قصص و روايات - نوفيلا :

نوفيلا صاحبة السعادة والسيد حزن للكاتبة رضوى جاويش الفصل الثامن

نوفيلا صاحبة السعادة والسيد حزن للكاتبة رضوى جاويش الفصل الثامن

نوفيلا صاحبة السعادة والسيد حزن للكاتبة رضوى جاويش الفصل الثامن

جلست جواره تحتضن (بؤجتها) على تلك المقاعد الخشبية لقطار الصعيد الذي غادر في تمام الواحدة بعد منتصف الليل..
كان الطقس باردا وخاصة في مثل تلك الساعة ومع وجود النوافذ الخشبية المتهالكة والغير قابلة للإغلاق كان الامر اشبه بالوقوف في وجه ريح عاصفة..
انكمشت على نفسها مشددة احتضان كفيها للبؤجة تستمد منها دفئا وقد استشعر ارتجافاتها قربه فهمس في اهتمام: - شكلك بردانة!؟، معلش..

وحاول ان يتعامل قدر الإمكان مع تلك النافذة الخشبية التي تجاورهما ليخفف من ذاك الهواء البارد الذي يندفع منها ناخرا عظامهما لكن بلا طائل..
ربتت على كتفه تستوقفه ليكف عن المحاولة وما ان سكن جوارها حتى أسندت رأسها على كتفه وراحت في نوم عميق فابتسم في فرحة ولم يحرك ساكنا فاغفائها افضل حتى لا تستشعر مشقة الطريق وطول المسافة..

تململت على كتفه وأخيرا انفرجت عيناها على جانب وجهه المنحوت كما تمثال من عقيق اسمر وكذا شاربه المهذب فوق شفتاه اللمية..
تنبه لأستيقاظها فاخفض الطرف اليها لتبتسم في محبة وترفع رأسها عن كتفه الذي ما شعر بثقل رأسها قط..
تطلع اليه احد المسافرين وأشار لربابته هاتفا: - ما تدج لنا شوية يا واد عمي، السكة لساتها طويلة..

ابتسم حزن متطلعا اليها وقد اومأت برأسها في استحسان للفكرة فاحتضن ربابته وبدأ في العزف والغناء منشدا: -
يا وابور الساعة ١٢ يا مجبل ع الصعيد..
عبادي يا واد عبادي، كرباچك ع الهچين..
سلم لي ع الست بهية اللي حبت ياسين..

ليهتف بعض المسافرين معه مع التصفيق: -
عبادي يا واد عبادي، كرباچك ع الهچين..
ليشدو هو مستمتعا: -
يا وابور الساعة ١٢ يا مجبل ع الصعيد..
خبريني يا بهية ع اللي جتل ياسين..
ليهتف الجمع: -
عبادي يا واد عبادي، كرباچك ع الهجين
ليرد في حماسة مع إيقاع ربابته: -
جتلوه السود عيوني من فوج ضهر الهجين..
ليردوا: -
عبادي يا واد عبادي، كرباچك ع الهچين..

استمر الشدو والغناء، والمسافرون ما بين مردد اومصفق لتلك الأنشودة الصعيدية التي تغنت دوما
تصف حكاية بهية وياسين بكل تفاصيلها..

وصلوا لتلك المحطة المتواضعة التي ما ان توقف عندها القطار للحظات حتى اخذ بكفها جاذبا إياها خلفه ليترجلا منه..
تطلعت حولها لا تدرك اين هي بالضبط فما كان حولها الا رصيف المحطة المتهالك واتساع من الأخضر على مدد البصر..
تركها تستطلع المكان للحظات وأخيرا همس في محبة: - معلش السفر طويل وبلادنا بعيدة..
همست تستفسر: - لسه فاضل كتير!؟.
اكد هاتفا: - لااه، نچعنا جريب من هنا..

هبطا للطريق الترابي وسارا بعض الوقت جنبا الى جنب واضعا ربابته التي كان الفضل في استرجاعها من حجرتهما لصبي الشيخ صالح لسرة ملابسها حاملا إياها..
مضى بعض الوقت وما من امل في الوصول الى مبتغاهما حتى هل رجل يقود عربة (كارو) يجرها حمار وخلف الرجل بعض من أحمال البرسيم..
أشار اليه حزن طالبا في أريحية: - السلام عليكم، خدنا معاك ف طريجك يا واد عمي..
هتف الرجل في ترحاب: - اتفضلوا، على فين العزم!؟.

هتف حزن وهو يتجه بسعادة للعربة: - نچع مچاور..
هتف الرجل: - ده ف طريجي..
ظلت نظرات الرجل صوب الطريق تاركا حزن يتعامل مع سعادة التي لم تستطع اعتلاء سطح العربة ليمد كفيه محتضنا خصرها دافعا بها لتصعد جالسة على طرف العربة ويقفز هو جالسا جوارها وما ان انتهى حتى ربت على كتف الرجل محفزا: - ياللاه توكل على الله..
اصدر الرجل صوتا بفمه ليستجيب حماره ملبيا النداء في تلقائية..

كانت العربة تسير الهوينى على ذاك الطريق الغير معبد تاركة محطة السكة الحديد خلفها مكملة طريقها وعلى جانبيها تظهر الحقول الخضراء الممتدة حتى ذاك الجبل الشاهق هناك، وعلى الجانب الاخر تمتد ترعة بطول الطريق تتلوى لتتسع تارة وتضيق تارة أخرى..
اخذ حزن الحنين لتلك الأرض التي كان يعتقد عندما غادرها يوما انه لن يشتاق لها ابدا لكن هاهو يعب من ريحها العبق برائحة الثرى الندي..

وينتشي لمرآى السنابل الخضراء تتراقص في اغراء مع هبات النسيم التي تميل للدفء في هذا الوقت من النهار وبهذا الفصل من العام..
هتف الرجل مخرجا حزن من غياهب الخواطر والذكريات: - وصلنا يا واد عمي..
تطلع حزن لذاك الجسر الممتد للطرف الاخر من الأرض فوق الترعة والذي يفضي لمدخل النجع وبدأ قلبه في الخفقان بقوة حتى انه ظل موضعه لم يتزحزح وهو يتطلع الى حيث يجب عليه الذهاب..

تنبه انه اطال البقاء دون أي رد فعل وقد استشعرت سعادة اضطرابه فوضعت كفها فوق كفه المتشبثة بحافة العربة الخشبية تستحثه على النزول ليفعل مساعدا إياها كذلك على النزول حاملا متاعهما ليبدأ رحلة المسير تجاه الجسر وسعادة جواره في طريقهما لداره..

توقف حزن على اعتاب الدار المبنية بالطوب اللبن وتوقفت سعادة بدورها خلفه تحترم صمته واستشعاره الرهبة لامر لا تعلمه، جال بناظريه في أنحاء الدار يتذكر كل ما كان لدرجة انه يكاد يستمع الى صوته صارخا وهو يتلقى الصفعات من امه التي لم تكن تكف عن الصراخ بدورها لتلقنه أصول الرجولة ومبادئها..

دفع بالباب الخشبي الذي اصدر صريرا معترضا وهو يدفعه للداخل، وانتفض كلاهما عندما هتف صوت من الداخل يحمل بعض الخشونة الممتزجة بحشرجة الشيخوخة: - مين اللي بره!؟.
لم يستطع حزن ان يجيبها فقد احس ان لسانه اصبح بمنتصف حلقه فظل على حاله ساكنا لم يبرح موضعه لتظهر امرأة تتشح بالسواد من خلف احد الأبواب تسير في تؤدة وما ان توقفت على اعتاب الحجرة حتى ابصرت حزن يقف في تيه متطلعا الى موضع ظهورها..

طال تطلعها اليه لفترة وجيزة وأخيرا تحركت لتجلس امام ركوة من نار كانت على وشك الانطفاء فأعادت ازكاء جزوتها هاتفة في صلابة: - ايه اللي رچعك!؟.
واستطردت وهي لاتزل امام ركوتها توليه ظهرها: - لو راچع ولساتك راكب دماغك، يبجى عاود من مطرح ما چيت..
همس حزن وبنبرة صوت متحشرجة: - اني راچع اتحامى فيك يا مندهة..

استدارت متطلعة اليه بنظرة متفحصة أثقلها الزمان خبرة وما ان همت بالنطق حتى وقعت عيناها على سعادة المختبئة خلفه تتحامي فيه بدورها لتهتف في حدة: - مين دي اللي معاك!؟.
جذب حزن سعادة من خلفه هاتفا: - دي مرتي..
هتفت مندهة في حنق: - چالك نفس تحب وتتمعشج ووتچوز كمان وأبوك دمه لسه مبردش!؟.

اندفع حزن اليها جاذبا كفها مقبلا ظاهرها هاتفا في وجع: - ياما بجيناه الحديت ده من زمن، احب على يدك ما نرچعوا ليه تاني، ابويا مات من زمن، وعارف ان تاره ف رجبتي، بس مش هجدر أخده، اني مرحتش من هنا الا عشان الجصة الجديمة دي، بلاها ياما احب على رچلك..
تجاهلت كل ما قال وأشارت لسعادة هاتفة: - والحلوة دي رضيت بيك على ايه!؟.
هتف حزن امرا: - جربي يا سعادة..

قهقهت مندهة حتى بانت نواجزها المفقود احداها وهتفت في سخرية: - سعادة!؟، اسمها سعادة!؟
طب كيف يكون الحزن ويا الفرح!؟، ده بيدخل م الباب، التاني بيخرچ م الشباك..
هتف حزن في يقين: - ربنا چمعنا ياما من غير ميعاد، واللي ربنا چمعه محدش يجدر يفرجه ابدا..
ربتت مندهة على كتف ولدها هامسة: - واتچوزتوا ميتا!؟.
هتف حزن شارحا: - احنا لساتنا عرسان چداد طازة، يا دوب كتبنا الكتاب وچينا على هنا طوالي..

ونظر الي سعادة نظرة تحمل بين طياتها رغبته في عدم الإفصاح عما حدث في القاهرة من اهلها وكل ما كان فأثرت الصمت..
نهضت مندهة في انتفاضة قوية لا تليق بعمرها وهي تجذب سعادة اليها مؤكدة في صرامة: - عروستك تلزمني يا سيد الرچالة، ولما تبجى تاخد تار ابوك يبجى ليك عندي حريم..

وجذبت سعادة خلفها في اتجاه غرفتها التي خرجت منها عند قدومهما مستطردة: - ولحد ما ده يحصل، مرتك هتنام بجاعتي، ع الله ألمح خيالك معدي جرب الباب ده..
ودخلت بصحبة سعادة وأغلقت الباب الخشبي لحجرتها في عنف تاركة حزن وحيدا بقلب الدار.

يتطلع حوله في قلة حيلة وأخيرا هتف في غضب مكبوت وهو يندفع لخارج الدار: - اني ايه اللي رچعني، يا ريتني ما رچعت، يا ريتني موت على يد عزوز ارحم لي مية مرة من وچع الجلب اللي هبجى فيه ده..
صفق باب الدار خلفه في غضب وهو يتجه الى مكانه المفضل عندما تضيق به الدنيا وتنغلق امامه أبواب الفرج..

جلس على ذراع الساقية التي كانت تلف شاعرا ان الأرض تدور به كما هذه الساقية تحمله من موضع لموضع وتلقي به من مكان لأخر وهو لا حول له ولا قوة ليس بيده الا الإزعان لكل ما يحدث دون ان يكون له يد فيه ولا له القدرة على تغييره لما يرضيه..
اخذ يشدو في وجيعة: -
سبع سواجي كانت بتنعي..
على اللي نابها من المظالم..
فضلت حياتها تدور وتدعي..
الله أكبر عليك يا ظالم..

بينما كان يدور في دوامة أفكاره وخواطره مستأنسا بغنائه كانت هناك اعين تتلصص غير مصدقة انه هو، اخذ صاحبها يطيل النظر في غفلة من حزن حتى تأكد انه هو بالفعل، فاندفع مهرولا بين غيطان القصب حيث وجهة معلومة، بيت الحاج لطفي المراشدي..
دخل الرجل صارخا في مجلس الرجال الذي يترأسه الحاج لطفي: - ألحج يا حاچ لطفي، ألحج..

انتفض الحاج لطفي ومن معه موجهين أنظاره الى ذاك الرجل المدعو بسطاوي ليهتف في غضب: - ايه فيه يا واد يا مخبل انت!؟، داخل لا احم ولا دستور..

مش شايفنا متچمعين عشان نشوف هنعمل ايه ف..
قاطعه بسطاوي صارخا: - هتعلموا ايه ف رچعة واد عايش الضنك..
وقف الحاج لطفي في صدمة لم يستطع ان يداريها وتطلع لمن حوله ثم عاد لينظر الى بسطاوي متسائلا: - چبت الكلام الخايب ده منين يا واد!؟.
اكد بسطاوي: - شوفته بعيني وهو جاعد عند الساجية الجبلية اللي چار دارهم..

هتف الحاج لطفي في رجال المراشدة: - حد يعرف حاچة عن المصيبة دي!؟، ما اصلها كانت ناجصة واد مندهة كمان..
هز الجميع رأسه نافيا ليؤكد بسطاوي في ثقة: - والله هو يا عم الحاچ، هو اني هتوه عنه، واللي مش مصدجني يروح يشوفه بنفسه حدى الساجية زي ما جلت لكم، دخل احد الرجال ما ان انهى بسطاوي كلامه هاتفا في عدم تصديق: - مدريتوش، الواد ابن عايش الضنك رچع من مصر..

هتف بسطاوي متفاخرا: - مش جلت لكم، اهااا..
هتف رجل اخر من بين الجمع المحتشد للعائلة موجها كلامه لكبيرها الحاج لطفي: - ايه العمل دلوجت يا حاچ!؟، موال لا كان ع البال ولا ع الخاطر، ده احنا جلنا سافر وريحنا وريح روحه ومصر هتاخده وينسى النچع وناسه..
هتف الحاج لطفي: - صدجت، بس اهو رچع وكنه لا نسي ولا هاينسى طول ما مندهة وراه عمره ما هينسى ابدا..
هتف اخر: - طب العمل ايه دلوجت!؟.

هتف الحاج لطفي في حزم: - ملهاش الا حل واحد، وأمرنا لله..
هتف احدهم: - حل ايه يا حاچ!؟.
لم يجبه الحاج لطفي بل تطلع اليهم في صمت وهو يتذكر الماضي البعيد..

الفصل التالي
جميع الفصول
روايات الكاتب
روايات مشابهة