قصص و روايات - نوفيلا :

نوفيلا ذو الوشم للكاتبة منال سالم الفصل الخامس

نوفيلا ذو الوشم للكاتبة منال سالم الفصل الخامس

نوفيلا ذو الوشم للكاتبة منال سالم الفصل الخامس

مع ساعات الصباح الأولى، مطت نيكول ذراعيها وهي تتثاءب بعد نوم عميق، لا تعرف كم من الوقت قضته وهي غافية، لكنها أشبعت جسدها بالراحة فاستيقظت مليئة بالنشاط، أزاحت الغطاء عنها لتجد نفسها ترتدي ملابسًا رجالية، حاولت تذكر ما حدث لكن لم تسعفها ذاكرتها، توردت وجنتيها من مجرد التفكير في كون ذو الوشم قد رأها عارية الجسد، نفضت تلك الفكرة الطائشة عن عقلها، ونهضت عن الفراش، سارت ببطء نحو الخارج متوقعة وجوده، اختلست الأنظار فلم تجده بالردهة، اعتدلت في وقفتها وسارت بثقة نحو المطبخ لتحضر لنفسها كوبًا من المياه، التفتت بجسدها للخلف لتجده غافلاً على الأريكة.

شهقت مفزوعة ولكنها استعادت السيطرة على نفسها، تحركت بتمهل حذر نحوه لتنظر إليه عن قرب، انتفضت في مكانها حينما رأته يفتح عينيه لينظر إليها بثبات، رمشت بعينيها متسائلة بارتباك:
ماذا حدث؟
اعتدل في جلسته وأنزل ساقيه عن الأريكة قائلاً:
كنتِ مصابة بالحمى
أشارت إلى تلك الثياب الغريبة التي ترتديها متسائلة بحرج:
وكيف بدلت ثيابي؟ هل...
ابتسم بإغراء وهو يجيبها:
لم أنظر، اطمئني!

شعرت بالعبث من طريقة إجابته فرددت بحنق طفيف:
أنت وقح!
نهض من جلسته ليقترب منها فتراجعت بخوف للخلف معتقدة أنه سيتطاول باليد عليها، لكنها احنى رأسه عليها قائلاً بهدوء ثابت:
أشكرك، أنا في الخدمة إن احتجتِ شيئًا فقط قولي أندرو، أو ذو الوشم!

رفعت أنظارها لتحدق مباشرة في عينيه المثبتتين عليها، رأته عن قرب شديد، كانت أعينه بنية تشبه لون خصلات شعرها، شردت في تأملهما، وأطال هو الأخر النظر لها حتى قطع تحديقهما العجيب قائلاً بنبرة ذات مغزى:
ولن أمسك بسوء!

فغرت شفتيها مشدوهة من جملته تلك، غمز لها بطرف عينه عن عمد، فزاد تورد وجنتيها بحمرة مغرية، أبعد أنظاره عنها بصعوبة وانصرف في اتجاه المرحاض، ابتلعت ريقها بتوتر كبير، ودست يديها في خصلات شعرها مرددة لنفسها بحرج كبير:
هل تفوهت بحماقات أثناء نومي؟ يا إلهي!

هرولت مسرعة لتختفي بالغرفة موصدة الباب خلفها متحرجة من كونها قد باحت بأمور مخجلة خلال نومها، ذرعت المكان جيئة وذهابًا باضطراب ملحوظ محاولة ترتيب أفكارها التي تتصارع في رأسها، فمعاملة أندرو لها تختلف كليًا عن الصورة التي رسمتها له في ذهنها بأنه رجل شرس قاسٍ وقح حاد الطباع، والأخطر أنه قاتل، ربما تسرعت في الحكم عليه وأساءت الظن به، أخرجها من تفكيرها المشحون صوت الدقات الخافتة على الباب، ركضت نحوه مرددة بجدية:.

ماذا تريد؟
أتاها صوته الثابت من الخارج قائلاً:
افتحي من فضلك!
عضت على شفتها السفلى بتوتر وهي تدير المقبض لتفتح الباب له، رأته حاملاً لصينية تحوي صحونًا مليئة بالطعام، تنحت للجانب ليمر إلى الداخل فتوجه نحو الطاولة القريبة ليضع الصينية عليها، استدار نحوها قائلاً بهدوء:
تفضلي، هذا حساء جيد مفيد لكِ
اقتربت من الطاولة لتستنشق تلك الرائحة التي غزت أنفها وداعبت معدتها، تنهدت بصوت مسموع مرددة بإعجاب:.

رائحته شهية
أومأ برأسه مضيفًا بلطف:
نعم، والدتي كانت تعده لي حينما كنت صغيرًا!
تناولت منه الملعقة لتدسها في صحن الحساء ثم قربتها إلى فمها، وابتلعت ما به باستمتاع، نظرت له بأعين مشرقة وهي تقول بحماس:
طعمه لذيذ
ابتسم لأنها كانت راضية وسألها باهتمام:
هل ينقصك شيء؟
هزت رأسها بالنفي، فتحرك نحو الباب دون أن يضيف المزيد، تردد في إظهار امتنانها له، لكنه يستحق ذلك بعد كل ما فعله من أجلها، لذلك هتفت بصوت جاد:.

أندرو
توقف عن السير واستدار نحوها ليحدق في وجهها مباشرة، بينما تابعت هي بارتباك ملحوظ:
أريد، أن، أشكرك على...
قاطعها بجمود جاد:
لا داعي للشكر، أنتِ مسئولة مني حتى أعيدك لأبيكِ.

قطبت جبينها مزعوجة، لم يظهر على وجهه أي تعبيرات متأثرة، فقد نظراته القوية، ملامحه الصلبة الثابتة، رأى نظراتها المتطلعة له فبدا مهتمًا بكونها ترمقه بنظرات مختلفة عن السابق، ربما تكون فضولية أو ما شابه لكنها ليست عدائية، أراد استغلال الفرصة لإصلاح سوء الفهم عندها، فهتف بجدية:
بالمناسبة، سيد آلبرت يحبك كثيرًا، وبعده عنك ليس بسبب أنه يكرهك، وإنما لخوفه من أن ينال منكِ أحد أعدائه.

تفاجأت بدافعه عن أبيها فسألته بحدة طفيفة:
هل أخبرك ذلك؟
هز رأسه نافيًا وهو يرد:
لا، أنا أعمل لديه منذ سنوات، ولم يتوقف للحظة عن الحديث عنك حتى بت متشوقًا لرؤيتك!
رمشت بعينيها متحرجة من جملته تلك، بينما تابع باسترسال:
بالطبع رأيتُ صورك من قبل، لكن أنتِ أجمل في الواقع بكثير!
أخفضت نظراتها بعيدًا عن أعينه المسلطة نحوها وهي تقول:
شكرًا على المجاملة
رد مؤكدًا:
أنا لا أجامل، إنها الحقيقة!

ظنت أنه غزلاً متواريًا منه ليظهر إعجابه بها، فأولته ظهرها كي تتجنب نظراته المباشرة لها، شعرت أن أعينه تخترقها تصيبها بالارتباك وتؤثر في حواسها، فجاهدت قدر المستطاع لتبدو ساكنة، تركها بالغرفة لتحصل على خصوصيتها وتابع أعماله بالخارج.

مكثت بمنزله لعدة أيام شعرت خلالها بالود والألفة وبالتقارب بينهما، راقبته عن قرب دون أن تزعجه، فقد دفعها فضولها لذلك، كان يقضي نهاره بتقطيع الأخشاب ليحضر الحطب للمدفئة، وهي تقف خلف النافذة تتابعه في صمت وهي ترتشف الشاي الساخن، ثم لاحقًا يبدأ في ممارسة بعض التمرينات القتالية لتمرين عضلاته وتقويتها مما زاد من إعجابها به، ناهيك عن مهاراته الخفية في إعداد وطهي الأطعمة الشهية، تبادلا الكثير من الحوارات الخاصة بوالدها، فقد كانت متشوقة لتعرف عنه ما جهلته، وهو لم يبخل عنها بشيء، كان مستمتعًا بالحديث معها، فقد ظن أنها فرصة طيبة لإزالة حاجز الخوف بينهما، لكن ما استشعره نحوها تخطى حاجز الاهتمام بكثير.

جلست نيكول إلى جواره على المائدة متسائلة بفضول:
من علمك ذلك؟
أجابها ببساطة وهو يدس قطعه في فمه:
جدتي ووالدتي
سألته باهتمام أكبر:
أكنت تعيش معهما؟
نعم
وهل والدك...
قاطعها أندرو بهدوء موضحًا:
إن كنت تقصدين أنه كان متوفيًا، فلا! أبي انفصل عن أمي منذ سنوات، وانتقل للعيش بمفرده وأنا اهتممت به بعد وفاة الاثنتين، لكنه فضل اللحاق بهما!
أطرقت رأسها حرجًا منه وهي ترد باقتضاب:
أسفة لذلك
رد بهدوء غير متأثر:.

كلنا سنرحل حتمًا!
حاولت أن تغير الموضوع خاصة أنه يتعلق بالرحيل والموت، وهي تكره تلك المشاعر المؤلمة لأنها عانت منها لفترة طويلة، مسحت فمها بالمنشفة متسائلة:
وكيف عملت لدى والدي؟
أخرج تنهيدة مطولة من صدره وهو يقول:
إنها حكاية مطولة
قصها لي
ربما في وقت لاحق
استندت بطرف ذقنها على إصبعيها لتحدق في وجهه وهي تضيف بمكر:
حسنًا، سؤال أخير!
جمد أنظاره عليها فتابعت مشيرة بعينيها اللامعتين:.

لماذا تضع ذلك الوشم تحديدًا؟
أجابها أندرو دون تفكير:
لأنه رمز العنقاء
أعادت رأسها للخلف مرددة باستغراب كبير:
العنقاء؟
سألها مهتمًا:
نعم، أسمعتِ عنها؟
هزت كتفيها ببراءة وهي ترد:
نوعًا ما
التوى ثغره للجانب متابعًا بتسلية:
حسنًا هي رمز للقوة والجمال
نظرت له بإعجاب وهي تقول:
ألهذا اخترتها؟
أجابها بمكر متعمدًا جذب انتباهها:
ربما!

ظلت أنظارها متعلقة به فاستمتع بتلك الألفة الودية بينهما، هي لا تهابه مثل السابق، وسهلة الإرضاء والتفاهم، من المحزن ألا تكون بجوار والدها، حتمًا سيكون محظوظ من يحظى بها كرفيقة أو زوجة، اندهش أندرو من أفكاره الغريبة نحوها، خاصة أنه لم يمضِ سوى القليل على معرفتهما ببعض، تنحنح بخشونة صارفًا عن ذهنه ما يفكر به ليقول بجدية:.

أتعلمين أنها أسطورة قديمة، تعيش العنقاء لألف عام وحينما تموت تتحول إلى رماد ومنه تولد أخرى جديدة!
انبهرت بثقافته التي تتنافى مع طبيعته القوية مرددة:
هكذا إذًا، أنت تريد أن تعيش لألف عام و...

التقطت أذناه صوتًا غريبًا وكأن شخص ما قد حط بقدميه على الأعشاب الصلبة فقطمها، تنبهت حواسه بالكامل واستدار برأسه في كافة الاتجاهات محاولاً أن يسترق السمع بتركيز شديد، ولكن شوش انتباهه صوتها، فرفع إصبعيه أمام وجهها هامسًا بجدية:
نيكول، اصمتي لحظة
هربت الدماء من عروقها من طريقته المخيفة تلك، وسألته بتوجس:
ما الأمر؟
أشار لها فقط بسبابته مرددًا بصيغة آمرة:
الزمي الصمت!

دق قلبها بعنف كبير، وتهدجت أنفاسها بخوف، ثم سألته بشحوب يعتري وجهها:
لقد أرعبتني أندرو، ماذا حدث؟
نهض من مقعده متلفتًا حوله وهو يجيبها:
هناك شيء مريب بالخارج!
جذبها من على المقعد قابضًا على ذراعها وهو يأمرها:
هيا تحركي معي!
ارتجفت أوصالها من ذلك الإحساس الذي اعترى جسدها من وجود خطر ما بالخارج ينتظرهما، همست بذعر:
أنا خائفة
رد مؤكدًا بجدية وهو يديرها في اتجاهه:
لن أسمح لشيء بإيذائك، ثقي في
حسنًا.

بخطوات حذرة وخفيفة تحرك الاثنان على أطراف أصابعهما نحو أقرب نافذة، أجبرها أندرو على الانحناء حينما لمح ذلك الطيف، وظل واضعًا يده على ظهره كي لا ترفع جسدها فجأة، بقيت أنظاره تراقب الطيف حتى ابتعد، فهمس لها:
نيكول، سأخرجك من هنا واركضي في اتجاه الغابة، وأنا سألحق بكِ
أندرو أنا خائفة
احتضن وجهها بكفيه مجبرًا إياها على النظر إليه هو فقط، أردف قائلاً بقوة رغم انخفاض نبرته:
لا تخشي شيئًا، سأكون في إثرك!

هزت رأسها بإيماءات متتالية، ورغم حالة الفزع المسيطرة عليها إلا أن كلماته كانت الدواء المهدئ لروحها المرتعدة، أراد وبشدة تقبيلها وهي في تلك الحالة، لا يعرف لماذا لم يكن يفكر سوى في ذلك الأمر، لكنها منحته شعورًا غريبًا كان بحاجة له، لذلك بلا تردد حصل على مبتغاه منها، صدمت مما فعلته ولم تعترض، كانت في حالة ذهول كبيرة، اعتذر منها قائلاً:
أسف، ولكني لم أستطع المقاومة!

ازدردت ريقها ولم تعقب عليه، أي كلام يقال بعد قبلة حسية كتلك؟ اعتدل في وقفته، وفتح النافذة بحذر ليطل برأسها أولاً منها ليتأكد من عدم وجود أحد بالخارج، أوقفها إلى جواره ليرمقها بنظرة مطولة أخيرة وهو يقول:
اركضي نحو الغابة، لا شيء بالخارج!
أومأت برأسها إيجابًا، وتلك المرة أعطته قبلة صغيرة على وجنته هامسة بخجل:
شكرًا أندرو
حدق فيها بأعين متلهفة، ومد يده ليمسح على بشرتها برفق وهو يقول:
سأجدك لا تقلقي!

حملها من خصرها ليرفعها نحو النافذة، وتأكد من خروجها منها بسلامة، تابعها بقلق وهي تركض بحذر نحو الغابة، تعلق قلبه بها، شعر باقتلاع روحه وهي تختفي بين الأشجار العالية، كأن أنفاسه خلقت من أجلها فقط، التفت بظهره نحو الباب حينما سمع صوت تحطيمه القوي، لقد حانت لحظة المواجهة.

الفصل التالي
جميع الفصول
روايات الكاتب
روايات مشابهة