيبها الجلسة بتاعتك عشان ماتتعبش اكتر
اومأ لها برأسه دون رد، فاقتربت هي اكثر، حتى وجدته يفتح ذراعاه لها ويومئ لها برأسه لذا ومن دون تردد ركضت نحوه ترتمي بين أحضانه بلهفة مغموسة بالشوق الدفين...

بينما هو يدفن رأسه عند رقبتها، يشتاقها حد الجنون، يشتاق رائحتها، يشتاق ضمها هكذا بين ذراعاه، يشتاق النظر لعيناها الغائرة، يشتاق ويشتاق كما لم يشتاق يومًا، يشتاق لدرجة أن هذا الاشتياق بدأ يحرق احشاؤه...!

رفعت هي عيناها له ببطء، تنطق بما صكه قلبه دون الرجوع لعقلها:
-هستناك
لم يستطع منع تلك الضحكة الصغيرة الساخرة من الظهور على ثغره وهو يستطرد مستنكرًا:
-هتستنيني ١٥ سنة يا عهد؟!
اومأت مؤكدة وهي تمسك يداه الخشنة بين كفاها الصغيران، تؤكد له بنظراتها التي توهجت بسيلان عشق تسرب لها منذ زمن قبل لسانها:.

-انت قولتها، عهد...! وكل واحد ليه نصيب من اسمه، عشان كده بقولك عهد عليا يا ياسر ما أبص ولا افكر في راجل غيرك لحد ما تخرجلي، وساعتها هنبدأ من جديد، وهتعملي فرح كبير اووي، بس هتكون ياسر تاني ملهوش علاقة بالأولاني وعهد تانية ماكسرهاش الزمن!
أغمض عيناه يُسكت ذلك الانفجار العاطفي الذي شعر به الان نحوها، لأول مرة يشعر أنه لم يعد ياسر الذي ينظر لها بنظرة الاخ الاكبر الذي يخشى على اخته فقط...

يشعر أنها اكثر بكثير من ذلك بالنسبة له، تراه هل كان يعشقها ولم يستطع عقله ترجمة هذا العشق؟!..
فتح عيناه التي استوطنتها مشاعره الجياشة ليهمس لها:
-عهد...
-عيون عهد...
ردت بلهفة لم تخفى عنه، ليتابع دون تردد بعينان تقطر شغفًا:
-بحبك...
لم تستطع أن تكتم تلك الدموع التي غزت عيناها فانحنت دون شعور تقبل يداه متمتمة من بين قبلاتها:.

-وانا بعشقك والله بعشقك وكان نفسي تحس بيا من بدري، كان نفسي تبطل تبص لي إني مجرد اختك الصغيرة الطفلة...!
جذبها لأحضانه مرة اخرى، يضمها له بقوة، يود دفنها بين ضلوعه ويكمل همسه الملتاع:
-اسف، اسف يا عهدي، عهد عليا إني هعوضك عن كل لحظة وحشة شوفناها!
فُتح الباب وظهر العسكري يغمغم بجدية:
-يلا يا ياسر
اومأ ياسر مؤكدًا ثم اقترب من عهد يلثم جبينها بعمق هامسًا لها:.

-تعالي زوريني على طول ما تغيبيش عليا، وسلميلي على امي وقوليلها تسامحني وترضى عني، قوليلها إن شيطاني كان اقوى مني...
اومأت مؤكدة ثم قالت:
-مسمحاك صدقني وبتدعيلك كتيير...
ظهرت شبح ابتسامة على ثغره قبل ان يبتعد ببطء عنها وهي تحاول الصمود امام شلال الدموع الذي يهاجمها حتى اختفى من امام عيناها...

بعد مرور حوالي ثلاث اسابيع...
كانت دنيا في غرفتها، إنتهت من اجراء اختبار حمل فاكتشفت أنها تحمل قطعة صغيرة من يزيد داخلها، نبتة صغيرة ستقوي جذور عشقهم اكثر واكثر...
خرجت من المرحاض تقفز بسعادة، كلما تقدمت خطوة من السعادة تشعر أنها اقوى من سابقتها، حتى شعرت أن العوض يأتي من الله بدون مقدمات او اسباب...!
بدأت تقفز تمامًا كالأطفال تهز خصرها يمينًا ويسارًا وهي تصيح مدندنة بسعادة حقيقية:.

-انا حامل، حامل، حامل، حامل!
ثم بدأت تضحك على جنونها، ستفاجئ يزيد ما إن يأتي من عمله، ستفاجئه بطريقتها الخاصة...!
ولكن فجأة وجدت يزيد يدلف الغرفة بإنهاك وكأنه قرأ افكارها...! فصرخت بحنق دون مقدمات وحتى قبل أن ينتبه لوجودها:
-يزييييييد
فصرخ هو فيها بانفعال متفاجئًا:
-الله يخربيتك وبيت يزيد في يوم واحد، قطعت الخلف!

ركضت نحوه ضاحكة بقوة ليجلس هو على الفراش متنهدًا وهو يضحك لتجلس هي على قدماه، ثم احاطت عنقه تهمس له بنعومة:
-اصلي عايزه اقولك حاجة مهمة جدا جدا جدا
عقد ما بين حاجباه بعدم فهم:
-حاجة ايه اللي تخليكي تفزعي امي كده على المسا؟
اقتربت من اذنه ببطء، لتهمس له برقة شعت ببريق الفرح:
-انا حامل!..

إتسعت حدقتاه بعدم تصديق، حامل، طفلته تحمل طفلًا منه داخلها، شعر بشيء عميق يدغدغ دواخله، شيء اعمق من اي شعور شعر به حتى عجز عن تفسيره او تسميته...!
نهض فجأة حاملًا اياها، يدور بها عدة مرات وهو يصيح بصوت أجش:
-حااااامل، المجنونة حااامل واخيرًا وهبقى اب يا نااااااااس.

تعالت ضحكات دنيا على جنونه الذي لم يكن اقل جنونًا منها، كل يوم يمر يصك تأكيدًا حتميًا، أنهم اصبحا مترابطان ببعضهما بطريقة عجيبة، برابط يزداد قوة ومتانة كل يوم عن سابقه...!
انزلها ببطء وهو يغمز لها بعبث حفظته عنه عن ظهر قلب:
-طب ايه بقا مش هنحتفل بالباشا الصغير؟!
هزت رأسها نافية وهي تخبره راكضة نحو احدى الغرف الاخرى:
-لا يا حبيبي ماهو بيبقى ممنوع في اول شهور الحمل
ثم غمزت له هي هذه المرة بشقاوة تردف:.

-خليكي يا كنكه على نارك، لا بن ولا سكر حطالك!
ثم أغلقت الباب عليها بسرعة وهي تضحك على الأنفجار الذي اقسمت أنها رأته في عيناه السوداء الضاحكة رغم كل شيء لتسمعه يصيح بصوت عالي لتسمعه...
-طب طالما ممنوع بقا اعملي حسابك هنروح لجدتي البلد قريب جدًا بالمرة!

بعد اسبوع آخر...
كانوا في منزل جدته الصغير، وكانت دنيا تجلس جوار يزيد على تلك الأريكة بتوتر تستشعر نظرات جدته المتفحصة لهم سويًا، صحيح أن يزيد أخبرها بكل شيء منذ فترة كبيرة، ولكن الدافع الأمومي داخلها يحثها لأستكشاف تلك الدنيا للأطمئنان على حفيدها الوحيد...
نظر يزيد لدنيا نظرة ذات مغزى فتنحنحت وهي تهتف بود ونبرة تلقائية:
-والله مبسوطة اني شوفتك يا حجه!

إتسعت عينا يزيد بذهول، ثم وبحركة مباغتة ضربها بكوعه بعنف هامسًا لها يزجرها:
-ماحبكتش تطلعي البيئة اللي جواكي دلوقتي؟! ايه حجه دي هي قاعده بتشوي دُره؟ اسمها تيتا او ماما...
رمقته بنظرة حادة تهمس له هي الاخرى ببراءة:
-ما أنت ماقولتليش!
كاد يبكي ويضحك في آنٍ واحد، طفلة، هي طفلة حرفيًا، طفلة ولكن تلك الطفلة تحيط به بهالة غريبة من الشغف، هالة تشعر أنه يُعزل في عالم اخر، عالم لا يريد به سواها...!

عقلها عقل طفلة حرفيًا، ولكن تلك الطفلة تجعله كجمرة مشتعلة عندما تظهر كل اسلحة الدلال والرقة له...!
انتبه لضحكات جدته التي صدحت وهي تخبره:
-سيبها يا يزيد والله انا حبيتها شكلها عسولة
نظف يزيد حنجرته بتوتر هامسًا لنفسه:
-ربنا يستر
ولكن عندما إتسعت ابتسامة دنيا وهي تربت على صدرها بعفوية متابعة:
-الله يكرم اصلك يا اصيلة يابنت الاصول!
لم يستطع كبت ضحكته التي صدحت وبقوة على تلك البيئة التي يعشقها وبجنون...!

لتشاركه جدته الضحك فقال هو مسرعًا يداري حرج دنيا الطفولي:
-معلش يا امي هرمونات الحمل انتِ عارفة بقا
لم تتحدث جدته ولكنها جذبت دنيا لأحضانها ولم تتوقف عن الضحك متمتمة بود حقيقي:
-دي جميلة اوي يا يزيد وبتضحكني ابقى هاتها لي كل اسبوع تضحكني شوية!

فتعالت ضحكاتهم جميعًا ودنيا هي الاخرى تضحك من قلبها، واخيرًا ذلك الدفئ الاسري مس قلب دنيا، مس اعماقها وجعلها متكاملة المشاعر، سليمة من كافة الجوانب...!

بعد انقضاء سنوات سجن ياسر...
كانت تنتظره هي ووالدته امام السجن، عيناها اُهلكت من كثرة الشوق وقلبها يدوي بجنون، وما إن رأته يخرج حتى ركضت نحوه بكل الجنون الذي عرفته يومًا لترتمي بأحضانه، فضمها له بكل قوته يستشعر بها اخيرًا وجسدها الغض يسكت أنين جسده...
رفعت عيناها له ببطء وبوجه ضاحك قالت:
-انا وعدتك استناك، ووعد الحر دين عليه!
ثم عادت تحتضنه، تهدئ لوع قلبها الذي كان يصرخ بالأحتياج والشوق له...

تمت
نهاية الرواية
أرجوا أن تكون نالت إعجابكم
جميع الفصول
روايات الكاتب
روايات مشابهة