قصص و روايات - نوفيلا :

نوفيلا سيدرا للكاتبة منال سالم الفصل الأول

نوفيلا سيدرا للكاتبة منال سالم الفصل الأول

نوفيلا سيدرا للكاتبة منال سالم الفصل الأول

في تلك الضيعة الجميلة، وفوق تلك المروج الخضراء والغناء، ركضت طفلة صغيرة تحمل في يدها دلواً مليئاً بالماء، وما إن رأها ذلك الرجل الكهل والعجوز حتى توجه نحوها بخطى بطيئة، وحمل عنها دلو الماء، ووضعه أرضاً، ثم انحنى ليقبل تلك الصغيرة الحسناء من رأسها..
صاحت سيدة ما وقورة وطاعنة في السن بصوت جهوري، فالتفتت الصغيرة برأسها على إثر صوتها وهي تبتسم و..
-سيلين مبتسمة: ما الأمر يا جدتي.

-الجدة مريام: كفاك لهواً يا صغيرة، وإذهبي لأختك سريعاً
-سيلين متذمرة: أنا لا ألهو جدتي! وسيدرا مازالت نائمة بالمنزل
-الجدة مريام وهي ترفع أحد حاجبيها بضيق: يالها من كسولة!
-الجد حمدان مبتسماً وبصوت حاني: اتركيها يا مريام فهي قد أخذت أجازتها للتو
-الجدة مريام بتبرم: تعلم عزيزي حمدان أن لدينا الكثير من الأعمال، ونحن بحاجة للعون
-سيلين وهي تمسك بعباءة جدتها: انا موجودة جدتي ويمكنني أن أساعدك.

-الجدة مريام وهي تمسح على وجنتها: أنتي مازلتي صغيرة، وتلك الأعمال شاقة عليكي حبيبتي
نظرت سيلين إلى الجدة مريام بأعين مغتاظة، وحاولت أن تثب عدة مرات أمامها و..
-سيلين وهي تحاول الوثب: جدتي! أنا كبيرة، انظري إلى طولي
تبسمت الجدة ضاحكة، ومالت على الصغيرة سيلين وأحاطتها بكلا ذراعيها لتحتضنها وتضمها أكثر إليها..
-الجدة مريام بخفوت: أعلم أنكِ صرت كبيرة، ولكن نحتاج لمساعدة سيدرا.

جاءت سيدة ما في منتصف الأربعينات من عمرها تمشي رويداً وهي تحمل سلة للطعام بإحدى يديها، وترفع اليد الأخرى على جبينها لكي تحجب أشعة الشمس عن عينيها الخضراوتين..
تلك السيدة هي ريحانة، هي أرملة ولديها ابنتين، إحداهما تدعى سيدرا وهي فتاة ذات ثمانِ عشر ربيعاً، والأخرى هي سيلين، وهي طفلة صغيرة في العاشرة من عمرها.

توفي زوج السيدة ريحانة –أحمد- قبل عدة سنوات، فرفضت أن تتزوج بعده مجدداً، وانتقلت للعيش مع والديها في المزرعة الصغيرة التي يمتلكاها بأحد الضياع الريفية..
كانت ريحانة دائماً ما تنشد الأفضل لابنتيها، وكافحت من أجل أن تنالا الأفضل في كل شيء.

عاونها والداها حمدان ومريام في تربية الفتاتين، ورغم تقدم الكثيرون من أهل الضيعة بعروض زواج لريحانة، إلا أنها رفضت أن تتزوج من جديد، وأثرت أن تظل وفية لزوجها الراحل أحمد وتكتفي برعاية طفلتيها...

نظرت ريحانة أمامها فوجدت كلا أبويها يعملان في المزرعة التي يمتلكونها منذ عقود، ابتسمت لهما في سعادة، ثم صاحت ب...
-ريحانة بصوت مرتفع: أبي، أمي، سيلين، لقد جئت بالطعام، هيا قبل أن يبرد
-الجد حمدان وهو ينظر إليها: لحظات وسأنتهي
افترشت السيدة ريحانة الأرض، وبدأت في إفراغ محتويات السلة على الأرض بجوارها...

سال لعاب الصغيرة سيلين حينما رأت المأكولات الطيبة التي تجيد والدتها إعدادها، فركضت ناحية والدتها و...
-سيلين وهي تتجه لوالدتها: انا جائعة أمي
-ريحانة وهي تشير بيدها: اجلسي صغيرتي، هيا تناولي طعامك ولا تتركيه كما تفعلين عادة..!
-سيلين وهي توميء برأسها: حاضر يا أمي.

وقف الجد حمدان ينظر إلى ابنته وحفيدته بأعين حانية، ثم رفع يده على جبينه ليجفف عرقه المتصبب، ثم نظر امامه وشرد لبرهة إستعاد فيها ذكريات قد مضت...

إمتلك الجد حمدان تلك المزرعة العتيقة والتي ورثها عن أجداده، وحينما انتقلت ابنته ريحانة للعيش معه من جديد، تكفل هو برعايتها هي وابنتيها رغم الضائقة المالية التي كان يمر بها...
ظل الجد حمدان وزوجته مريام يوليان ريحانة وطفلتيها الرعاية الكافية إلى أن تثاقلت الديون على كاهله، فإضطر لرهن المزرعة – دون أن يخبر أي أحد بهذا – لكي ينفق على العائلة.

رهن الجد حمدان المزرعة إلى رجل ثري يعيش هو الأخر في تلك الضيعة، واتفق كلاهما على سداد الرهن على أقساط سنوية..

عمل الجد حمدان جاهداً من أجل سداد الدين ولكن للأسف لم يستطع إلا أن يسدد جزءاً بسيطاً منه، وتغاضى مالك الدين عن الباقي ومنح الجد حمدان الفرصة لكي يسدد الباقي فور توافر أي أموال معه، ولم يقاضيه لعجزه عن السداد، واتفق معه على أن يسدد الدين من خلال رعايته لجميع ممتلكاته أثناء غيابه عن الضيعة، فالتزم الجد بهذا، وبذل جهداً مضنياً في الحفاظ على كل ما يخصه وكأنها أملاكه التي ورثها أباً عن جد دون أن يتقاضى أي أجر حتى تناسا كلاهما مسألة الدين تماماً...

نظرت ريحانة إلى والدها المتعب فوجدته شارد الذهن، فنادت عليه من جديد و..
-ريحانة بصوت مرتفع نسبياً: أبي!
انتبه الجد حمدان إلى ريحانة، فعاد من شروده وابتسم ابتسامة صافية و..
-الجد حمدان مبتسماً وبنبرة مرهقة: أنا قادم يا بنيتي.

في منزل عتيق مبني من خشب الزان الأحمر، وقف ذاك العصفور على تلك النافذة الشبه مغلقة ليغرد قليلاً..
وفي داخل الغرفة ظلت فتاة ما في عنفوان شبابها تتملل في الفراش يميناً ويساراً محاولة تغطية أذنيها بالوسادة..
حاولت الفتاة أن تسد آذنيها عن صوت تلك الزقزقة ولكنها فشلت، وفي النهاية اضطرت إلى أن تنهض عن الفراش وهي تزفر في ضيق..

توجهت الفتاة الجميلة إلى النافذة، ثم نظرت إلى العصفور بعينيها الزرقاوتين بحنق و..
-سيدرا بضيق ووجه عابس: يالك من عصفور أحمق! أريد أن أنام وأنت تمنعني عن هذا، ماذا أفعل بك؟
حلق العصفور بعيداً، فإزاد حنق سيدرا و..
-سيدرا بنبرة حانقة: الآن قد طرت، بعد أن أيقظتني، أووف!

سيدرا، هي تلك الجميلة النحيلة ذات الثمانِ عشر عاماً والجسد المتناسق و الممشوق، إنها الابنة البكر لريحانة، هي تشبه والدتها في جمالها الطبيعي غير المتكلف، تملك عينان زرقاوتان ترى أمواج البحر من خلالهما، أما بشرتها في بيضاء ناعمة، وشعرها كستنائي حريري متمرد ومموج يتخلله خصلات ذات لون بني..

اجتهدت سيدرا في دراستها، وبالفعل أتمت تعليمها ما قبل الجامعي، وكانت تطمح في أن تلتحق بالجامعة وخاصة دراسة الحقوق مع بداية فصل الخريف..
في أوقات فراغها عمدت هي إلى مساعدة جديها ووالدتها في العمل بالمزرعة..
كانت سيدرا محبوبة من أهالي الضيعة البسطاء، وتحب فعل الخيرات ومساعدة الفقراء..

توجهت سيدرا إلى المرآة، وتأملت هيئتها الغير مهندمة، وشعرها المتناثر، وعينيها الناعستين، ثم تثاءبت قليلاً وهي تتحرك ناحية كومة مطوية من المناشف القطنية، ثم مدت يدها وسحبت منشفتها وتوجهت إلى المرحاض لتغتسل..
وما إن انتهت من الاغتسال حتى ارتدت ثيابها التي تفضلها..

ارتدت سيدرا فستانها الأرجواني، ثم عدلت من هيئته عليها، وأمسكت بشريطيه المنسدلين بيديها، ثم أدارتهما للخلف لكي تعقصهما على هيئة أنشوطة، فأبرزت جمال خصرها، ورشاقة جسدها...

تركت سيدرا شعرها ينسدل كأمواج البحر الهائجة على ظهرها بعد أن مشطته، ثم ارتدت صندلها ودلفت خارج غرفتها لتنزل على الدرج مسرعة وتتجه إلى باب المنزل، ثم فتحه ودلفت للخارج، وقفت سيدرا للحظة مغمضة العينين تستنشق عبير الصباح المنعش، ثم زفرته في ارتياح وانطلقت راكضة في طريقها..

في سيارة دفع رباعي سوداء مفتوح سقفها، جلس شابان يضحكان سوياً في مرح، قاد أحدهما السيارة بعبث ( وهو يرتدي قميصاً أزرق اللون وبنطالاً من اللون البيج )، بينما أراح الثاني ظهره للخلف وأغمض عينيه ليستنشق تلك النسمات المنعشة التي تضرب وجنتيه..
كان الشخص الأخر يرتدي قميصاً أبيضاً مخططاً من جانبه بخطوط سوداء رفيعة، ومن الأسفل ارتدى بنطالاً من الجينز ذو لون أسود...

نظر هيثم إلى صديقه سليم المغمض لعينيه باستغراب و..
-هيثم بدهشة: ما بك؟
فتح سليم عيناه، ثم أمال رأسه قليلاً ناحيته و..
-سليم: لا شيء
تأمل سليم هذه الطبيعة الساحرة بعينيه الرماديتين، وشرد في ذكرياتٍ بعيدة.

إنه سليم خالد المحامي المرموق، ابن رجل الأعمال المعروف خالد الريان، ورث عن أبيه الجسد الرياضي القوي، وعن والدته كوثر الشخصية العنيدة المتشبثة برأيها..
كان حلم الفتيات القريب البعيد، يغدو بينهن بإحترافية، ويخطف قلوبهن بنظراته الواثقة، ثم ينسحب فجأة من حياتهن تاركاً إياهن يتخبطن من الحيرة والعذاب، ورغم كل هذا كان ناجحاً في عمله...

يمتلك سليم عينان رماديتان ثاقبتان، وبشرة بيضاء قاسية، وشعراً أسوداً حريراً قصيراً، وهو عريض المنكبين، مفتول العضلات، كما ترك لحيته تنبت قليلاً لتجعل من ملامحه الوسيمة أكثر قسوة وخشونة
ترعرع منذ صغره في كنف والدته كوثر التي أحبها حباً جماً، وكان بين الفنية والأخرى يأتي مع والده لقضاء العطلات بتلك الضيعة البعيدة بدون والدته التي كانت تمقتها..

لطالما رأى والدته كوثر تتشاجر مع والده خالد بشأن تلك الضيعة، فقد كان دائما السفر إليها، فظنت هي أنه على علاقة غير شرعية بإحدى الفلاحات هناك، وإزدادت شكوكها وغيرتها بمرور الأيام، إلى أن حسم خالد أمره بالانفصال عنها بعد أن صارت الحياة بينهما مستحيلة، وخاصة حينما أكتشف أمر خيانتها له مع أقرب الناس إليه، ولكنه لم يرد فضحها، واكتفى بالانفصال في صمت عنها جاعلاً ابنه يظن أنه هو المخطيء في حق والدته...

انفصلت كوثر عن والد ابنها الوحيد وهو في بداية سن المراهقة، ثم تزوجت هي من جديد، فاضطر أسفاً أن يعيش مع والده الذي كان دائم السفر لتلك الضيعة التي بغضها لأنها كانت سبب انفصال أبويه، وإنهيار حياته، فكره جميع من فيها وحمل أهلها الذنب، وكان لا يأتي لزيارتها إلا نادراً...
في الآونة الأخيرة مرض والده، وأوصاه بمتابعة أعماله في الضيعة، ولكن عقد سليم العزم على إنهاء كل صلة تربطه بتلك المنطقة التي يمقتها..

اتفق سليم مع إحدى الشركات العقارية على بيع كافة الأراضي التي يملكها في الضيعة بعد إحصائها من أجل استثمارها في تنفيذ مشروع سياحي ترفيهي على أراضيها الخصبة..
وها قد جاء في زيارة قصيرة إلى تلك الضيعة آملاً أن ينتهي من كل شيء في أقرب وقت...

أفاق سليم من شروده على صوت هيثم، و...
-هيثم متسائلاً في حيرة: هل اشتقت لهذا المكان؟
-سليم وهو يدير رأسه بفتور: ليس تماماً
-هيثم وهو يضيق نظراته: إذن هل جئت لتقضي الصيفية هنا؟
-سليم بحدة: لا، بل لأنهي بعض الأعمال العالقة هنا
-هيثم متسائلاً بنظرات متوجسة، ونبرة مرتبكة: وماذا عن عمي خالد؟
أخذ سليم نفساً مطولاً قبل أن يزفره ببطء ويتحدث ب...

-سليم بصوت يحمل نبرة الحزن والآسى: أبي! إنه مريض ولن يتمكن من العودة إلى هنا مجدداً، أنت تعلم حالته الصحية لم تعد على ما يرام، وهذا الأمر قد بات مزعجاً..
-هيثم بنبرة شبه جادة: كنت أعتقد انه يريد أن يقضي بعض الوقت هنا
-سليم بتنهيدة منزعجة: لم يعد بإمكانه تحمل مشاق السفر، لقد كبر هذا العجوز
-هيثم ضاحكاً: إنه مازال متمتعاً بحيوية الشباب، أنت فقط من تجعله يبدو كهلاً.

-سليم محذراً وهو يشير بيده: انتبه للطريق، فأنت تقود بلا مبالاة
-هيثم متحدياً: أتريد أن ترى مهاراتي في القيادة؟
-سليم بنبرة ساخرة، ونظرات ساخطة: لا تتحاذق، أنت يمكنك فقط قيادة جرار زراعي
-هيثم بنظرات واثقة: إذن تمسك جيداً، ولا تبكي حينما ترى قدراتي الفائقة
-سليم وقد قبل بالتحدي بنبرة جادة: أريني ماذا تخبيء.

في تلك الأثناء كانت سيدرا تركض مسرعة على الطريق و تحاول أن تصل قبل الظهيرة إلى أطراف المزرعة حيث تجتمع عائلتها
-سيدرا متذمرة: أحتاج إلى أن أمتلك دراجة تخصني أنا، حتى لا أركض كالمعتوهة على الطريق
لمحت سيدرا وجود تجمع للمياه في بركة ضحلة على الطريق، فنظرت إليها بضجر وحنق، ثم وقفت تفكر لوهلة في كيفية التصرف، وفي النهاية وصلت إلى حل سريع...

أمسكت سيدرا بذيل فستانها وحاولت رفعه قليلاً عن الأرض كي لا يبتل وهي تسير بخطوات حذرة عبر تلك البركة..
-سيدرا بضيق: يا الله! كم كان ينقصني تلك المياه!

قاد هيثم السيارة بسرعة فائقة ورهيبة جداً، ولم ينتبه لبركة المياه أو حتى للفتاة التي تسير عبرها..
لمح سليم وجود فتاة ما تسير بمحاذاة البركة فحاول تنبيهه، ولكنه لم ينصاع له، وصمم على زيادة السرعة أكثر وأكثر..
-سليم محذراً بجدية، وبملامح وجه قلقة: احترس! هناك فتاة ما!
-هيثم وقد ارتسمت على شفتيه ابتسامة شيطانية: إنها مجرد فلاحة بلهاء، لنمرح معها قليلاً.

صمت سليم للحظات يفكر فيما قاله هيثم، وبدأ صدى عبارته الأخيرة تتردد في ثنايا عقله و...
-سليم في نفسه بنظرات قاتمة: فلاحة بلهاء كتلك التي تسببت في تدمير حياة أمي وأبي، اذن هي تستحق ما سيحدث لها..
-هيثم مبتسماً: تمسك جيداً يا عزيزي، وأدخل رأسك حتى لا تبتل!
وبالفعل ضغط هيثم على دواسة البنزين بقوة ليزيد من سرعة السيارة، وأقترب من سيدرا كثيراً..

سمعت سيدرا صوت محرك سيارة مسرعة يأتي من خلفها، فإستدارت ب رأسها ناحية الصوت، وتفاجئت بالسيارة المسرعة القادمة في اتجاهها..
شهقت سيدرا في فزع، وارتسم على وجهها علامات الرعب الشديدة الممزوجة بالخوف، ثم أشارت بيدها لقائد السيارة لكي يتوقف، ولكنه كان يضحك عالياً وغير عابيء بها على الإطلاق...

لقد بات الوقت متأخراً لسيدرا لكي تتفاداه وتبتعد عن البركة المليئة بالمياه الضحلة، وتنجو بنفسها منه، لقد أصبح الاصطدام وشيكاً بها لا محالة.

الفصل التالي
جميع الفصول
روايات الكاتب
روايات مشابهة