قصص و روايات - نوفيلا :

نوفيلا صاحبة السعادة والسيد حزن للكاتبة رضوى جاويش الفصل التاسع

نوفيلا صاحبة السعادة والسيد حزن للكاتبة رضوى جاويش الفصل التاسع

نوفيلا صاحبة السعادة والسيد حزن للكاتبة رضوى جاويش الفصل التاسع

جلست سعادة منكمشة على نفسها بأحد اركان الغرفة التي دخلتها مع مندهة ولم تنطق حرفا مما دفع مندهة لتهتف في حنق: - ايه مالك جاعدة كده كني هاكلك!؟، جومي غيري هدومك وتعالي ساعديني نعملوا لجمة ناكلوها..
هزت سعادة رأسها في طاعة هامسة: - حاضر..

خرجت مندهة من الحجرة تاركة سعادة وحيدة تتطلع حولها ولا علم لها كيف أصبحت هنا وكيف تركت كل حياتها السابقة خلفها كانما انتقلت من عالم لعالم اخر مختلف تماما عليها لكن العامل المشترك الوحيد بينهما هو الفراق..
هناك لا رغبة لاهلها في اجتماعها بحزن وهنا توجد نفس الرغبة لكن هذه المرة مشروطة، وللأسف مما فهمته من الحوار الذي دار امامها ساعة وصولهما انه مشروط بالدم..

الدماء هي المداد الذي سيكتب به قرار اجتماعها مع من تهوى، اما من رحمة في هذا العالم!؟.

دمعت عيناها في قهر ومدت كفها تفتح سرة ملابسها لتخرج ربابته وتضعها جانبا في إجلال وتعود لتبحث عن رداء ترتديه فوقعت كفها على لفافة ما ترددت في فتحها لكنها قررت ومزقت ورقها ليخرج لها من خلفه قماش ناعم الملمس تحسسته في ترقب وقلبها تضطرب دقاته وأخيرا فردت القماش ليظهر ثوب رائع الشكل، ثوب زفاف، شهقت في صدمة وعينيها تجول بتفاصيل الثوب الذي لطالما حلمت بارتدائه لمن تحب وعندما تزوجت حزن دون ثوب او حفل زفاف سلمت امرها لله ورضيت بنصيبها، لكن حزن لم ينس..

ضمت الثوب الي صدرها في شوق لليلة ترتديه فيها لمن ملك فؤادها، لكن متى تأتي تلك الليلة وكل ما حولها يحول دون ذلك!؟.
شهقت في وجع وهي تضم الثوب الى أحضانها اكثر وما عادت ترى تفاصيل الحجرة حولها بعد ان أعمتها غيمات الدموع التي انهالت ممطرة على خديها لتهمس في تضرع: - يا رب..

دخل حزن الى الدار مساء ليجد سعادة تجلس امام الفرن الطينية المقامة بأحد اركان الدار تحاول تنفيذ ما تأمرها به أمه حتى لا يحترق الخبز فهتف في ضيق: - بالراحة عليها ياما، هي ملهاش ف العچن والخبز ده، وبعدين دي لساتها عروسة چديدة..
هتفت امه ساخرة: - مليكش صالح انت يا حنين، وبعدين انتوا مش لازما تاكلوا، هنچيب مين يعمل يعني!؟، هنأجر ناس يوكلوكوا..!؟.

وبعدين لساتها مبجتش عروسة، لما تعمل اللي اتفجنا عليه يوميها هجيم لك فرح تتحاكي بيه الجيهة كلاتها، جبل كده، هي ف جاعة وأنت ف جاعة، لحد ما يحصل المراد..
نكست سعادة رأسها في استسلام تام بينما نفض حزن جلبابه في ضيق واندفع مبتعدا لا رغبة لديه في العراك مرة أخرى مع امه على امر هو لم ولن يقوم به..

دخل الى حجرة منعزلة عن الدار وتمدد على فراشها ليذهب في نوم عميق من اثر تعب السفر ورغبة في الهرب من واقع مرير فرضته امه عليه ولا يستطيع ان يتجاهله اويحجم عن التنفيذ..

انتفض يتصبب عرقا اثر رؤية ارتأها جعلته اشبه بالتائه بعد استيقاظه تطلع حوله في تشتت تام وأخيرا تذكر عودته للنجع وما هو مقبل عليه، تذكر تفاصيل رؤياه فتنهد في قلة حيلة ونهض متوجها الي طلمبة المياه المزروعة بقلب الدار توضأ وصل الفرض ونهض من موضعه ليطالعه صينية مغطاة موضوعة جانبا، تقدم اليها ورفع غطائها متطلعا للزاد الا انه عافاه هما فترك الغطاء كما كان واتجه للخارج يجلس على عتبة الدار يحاول ان يعب من هواء الفجر املا في أطفاء تلك النيران المضطرمة بجنبات روحه..

تطلع للافق البعيد وتنهد في ضيق لينتفض موضعه ما ان شعر بها تجلس جواره في هدوء حذر ومعها صينية الطعام التي ما استطاع ان يتناول منها حتى النذر القليل..
همست في حياء: - مكلتش ليه!؟، ده انا عاملة الاكل بأيدي..
ورفعت الغطاء عن الصينية محاولة إغراءه بأطايب الطعام الموضعة قبالته لكنه أشاح بناظريه هامسا: - والله ما ليا نفس للزاد، حاسس ان جوفي نار..

همست تربت على كتفه في تعاطف: - بعد الشر عنك، معلش ما اللي انت فيه مش شوية..
همس محزونا: - شايفة امي وعمايلها، عايزاني اغضب ربنا عشان ارضيها، اني مش چبان ولا عويل، لكن اني مليش ف الدم وحرمة النفس كبيرة، هي روح البني ادم دي ملهاشي تمن!؟.

اعادت الربت على كتفه من جديد هامسة: - معلش هي برضو امك وواجب عليك تراضيها، ده الواحد من غير ام حاله يحزن ويغم، واسالني انا، من بعد امي وانا من ايد لأيد ومن مرات اب لمرات اب، مفيش واحدة حنت عليا ولا عمرها كانت مكان امي، يا ريتها عاشت وعملت فيا اللي يعجبها ولا راحت وفاتتني للي يسوى واللي مايسواش يبهدل فيا ويرميني لكلاب السكك تنهشني، راضي امك يا حزن لكن متغضبش ربنا ابدااا..

تطلع اليها حزن والى عيونها الدامعة وقسمات وجهها الصبوح التي أورثته السهد ليالي وهو يتنفس أنفاسها تحت سقف نفس الحجرة..
همس بلا وعي: - اتوحشتك..
نكست رأسها حياء هامسة: - وانت كمان وحشتني وربنا العالم..
ورفعت نظراتها اليه مستطردة: - على فكرة، انا شوفت اللى كان ف اللفة اللي انت نسيتها ف البؤجة بتاعتي، حلو قوي تسلم ايدك..

ابتسم هامسا وقد مد كفه يحتضن كفها: - هايبجى احلى لما اشوفك بيه جصادي وربنا مچمعنا سوا..
اضطربت ما ان لمس كفيها وجذبتهما بعيدا مشيرة للطعام وقد مدت يدها منناولة كسرة من خبز وضعتها في الغموس ورفعتها لفمه هامسة: - كل دي من ايدي انت مدقتش الزاد من واحنا ف القطر..
واستطردت في دلال: - عشان خاطري ده انا خبزت العيش بنفسي ومعرفش بقى طعمه هايبقى ازاي!؟.

ألتهم اللقيمة من بين أصابعها هامسا وهو يلوكها في استمتاع: - شهد من يدك مهما كان طعمه..

ابتسمت وبدأت في تلقيمه الطعام من جديد ليلتهم اللقيمة كسابقتها وتلتها أخرى وأخرى وهو ذائب في روعة مرافقته لا في لذة الطعام وأخيرا ضم كفها التي كان في سبيلها لفمه محتضنا إياها في شوق والتهم اللقيمة متطلعا الى عينيها في عطش جارف لوصل محرم فتح كفها بين أحضان كفه وطبع قبلة طويلة الأمد عميقة الأثر أودعها كل ما يجول بصدره من مشاعر طاغية، ارتجفت هي وشعرت ان عليها العودة للداخل قبل ان تستشعر امه غيابها وقد أدت مهمتها في إطعامه..

انتفضت تشرع بدخول الدار لينهض منتفضا بدوره خلفها يحاول اللحاق بها وقد أضناه شوقه اليها حد اللامعقول الا ان طلقة نارية مرت جواره كان مقصدها موضعه السابق قبل ان يغادر خلفها..
صرخت سعادة للصوت المدوي ودفع هو بها للداخل لاحقا بها مستترا خلف جدران الدار التي وقفا خلفها متعانقين يحاول هو طمأنتها وهي ترتجف من صوت الرصاصات التي توالت لثوان من خلف الباب المغلق وأخيرا هدأت..

نهضت امه اثر الدوي الحادث متسائلة في ذعر: - ايه اللي بيحصل!؟.
هتف حزن متطلعا اليها في ضيق: - اللى انت عايزاه يحصل ياما، الحاچ لطفي عرف برچعتي النچع وجال يسبج، بدل ما اروح اني اجتل ولده يجتلني هو ويخلص، وهاتبجى الحكاية كده خلصت وبدل ما راح منك راچل هيروح اتنين، يا رب يكون ده اللي هيريحك يا مندهة!؟.

هتفت امه صارخة: - دم ابوك لازم ياچي حجه، مش هيرتاح ف تربته وهو حجه ضايع، وأرض ابوك اللي جتلوه بسببها وكلها المراشدي ف عبه لازما يكون ليها تمن، ومفيش حاچة هتبرد ناري الا دم ولده..
صرخ حزن في وجع: - مفيشي فايدة، مهما اجول برضك اللي ف راسك ف راسك..

تقدمت اليه سعادة تربت على ذراعه بعد ان هدأت من صدمة اطلاق النيران عليهما قبل دقائق تذكره بما قالته له ليتطلع اليها وقد ادرك ما كانت ترم اليه فزفر وهمس مهادنا امه: - ياما اني ولدك الوحيد اللي ربنا رزجك بيه بعد ما كان كل عيل ياجيكي يموت، وبلتيني بالاسم اللي فضل ملاحجني نحسه فين ما بروح، ومات ابويا بين درعاتي وانا ابن الستاشر ومن يوميها واني معاك وعمري ما عصيت لك امر لكن جتل ودم!؟، لاااه ياما..

انت مش خايفة على ولدك، منفسكيشي تشوفيه عريس وتفرحي بشوفة عياله..
واقترب منها منحنيا يلثم جبينها هامسا: - ياما، احب على يدك بلاها الليلة دي..
همست امه وقد رق قلبها قليلا: - وهو الحاچ لطفي هيسيبك!؟، ما اهااا، بعت اللي يريحه منيك..
هتف حزن في حماسة: - دي بجى سيبهالي..
هتفت امه مستفسرة: -هتعمل ايه!؟.
اندفع خارج الدار مجيبا: - اللي ربنا يجدرني عليه..

وتطلع للافق وقد بدأت الشمس تشق بأشاعتها غمام الليل الطويل..

اندفع حزن لداخل قاعة المراشدة هاتفا مستدعيا الحاج لطفي: - يا حاچ لطفي، انت فين يا حاچ!؟.
ظهر لطفي داخل القاعة وخلفه عدد من رجال العائلة وقد كانوا يتناولون الإفطار فنهضوا مندفعين استجابة لنداء حزن العجيب في قلب مضيفتهم..
تطلع الحاج لطفي الى حزن في دهشة وتساءل في كبر: - انت ايه اللي چابك هنا!؟.
هتف حزن في هدوء: - السلام عليكم الأول يا حاچ ده اني ضيف عنديكم برضك ولا ايه!؟.

شعر لطفي بالحرج لان حزن كان يوجهه للأصول والواجب وهو بقلب داره وهتف مهادنا بدوره: - وعليكم السلام يا سيدي، أي خدمة!؟.

ابتسم حزن هاتفا: - لاااه يا حاچ تسلم، اني بس چاي وجدام ناسك كلهم وانت كبيرهم اجولك اني عفيت عن حج الدم اللي بناتنا، اني مسامح يا حاچ لطفي، مسامح وسايب الحج على الله، ويبجى لا ليكم عندي ولا ليا عنديكم، وربنا يعوض على الكل وحبيت اجولك ان دخلتي بكرة باذن الله وعامل جاعدة ع الضيج، هي مش كد مجامكم بس تشرفوني وعلى راسي مچيتكم، سلام عليكم..

انهى حزن كلامه واندفع راحلا خارج مضيقة المراشدة تاركا إياهم يضربون كفا بكف، يتطلع كل منهما للاخر في تعجب لما حدث، حتى ان الحاج لطفي تطلع اليهم لعل احدهم يفوه بحرف لكن كأن على رؤسهم الطير مما دفعه ليهتف في اضطراب: - انتوا مصدجين اللي هو جاله ده!؟.

هتف احدهم: - والله يا حاچ الواد كان بيتكلم والصدج طالل من عيونه، ده لا يمكن يكون بيكدب ابدا، وبعدين يكذب ليه!؟، ما هو صاحب الدم وكان ليه ياخده، ايه اللي يخليه ياچي يسامح فيه!؟.
هتف اخر في نزق: - يا حاچ لطفي هو عارف جيمته زين وعارف انه بطوله لا ليه ناس ولا بدنه يعني هيروح فطيس، يبجى عليه من ده بكام!؟.

هز الحاج لطفي رأسه متفهما وتطلع الى الخارج حيث غاب حزن وهمس متسائلا مستأثرا بسؤاله لنفسه: - كيف مندهة ترضى باللي عمله ولدها ده!؟.
كان هذا السؤال فعلا ما يؤرقه فقد كان كل خوفه من ضغط مندهة على حزن لينفذ لها رغبتها في الأخذ بثأر ابيه، وساعتها سيحدث ما لا يحمد عقباه..

شعر حزن براحة عجيبة بعد هذه الزيارة التي كانت كفيلة بجعله يلق كل ما كان ينوء بحمله عن كاهليه ليجد قدميه تقوداه لقبر ابيه بذاك الجبل، كان موضع قبره يطل على نافذة حجرته التي تشغلها امه حتى اليوم والذي اختارته بنفسها حتى تستشعر قربه دوما..

جلس امام القبر وملس على ثراه في حنين جعل الدمع يتراقص بمآقيه وهمس في نبرة مترددة: - ازيك يابا، اتوحشتك يا غالي، اني سامحت ف حج الدم، دمك الطاهر، معرفش اللي عملته ده صح ولااه غلط، لكن من يوم ما وجعت بين درعاتي وحطيت يدي على چرحك وحسيت بدمك وسخونته وبوچعك وانت بتودع، عرفت كد ايه الروح غالية، غالية جوي وخصوصي على ناسها وحبايبها، كرهت اسبب الوچع اللي حسيت بيه بيجتلني واني شايفك جدامي بتنازع ومش جادر اعمل لك حاچة لأي حد مهما كان، سامحني يابا لو شايف اني جصرت ف حجك، واوعدك اني هرچع ارضك شبر شبر، بس كله بالحسنى وبما يرضي الله..

تنهد حزن وهمس مستطردا: - كان نفسي تبجى موچود يوم فرحي وتشوف عروستي، سعادة بت حلال وزي الجمر، اني عارف لو شفتها هتعرف ان ولدك واعر، وعرف ينجي ست البنات..
ووش السعد كمان، كن ربنا عايز يعوضني عن الحزن اللي شفته بسبب اسمي فبعت لي سعادة عشان تكون الفرحة اللي ف حياتي واشوف الحلو كله والفرج من ساعة ما عرفتها..

ابتسم جزن من جديد متطلعا لثرى قبر ابيه وكانه امامه يحدثه بالفعل وهمس في مشاكسة: - مندهة بتسلم عليك، اني مش عارف كيف كنت عاشجها والله!؟.

وقهقه مستكملا: - بس هي بتعمل اللي بتعمله ده كله عشان عشجاك وعمرها ما حست انك غبت عنيها، كنت بلمحها كل ليلة واجفة ف شباك جاعتكم تطلع لجبرك هنا وتتحدت معاك كنك هتسمعها، كنت بستعچب وأجول امي اتچنت، لكن بعد ما عرفت العشج ودجت ناره وعيت انها كانت ست العاجلين وانك مهما كنت بعيد عنها فانت حاضر بروحك مافرجتهاش..

ساد الصمت لفترة ونهض حزن ليقرأ الفاتحة على روح ابيه في خشوع وأخيرا رحل وقد شعر انه لم يكن بهذا الهدوء والسلام الداخلي من قبل..

الفصل التالي
جميع الفصول
روايات الكاتب
روايات مشابهة