قصص و روايات - نوفيلا :

نوفيلا ذو الوشم للكاتبة منال سالم الفصل الثاني

نوفيلا ذو الوشم للكاتبة منال سالم الفصل الثاني

نوفيلا ذو الوشم للكاتبة منال سالم الفصل الثاني

أرخى أصابعه المشبكة معًا ليستند بكفيه على سطح مكتبه الزجاجي، تطلع أمامه بنظرات مظلمة وهو ينهض عن مقعده الضخم الوثير، كانت تعبيراته تشير إلى شر دفين يضمره لأحدهم، طرق بأصابعه بحركة ثابتة على الزجاج وهو يزم شفتيه مفكرًا بعمق في أمر ما.
هل عرفتم شيئًا؟
تساءل بتلك العبارة الغامضة وهو يدور حول مكتبه ليقف في مواجهة أحد رجاله ذوي الملامح الإجرامية، ابتسم باولو بخبث وهو يجيبه بثقة:.

لقد أسفرت المراقبة المكثفة عن معرفة مكان ابنته
قطب سانتوس جبينه متسائلاً باندهاش:
ألديه ابنة؟
رد عليه مؤكدًا صحة ما حصل عليه من معلومات ثمينة:
نعم، يخفيها عن أعين الجميع، لكن ليس عنا!
كركر سانتوس ضاحكًا من تباهيه بانجازاته، ثم وضع يده على كتفه ليربت عليه بقوة وهو يقول:
أحسنت، لنلعب بذلك الكارت ونضغط عليه، ربما يفكر مرتين قبل أن يتخذ قراره!
حرك باولو رأسه بالإيجاب قائلاً:
كما تريد.

تحولت تعبيرات سانتوس للشراسة الشديدة وهو يتابع:
لا يمكنني أن أسمح له بتمرير ذلك القانون، إنه يعني القضاء على أعمالنا وحجر مصالحنا كليًا
اطمئن سيد سانتوس، سأوصل رسالتنا الضمنية له ليدرك أن الأمر جديًا.

انزوت في غرفتها بمهجع الطلاب رافضة الخروج منه على أمل أن يخيب ظنها ويعود من أجلها، لا ذنب لها أن والدها رجل مشهور في عالم السياسة ومشهود عنه مواقفه الحاسمة والجريئة، هي أرادت أبًا حنونًا يغدق عليها بعاطفته ليعوضها عن غياب الأم، لكنها في النهاية بقيت بمفردها تعاني من وحدة موجعة، تذكرت ذو الوشم صاحب الوجه الجامد، فعبست تعبيرات وجهها لمجرد التفكير فيه، همست لنفسها بضيق:.

كم إنه أحمق غبي! أتمنى ألا أرى وجهه المقيت مرة أخرى!
ألقت بجسدها على الفراش محدقة في السقفية ومترقبة مجيئه بين لحظة وأخرى على أحر من الجمر، تمسكت بذلك الأمل بقوة، هي أخر فرصة بالنسبة له، وهو وعدها بالمجيء، حل المساء عليها ولم يأتِ، رفضت تصديق أنه نكث بوعده لها، أنها لم تكن حتى في قائمة أولوياته، انفطر قلبها بقوة، وبكت بلا توقف ناقمة على كونه والدها ذو القلب المتحجر.

دفنت رأسها في الوسادة لتبكي بحرقة على انقطاع أخر آمالها، وقبل أن تترك العنان لنفسها لتنهار قهرًا عليه قررت أن تعامله بالمثل، رفعت رأسها لتجفف عبراتها من على وجنتيها، هتفت بصوت مختنق:
أنا أكرهك سيد آلبرت، أكرهك!

نهضت بعصبية عن الفراش لتتجه نحو الخزانة لتجمع ثيابها، لن تمكث أكثر من ذلك هنا، ستنتقل للسكن مع رفيقتها هيلدا التي عرضت عليها البقاء معها خلال العطلة الصيفية ريثما تبحثان عن عمل جديد، جرجرت حقيبة ثيابها خلفها وقبل أن تخرج من المبنى أمسكت بهاتفها المحمول لتكتب رسالة نصية، قرأتها قائلة بصوت مسموع:
الوداع للأبد سيد آلبرت!

ضغطت على زر الإرسال ثم اتجهت إلى الخارج ملقية خلف ظهرها الكثير من الأوجاع والذكريات.

نجا بأعجوبة من محاولة اغتيال محكمة لإنهاء حياته، وأصيب فقط في كتفه وركبته بطلقات نارية، لكنها لم تكن بالخطيرة، انتقل بعدها إلى أحد المشافي الخاصة لتلقي العلاج، وهناك وضعت حراسة مشددة لتأمينه، أدرك أن معتادي الإجرام لن يتركوه حيًّا لأنه ببساطة سيقضي على فسادهم، شاغله الأكبر في ذلك الوقت كان ابنته، هي تنتظره، وهو عاجز عن الحركة، لذلك أوكل لأندرو مهمة حمايتها حتى يتماثل للشفاء قائلاً:.

كن كظلها أندرو، لا تتركها بمفردها، هي ضعيفة، أخشى أن أخسرها
اطمئن سيدي
أندرو لا تخبرها بأمر إصابتي كي لا تحزن!
سأفعل
هي أمانتك!

هز أندرو رأسه متفهمًا، وتحرك نحو الخارج ليشرع في تنفيذ مهمته الجديدة، تذكر أن هاتف آلبرت بحوزته حينما سمع صوت رنينه، أخرجه من جيبه ليقرأ ما وصله من رسائل نصية، تعقدت تعابير وجهه بشدة حينما علم فحواها، ابنته تظن به السوء، وهو عليه التصرف فورًا من أجل إصلاح الأمر قبل أن تدهور العلاقة بينهما.

لم تعلم أنها مستهدفة من قبل أحدهم، ظنت أنها فتاة عادية لا يعرفها أحد، هي بعيدة عن عالم السياسة كليًا، لم تختلط بأحد، وبالتالي كانت شهرتها محدودة حتى كنيتها لم تكن تستخدمها إلا قليلاً حينما تضطر إلى هذا، بدلت ثيابها المنزلية بثوب فيروزي قصير تماشى مع خضرة عينيها، وحررت شعرها خلف ظهرها وهي تنفضه بقوة، أبدت هيلدا إعجابها بهيئتها المثيرة قائلة:
ستسرقين قلب أحدهم الليلة يا فتاة!

ردت عليها نيكول بفتور:
لا أريد سوى الاحتفال
وقفت هيلدا خلفها لتمسك بها من ذراعيها مؤكدة:
سنمرح لا تقلقي!

ضحكت الشابتان بعبث ليكملا بعدها تأنقهما قبل أن تتوجها لأحد الملاهي الليلية للاحتفال مع بقية رفاقهم، كانت الأجواء الموسيقية صاخبة للغاية، بالإضافة إلى الحماسة العالية بين الشباب المتراقص، اذهبت عقلها بشرب الكثير من ذلك الشراب المسكر لتنسى والدها الذي خذلها وكسر قلبها، تركت كأسها لتتجه لحلبة الرقص لتبدأ في التمايل بحركات عشوائية محاولة الاندماج مع الموسيقى.

وصل إلى مهجع الطلاب باحثًا عنها فلم يجدها بغرفتها، تفقد الخزانة فكانت خاوية من متعلقاتها، انقبض قلبه بقوة معتقدًا أن أحدهم قد وصل إليها قبله ونال منها، أسرع في خطاه عبر الرواق ليسأل عنها، لم يعطه أي أحد إجابة مُرضية، فزاد عصبية وخوفًا، طرأ في باله استخدام هاتف والدها للاتصال بها، وفعل ذلك دون تردد، استمع إلى صوت صاخب مُصاحب لذلك الصوت الأنثوي الذي أجابه:
أهلاً سيد آلبرت.

رد أندرو بجمود مجردًا إياها من أي ألقاب:
نيكول؟
اعتقدت هيلدا أن والد صديقتها المتألمة هو المتصل، فأجابته بصوت مرتفع ليتجاوز حدة الموسيقى العالية:
لا، أنا رفيقتها هيلدا!
صمت أندرو ليصغي لها جيدًا وهي تتابع بتعنيف عله يبدي ندمه ويشعر بخطئه في حقها:
لقد أحزنتها كثيرًا وهي رافضة للحديث معك، ظلت طوال الليل تشكو منك، لماذا فعلت بها هذا؟

شعر أندرو بوخزة تضرب صدره لمجرد التفكير في حالها الحزين، هو استشعر من قبل حالة الخذلان والضعف، ويفهم جيدًا كيف للمرء أن يكون وحيدًا دون رفيق أو حبيب، تجسد له في مخيلته وجهها الباكي المحتقن، ابتلع ريقه هاتفًا بجدية:
أين هي؟
أجابته بحدة:
هي لن تعود معك، أتعلم ذلك؟
استاء من كونها تسترسل في الحديث الفارغ، فصاح بنفاذ صبر:
كفي عن الثرثرة وأخبريني أين نيكول.

استشعرت جدية اهتمامه بها، وظنت أنها ربما تكون فرصة للتعويض لها، فردت مستسلمة:
حسنًا، سأعطيك عنوان الملهى فقط لأني لا أحب أن أرى نيكول تبكي!

عرف العنوان منها واستقل سيارته متجهًا نحوها، لم يكن الملهى بعيدًا فوصل إليه بعد برهة، صف السيارة جانبًا وترجل منها سائرًا بخطوات متعجلة، وقعت عيناه على تلك السيارة الغريبة المصفوفة بالخلف، كانت جميع نوافذها داكنة تخفي من بها إلا النافذة الأمامية، دقق النظر في وجه السائق، فرأى به ما أزعجه، خطى مسرعًا لداخل الملهى باحثًا عنها.

في البداية تعذر عليه العثور عليها بسهولة وسط ذلك الحشد الغفير من الشباب الذي يعج بالمكان، مر بين أجسادهم متأملاً أوجه الفتيات عله يراها، لمح بطرف عينه أحد الرجال من ذوي الحلات السوداء ممن يشبهون رجال العصابات، فانتابه هاجس ما بأنهم يبحثون عنها، تحرك بحذر ليصل إليها قبلهم، رأها بالفعل وهي تتمايل بليونة مع إيقاع الموسيقى فتجمدت أنظاره عليها، لوهلة تخيلها تناديه بحركاتها الراقصة وكأنها إشارات موحية تعبث بقلبه الصلب لتوقظه بعد سبات عميق، أفاق من شروده معنفًا نفسه على سرحانه الغير مبرر متناسيًا مهمته، أسرع نحوها ليمسك بها.

ورغم تشوش الرؤية لديها إلا أن ملامح وجهه ظلت عالقة بذهنها، رمشت بعينيها لتتأكد أنها لا تتوهم رؤيته، وارتعشت بقوة حينما قبض على ذراعها ليؤكد لها حقيقة وجوده، نزعت يده عنها صائحة بصوت شبه ثقيل:
ابتعد عني، لا تلمسني بيدك القذرة!
ابتلع إهانتها مضطرًا، وحدجها بنظرات صارمة وهو يقول:
هيا! سنذهب الآن من هنا!

نظرت له بغرابة وهي تترنح بجسدها متعجبة من طريقته الوقحة في فرض الأوامر عليها، ردت ضاحكة متعمدة الاستخفاف به:
من أنت لتأمرني؟
أشارت له بأصابعها متابعة بسخرية:
اذهب لسيدك يا هذا!
تحمل مجددًا طريقتها المهينة في الحديث مدركًا أنها في حالة لا وعي، ولم يتجادل معها، قبض على رسغها ليسحبها خلفه رغمًا عنها وهو يقول بصيغة غير قابلة للنقاش:
سنذهب الآن!

برز الوشم من جديد أمامها، وبسبب حالة الهذيان المسيطرة عليها ظنت أنه يتحرك ويسخر منها بطريقة مهلكة لأعصابها، وهي لم تكن في حالة تسمح بالمزيد من الضغوطات، فصرخت بهياج:
ساعدوني هذا الرجل يحاول خطفي!

التفت برأسه للخلف مصدومًا مما قالته، وأدرك أنها أحدثت كارثة جسيمة، كان عليه التصرف سريعًا، لذلك شدد من قبضته عليها وجذبها إليه بقوة لتسقط في أحضانه، أشهر من جيبه الخلفي سلاحه ووجهه صوب من يقترب منهما، سادت حالة من الهرج بالمكان، وتدافع الجميع مبتعدين عنه، فمنحه ذلك فرصة للهروب من الباب الجانبي للملهى ليفر معها قبل أن يلحق به رجال العصابات.

قاومته نيكول قدر استطاعتها لكنها لم تصمد كثيرًا أمام قوته، هو بكامل وعيه وعنفوانه، وهي في أضعف حالاتها، إذًا الكفة سترجح لصالحه، لف أندرو ذراعه حول عنقها ليلصق ظهرها بصدره واستمر في التحرك بها متلفتًا برأسه في كافة الاتجاهات ليتأكد من عدم ملاحقة أحد لهما، شعرت بذراعه القوي يطبق على أنفاسها، فحاولت إبعاده قبل أن تختنق لكنها فشلت، هو أحكم قبضته عليها كي لا تفلت منه.

ظهر الوشم بصورة أكثر وضوحًا تلك المرة لتسرح فيه من جديد محاولة تخمين رسوماته، وفجأة شعرت بدفعة قوية أجبرتها على الارتطام بالحائط لتسقط على الأرضية في حالة تعب شديدة، لم تفهم لماذا فعل ذلك فقد كانت الصورة ضبابية للغاية وخيالات أطياف مبهمة تتحرك أمامها، أغمضت جفنيها بتثاقل، وبقيت أذنيها تستمع إلى تلك الأصوات المتداخلة.

اندفع رجال العصابات نحوهما محاولين اختطافها منه، لكنه تمكن من دفعها في لحظة مباغتة ليشتبك معهم بالأيدي تارة، وبالسلاح تارة أخرى، لقنهم أندرو درسًا عنيفًا وأرداهم قتلى، نفض يديه من بقايا الدم العالقة بأصابعه، ثم مسح طرفه أنفه بظهر كفه واستدار برأسه ناحيتها، كانت ممددة على الأرضية شبه فاقدة للوعي، تصدر أنينًا خافتًا، جثى أمامها ومرر ذراعه أسفل عنقها ليرفع رأسها إليه، همس لها متسائلاً:.

نيكول! هل تسمعيني؟ نيكول!
لم يأتيه رد منها، فوضع يده الأخرى أسفل ركبتيها وحملها بين ذراعيه متخذًا الطريق الجانبي كممر آمن للهروب من الملهى، تسلل بحذر حتى وصل إلى سيارته فأجلسها بالمقعد الخلفي مسندًا رأسها برفق للجانب، تحرك ليستقل مقعد قائد السيارة ومن ثم أدار المحرك مبتعدًا بها عن الملهى وعن أعين الجميع.

الفصل التالي
جميع الفصول
روايات الكاتب
روايات مشابهة