قصص و روايات - نوفيلا :

نوفيلا سيدرا للكاتبة منال سالم الفصل الثاني

نوفيلا سيدرا للكاتبة منال سالم الفصل الثاني

نوفيلا سيدرا للكاتبة منال سالم الفصل الثاني

مر هيثم بسيارته المسرعة بالبركة فتناثرت المياه بشدة على سيدرا التي صرخت في فزع مخيف، وغطت وجهها بكلتا يديها لتحميه، ولكن أُغرقت كامل ثيابها بالمياه..
تعالت ضحكات هيثم على هيئة الفتاة، وشاركه سليم الابتسام رغم قسوة الموقف، ظن سليم أنه قد شفي غليله ولو قليلاً بما حدث..
اغتاظت سيدرا مما صار معها، فبدأت بالصراخ العنيف المصحوب بالسباب واللعنات عالياً...

انزعج هيثم من ردة فعل سيدرا، وكذلك كان حال سليم..
-هيثم بضيق: يالها من فلاحة سليطة اللسان
-سليم بتهكم: إنها تحتاج لتربية من جديد
-هيثم على مضض: صدقت!
-سليم متوعداً وبنظرات قاسية: ما رأيك أن نلقنها درساً لا تنساه
-هيثم متسائلاً في ترقب: ماذا ستفعل؟
-سليم بنبرة متوعدة، ونظرات قاتمة: انتظر، وسترى!
-هيثم وهو يمط شفتيه: مممم...

-سليم بنبرة آمرة وهو يشير بيده: بدل مقعدك معي، فأنا أريد أن ألقنها هذا الدرس القاسي
بالفعل نهض هيثم من خلف المقود، وبدل مقعده مع سليم الذي أمسك بعجلة القيادة، وبدأ ينظر لسيدرا بنظرات مليئة بالانتقام فقد نجحت هذه الفتاة في إفقاده صوابه..
وقفت سيدرا تنفض نفسها، وتحاول إزاحة المياه العالقة بشعرها وبفستانها الأرجواني، ولكن هيهات، فقد صارت هيئتها رثة ومزرية للغاية..

ضغط سليم بقسوة على دواسة البنزين، ثم أدار المقود للجهة العكسية فدارت السيارة بمهارة للجهة الخلفية، ثم التف بها ليصير مواجهاً ل سيدرا..
انتبهت سيدرا لحركة السيارة المفاجئة، وصوت زئير محركها العالي والمزعج، فارتعدت أوصالها حينما رأت السيارة في مواجهتها - ولكن على بعد منها، وإنتفض قلبها رعباً وتوجست خيفة حينما أمعنت النظر في السائق الذي كان يرمقها بنظرات شيطانية شرسة..

لقد حفرت صورة ذلك السائق القاسي في ذاكرتها، ظلت تنظر إليه بأعين مترقبة وقلقة و...
-سيدرا بصوت خافت وخائف، وبقلق واضح: ماذا ينوي أن يفعل هذا المجنون؟
ضغط سليم على دواسة البنزين بكل غضب، فانطلقت السيارة كالطلقة المدوية، وتوجه بها ناحية سيدرا..

رأت سيدرا السيارة قادمة في اتجاهها بسرعة عالية، فدب في قلبها الرعب، وتملكتها رعشة رهيبة وهي تنظر إليها في هلع، وتنبهت إلى أنها ستصبح واقعة لا محالة تحت عجلاتها إن ظلت متسمرة في مكانها، لذا ركضت بخطوات سريعة وخائفة للأمام محاولة أن تسبقها
ظل سليم يلاحق سيدرا المرتعدة بالسيارة، وهي تصرخ عالياً كي يغيثها أي أحد، ولكن لا جدوى، فقد كانت بمفردها على الطريق...

كانت سيدرا تستدير برأسها بين الفنية والأخرى لترى مدى قرب السيارة منها، فتحاول أن تتسابق في خطواتها..
تلاحقت أنفاس سيدرا، وقفز قلبها في مكانه من الرعب الممزوج بالخوف الشديد، ورغم أن ساقي سيدرا قد بات تؤلماها إلا أنها أصرت على عدم التوقف عن الركض، فحياتها على المحك، ولكنها لن تقبل – رغم قسوة الموقف - أن تستسلم لمصيرها بسهولة.

خاف هيثم من أن يتهور سليم أكثر من هذا مع الفتاة، لذا رجاه أن يتوقف عما يفعل و...
-هيثم برجاء، ونظرات متوسلة: كفى سليم، لقد نالت الفتاة كفايتها
-سليم وهو يجز على أسنانه بغل: ليس بعد! هي حطمت حياتي
-هيثم متسائلاً بعدم فهم: ماذا تقول؟
عقد سليم حاجبيه بطريقة وحشية، وسلط بصره أمامه، و..
-سليم بنظرات قاتلة، ونبرة تشبه فحيح الأفعى: سأبيدها كما أبادت سعادتي.

-هيثم بتوجس وهو يحاول إيقافه: انتظر سليم، أنت لست في وعيك
مد هيثم كِلا يديه وأمسك بالمقود وحاول قدر الإمكان أن يوقف السيارة وأن يعيد سليم إلى رشده، فقد أفقدته تلك الفتاة صوابه حقاً، فبات في عالم أخر لا يرى فيه سوى أن يتخلص منها.

ركضت سيدرا بأقصى سرعتها وهي تكاد تموت رعباً من ذلك السائق المجنون، ظلت تلهث بصعوبة، وتحاول إلتقاط أنفاسها، وما إن اقتربت من تلة صغيرة مغطاة بالشجيرات الخضراء، حتى إنحنت بجسدها ناحيتها، وظلت تزحف وتزحف حتى توارت عن الأنظار.

أوقف هيثم السيارة، وظل ينهر سليم على ما فعل، فهو قد شعر بالندم لتسرعه على الموافقة على تلك اللعبة الحمقاء التي كادت أن تتحول إلى كارثة خطيرة، ثم طلب منه بهدوء يحمل نبرة جادة أن يبدل مقعده معه كي يكمل هو قيادة السيارة إلى منزله الكبير..

في البداية كان سليم متشبثاً بمقعده، مسلطاً بصره عند النقطة التي تلاشت بعدها الفتاة، واختفت عن ناظريه، ثم انتبه لاحقاً لصوت هيثم المتذمر، فتنهد في عصبية، ورمقه بنظرات خاوية، لا حياة فيها...

وبالفعل ترجل سليم من السيارة وظل ينظر بعد أن ضيق عينيه في إتجاه الشجيرات التي إختبأت بداخلها سيدرا للحظات، ثم دار حول السيارة، وركب في المقعد المجاور لهيثم، استدار هيثم برأسه ناحية سليم ذو ملامح الوجه المتجمدة، وتنهد بإرتياح لأن الأمر قد مر مرور الكرام، ولم ينتهي بفاجعة، ثم انطلق هيثم بعد ذلك بالسيارة مبتعداً عن المكان...

كتمت سيدرا أنفاسها المتلاحقة حتى لا يلاحظها ذاك السائق المجنون، وما إن رحل حتى تنفست الصعداء من جديد، ووضعت يدها على صدرها الذي كان يعلو ويهبط بطريقة جنونية محاولة تهدئة نفسها من تلك اللحظات المرعبة التي مرت بها...
-سيدرا بخفوت وهي تزمجر: ياله من أبله حقير! كاد أن يقتلني رعباً بتصرفاته الطائشة، حمداً لله أني نجوت منه!

خرجت سيدرا من خلف الشجيرات التي كانت مختبئة خلفها، ثم نظرت إلى الطريق بأعين قلقة، وحينما اطمأنت أن الطريق خالي، صعدت عليه من جديد، وسارت مرة أخرى عليه بخطوات مضطربة، بل الأحرى أن نقول أنها ركضت عليه بخطى سريعة حتى اقتربت من المكان الذي تتواجد فيه عائلتها.

وصل هيثم بالسيارة إلى حديقة ضخمة وكبيرة مزدانة بالأشجار العالية المتشابكة الأغصان فيما بينها لتشكل سوراً كبيراً وعالياً يحجب الأنظار عما يدور بالداخل...
أدار هيثم مقود السيارة لكي يصل إلى تلك البوابة الجانبية حيث ينتظر بجوارها رجل عجوز، وما إن رأى السيارة حتى نهض مسرعاً من على مقعده الخشبي، وفتح البوابة لتدلف السيارة إلى الداخل..

سارت السيارة على طريق ممهد بالأحجار الداكنة وعلى جانبيه نمت حشائش صغيرة، وفي نهايته يوجد مدخل مزدان بأعمدة رخامية ضخمة حيث ذاك المنزل الأثري الضخم والعتيق الذي يتوسط تلك الحديقة الغناء...
أوقف هيثم السيارة، ونظر إلى سليم الجالس بجواره بنظرات متفحصة، وأشار له برأسه لكي ينزل، أخذ سليم نفساً عميقاً وزفره على عجالة، ثم وضع يده على مقبض السيارة وفتحه ببطء شديد، ثم ترجل سليم منها..

وقف سليم ينظر إلى ذلك المنزل بأعين تحمل الكره والبغض لذاك المكان، وقف للحظات مستنداً بيده على باب السيارة، شرد بعقله في ذكريات الماضي الآليمة، ومر بمخيلته طائف من بكاء والدته وتوسلاتها إلى أبيه كي لا يتركها ويذهب إلى تلك الضيعة، وكيف انتهت حياتهما سوياً بالانفصال...
لاحظ هيثم شرود سليم فاقترب منه بهدوء، ثم مد يده ووضعها برفق على كتفه، وضغط عليه برفق لكي يحثه على الدخول و...

-هيثم متسائلاً بصوت خافت: ما بك؟
-سليم وهو يزفر في ضيق: لا شيء..
-هيثم متسائلاً بقلق: ولكن آآآ...
-سليم مقاطعاً بحدة: أريد أن أنتهي من كل شيء بسرعة، أنا لا أطيق البقاء هنا
-هيثم بهدوء حذر: حسناً، ولكن دعنا دخل أولاً
سار سليم بخطوات متثاقلة نحو باب المنزل، ولحق به من خلفه هيثم..

في الطرف الأخر من المزرعة، كانت سيدرا قد وصلت إلى حيث تجلس عائلتها، ظلت تلهث وهي تسير، وتلتقط أنفاسها بصعوبة، ولم تخلو شفتيها من بعض السباب اللاذع
لمحتها سيلين من بعيد، فركضت ناحيتها وهي تنادي عالياً ب...
-سيلين بنبرة هادرة: سيدرا..! سيدرا!
انتبه الجميع على صراخ الطفلة سيلين، والتفتوا جميعاً برؤوسهم حيث ركضت، وبالفعل رأوا سيدرا وهي تقترب منهم.

وضعت سيلين يديها على فمها في فزع حينما رأت ملابس سيدرا ملطخة بالطين و نظرت إليها بنظرات مصدومة و...
-سيلين متسائلة بإندهاش: ماذا حدث؟
لم تجب سيدرا على أختها الصغيرة، وإنما أكملت سيرها في ضيق، وتوجهت إلى والدتها، ثم ألقت بثقل ساقيها على الأرض فبدى شكلها مضحكاً، وظلت تسب وتلعن في ضيق جليّ...
نظرت إليها والدتها وهي تعقد حاجبيها بتعجب شديد، وظلت تتأمل هيئتها المزرية و..

-ريحانة باستغراب: ما الذي حدث بنيتي؟
تحدثت سيدرا كما لو كانت تحادث نفسها و..
-سيدرا وهي تتمتم بنبرة حانقة: إنه مجنون، حقاً مجنون
-ريحانة متسائلة بعدم فهم: من هو ذاك المجنون؟
نظرت سيدرا إلى والدتها وأدركت أنها بالفعل جالسة بطريقة مضحكة وتتحدث إلى نفسها، فاعتدلت في جلستها ولملمت فستانها المبعثر حولها...

أعادت والدتها تكرار السؤال مجدداً، وفي تلك المرة أخذت هي نفساً مطولاً، ثم زفرته في حنق وبدأت تسرد على والدتها ما دار معها على الطريق...
استمع باقي أفراد العائلة لما سردته سيدرا دون أن يعقب أي أحد منهم، فقط هم ينتظرون ردة فعل والدتها...

عاتبت السيدة ريحانة ابنتها على ما فعلت، وحملتها اللوم فيما جرى لأن لسانها السليط وتهورها هما اللذان قد جنيا عليها، لذا عليها ألا تلوم الأخرين حينما يردون عليها رداً قاسياً..
اغتاظت سيدرا كثيراً، واحتقن وجهها بالدماء الغاضبة، واشتعلت النيران في عروق عنقها، ثم نهضت من جوار والدتها وتوجهت ناحية جدها الذي كان يكمل عمله في الحقل، ومالت برأسها على ظهره، وأحاطته من الخلف بذراعيها و...

-سيدرا نبرة حانية: جدي! أنا لستُ آثمة
أمسك الجد حمدان بيدي حفيدته المحبوبة، ثم استدار بجسده ناحيتها، ومسد على شعرها برفق وحنو بالغة، ثم ابتسم لها ابتسامة حانية و...
-الجد حمدان مبتسماً ببراءة: أعلم هذا صغيرتي
-سيدرا بضيق، ونظرات حانقة: قل هذا لأمي، فهي تظن أني المذنبة فيما حدث
-الجد حمدان بنبرة هادئة: إنها تخشى عليكي حبيبتي
اعتدلت سيدرا في وقفتها، ثم رسمت ملامح الجدية والصلابة على وجهها البريء و...

-سيدرا بنبرة واثقة: أنا لا أخشى شيئاً جدي، فأنا شجاعة ولا يهمني أي أحد
-الجد حمدان بصوت رخيم: يا بُني...
لم يكمل الجد حمدان جملته حيث قاطعته الجدة مريام ب...
-الجدة مريام بحزم: كفاكم لهواً، نريد أن ننتهي من كل شيء قبل أن تغرب الشمس
إحتضنت سيلين جدتها بذراعيها الدقيقة، ثم رفعت بصرها ناحيتها، ونظرت إليها بنظرات متعشمة و...
-سيلين متسائلة ببراءة: جدتي هل سنذهب إلى الحفل الكبير الليلة؟

وضعت الجدة مريام كف يدها المجعد على وجنة الطفلة سيلين الناعمة و...
-الجدة مريام بنظرات دافئة: إن انتهينا مبكراً ربما سنذهب
وثبت سيلين بقدميها في سعادة، بينما أكمل الجد حمدان عمله، في حين افترشت سيدرا الأرض بجوار والدتها تتناول الطعام بشَرَهٍ..

دلف سليم إلى داخل ذلك المنزل الكئيب الذي يحمل آلام الماضي بين جدرانه، لم يتغير به شيئاً، فكل شيء كما تركه من قبل، فالأثاث مازال موضوعاً في مكانه فقط يكسوه غبار الزمن، والسجاد يحمل بين طياته أثار سنوات قد مضت، وكأنه يرثي حاله..

جاءت سيدة ما يبدو عليها آثار التعب والإرهاق، وتجاعيد الزمن، بالإضافة إلى الشيب الذي يغزو شعرها المنمق المعقوص للخلف على هيئة كحكة صغيرة، ولكنها كانت تبتسم في سعادة ورضا، وما إن رأت سليم حتى لفظت عفوياً باسمه، ثم فتحت ذراعيها بفرحة وكانت على وشك الاقتراب منه وإحتضانه بين ذراعيها بحنو بالغة لأنها كانت تفتقده بشدة، ولكن أوقفها عن فعل هذا إشارة جادة في وجهها من كف يد سليم، فأرخت على الفور ذراعيها إلى جانبها، ثم أطرقت رأسها للأسفل في خجل و إحراج بالغ و..

-سليم بنبرة جادة: لم أعد صغيراً يا سوسن، واسمي السيد سليم
-سوسن وهي مطرقة الرأس بنبرة متلعثمة: آآآ، معذرة سيدي، كنت، كنت، أريد فقط الترحيب بك
شعر هيثم بالاحراج الشديد الذي تعرضت له تلك المربية الفاضلة التي تدعى سوسن، فهي من كانت تتولى رعاية سليم وهو في سن صغير إلى أن انفصل أبويه فانتقلت للعيش في ذاك المنزل الكبير لتتولى شؤونه...
-سليم بنبرة جافة وآمرة: أحضري لنا الطعام.

-سوسن بصوت خافت وحزين: حاضر سيدي
مال هيثم قليلاً بجذعه ناحية سليم ثم همس له ب...
-هيثم بنبرة معاتبة: لماذا فعلت هذا؟
-سليم بنظرات باردة: لا شأن لك، وهيا بنا إلى المكتب، فأنا لا أريد إضاعة وقتي هنا!
-هيثم بإقتضاب: حسناً..
دلف الاثنين إلى داخل غرفة المكتب المظلمة بعد أن أدار سليم مقبض الباب القديم ليصدر صريراً مزعجاً قبل أن ينفتح الباب على مصرعيه...

مد سليم أصابعه لكي يضغط على مفتاح الإضاءة، وبالفعل أنارت الغرفة بضوء خافت وباهت..
نظر سليم إلى ذاك المكتب العتيق ذو اللون البني الداكن، وتأمل سطحه المغطى بالأتربة وهو يمط شفتيه في هدوء حذر...

جاب سليم ببصره الغرفة، وهو يزم شفتيه، إنها على حالها كما تركها قبل عدة سنوات، فهناك مكتبة عريضة وواسعة تأخذ مساحة جدارين من الغرفة ومليئة بمختلف أنواع الكتب والروايات في كافة المجالات، وهناك أريكة جلدية قديمة موضوعة إلى جوارها، بالإضافة إلى دولاب خشبي عتيق به العديد من التحف الزخرفية..

مسح سليم بطرف إصبعه على سطح المكتب، ثم رفعه ليراه قد تحول للون الرمادي بفعل الغبار، فنفضه بإصبعيه وعلى وجهه علامات امتعاض، ثم تحرك بخطوات بطيئة ناحية المقعد المبطن بالقماش من النوع ( القطيفة ) وذي اللون الزيتي...
وضع سليم يده بتمهل على طرف المقعد ثم سحبه للخلف بهدوء وجلس عليه بتريث...

وضع سليم قبضتي يده على سطح المكتب ثم شبك أصابعه معاً ورفع يديه قليلاً للأعلى وأسند ذقنه على مرفقيه، وسلط بصره في نقطة ما أمامه، وشرد للحظات، حدق هيثم في سليم محاولاً سبر أغوار عقله، و...
-هيثم متسائلاً بنظرات ضيقة: ماذا يدور في بالك؟
صمت سليم ولم يجب هيثم، وإنما ظل على حالته تلك..

أدرك هيثم أن سليم لن يبوح أو يفصح عما يدور بداخله بسهولة، لذا تحرك في الغرفة، وسار في اتجاه المكتبة، وظل يعبث في محتوياتها القيمة...
شرد سليم في أحزانه، كم أن هذا البيت يحمل آلاماً كثيرة، كم أن كل شيء موجود به يذكره بالماضي وأشجانه...
قطع شروده صوت المربية سوسن وهي تطرق على باب الغرفة من جديد و..
-سوسن بخفوت، ونظرات حذرة: الطعام جاهز، تفضلا.

أرخى سليم ساعديه، ثم تنهد في ضيق، واستند بقبضتيه مجدداً على سطح المكتب، ثم بكل حدة دفع نفسه للنهوض عن المقعد، وسار بنفس الخطوات المتثاقلة نحو الباب ليدلف إلى خارج المكتب، في حين وضع هيثم الكتاب الذي كان ممسكاً به على أحد الأرفف، وسار بخطى سريعة لكي يلحق بسليم...
تناول الاثنين الطعام في هدوء تام، في حين كانت المربية سوسن تقف على مقربة منهما حتى تستطيع أن تلبي طلباتهما إن احتاج أحدهما لشيء...

جمعت ريحانة ما تبقى من الطعام، وأعادته للسلة مجدداً بعد أن رتبته، بينما نهضت سيدرا من على الأرض وقامت بطي الملاءة بمساعدة اختها الصغرى وهما تتمازحان في مرح...
ثم قامت الجدة مريام بمعاونة زوجها حمدان في جمع أشيائهما من المزرعة، واستعد الجميع للعودة إلى منزلهم...

فرغ سليم من تناول الطعام، ونهض عن الطاولة وكأنه آلة تتحرك وفق تعليمات محددة، ثم توجه مجدداً إلى غرفة المكتب، في حين ظل هيثم جالساً على مقعده الجلدي، وحاول أن يعتذر للمربية سوسن عن أسلوب سليم الفظ والفج في التعامل، ويختلق له الأعذار حتى لا تحمل في نفسها ضغينة ضده، فابتسمت له المربية سوسن ابتسامة رقيقة، ولم تعقب..

دلف سليم إلى المكتب مجدداً، وجلس على المقعد الزيتي الوثير، ثم مد أصابع يده لكي يفتح أحد الأدارج الجانبية، وأخرج منه عدداً من الأوراق والملفات...
ثم بدأ في مطالعة كافة الأوراق الموجودة بأدراج المكتب واحداً تلو الأخر، ثم قسمهما إلى مجموعتين، وبدأ بتدوين بعض الملحوظات على ورقة خاوية مسنودة بجواره
دلف هيثم إلى داخل غرفة المكتب، فوجد سليم مندمجاً في العمل، فسأله عما يفعل و...

-هيثم وهو يعقد حاجبيه في تساؤل: ما الأمر؟
-سليم بنبرة آمرة وهو يشير بعينيه: اجلس يا هيثم
جلس هيثم على المقعد المقابل لمكتب سليم، ثم أمعن النظر في كل تلك الأوراق القديمة الموضوعة على سطح المكتب و...
-هيثم باستغراب: ما كل هذه الأوراق؟
-سليم بجدية: إنها عقود الملكية الخاصة بأبي
-هيثم متسائلاً في حيرة: ولماذا تقرأها الآن؟
-سليم بنبرة صارمة: أريد أن أبيع كل شيء هنا.

اتسعت عيني هيثم في ذهول، وفغر شفتيه في صدمة و...
-هيثم متعجباً: كل شيء!
-سليم وهو يتمتم بإيجاز: بلى
-هيثم متسائلاً بتوجس: حتى هذا المنزل؟
-سليم وهو يوميء برأسه: أها
-هيثم بإندهاش: لماذا؟
اكفهر وجه سليم نوعاً ما، ثم أخذ نفساً مطولاً من جديد، ونظر إلى هيثم بنظرات جامدة و...

-سليم بنبرة مريرة: أنا لا أحبذُ هذا المكان على الإطلاق، ولن آتي إلى هنا مجدداً، لذا أسلم شيء هو أن أتخلص من كل شيء يربطني بهذا المكان وللأبد
-هيثم بنبرة معاتبة: أنت مجنون، أتعرف هذا؟ كيف يعقل أن تضحي بشيء ثمين كهذا؟
-سليم بجدية وهو يطالع الأوراق: لا أريده!

حل المساء، وذهبت عائلة الجد حمدان إلى ذاك الحفل الريفي البسيط..
كانت الأجواء فيه مبهجة للغاية، فكل شيء بسيط ولكن تملأه السعادة والبهجة
كان الأطفال يركضون في كل مكان، جذبت سيلين جلباب جدها بيدها وطلبت منه الانضمام إلى هؤلاء الأطفال فوافق وهو يبتسم لها بإبتسامة دافئة، فركضت سيلين خلفهم لتمرح معهم في فرح..

سارت سيدرا بخطوات واثقة فهي كانت جميلة الجميلات بحق، خاصة بعد أن ارتدت ذاك الفستان الأزرق الواسع من الخصر، والضيق من منطقة الصدر، أما عن أكتافه فقط كانت قصيرة ومنتفخة، فأبرزوا معظم ذراعيها ذو البشرة الناعمة والبيضاء...
ثم أسدلت شعرها المموج خلف ظهرها، وربطت شريطة بيضاء حوله لتمنع خصلات شعرها القصيرة من الانسدال على عينيها الزرقاوتين، وتمايلت برشاقة في خطواتها وهي تسير مع عائلتها.

لم تخلوْ نظرات الاعجاب من أعين الشباب بالضيعة أبداً كلما رأوا سيدرا تمر من أمامهم أو بجوارهم، فالكل يطمع في أن تكون سيدرا هي حبيبته، أو معشوقته، ويا حبذا لو كانت هي زوجته، وكم تقدم لخطبتها أشجع الشباب وأقواهم، ولكن رفض جدها أن ترتبط بأي أحد أو حتى تتزوج حتى تكمل تعليمها، ووافقته والدتها في هذا..

حملت السيدة ريحانة في يدها بعض الأوعية المليئة بالأطعمة الشهية والطبية التي تفننت في صناعتها، وكذلك حملت الجدة مريام بعض الآجار المليئة بالمربى الطيبة..
رحبت بعض السيدات بسيدرا وبعائلتها، ومدت بعضهن أيديهن لتحملن عنهما الأوعية والآجار، ثم بدأ الجميع بالإندماج في جو الحفل الرائع...

تعالت الموسيقى في المكان، وصدحت الأنغام الحماسية في الأجواء، وبدأ بعض الشباب يدندنون بالأغاني الريفية الجميلة، وشاركهم الجد في الغناء..
وقفت الجدة مريام تنظر إلى حمدان بأعين حانية عاشقة، فكم مر عليهما سوياً، وكم عانا لسنوات، ورغم هذا هما مازالا معاً يواجهان كل الصعوبات والتحديات..

كم أحبت الجدة مريام زوجها، وكم عشقته قبل عقود طويلة، فصار هو كل حياتها، وصارت هي كل عمره، لقد كان حقاً نعم الزوج والرفيق والحبيب والابن والأخ والصديق...

في داخل المكتب ذو الإضاءة الخافتة، نهض سليم فجأة عن مقعده عندما طالع أحد الأوراق، ثم أمسك بتلك الورقة بقبضتي يده، وظل يقرأها لعدة مرات بنظرات متفحصة، و بدأ بعدها يتحدث بنبرة غاضبة وعلى وجهه علامات الانزعاج الواضحة و...
-سليم بأعين مصدومة، ونبرة هادرة: كيف هذا؟ كيف يسكت أبي عن هذا طوال كل تلك السنوات؟

الفصل التالي
جميع الفصول
روايات الكاتب
روايات مشابهة