قصص و روايات - نوفيلا :

نوفيلا سر و علن للكاتبة زينب محمد الفصل السابع والأخير

نوفيلا سر و علن للكاتبة زينب محمد الفصل السابع والأخير

نوفيلا سر و علن للكاتبة زينب محمد الفصل السابع والأخير

أدخلي براحة..
هتف بها يوسف وهو يساعدها في الدخول للشقة، ابتسمت بلطف، ورفعت بصرها إليه وهي تقول بمزاح خفيف:
أنا مش عاملة عملية يا يوسف، ده تسمم عادي يعني...
جلست فوق أقرب مقعد ومازال جسدها يعاني من الإرهاق والتعب فجلس مقابلها يهتف بحنق زائف:
تصدقي أنا غلطان، يالا قومي خدي الشقة كله مسح وتنضيف...

وعلى ذكر الشقة حولت بصرها في أرجاءها بحزن، هي تعلم أن فترة مكوثها قليلة، ولكن شعرت بها بمشاعر لم تعهدها من قبل حتى وهي وسط عائلتها، رغم جفاء الغربة وقسوتها، إلا أنها هنا شعرت بالدفيء والاحتواء، شعرت بالمأمن والسكينة، سكينه احتلت قلبها لم تشعر بها قط، فظهرت إبتسامة جميلة فوق ثغرها، تقابلت نظراتها معه، فتدفقت الدماء لوجهها خجلاً، وضعه هكذا وهو جالس بأريحية فوق الكرسي المقابل لها ينظر لها بقوة جعلها ترتبك وتهتز ابتسامتها، فقالت بهدوء:.

في إيه، مالك!

أشار نحو ثغرها ليقول بحنو:
ابتسامتك دي متتخليش عنها..
ارتجفت يدها توترًا فوضعتها فوق وجنتاها تتحسسهما برفق قائلة بمزاح يُخفي خلفه خجل:
ليه محسسني أنك بتتكلم عن بنت أختي يا يوسف، ضحكة إيه اللي متخلهاش عنها..
وبخها بضيق:
يا باردة، أنتي فاهمة قصدي كويس...
رمقته بعدم فهم، فقال هو موضحًا:.

أصل ليكي ضحكة لما بتضحكيها بيبقى نفسي الزقك في أي حيطة، أنا متخيلتش نفسي أبدًا أن في حاجة ممكن تنرفزني زي ابتسامتك الملعونة..

انفجرت ضاحكة ضحكة خرجت من القلب، وقد هجرتها لفترات طويلة، ضحكة خرجت من أعماقها للحظات نسيت ماضيها ومستقبلها وحاضرها، وكأن العالم من حولها توقف وتبقى مشهدهم معًا، راحة ما بعدها راحة ملأت صدرها، ودت أن تنغمس أكثر وأكثر، تمنت ألا تنتشلها أحزان الماضي مجددًا من لحظة جميلة قد لا تكرر ثانيًا، لحظه أجمل ما بها وجوده معها...

عم الصمت بعد حديثه، أكتفي يوسف منذ دخولها بعد نوبة الضحك تلك بالنظر إليها، وكأن روحه كانت تكتشف شيئاً جديداً بها، شعرت بالخجل من نظراته فقالت بتوتر:
أنا عارفة أني عطلتك عن شغلك...
ابتسم بهدوء:
عادي أخدت أجازة..
نهضت تقول بحرج:
إيه اجازة علشاني، لا روح طبعًا، علشان ميتخصمش يوم كامل منك..
اتجه نحو غرفته وهو يقول منهيًا الأمر: الصراحة أنا بتلكك، يالا غيري هدومك، وأنا هاعملك غدا..
ردت خلفة بدهشة:.

وكمان غدا!

وقف والتفت لها ليقول بهدوء:
إيه في إيه مالك مصدومة آوي كده ليه، هو أنا قصرت في حاجة قبل كده!
هزت رأسها بنفي والتزمت الصمت، فقال هو قبل أن يغلق باب غرفته:
طيب ادخلي ارتاحي، وأنا هاعمل الغدا واناديكي، ومتخافيش مش هعملك مكرونة بالتونة..

أنهى حديثه بغمزة من طرف عيناه، وبسمة مشاكسة لها، فضحكت نور بخفة واتجهت لغرفتها، شعرت بصفاء بداخلها، ذلك النقاء التي كانت تبحث عنه وسط غيوم الماضي بدأ في الظهور، هل سيسطر على مشاعرها المضطربة أم ستظل غيوم الماضي تفرض سيطرتها الأبدية!، فضلت أن تعطى ذهنها وقتًا من الراحة، لقد أرهقته بالفعل بالتفكير، وأرهقت روحها بمشاعرها المضطربة!

رغم إرهاقه، وتعب جسده، يوم كامل لم يذق طعم النوم به، بسبب جلوسه معها بالمشفى إلا أنه يقف الآن بالمطبخ ويطهو لها الطعام بكل صدر رحب، أمس كان لا يكترث لأحد غير نفسه وأخته، والآن ها هو أضاف شخصًا جديداً لإهتماماته، وضعها القدر أمامه جبرًا كان بيده الفرار من واقع غرامها، ولكن وقع به متجاهلاً كل حبال النجاة، الحب يأتي فجأة دون مقدمات، يقتحم مشاعرنا في لحظات، فنقع به كالحمقى بدون استئذان، مقولة قد رأها من قبل وابتسم ساخرًا بعدها، ولكن الآن يبتسم ساخرًا على حاله حينما أدرك صدقها...

انتهى أخيرًا من إعداد الطعام، لأول مرة يستغرق ساعة ونصف في إعداد وجبه، ولكنه اهتم بها جيدًا وخاصة مذاقها، حتى لا تعلق الكونتيسة تعليق سخيف مثلاً الأكل دلع أوي، أبقى زود ملح، ولا أنت بخيل ...
ألقى منشفة يده بهدوء مبتسمًا واتجه صوب غرفتها وقبل أن يدق بابها، ارتفع رنين جواله، استدار مرة أخرى واتجه صوب الطاولة، جذبه وهو يطالع اسم المتصل، أجاب على الفور عندما وجده حسام..
ألو، أبو الشباب أخبارك!

حبيبي أنت كويس!.
جِدًا..

يوسف ممعكش رقم تاني لنور، أو تعرف عنوانها فين، تليفونها مقفول!
رفع يوسف بصره فورًا نحو غرفتها، وبعد ثوان من الصمت هتف يوسف بهدوء:
رقمها اللي معاك هو ده بس اللي معها، خير في حاجة عاوز تقولها..
مفيش مجتش الشغل، بس أنا عديت اليوم ده خلي بالك أنا بعمل ده كله علشانك..
هتف يوسف بإرتياح:
حبيبي تسلم هي كانت تعبانه جِدًا وقالتلي أبلغك ونسيت.

ألف سلامة خليها ترتاح وهي بكره اجازة، بس قولها بعد كده تتصل وتبلغ، وخليها بقي تكلمني ضروري لو أنت بتشوفها!
عقد يوسف حاجبه ليقول:
تكلمك ليه، في إيه؟!.
هتف حسام بلامبالاة:
مفيش، كانت طالبه مني سكن غير اللي هي قاعدة فيه، لأنها مش مرتاحة فيه، وأنا لقيت بس هيفضى بعد يومين، خليها تكلمني افهمها التفاصيل، قولها بس تفتح تليفونها.
طيب.

رد مقتضب مناسب جِدًّا لما يشعر به الآن، أغلق الاتصال معه وبدأت تتوهج نيران غضبه، حتمًا لو طالتها ستحرقها وتجعلها مجرد رماد لذلك الشعور الذي بدأ بالوخز في عقله وصدره ألا وهو الغيرة، شعور صعب السيطرة عليه وخاصةً أن اكتملت أركانه، لهذه الدرجة تقدمت علاقتها بحسام، التوى فمه متهكمًا حينما تذكر سببها لترك الشقة عدم راحتها! الوقحة لِمَ لا تشعر بالراحة بها، ماذا فعل حتى تقول هذا، لم يصدر منه أي فعل قد يزعجها، زفر بحنق وهو يقف كالأبله بمنتصف الصالة يفكر بها وبأسبابها الواهية التي قد افتعلتها لترك الشقة، وبخ نفسه ليقول بهمس:.

وأنا متضايق ليه، ما تولع..

انتشل من أعماق تفكيره على صوتها حينما خرجت من الغرفة مبتسمة:
أنا شميت ريحه الأكل قولت اطلع أسليك لغاية ما تخلص!
هتف بغيظ هامسًا:
ده انا هتسلي عليكي وأنا بقتلك.
وقفت أمامه تجهل تمتمته مبتسمة:
بتقول إيه!
مبقولش..
هتف بها بضيق، فقالت هي متعجبة من عبوسه:
في إيه!
مفيش!
التفت نحو المطبخ، فأوقفته بقولها:
يوسف، أنت بس من كام ساعة كنت كويس معايا دلوقتي مضايق، في إيه!
انفجر يوسف بوجهها هاتفًا بحنق:.

في إيه أنتي، لغاية أمتي ناوية تفضلي كده مش ناوية تتغيري للأحسن، ولا هو مفيش أمل.
عادت خطوة للخلف تقطب ما بين حاجبيها قائلة:
أمل إيه إيه الجنان ده هو أنا عملت إيه المرادي...
اقترب منها خطوة يقول بعصبية:
أيوه اعملي نفسك مظلومه، وكل الناس جاية عليكي حتى أنا، للدرجة دي أنا مسببلك إزعاج مفيش راحة هنا..

جعدت جبينها أكثر تحاول فهم حديثه فقالت:
أنت بتقول إيه إزعاج إيه، ما تفهمني.
أنتي مروحتيش وطلبتي مساعدة من حسام يدورلك على سكن علشان مش مرتاحة هنا، حقيقي مستغرب تعاملك كله مع رجاله بس!.
أخرس!
هتفت بصوت مبحوح:
متتعداش حدودك معايا، مش معنى أني اعتبرتك أخ ووثقت فيك، يبقى تقول عليا كده..
وسبتي دبي كلها ورايحة تسألي حسام، ويا ترى ليه؟!، أخ بردوا!.

حقيقي أنا مستغرباك ومستغربة طريقتك معايا، مالك أنت أسال ده ولا مسألش ده يخصك في إيه!
حدق بها والشر يتطاير من عيناه:
تصدقي صح يخصني في إيه اهتم بواحدة زيك ليه، بواحدة سابت أهلها لأسباب مريضه في دماغها..
كانت قد وصلت إلى ذروة غضبها، لم تعد تعي أي شي، ولا تهتم بما سيحدث لها رغم ألام معدتها الشديدة، فقط هو، هو من سبب لها كل الانزعاج والغضب:.

أنت بتخليني أندم على كل لحظة قولتلك فيها سري، أنا كرهت اليوم اللي قعدت هنا فيا..
عقد ذراعيه أمامه ليقول بنبرة جافة باردة: أنا مش ماسكك براحتك، عاوزه تقعدي او تمشي براحتك..
أنفاسها المتقطعة جعلت صدرها يعلو ويهبط بسرعة عجيبة، استعادت شجاعتها الزائفة، وانتفض عقلها كما لو كان لدغها عقرب فقالت:
أنت صح، وأنا هامشي الليلة ومش هاقعد هنا ثانية واحدة، حتى لو نمت في الشارع أهون عندي من أن اقعد معاك..

أنهت حديثها وانطلقت بسرعة نحو غرفتها تغلق الباب خلفها بقوة، أما هو فظل واقفًا مكانه وبداخله صراع قوي ما بين تركها حتى تذهب بعيدًا عنه، أو الذهاب خلفها، جلس مكانه بتفكير، كل طريق منهما له عواقبه على مشاعره، أي منهما سيتخذ بدأت أجراس الإنذار تنطلق بعقله بشأن تماديه في مشاعره المتدفقة نحوها، ولكن ها هو يقف عاجزًا أمامها تَبًّا لتلك المشاعر التي بدأت تتدفق به كالمياه فتجرف معها كل أفكاره السلبية نحوها، آه لو تعلمين يا نور ماذا يوجد بداخلي تجاهك حتمًا ستشفقين علي، ولكني أَحيَانًا أنا أشفق عليك من عنفوانها، أمم حسنًا نحن الاثنين نريد الشفقة لِمَ نمر به..

أما بالداخل فكانت تتوالى الشتائم بداخلها عليه، كان الغضب قد بلغ أشده معها، لم تعد تتحمل أكثر من ذلك فجلست تنفجر باكية تشهق بخفوت كالأطفال، إلى متى ستُحاسب على قرار قد اتخذته في لحظة تهور، لِمَ لا يرحمها أحد، قدرنا لا نختاره بل نسير وفقاً لدربه، داخلنا مجبر له حيث لا فِرار من ماضي أهوج، ماضي ترك لدينا فجوة عميقة، تبتلع روحنا وتجعلنا عاجزين أن ننجو منها...

أكثر ما يؤلمها نظرات الناس لها، وخاصةً نظراته هو، تستشف رؤيتهم لها من خلالها، ودت الصراخ بأعلى صوتها لتقول أنا لست بتلك الباردة التي ترونها، علني يظهر لكم برودتي وداخلي يغلى كحمم البركان، أنا أبالي بكل شيء حولي، أنا أتوجع لماضي أبى أن يغادرني، ومستقبل أجهله، وحاضر يذبح روحي، حتى الآمي المستترة خلف ابتسامتي المصطنعة أنا أتعذب بسببها، أنا أظهر للجميع بأني لا أكترث وأنا أكترث وأكترث، لم تجد أمامها سوى النهوض وأن تلملم بقاياها المبعثرة يكفي تألمها إلى هذا الحد، والغريب هنا أن ما يؤلمها ليس ماضيها بقدر ما يؤلم قلبها، حبه الذي وشم فوق قلبها دون إراده منها، حاولت مقاومته وفشلت، ستحتفظ به بداخلها، ستجعله سلاح قوي تحارب من أجله شدائد الحياة ومحنها الصعبة..

نهضت بثقل وتجاهلت آلام جسدها ومعدتها، وقررت أن تترك المكان الليلة وبالفعل جمعت كل شيء قد يخصها ورتبت الغرفة كما كانت، وقبل أن تغادر ألقت عليها نظرة أخيرة تودعها، جلست بشقتها في مصر لأعوام طويلة وحدها وحينما قررت الهروب لم تلتفت خلفها لثانية، تركت كل شيء بصدر رحب على الرغم من أن فترة مكوثها هنا أقل ولكن تتعذب لترك تلك الغرفة التي طالما شعرت بها بمشاعر أسعدت قلبها ولو ثواني، قلب لم يذق معنى السعادة، قلب عانى من الجفاء وقلة التقدير وأحيانًا الحسرة...

خرجت من الغرفة وجدته أمامها يجلس واضعًا يده فوق رأسه، مسحت أخر دمعه متبقية بوجنتها، قررت أن تظهر قوتها له، اقتربت بخطى ثابتة تجر خلفها حقيبتها الكبيرة، رفع بصره فورًا وجدها أمامه تقف بشموخ نظراتها تحتد له وخلف تلك الحدة ضعف وخوف من مستقبل قد تجهل عواقبه...
أنا ماشية وبشكرك على حسن استضافتك ليا...
وضعت يدها بحقيبتها الصغيرة وجذبت ظرف متوسط الحجم، ألقته بإهمال فوق الطاولة مشيرة نحوه:.

ده إيجار المدة اللي قعدتها، وفوقهم فلوس الأكل اللي اكلتوا، وكمان مصاريف المستشفى..
البلهاء وضعت ما تبقى معها من مال في ذلك الظرف، مقنعة نفسها أنها بتلك الطريقة تحافظ على ما تبقى من كرامتها..
مش هرد عليكي، شيلي فلوسك دي!
حركت رأسها برفض لتقول:
لا طبعًا ده حقك، وبعدين انت تصرف عليا وتتحمل حاجه فوق طاقتك وانا حيالله مخصكش في حاجه، انا مجرد واحدة غريبة..

عندما وجدت صمته قد طال وعيناه المتنقلة بينها وبين ذلك الظرف نظراته جهلت تفسيرها ولكن أدركت معظهما ساخرة وغاضبة، حسنًا لن تقف كالبلهاء وتفسر نظراته، خطت بخطواتها تجاه باب الشقة، وقلبها يحثها على الالتفات والنظر إلية و لو لمرة واحدة، نظرة تحتفظ بها بقلبها شهقت بصدمة حينما وجدت يده تقبض فوق يدها قبل أن تفتح الباب، رفعت بصرها تأمره بنبرة قوية:
لو سمحت أبعد..
لا..
هتفت باستهجان:.

هو إيه اللي لا، بقولك أبعد.
قبض أكثر فوق يدها وهو يقترب منها أكثر فأكثر رجعت هي للخلف تلقائيًا حتى اصطدم ظهرها بالباب، ركز ببصره بقوة فوق عيناها ليقول بخفوت:
متمشيش.
وضعت يدها الأخرى فوق صدره تحاول دفعه بعيدًا عنها:
بقولك أبعد، ميصحش تقرب كده مني..
ظل جسده ثابتًا لم يتزحزح للخلف كما أرادت فقال:
هو يصح تمشي في وقت زي ده!
التوى فمها ساخرًا:
لا كتر خيرك بجد، بس عادي بليل الصبح مش فارقة كتير بالنسبالي..

جذبها نحوه لتصطدم بصدره العريض أكثر:
لا ما هو أنتي مش هتمشي خالص، أنتي هاتقعدي هنا على طول..
توترت بشدة من درجه اقترابهم، رفعت بصرها تحاول إدراك ما حدث له، لِمَ يتعدى جميع حدوده بهذا الشكل، ولكن ملامحه القريبة منها لجمت لسانها حتى عيناه أربكت مشاعرها، حثها عقلها على الابتعاد والخروج من تلك الحالة التي وقعت بها، ابتعدت خطوة تقول بنبرة مهزوزة:.

مينفعش اقعد هنا هقعد بصفتي إيه، إذا كنت قعدت في الأول كان لسبب قوي وهو ان مكنش فيه مكان بس حتي لو مفيش مش هق...
لم يتحمل مزيد من الترهات ف قاطعها قائلاً:
أنا قررت اعطف عليكي واتجوزك.
تعطف وتتجوزني!
قالتها باستنكار شديد، فهز رأسه مبتسمًا، أغاظها إبتسامته تلك فقالت بنفي وبداخلها جزء من مشاعرها كانت تتراقص لحديثه:
لا طبعًا، بقي أنا أهرب من مصر علشان مرضاش اتجوز واجي هنا علشان اتجوز!

يتمنعن وهن الراغبات..
ضحكت ساخرة تحاول أن تخفي مشاعرها: راغبات إيه يابني بجد، هو أنت مجنون بقي أنا اتجوزك أنت..
أنهت حديثها حينما أرجعت خصلاتها للخلف بكبرياء وابتسامة ساخرة فوق ثغرها، لم يبعد عيناه عنها متأملاً لكل حركه من جسدها:
أنتي تطولي تتجوزي واحد قمر زي، وبعدين أنا قررت ألمك واتجوزك، أنتي محتاجة حد يلمك..
حدقت فيه، مستغربة فكرة الزواج هذة وردت قاطبة الجبين:
جواز إيه لا طبعًا، مش موافقة!

هز رأسه بِتَحَدً واقترب منها:
هتوافقي.
طبعًا مش موافقة، متحاولش تتحايل عليا لأني رافضة.
وضع يده حولها يحاصرها ليقول بِتَحَدً وإصرار:
هتوافقي..
حاولت إبعاده قائلة برفض وداخلها كان يتصارع في حيرة من ذلك الأمر المفاجئ:
هو عافية ولا إيه، أنا رافضة أني اتجوز دلوقتي..
اتسعت ابتسامته ليقول:
بس مش مني!، أنا مترفضش..
لم تستطع منع ابتسامتها أكثر من ذلك، فظهرت جليًا له قائلة:.

أنت بقيت مجنون، طيب أنت عاوز تتجوزني ليه..
اعتدل بوقفته واضعًا يده بجيب بنطاله:
من غير أسباب، هتجوزك وخلاص.
عقدت ذراعيها أمامها قائلة بمكر:
لا طبعًا لازم يكون عندك أسباب، وبالذات بقي أنك أكتر واحد عارف الماضي بتاعي واللي ممكن يعارضك بعدين و وبعدين انت مقتنع أنه أنا غلط.
هز رأسه متفهمًا حديثها، وفاجأها حينما قال: ومازالت على فكرة...
طيب وإيه اللي غاصبك أنك تتجوزني!
أشار نحو قلبه ليقول:
المهزأ ده...

فغر فاها فقالت متعجبة وتعلق بصرها بقلبه: نعم؟!
أومأ إيماءه صغيرة ليعود قائلًا بنبرة بعثرت مشاعرها:
المهزأ اللي حبك، تتخيلي أن مفيش واحدة قدرت تخطف قلبي غيرك، غيرك أنتي أعمل فيه إيه بقي، لازم أريحه وأريحك من التشرد ده.
انفجرت ضاحكة لتقول بدهشة:
يوسف بطل هزارك بجد إيه الجنان ده، تشرد إيه بابني أنا زي الفل وقادرة على التحدي والمواجهة كمان، شكرًا على تعاطفك..

عاد يستند بيده فوق الباب محاصرًا لها قائلًا: هي البعيدة مبتفهمش ولا غبية، بقولك خطفتي قلبي، يعني خلاص مبقاش فيه مفر، هتجوزك غصب عنك، وبعدين مواجهة مين ي ام مواجهة أنتي قادرة تتنفسي، احمدي ربنا وبوسي أيدك وش وضهر أن أنا هانقذك من الضياع..
ضربت كَفًا بالآخر لتقول متعجبة:
حقيقي ده أحقر طلب جواز شفته بحياتي كلها، أنت بتحبني ولا بتهزقني!
وبحركة واحدة أغلق باب الشقة بالمفتاح، فحولت بصرها نحو القفل قائلة:.

إيه ده!
قفلته علشان بكره هتجوزك زي ما أنا قررت، وأول ما تكوني على اسمي صدقيني هأربيكي وهاعلمك الأدب، وبعدين اهدي شوية أنتي هاين عليكي ترقصي من كتر فرحتك بيا، بذمتك أنتي مش بتحبيني...
ضحكت بتهكم وأردفت:
لا طبعًا.
عاد إليها مجددًا يقترب بعدما قد ابتعد بضع خطوات:
أنتي مش بتحبيني!.
هزت رأسها عدة مرات بنفي ولم يستطع لسانها قولها، فقال هو بعبث:
مبتحبنيش، قوليها، قولي مش..
هتفت خلفه بِتَحَدً:
مش.

ليقول هو بخبث بعد ثانية: بحبك يا يوسف.
بحبك يا يوسف..
ابتسم بمكر ليقول بفخر:
عارف..
لم تستوعب ما قالته لتو، إلا بعد ابتسامته ونظرته الماكرة لها فقالت بضيق:
أنت ضحكت عليا...
استدار متوجهًا نحو غرفته قائلًا:
يالا ادخلي نامي، وبكره هانعرف مين ضحك على مين..
دبدبت بقدمها أرضًا بغيظ:
على فكرة بقي مش هتجوزك، ولو على جثتي..
قبل أن يغلق غرفته غمز لها:
هانشووف..

اغلق الباب بوجهها، وظلت هي واقفة مكانها تحاول استيعاب ما حدث، ولكن ضجيج قلبها ودقاته العنيفة التي كادت تكسر قفصها الصدري يمنعها من أي شيء سوى أن تشعر بسعادة زحفت نحو قلبها لتخبره وأنه أخيرًا قد وجد ملاذه، أما هو فاستند بظهره على باب غرفته، أخيرًا أنهى صراعه حينما حسم لقلبه، ضاربًا بكل تحذيرات عقله عرض الحائط، معًا سيتخطى أي شيء قد فعلته، سيقومها، سيعوضها عن ما فقدته، ويشبع روحه بها، غريب الحب له القدرة على تحويل قلبك من ظلام دامس، لقلب يشع بنور لامع تنبض له الأوردة بعنفوان..!

حل الصباح سريعًا، ولم يذق جفنيها طعم النوم، لقد أرهقت عقلها بالتفكير، أمر زواجها منه يستحيل، لن تبني حياتها على أسس واهية، ومع أول صدام تقع المصائب فوق رأسها مجددًا، والخاسر الوحيد بهذه الرحلة ستكون هي، لم يعد قلبها في حالة لاستيعاب خسارة مجددًا، يكفي ما تعانيه الآن، ظلت بالصالة هي وحقيبتها تنتظر الصباح بفارغ الصبر حتى تتحدث معه بعقلانية، رفعت يدها تطالع ساعتها بملل، لم يتأخر من قبل في استيقاظه مثل اليوم، ماذا حل به، انتفضت بفزع، عندما فتح باب غرفته بقوة، وضعت يدها فوق صدرها تقول:.

بسم الله..
إيه اللي مقعدك هنا..
اعتدلت بجلستها تبتلع ريقها وهي تشير له: يوسف ممكن تيجي نقعد ونتكلم مع بعض.
الناس بتقول صباح الخير يا نكدية..
قلد ملامح وجهها العابس، فأشارت له ثانيًا دون أن تنطق بحرف، امتثل لأمرها وجلس بمقابلها، فقالت هي:
يوسف، أنت طلبت مني نتجوز امبارح..
صحح لها بصيغة قوية:
لا أنا مطلبتش، أنا قولتلك هنتجوز، وده اعتبريه أمر، اعتبريه زي ما تعتبريه بقي.
ضحكت بسخرية لتقول:.

أما أنت غريب، دي حياتي أنا، وأنا اللي أقرر..
أشار لها بنفي قائلًا:
لا، أنتي واحدة أساسا هبله ومش عارفة مصلحتك، أنا بقي عارف مصلحتك فين وهنتجوز..
قررت مجاراته بالحديث فقالت:
بالعكس مصلحتنا عمرها ما تتقابل يا يوسف، أنت عمرك ما هتتخطى اللي عملته، ومع أول مشكلة ما بينا أبسط حاجة هاتشك فيا، يمكن أنت انجذبت ليا علشان قصتي، حسيت بتعاطف فحبيت تساعدني..
قاطعها مصححًا لها بنبرة جادة:.

بتعاطف معاكي فبساعدك مش هاتجوزك، أنتي عارفة يعني إيه جواز، ما هو أصله مش لعبه يا نور الجواز حياة، وأنا خلاص أستقريت على اللي قلبي شاور عليها، مش قولتلك مهزأ.
رفعت يدها تشير نحوه بضيق خفيف:
أهو شوف بتشتم قلبك علشان حبني..
مانتي فعلًا غبية، بقولك أنا بحبك وعاوز اتجوزك أثبتلك أكتر من كده إيه..
أنا وأنت مش متكافئين.
قالتها بعصبية، فأردف هو بهدوء:
هنتكافئ، ميبقاش نفسي فيه وأقول أخيه..
زفرت بحنق قائلة:.

طيب أنا عرفتك كل حاجة عني، أنا معرفش حاجة عنك، معرفش غير أنك اسمك يوسف...
ومصري، وأختي اسمها ريم وأبويا وأمي متوفيين، وريم أختي الوحيدة، وماليش حد غيرها، عاوزة تعرفي إيه تاني!
تساقطت الدموع من عيناها بغزارة وهتفت تعبر عن حيرتها:
أنا خايفة أوافق ارجع أتكسر تاني، أنا مش عاوزاك تكون ذكرى في ماضي يلاحقني بعدين.

اقترب منها ثم أمسك يدها ليقول بنبرة هادئة: تقدري تقوليلي انتي بعدتي عن اهلك ليه وجبتي هنا، تقدري تجاوبيني..
أجابته وهي مازالت تبكي فخرجت نبرتها مهزوزة:
علشان انا تعبت من الوحدة، كان نفسي يكون ليا سند وضهر، يكون ليا بيت دافي مش واحد بارد، جدرانه عمرها ما كانت امان ليا، علشان ملقتش الحب منهم ملقتش الدفى، ملقتش حد يحتويني، مشيت وقررت ان اكون لوحدي واهرب، أحسن من أن اكون مع ناس نفسهم يخلصوا مني..

طبع قبلة فوق كفها ببطء هامسًا بحب:.

وانا مش نفسي اخلص منك، بالعكس أنا نفسي تفضلي معايا على طول، رغم جنانك ولسانك الي عاوز قصه، وتصرفاتك اللي عاوزة تتلجم، الا انك ضفتي روح على حياتي اللي كانت شبه بلا روح تقريبًا، يمكن جنونك عدوة وعداني بس انا بقي راضي بيه ومش عاوز ادور على علاجه بالعكس انا هافضل عايش كده، علشان أنا حابب كده، كل اللي انتي هربتي بسببه انا هاعوضك عنه، نور انتي حابة ترجعي واتجوزك منهم انا موافق، اي حاجة أنتي تختاريها انا موافق ومعاكي..

هتفت سريعًا وهي تبكي من اثر كلماته التي دخلت قلبها وقيدته بحبه، ولجمت عقلها عن التفكير او الرفض حتى:
لا خلاص يا يوسف انا مبقاش ليا أهل، لو فكرت ارجع هايقتلوني، وابسط حاجه هايجوزوني لحد غيرك، أنا مش فارقه معاهم يا يوسف، منزلوش منشور واحد عني ان مثلا ضايعة...
ضربها بخفه برأسها ليقول:
غبيه، ضايعة ايه وانتي اصلا لامه هدومك كلها، ومشيتي..
نظر لحقيبتها بمزاح:
دي هدومك ولا شنطة فاضية بتمثلي بيها عليا...

ضحكت من وسط دموعها قائلة:
لا فعلا هدومي، اقصد انهم عايشين حياتهم، ولاد اعمامي محدش قال حاجه توحي أن انا وحشاهم...
قولتلك وهافضل اقولك، ده قرارك متعلقيش اخطائك على شماعة غيرك، والحياة مبتقفش على حد ومش هتقف عليكي، رغم اني مش معاكي في كل اللي عملتيه!؟
رفعت بصرها بحزن:.

علشان مجربتش تحس انك عاله على حد، مجربتش تشحت الحب بنفسك من حد، الوحدة انت اللي فرضتها على نفسك، متفرضتش عليك غصب، انا كنت ظاهرة للناس من بره إني في بيت العيلة و قد ايه اهلها بيحبوها، ومن جوا مكنش حد بيهتم، أوقات معاش بابا كان بيقصر معايا، من كتر ماهما بُعاد عني، كنت بتكسف اقول تلاجتي فضيت، بلاش اتكلم واقول حاجات كل ما افتكرها تكسرني ألف مرة..
مد أصابعه ومسح دموعها برقة:.

بس ده رأي انا كمان، نرمي اللي فات ورا ضهرنا، ونبص على حياتنا دلوقتي ونبدأ حياة جديدة، حياة نتعاهد أننا منبعدش عن بعض مهما حصل..
أنا مش هابعد يا يوسف، حد يلاقي وطنه وميقعدش فيه ويتمسك بيه بكل قوته...
انتظر لدقائق يستوعب جملتها ليقول بعدها بنبرة تحمل مشاعر الحب:
حقيقي لو مكتوب كتابنا حالاً، كان زماني ردي هايكون عليكي مناسب، بس حاليًا هاضطر ابلعه واسكت..

لم تدرك حديثه، وخاصةً حينما طبع قبله أخرى بيدها، فابعدت يدها تقول بحنق:
هي بقت تسلية كل شوية تبوس ايدي!
دفع يدها بعيد عنه هاتفًا بمزاح:
احمدي ربنا ان رضيت واتنازلت وبوستها..
ضحكت وهي تشاكسه:
وفر بوساتك لنفسك..
ضحك هاتفًا:
ده يبقى عيب في حقي..

ارتفعت ضحكهما معًا، متناسين أي شيء قد يعكر صفوهما، قد يكون زواجهما متهور، وقد يراه البعض غير منطقيًا، ولكن كل هذا وقع تحت مسمى الحب، والحب كل شيء به مباح، يمر قطار الحياة بنا ونحن ننغمس في آلامنا، مشاعرنا تجعلنا في حالة من الجمود، الا أن أملاً واحد اذا وقعت أعيننا عليه، يخرجنا من دائرة المرار التي استوطنت داخلنا..

الفصل التالي
جميع الفصول
روايات الكاتب
روايات مشابهة