قصص و روايات - نوفيلا :

نوفيلا سيدرا للكاتبة منال سالم الفصل الثالث

نوفيلا سيدرا للكاتبة منال سالم الفصل الثالث

نوفيلا سيدرا للكاتبة منال سالم الفصل الثالث

تعجب هيثم من الحالة الغاضبة التي انتابت سليم فجأة فنهض هو الأخر عن مقعده، ثم نظر إليه باستغراب و...
-هيثم بتعجب: ما الأمر؟
ظل سليم يجوب الغرفة ذهاباً وإياباً في عصبية مفرطة، لقد تملك الحنق منه، واشتعلت الدماء في عروقه، وتبدلت ملامح وجهه للضيق الشديد، حاول هيثم أن يعرف ما الذي أصابه، فتوقف سليم عن الحركة، ثم مد يده الممسكة بالورقة في عصبية إلى هيثم و..
-سليم بنبرة غاضبة: اقرأ المكتوب هنا!

أمسك هيثم بالورقة في يده، ثم بدأ يقرأ بتمهل ما كتب بها بعينين مترقبتين، في حين ظل سليم مكوراً لقبضة يده في عصبية و..
-سليم وهو يزمجر بغضب: كيف تفعل هذا يا أبي، كيف؟
رفع هيثم بصره عن الورقة، ونظر إلى سليم بنظرات جادة و...
-هيثم بصوت هاديء وجاد: والدك لم يخطيء.

-سليم وهو يجز على أسنانه من الحنق: أتعلم أن أبي كان يمكن أن يمتلك أرضاً كهذه قبل سنوات عدة، ويستفيد بها لولا إصراره على ترك هؤلاء اللصوص دون أن يسددوا دينهم!
-هيثم بنبرة هادئة نسبياً: إنه أمر خاص بأبيك، فلما كل هذه العصبية؟
-سليم وهو يشير بيده بحدة، وبنظرات شرسة: لأنهم لصوص، يجيدون سرقة حياتي، وكل ما يخصني
-هيثم متسائلاً في توجس: وماذا ستفعل إذن؟

-سليم بنظرات قاتلة، ونبرة متوعدة: سأطالب ذاك اللص بسداد الدين، وإلا..
-هيثم بترقب: وإلا ماذا؟
-سليم بنبرة تهديد: وإلا سيطرد شر طردة من أرضه!

قضت سيدرا ليلتها وهي تفكر في ذلك الغريب الذي طاردها بسيارته، ودت لو استطاعت أن ترد له الصاع صاعين، ولكنها بررت لنفسها أنها كانت خائفة وقتها، وتفاجئت، وبالتالي لم تحسن التصرف..
ورغم حنقها منه، إلا أنها انزعجت من نفسها لأن بالها مشغول في التفكير به وبصورته التي حفرت في ذاكرتها..

عاتبت نفسها لأنها تضيع وقتها من أجله وهو لا يستحق هذا، ولكنها تعود لتبرير موقفها هذا بأن هناك شيء ما غامض به، شيء يدفعها لمعرفته، فقد كان جلياً في عينيه الرماديتين، والفضول يقتلها لإكتشافه..
جاهدت هي طوال الليل لكي تنام، ولكن للأسف خاصمها النوم، وظلت مستيقظة على فراشها، تتقلب على جانبيها، وهي تعيد في مخيلتها ما مرت به..

-سيدرا بنبرة ضائقة وهي تجاهد لإغلاق عينيها: أووف، هلا توقفت عن تذكري به، أريد أن أنام..!
ثم وضعت الوسادة على رأسها، وبدأت في التنفس بهدوء وهي تُمني نفسها بأنها ستنام فوراً...

في صباح اليوم التالي،
أرسل سليم في طلب الجد حمدان لأمر عاجل، حيث بعث إليه حارس منزله الكبير الذي إلتقاه في السوق، وطلب منه أن يبلغه بضرورة حضوره إلى منزل السيد خالد الريان في المساء
اضطرب الجد حمدان حينما علم برغبة السيد سليم -ابن الرجل المحترم والخلوق خالد- في رؤيته، فظن أن هذا الأمر له علاقة بالرهن القديم..

وظل طوال اليوم عقله شارداً، يحاول التفكير في طريقة ما لاقناع السيد سليم بإرجاء الدين قليلاً حتى يتمكن من تدبير أموره، وكان يرجو الله في نفسه أن يكون سليم كأبيه حليماً وصبوراً...
شعرت الجدة مريام أن هناك خطب ما بزوجها، فحاله متبدل منذ أن عاود أدراجه للمنزل، وحاولت أن تعرف ما به، ولكنه أثر الصمت..

لم يتناول الجد حمدان طعام الغذاء، بل إدعى أن هناك وعكة ما به، واعتذر عن الجلوس برفقة حفيدتيه، ودلف إلى غرفته وهو عابس الوجه، منكسر النفس...
وهنا أيقنت الجدة مريام أن هناك علة ما بزوجها، فهو حينما يرفض تناول الطعام يكن هذا لسبب خطير، ولكنها حاولت ألا تظهر هذا أمام ابنتها أو حفيدتيها حتى لا تثير زعرهن بدون داعي..

حاولت الجدة مريام أن تعرف من زوجها ما الذي يقلقه، وبالفعل سرد لها ما حدث، اضطربت الجدة مريام هي الأخرى، وتملكها القلق الممزوج بالارتباك، ولكنها حاولت أن تبث الطمأنينة في نفس زوجها، وذكرته بمدى سماحة صديقه خالد وأخلاقه الكيّسة وكرم أخلاقه، فربما يكون ابنه على نفس الشاكلة من دماثة الأخلاق، فتوسم فيه خيراً، ونظر إلى زوجته بنظرات راجية، وهو يبتسم في هدوء زائف.

كما أوصاها الجد حمدان ألا تبلغ أحد بهذا الأمر إلى أن يتأكد من السر وراء هذا اللقاء...

وحينما حل المساء توجه الجد حمدان إلى منزل سليم الكبير لكي يقابله على حسب الميعاد المتفق عليه مسبقاً...

طرق الجد حمدان باب المنزل ويداه ترتجفان من الخوف، فتحت له المربية العجوز سوسن الباب، ورحبت به، ثم أشارت له بيدها لكي يدلف إلى الداخل، وسمحت له بالانتظار في غرفة الضيوف، فجلس هو على أقرب أريكة، وظل يفرك أصابع يديه في توتر شديد، هو يرجو أن يكون رابط الصداقة القوي بينه وبين السيد خالد كافياً لإقناع ابنه سليم بإرجاء سداد الدين في حالة مطالبته بهذا..

كانت اللحظات تمر على الجد حمدان كالسنون، وخاصة أن الجو كان هادئاً للغاية في ذلك المنزل، مما زاد من حالة القلق لديه،
ثم سمع صوت وقع أقدام يأتي من الأعلى، فبدأ في الاعتدال في جلسته وترقب ما سيحدث...
دلف سليم إلى داخل الغرفة، ونظر إلى الجد حمدان بنظرات مليئة بالازدراء والاشمئزاز وهو واضع كلا يديه في جيب بنطاله القماشي الداكن..

مد الجد حمدان يده لكي يصافحه، ولكنه تفاجيء بأن سليم يرفض مصافحته، وفقط أشار له بأعينه الرمادية الحادة لكي يجلس في مقعده..
جلس سليم في مواجهة الجد حمدان، ثم وضع ساقاً فوق الأخرى، وظل يحرك إحداهما بحركة ثابتة..

سلط الجد حمدان نظره على ساقي سليم، ثم أخرج منديله القماشي ليجفف به عرقه البارد المتصبب على جبينه، وابتلع ريقه بصعوبة، ثم حاول أن يستجمع شجاعته لكي يبدأ بالحوار، ولكن خرج صوته متحشرجاً ضعيفاً و..
-الجد حمدان بصوت متحشرج ومتلعثم: أنا، أنا
أشار له سليم بإصبعيه لكي يصمت، فنظر إليه الجد بأعين مصدومة وزائغة و...

-سليم بحدة وبصوت هادر: أنت لص وضيع! استطعت أن تضحك على أبي وتسرق منه ماله طوال تلك السنوات، فلن أُنخدع بمظهرك هذا!
تجمدت الكلمات في حلق الجد حمدان، ولم يقوْ على أن ينطق بكلمة واحدة، فحلقه صار جافاً للغاية..
نظر إليه سليم بإستعلاء ممزوج بالاشمئزاز، ثم توقف عن تحريك ساقيه، وأنزلها، ونهض عن مقعده فجأة، وانتصب في وقفته و..

-سليم مكملاً بنبرة قاسية ونظرات مهددة: أريد مال أبي كاملاً غداً، وإلا، وإلا تحمل العواقب!
اتسعت عيني الجد حمدان في ذهول وصدمة، ثم شحب لون وجهه تدريجياً، وتحول نوعاً ما للزرقة، وتبدلت ملامحه إلى الزعر حقاً..
-الجد حمدان بنبرة متلعثمة: غ، غداً؟
-سليم بقسوة شديدة: بلى، وإلا أعدك أنك ستلاقي الجحيم.

-الجد حمدان بنبرة راجية، ونظرات متوسلة: ولكني لا، لا أستطيع أن أتدبر حالي، أحتاج على الأقل إلى، إلى مهلة و آآآآ...
-سليم مقاطعاً ببرود شرس: هذا ليس شأني، انتهت المقابلة!
أولى سليم ظهره للجد حمدان الذي ظل متسمراً في مكانه للحظات من هول الصدمة، فهو لم يتوقع هذا مطلقاً، لقد خابت آماله حقاً، وإنهارت في لحظة كل حياته...

لقد كان الشاغل الأكبر حقاً للجد حمدان، هو كيفية إبلاغ عائلته بتلك الكارثة التي حلت عليهم دون سابق إنذار..
اعتلى وجه سليم ابتسامة باردة وهو يتلذذ نوعاً ما بتعذيب ذلك الكهل، ولكنه برر لنفسه أن ذلك حقه الذي أراد استرداده، ولن يفرط فيه من أجل حفنة من الفلاحين الأغبياء...

استدار الجد حمدان، وسار بخطوات متعثرة ومتثاقلة نحو باب الغرفة وهو يحمل همّ الدنيا فوق رأسه، لقد كبر عمراً فوق عمره، وشعر أنه عاجزاً تماماَ عن فعل أي شيء، لقد كان على وشك الإنهيار، فساقيه لم تعد تقويان على حمله، لقد أظلمت الدنيا فجأة في وجهه، وأصبح كاهله مثقلاً بالدين..

-الجد حمدان في نفسه بحسرة ومرارة: يا الله! كيف أسدده؟ أنا لا أملك إلا قوت يومي، فكيف أدفع ذلك المبلغ الطائل غداً؟ لقد ضاع كل شيء، لقد خسرت كل شيء، ماذا أفعل، ماذا؟

وقف سليم أمام النافذة، وظل يتابع الجد حمدان وهو يسير بخطوات عاجزة على الممر الحجري خارج الفيلا..
ثم وضع كلتا يديه في جيبه، ولم يحيد ببصره عنه، بل تعمد أن ينظر إليه بتشفي، ثم اعتلت زاوية فمه ابتسامة زائفة...

مر الوقت كالدهر على الجدة مريام وهي تنتظر عودة زوجها بفارغ الصبر من الخارج، ظلت تراقب الطريق من النافذة الصغيرة الموجودة بغرفة الطعام وهي جالسة على أريكة قديمة متهالكة موضوعة أسفلها، ثم رفعت بصرها للسماء تدعو الله في نفسها أن يجعل زيارته تلك بفائدة...
أخفضت الجدة مريام بصرها، ثم ضيقت عينيها حينما لمحت طيف شخص ما يقترب من بعيد و...
-الجدة مريام بخفوت: بلى، إنه حمدان، ولكن ماذا به؟

لقد أمعنت النظر في زوجها حمدان وهو يعاود أدراجه للمنزل ولكن بخطى ثقيلة وضعيفة، لقد رأته محني الظهر، شاحب الوجه، جامد الملامح، منكسر الروح، فإنتفضت فزعاً في مكانها، ثم نهضت عن الأريكة، وسارت بخطى سريعة نحو باب المنزل لتفتحه، وتستند بجواره وعلى وجهها علامات التلهف وبعينيها نظرات توجس...
اقترب الجد حمدان من الجدة مريام بوجهه الشاحب، ورأت في عينيه بريق عبرات حزينة تحاول الصمود في مقلتيه وألا تنساب..

خفق قلبها بشدة، فهي أدركت بدون أن يتكلم زوجها أنه عاد خائب الرجاء، وأن الأمر ليس بالهين على الإطلاق
-الجدة مريام بنبرة مرتعدة ومتلعثمة: ماذا، ماذا حدث؟
جاهد الجد حمدان كثيراً لكي يتحدث، ولكنه لم يستطعْ، فقد إنهارت قواه أمامها تماماً، وسقط على أرضية المنزل الخشبية عاجزاً عن الحركة، فصرخت هي بفزع في أرجاء المكان، مما جعل ابنتها وحفيدتيها يركضن سريعاً في اتجاههما.

اتسعت أعين الجميع في صدمة حينما رأين الجد حمدان ممدداً على الأرض أمامهن، حاولت سيدرا إفاقة جدها بعد أن جثت على ركبتيها أمامه، في حين أمسكت ريحانة برأس أبيها وضمته إلى صدرها وظلت تبكي خوفاً عليه، بينما تسمرت سيلين في مكانها، ونظرت إليه بنظرات خائفة..
تعاونت سيدرا مع جدتها ووالدتها في حمل الجد حمدان وإدخاله إلى غرفة نومه، ثم وضعه برفق على الفراش..

ثم ركضت سيدرا للخارج، وتوجهت ناحية المطبخ، واحضرت كوباً من الماء البارد، وعادت إلى الغرفة مجدداً، ومدت يدها بالكوب إلى جدتها التي حاولت أن تجعل زوجها يرتشف منه بعض القطرات..
ابتلع الجد حمدان الماء بصعوبة، ونظر إلى زوجته بأعين دامعة منكسرة، فأومأت الجدة مريام بعينيها إليه وقد فهمت على الفور طلبه و...
-الجدة مريام بخفوت: اتركوا الجد يرتاح قليلاً.

-سيدرا متسائلة بنظرات قلقة، ونبرة مرتعدة: ما الذي أصابه جدتي؟
-الجدة مريام بتلعثم: هه، لا، لا شيء، إنه فقط مرهق
لم تقتنع سيدرا بما قالته جدتها، فهي ليست حمقاء، هي تظن أن هناك خطب ما قد حدث لجدها، وجدتها تحاول إخفائه عنهن، ولكنها لن تستسلم أبداً، وسوف تعرفه عاجلاً أم آجلاً...

انصرفت ريحانة خارج الغرفة بعد أن دثرت والدها جيداً في الفراش، واطمأنت على أنه قد سكن تماماً، ثم صعدت إلى غرفتها، وجلست في فراشها وهي تحاول إقناع نفسها أن أبيها سيكون بخير، وأن ما به هو مجرد وعكة ما...
غفت سيلين إلى جوارها، فربتت ريحانة على ظهرها في حنان، ثم رفعت الملاءة قليلاً لكي تغطيها، وظلت تحدق بها في إشفاق..

-ريحانة في نفسها بنبرة آسى: إلى متى سأظل عبئاً على والديّ، عليَ أن أكد أكثر في عملي كي أهون عليهما قليلاً، يا الله أعني على ما هو قادم.

ظلت الجدة مريام جالسة إلى جوار زوجها، تمسد على شعره برفق، وتحاول التهوين عليه قليلاً..
في نفس الوقت تقريباً كانت سيدرا تُعيد ترتيب الصحون الفارغة في الدولاب الزجاجي العتيق حينما سمعت صوت همهمات غير مفهومة تنبعث من غرفة جديها..
فسارت هي على أطراف أصابعها بحذر في اتجاه باب غرفتهما بعد أن تركت الصحن الفارغ على الطاولة، ثم إستندت برأسها على الباب بعد أن أمالتها قليلاً محاولة الإنصات إلى همسهما.

سرد الجد حمدان لزوجته بصوت حزين منكسر ما حدث خلال لقائه بإبن رفيقه، وإصراره على سداد قيمة الدين بالكامل غداً، وإلا خسر كل شيء..
شحبت ملامح الجدة مريام، وأخفضت عينيها في يائس مرير، فهي متيقنة أنهم عاجزين عن سداد قسط واحد من قيمة الدين، فماذا عن الدين كله..
-الجدة مريام بنبرة حزينة: يا الله! إنها كارثة بحق، ماذا سنفعل؟
-الجد حمدان بنبرة منكسرة: لا أعرف.

شهقت سيدرا في خوف، وخفق قلبها في رعب، ثم وضعت كلتا يديها على فمها لتكتم صوت صراخها المكتوم في صدرها، فقد عرفت للتو سبب حزن جدها وإنهياره...
ثم ذرفت دموعاً حارقة رغماً عنها بعد أن أسترقت السمع إليهما، لقد ضحى جدها بالكثير لأجل عائلته، وهناك شخص مستبد قاسي لا يملك سوى قلب من حجر يحاول تحطيم عائلتها بالكامل وسلب حياتهم بلا شفقة ولا رحمة، جففت سيدرا دموعها بأطراف أناملها، وحدقت أمامها بنظرات مصدومة..

لقد احتقن وجه سيدرا بالدماء، واشتعلت مقلتي عينيها بالغضب وتحولتا إلى جمرتين من نار، ومدت يدها وأمسكت بمقبض الباب وأدارته بكل قوة لتفتح الباب وتدلف إلى داخل غرفة جديها...
اعتلت الدهشة وجه كلاً من الجد حمدان والجدة مريام حينما رأيا سيدرا أمامهما في تلك الساعة المتأخرة..
توجست الجدة مريام خيفة من هيئة سيدرا المريبة، ونظرت إليها بنظرات حائرة و..
-الجدة مريام متسائلة في اضطراب: ما، ما الأمر بُنيتي؟

-سيدرا بنبرة صارمة: لقد عرفت كل شيء جدتي، لا داعي لإخفاء الأمر أكثر من هذا
ابتلعت الجدة مريام ريقها في توتر شديد، وأدارت رأسها للجانب لتنظر إلى زوجها بنظرات مرتبكة، ثم استدارت مجدداً لتواجه عيني سيدرا المحدقتين بها و...
-الجدة مريام بتلعثم شديد: م، ماذا تقصدين؟

أعادت سيدرا بنفس الصلابة تكرار عبارتها الأخيرة دون أن ترمش حتى، فإنحنت جدتها برأسها للأسفل في حزن وبدأت تبكي بمرارة، فرق قلب سيلين فجأة، وتبدلت ملامحها للين، ثم اقتربت من فراش جدتها وجثت على ركبتيها أمامها، ثم أمسكت بكفي يدها المرتعشين، ودفنت وجهها في راحتيها و...
-سيدرا بنبرة باكية: لن أتخلى عنكما جدتي، سوف أحاول جاهدة أن أصلح الوضع، إطمئني!

أجهشت الجدة مريام بالبكاء، فنهضت سيدرا من على الأرضية الخشبية، وجلست على طرف الفراش، ومدت يدها لتمسح العبرات عن وجنتها المتجعدة و..
-سيدرا بنبرة حزينة: أعدك جدتي أن كل شيء سيسير على ما يرام
تنهد الجد حمدان في آسى عميق، وأشاح بوجهه للناحية الأخرى، ثم أطرق في الحديث ب..
-الجد حمدان بحسرة: لم أكن أتخيل أن يصل الوضع إلى هذا، فقد ظننت أن السيد خالد قد تناسى أمر الدين.

-الجدة مريام بنبرة باكية: لقد أخبرتك منذ فترة أن الأوضاع تغيرت، ولم يعد السيد خالد متواجداً هنا، ولكني رغم هذا كنت أرجو أن يكون ابنه حليماً وصبوراً مثله
التفت الجد حمدان برأسه ناحية زوجته، ورمقها بنظرات عاجزة و..
-الجد حمدان بنبرة آسفة: لقد خاب رجاؤك يا مريام!
-سيدرا بنظرات مضطربة، ونبرة متعشمة: سوف أحاول يا جدي، بلى سوف أتحدث معه، فقط أخبرني بعنوانه، وأنا سأطلب منه مهلة حتى نتمكن من سداد الدين.

هز الجد حمدان رأسه في امتعاض، و..
-الجد حمدان بنظرات قلقة، ونبرة متوجسة: أخشى عليكي بُنيتي من أسلوبه الفج
-سيدرا وهي تبتلع ريقها بمرارة: لا يهم جدي، فأكثر ما يؤلمني حقاً هو أن أراك بتلك الحالة
-الجد حمدان بنبرة حازمة: لا بُنيتي
-سيدرا بنبرة استعطاف: ارجوك جدي، لن أخسر شيئاً من المحاولة
-الجدة مريام بنبرة راجية: دعها تحاول، لعل سعيها يأتي بفائدة.

-سيدرا بنظرات متوسلة، وبإصرار: بلى جدي، لعله يقتنع بحديثي معه!
زفر الجد حمدان بضيق، فهو يعلم أن محاولتها لن تأتي بفائدة معه، ولكنه لن يمنعها عن التجربة، فهي عنيدة للغاية، وستصر على أن تقابله مهما رفض..
-الجد حمدان بنبرة بائسة: حسناً، ولكني سأصحبك
-سيدرا بنبرة متمهلة: لا داعي جدي، ارتاح أنت في الفراش، وأنا سأذهب إليه بمفردي
-الجد حمدان بحزم: لا لن يحدث..!

-الجدة مريام وهي تتشدق بمرارة: إن غدوت بخير حمدان، إذهب معها..
-الجد حمدان بخفوت: حسناً..
مسدت الجدة مريام على شعر حفيدتها برفق، ثم مدت يدها الأخرى ومسحت بها على وجنتها بحنو، ونظرت إليها في امتنان، سألت سيدرا جدها عن العنوان، فأخبرها بمكانه، وبالطبع استطاعت أن تعرفه فالضيعة صغيرة، والأماكن بها محدودة، ومنزل عائلة خالد الريان معروف للجميع..

جلست سيدرا إلى جوار جديها على طرف الفراش إلى أن غفا كلاهما تماماً، فعقدت العزم على أن تتسلل من المنزل وتذهب خلسة إلى منزل ذلك القاسي والمتحجر القلب مع أول ضوء للنهار لعلها تقنعه بإرجاء سداد الدين قليلاً دون أن تعرض جدها لمشقة الطريق خاصة في حالته الصحية تلك..

تسللت سيدرا من الغرفة وهي تسير على أطراف أصابعها بحذر، ثم توجهت ناحية الدرج وأمسكت بالدرابزون، وصعدت إلى غرفتها لتبدل ثيابها بأخرى مناسبة للخروج..
ارتدت هي فستاناً طويلاً من اللون الزيتي الداكن، له فتحة صدر واسعة تبرز عنقها العاجي الطويل، وأكتاف قصيرة تغطي مقدمة ذراعيها الطويلين..

ثم مشطت شعرها للخلف، وربطت في مقدمة رأسها شريطة من نفس لون الفستان لتمنع انسدال خصلاتها وتعبثرها، ثم وضعت على رأسها وشاحاً لتغطي به وجهها وهي تسير في ذلك الوقت الباكر على الطريق حتى لا تلفت إليها الأنظار..

دلفت سيدرا خارج المنزل بهدوء حذر بعد أن تأكدت أن الجميع مازال نائماً بالداخل، ثم أوصدت الباب الخشبي العتيق بحذر شديد خلفها، وركضت مسرعة نحو الطريق...
ثم غطت وجهها ورأسها وهي تسير على الطريق الأسفلتي الذي يتوسط المزروعات في تلك الساعة الباكرة..
دعت سيدرا الله كثيراً طوال الطريق أن يوفقها في مسعاها..

وصلت سيدرا إلى ذلك المكان المهيب، اتسعت عينيها في قلق حينما وجدت نفسها تقف أمام بوابة حديدية تحاوطها أشجارٍ عالية..
ثم أخذت نفساً عميقاً، وزفرته على تمهل محاولة أن تستعيد به رباطة جأشها قبل أن تقرر الدخول لمقابلة ابن ذلك الرجل..
وضعت سيدرا يدها على أحد القضبان الحديدية، وحاولت دفع البوابة بيدها الرقيقة للأمام، ولكنها كانت موصدة، فجابت ببصرها المكان وهي تطل برأسها لترى ما الذي يوجد بالداخل..

لمحت هي حارساً عجوزاً مسجى بجسده على أريكة خشبية متهالكة، ويغط في نومه...
فنادت عليه بخفوت، ولكنه لم يستمع إليها، لذا رفعت صوتها نسبياً، فتنبه الحارس العجوز لوجودها، واعتدل على أريكته، ثم نظر إليها بعينين ناعستين، ووجه مكفهر و..
-الحارس بصوت متحشرج: ماذا تريدين؟
-سيدرا وهي تتلفت حولها بقلق: أريد مقابلة صاحب هذا البيت
-الحارس بنظرات ممتعضة: في هذا الوقت الباكر
-سيدرا بإقتضاب: بلى، فهو يعلم بوجودي.

رمق الحارس سيدرا بنظرات غريبة، ولوى فمه في انزعاج، ثم نهض عن الأريكة، وتوجه ناحية البوابة الحديدية وفتحها..
دلفت سيدرا إلى الداخل وجسدها الرقيق يرتعد مما هي مقبلة عليه، فحاولت هي قدر الإمكان أن تسيطر على خوفها المبرر، وتكمل ما قد جاءت لأجله...
ثم سارت على الممر الحجري بخطوات بطيئة، وهي مخفضة لبصرها محاولة ألا تتعثر في خطاها وهي تسير من الارتباك الممزوج بالخوف...

وصلت سيدرا إلى مدخل المنزل الكبير، ومدت يدها المرتجفة لتقرع الجرس..
انتظرت سيدرا لفترة قبل أن تعيد قرعه مجدداً، وبعد لحظة فتحت لها الباب المربية العجوز سوسن...
نظرت المربية سوسن إلى سيدرا بنظرات ضيقة وهي ترمش عدة مرات و..
-سوسن بخفوت: من أنتِ؟
-سيدرا بنبرة متلعثمة: صباح الخير، أنا، أنا أريد مقابلة السيد لأمر هام
-سوسن وهي تعقد حاجبيها في استغراب: ماذا؟

-سيدرا بنبرة مرتبكة: من فضلك أبلغيه بهذا، هو يعلم بأمري، أقصد أمر جدي حمدان
صمتت المربية سوسن للحظات تفكر في كيفية التصرف في هذا الأمر، فهي لا تريد إزعاج رب المنزل في تلك الساعة المبكرة، ولكنها في نفس الوقت لا تعرف إن كان حقاً قد أعطى لتلك الفتاة موعداً مسبقاً دون أن يخبرها، لقد ترددت المربية سوسن، ونظرت إلى سيدرا بنظرات حائرة، وفي النهاية حسمت أمرها ب...

-سوسن بنبرة شبه جادة: تفضلي، سأبلغه بوجودك، ولكن بعد لحظات
أومأت سيدرا برأسها موافقة، ونظرت إلى السيدة العجوز بنظرات امتنان
في حين فتحت المربية سوسن الباب قليلاً لتدلف سيدرا إلى الداخل وقلبها يخفق بشدة من التوتر..
حاولت سيدرا أن تبلل شفتيها بريقها لعلها تتغلب على جفاف حلقها المفاجيء من فرط التوتر..

أشارت المربية سوسن بيدها إليها لكي تدلف إلى غرفة الصالون، فإنصاعت سيدرا لها، وجلست على الأريكة في استحياء..

غابت المربية سوسن في الداخل لفترة، في حين استرقت سيدرا النظرات إلى ذلك المكان شبه المظلم والكئيب المليء بالأثاث الباهظ والعتيق، لقد كان كل شيء منمقاً للغاية، ورغم هذا فالمنزل كان خالياً من الحياة بارداً، تفوح فيه رائحة الموت، فشعرت هي بالاختناق رغم أنه لم يمر على وجودها به إلا دقائق معدودة...

مر وقت طويل على سيدرا وهي جالسة على الأريكة في انتظار مقابلة ابن السيد خالد حتى شعرت بالضجر والملل..
لقد ظنت أن السيدة العجوز قد تناست أمرها حقاً، لذا نهضت عن الأريكة، وهي تزفر في ضيق وقررت الانصراف..
لقد كان جدها محقاً، فهذا الرجل فج، وفظ، لا يعير أي أحد الاهتمام..
ولكن قبل أن تدلف سيدرا إلى خارج الغرفة استمعت إلى أصوات هادرة تأتي من غرفة قريبة جعلتها تتسمر في مكانها...

لقد سمعت بأذنيها إهانة جدها والتطاول بالألفاظ البذيئة عليه وعلى عائلتها ونعتهم باللصوص مما جعل دماؤها تغلي في عروقها، واحتقن وجهها فوراً بحمرة الغضب، فكورت قبضتها الرقيقة في قوة، وأدارت رأسها في اتجاه مصدر الصوت، ثم سارت ناحية باب الغرفة المغلق، ومدت يدها وأمسكت بالمقبض، وأدارته بكل حنق لينفتح أمامها، وتدلف للداخل وعلى وجهها انفعالات حادة.

تسمرت سيدرا في مكانها، واتسعت عينيها الغاضبتين في ذهول حينما وجدت ذلك السائق المجنون يقف أمامها..
جحظت عيني سليم في غضب حينما رأى تلك الفلاحة البلهاء تقتحم عليه غرفة مكتبه دون إذن منه...

الفصل التالي
جميع الفصول
روايات الكاتب
روايات مشابهة