قصص و روايات - نوفيلا :

نوفيلا ذو الوشم للكاتبة منال سالم الفصل الأول

نوفيلا ذو الوشم للكاتبة منال سالم الفصل الأول

نوفيلا ذو الوشم للكاتبة منال سالم الفصل الأول

حدقت في أوجه المتطلعين إليها بنظرات ثابتة بعينيها الخضراء بعد أن انتهت من إلقاء كلمتها الختامية في حفل التخرج الخاص بها، ظلت محافظة على ابتسامتها الودودة مع ازدياد حدة التصفيقات المهللة، أدارت رأسها للخلف لتنظر إلى أعضاء هيئة التدريس الموقرة موجهة حديثها لها، ابتسمت قائلة برقة:
نشكركم على كل ما قدمتوه من أجلنا، أحسنتم صنعًا أساتذتي الأفاضل.

التفتت مجددًا برأسها نحو الحاضرين لتتابع بحماس زائد تلك المرة وهي تضع يدها على القبعة السوداء التي تعتلي رأسها:
احتفلوا رفاقي، لقد تخرجنا!

عند تلك الكلمة تحديدًا تعالت الصيحات والتهليلات الممزوجة بالتصفيقات من الحاضرين، وتم إلقاء القبعات السوداء كتعبير رمزي عن تخرج الطلاب، تحركت بعدها نيكول بخطى سريعة نحو الدرج الجانبي القصير لتهبط عن المسرح متجهة نحو والدها، أبعدت بيدها خصلات شعرها البني المموج والتي تناثرت على وجهها لتخفيه، أزاحتها برقة خلف أذنها لتركض نحوه، فتح لها ذراعيه ليستقبلها في أحضانه وضمها بشغف إليه، هتفت بصوت شبه متأثر:.

لقد أتيت!
ربت آلبرت على ظهرها قائلاً بجدية:
نعم! ليس لدي أهم منكِ ابنتي!
ابتعدت عن حضنه الذي اشتاقته هاتفة بعتاب:
لقد أطلت غيابك أبي، ظننت أنك ستخلف وعدك معي
رفع يده ليضعه على بشرتها البيضاء ماسحًا بلطف على وجنتها وهو يقول برجاء هاديء:
اغفري لي حبيبتي!
أخرجت تنهيدة حارة من صدرها، كم اشتاقت إلى صوته الحنون في تلك الغربة الإجبارية، استأنف حديثه بجدية:
الآن ستعودين معي ولن يمنعني عنك أي شيء.

ارتفع حاجباها للأعلى في عدم تصديق وهي تردد:
حقًا؟
ابتسم ابتسامة خفيفة مؤكدًا:
نعم، احزمي حقائبك وسأمر عليكي في المساء لاصطحبك
عضت نيكول على شفتها السفلى هاتفة بسعادة:
حسنًا أبي، سأودع رفاقي واستعد!
وضع آلبرت قبضتي على ذراعيها ماسحًا عليهما برفق وهو يضيف:
اتفقنا، وأنا سأكمل باقي أعمالي قبل أن أعود
هزت رأسها بتفهم:
كما تشاء، ولكن لنتناول الطعام سويًا، لقد تم إعداد...

تطلع الواقف خلفه إلى ساعة يده مدركًا أن الوقت قد تجاوز المحدد لتلك الزيارة الاستثنائية، وعليه أن ينبهه إلى ذلك الآن لينصرفا من هنا ليتابعا ما لديهما من جدول مشحون بالكثير من المقابلات والأعمال، وخاصة ذلك الاجتماع الطارئ مع مندوبي الحكومة لمناقشة القانون الجديد قبل تمريره إلى مجلس النواب، وضع إصبعه على طرف أنفه يمسحه بحركة عفوية، وسلط أنظاره عليهما لكنه لم يطل التفكير، فقد حسم أمره بالتحرك نحوه مقاطعًا بجمود يليق بتعبيراته الصارمة:.

سيدي، لقد تأخرنا
التفت آلبرت للجانب يهز رأسه بإيماءة خفيفة وهو يرد بهدوء:
حسنًا أندرو!

رمقته نيكول بنظرة حادة مغتاظة من اقتحامه الوقح لحديثها الودي مع أبيها الذي افتقدت حضوره لأشهر ليطلب منه الذهاب والآن وكأن وجودها شيء لا يهم، هكذا بفظاظة دون أي مقدمات أو مراعاة لخلوتهما الخاصة، وما زاد من حنقها هو استجابة الأخير له بانصياع مريب، تلون وجهها بحمرة بسيطة كدليل على عدم تقبلها للأمر، ثم احتجت قائلة بعصبية طفيفة:
أبي! انتظر قليلاً، أنا افتقدك، لا تذهب أرجوك!

وضع والدها إصبعيه على طرف ذقنها ليداعب بشرتها برفق وهو يرد بجدية:
لا يمكنني ابنتي، لدي مشاغل كثيرة
مدت يدها لتمسك بكفه الأخر متوسلة له بدلال:
من فضلك، ابق لبعض الوقت، من أجلي أنا!
اقتحم أندرو حديثهما مجددًا هاتفًا بنبرة أكثر جدية وصرامة:
سيد آلبرت، لقد تأخرنا 5 دقائق عن الوقت المحدد لذلك المكان!
اشتعلت غيظًا من فظاظته الزائدة عن الحد فصاحت فيه بانفعال وهي تشير بيدها نحوه:
أنت!

تحركت عيناه نحو وجهها لينظر لها بثبات دون أن تهتز عضلة واحدة من وجهه رغم متابعتها حديثها المنفعل متعمدة إهانته:
فلتصمت، ولا شأن لك بأبي!
رمقته بنظرات احتقارية وهي تكمل باشمئزاز متعمد على محياها ومشيرة بكفها له:
ابتعد عنا للحظات، ألا ترى أنه حديث يخصنا فقط؟!
قست ملامحه للغاية، ومع ذلك رد ببرود مستفز:
هذا عملي آنستي، إن لم يعجبك، فلا يهمني!

فغرت شفتيها مدهوشة من وقاحته القوية والجريئة أمام والدها، وما زاد من صدمتها هو تجاهله لها وإكماله لعبارته ببرود أكبر وهو يشير بعينيه:
سيد آلبرت، لقد حان الوقت!
تابع مشيرًا بيده ليظهر على رسغه رسمة عجيبة لوشم ما، جذبت أنظارها لثوانٍ لكنها أفاقت من شرودها معتبرة أن ذلك تحديًا منه ليثير أعصابها، فهتفت معترضة:
لا لن يذهب يا هذا!

أيقن آلبرت أن هناك شجارًا على وشك الحدوث بين رجله الهام بل الأهم وابنته الوحيدة، فقاطع جدالهما قائلاً بحذر:
ابنتي، أندرو محق، أنا حقًا مشغول الآن، و...
حل الوجوم على قسمات وجهها حينما رأته يدافع عن رجله ويبديه عنها، فصاحت مقاطعة بتساؤل حاد:
ألا يهمك أمري؟
وجد آلبرت نفسه في مأزق حرج مع ابنته، هو يحبها ويهتم لأمرها كثيرًا، لكن عليه أن ينصرف مضطرًا، برر لها موقفه بلطف:.

ليس الأمر هكذا، ولكن هو محق، فأنا أحاول أن أتفرغ لكِ و...
هزت رأسها باستنكار رافضة الإصغاء له، لقد مضى الكثير من الوقت منذ أخر زيارة له، وقد أثلج صدرها بحضوره لها لكنه انتزع تلك الفرحة برحيله المباغت كعادته قبل أن تشبع عيناها منه، ترقرقت العبرات في حدقتيها الخضراوتين، واختنق صوتها حينما هتفت بانفعال:
ألا يكفيك ابتعادك عني لأشهر لتبخل عليّ ب 10 دقائق من وقتك؟

ضغط على شفتيه أسفًا، ولم يستطع الرد عليها، استشعرت جفائه القاسي معها، فكفكفت عبراتها قبل أن تنهمرت أمامه بظهر كفها مرددة بحدة:
شكرًا لك سيد آلبرت ثيودور على وقتك الثمين!
شعر بمدى حزنها، فاستجداها قائلاً:
نيكول، ابنتي انتظري!
رفعت كفها في وجهه متابعة بقسوة متشنجة:
لا تأتي في المساء، لا أريد رؤيتك!
سلطت أنظارها على وجه أندرو لتتابع بازدراء:
عد من حيث أتيت مع ذلك السمج!

طالعها الأخير بنظرات قوية شبه مخيفة لكنه بقي ساكنًا غير متأثر بإهانتها المتكررة لشخصه، وقبل أن تنهار دفاعاتها الزائفة أمامهما وتنفجر باكية أولتهما ظهرها لتركض مبتعدة، أخرج آلبرت تنهيدة مستاءة من صدره وهو يتابعها بأعين آسفة مرددًا بصوت متألم:
يا ليتك تفهمين
نكس رأسه حزنًا على إحساسها الحزين الذي تسبب لها به، لكن قطع عتابه لنفسه صوت أندرو الجاد:.

سيد آلبرت، معذرة لتدخلي في الأمر، ولكن تعلم جيدًا أن الأمر متعلق بسلامتك وأمنك
أدار رأسه في اتجاهه قائلاً بإحباط:
أعلم هذا، لكن صغيرتي لا تدرك خطورة الأمر
تطلع أندور إلى أثر طيفها في المكان متابعًا بغموض:
ستفهم لاحقًا، هيا بنا
حسنًا!
سار معه عدة خطوات للأمام لكن شعر بنغصة في صدره تزعجه بشأن ابنته، توجس خيفة أن تتهور في خضم حزنها، فأكمل بلهجة آمرة:
أندرو دع أحد رجالنا يهتم ب نيكول دون أن تشعر به.

رد عليه الأخير بجدية:
سأفعل سيدي
طالع آلبرت ذلك الشاب الفتي بنظرات إعجاب وهو يقول بامتنان صادق:
أتعلم أنت ابني الذي لم أنجبه! شكرًا لك على كل شيء!
هتف أندرو بهدوء:
لا تقل هذا سيدي، أنا لا أعدك رئيسي مطلقًا، بل أنت صديق والدي وعمي الكبير
لقد اهتممت بي لسنوات بني، لم تكل أو تمل فيها من مطالبي، وهذا كثير، سأعوضك في النهاية
اعترض عليه أندرو مرددًا:
سيد ألبرت، لا داعي لذلك، أنا سعيد هكذا! هلا تابعنا سيرنا؟

بالطبع.

أنهى بلباقة ذلك الحديث الحرج عن كونه قد أولاه الاهتمام منذ أعوام ومنحه مكانة مميزة بين الجميع ليكتسب ثقته عن جدارة، كان خريجًا حديثًا من إحدى الجامعات التي تهتم بدراسة القانون، لكنه للأسف لم يعثر على عمل ملائم له، وتعثرت أوضاعه المادية كثيرًا، ومر بالعديد من الأزمات الطاحنة التي كادت تزج به في السجن، فنصحه والده وهو على فراش الموت باللجوء إليه عله يساعده فأعطاه أكثر مما تمنى، كان كعائلته التي فقدها بالكامل، واكتسب ثقته خلال عمله معه فبات رجله الأول، بل الأحرى أن يقال حارسه الخاص ملاكه الحارس – فكشف له الكثير من المؤامرات التي تحاك ضده، بالإضافة إلى كونه رياضي بارع حيث كان يمارس إحدى الرياضات القتالية والدفاعية بحرفية.

تعلم أندرو جيدًا ألا يخلط بين مشاعره الخاصة وبين العمل كي لا ينعكس تأثير ذلك على قرارته، فعمد إلى استخدام الشدة والصرامة نابذًا العاطفة والحب من قاموسه الشخصي، فتحول تدريجيًا إلى شخص صلب صلد المشاعر لا يستخدم سوى عقله للتصرف، أما العواطف فمكانها قاعات السينما.

تحرك الاثنان بعدها إلى خارج القاعة حيث تنتظرهما سيارة حكومية رسمية بالإضافة إلى حراسة خاصة لترافقهما حيثما ذهبا، فتح أندرو الباب لآلبرت ليركب في المقعد الخلفي، وجلس هو في الأمام بعد أن أشار للحراسة بيده ليتحركوا خلف السيارة، راقبتهما نيكول من على بعد بأعين باكية تحمل الحنق الشديد لأبيها ولمن معه، شردت للحظات في سنواتها الماضية حينما التحقت بتلك الجامعة الخاصة النائية لتصبح هي سكنها وصرح تعليمها لأشهر متصلة، حتى وقت العطلات الرسمية كانت تمضيها هنا إلا من أيام قليلة كان يعرج عليها والدها ليعدها بعطلة مطولة معه، لكنه ما يلبث أن يخلف بوعوده لها ويختفي بلا تبرير لتعود وحيدة من جديد، انهمرت عبراتها بغزارة، الآن أدركت أنها لم تشعر بدفء أحضانه، بحنانه الأبوي، كان عليه أن يعوضها بالكثير حينما رحلت والدتها في سن صغيرة، هو أهملها وتركها لمربيتها لتحل مكانه، والأخيرة لم تدخر وسعها في إعطائها الرعاية الكاملة حتى سن المراهقة، ومن وقتها وهي تقضي أوقاتها بين المدارس الخاصة أو المعسكرات المميزة ليمر العمر عليها دون التنعم بحنوه، أفاقت من حزنها الموجع ماسحة دمعاتها الساخنة، ثم حدثت نفسها بحزم:.

لن أعود معك، انتهى الأمر!

الفصل التالي
جميع الفصول
روايات الكاتب
روايات مشابهة