قصص و روايات - نوفيلا :

نوفيلا ديلارا للكاتبة منال سالم الفصل الثالث

نوفيلا ديلارا للكاتبة منال سالم الفصل الثالث

نوفيلا ديلارا للكاتبة منال سالم الفصل الثالث

بقيت أعينه الجامدة بوميضها الغامض مسلطًا عليها، لم يكترث بما يمكن أن تفعله، ربما ستصرخ، ستحدث جلبة وفضيحة، أو حتى تصفعه من جديد، لكنه أراد أن يظل هكذا ممتعًا أعينه بالتطلع إلى لون حدقتيها، هو بات أسيرًا لعينيها العسليتين غير قادر على إبعاد أنظاره عنها، على النقيض لم تشعر ديلارا بمثل تلك المشاعر المرتبكة التي عصفت بها مثل الآن، مزيج مقلق من الخوف والصدمة، لم يتجرأ أحد من قبل ويقبلها بمثل تلك الطريقة الجريئة ليظهر فيها مشاعرًا حلمت بها كثيرًا، بل لم تقبل مطلقًا بهذه الصورة، وهكذا فجأة دون سابق إنذار تعايش ما كانت تشاهده في الأفلام وتقرأ عنه في الروايات، والأخطر ما تمنته في أحلامها، أنجاها من مجهول لا تعرف عنه إلا القليل صوتًا أنثويًا ناعمًا تسلل إلى أذنيها لتفوق بعدها من الوهم الخيالي الذي حجب عقلها عن التفكير بطريقة عقلانية، تمكنت ديلارا من سحب يدها من قبضته عندما اضطر أن يرخي أصابعه عنها، لملمت شتات نفسها واستعادت السيطرة على حالها المرتبك، لم تفكر كثيرًا، حسمت أمرها سريعًا وأولته ظهرها لتفر راكضة من أمامه تاركة إياه مثلها في حالة تخبط واضحة، وضعت كنده يدها على كتف عاصي متسائلة بدلال:.

أين كنت حبيبي؟ بحثت عنك في كل مكان
وكأنها تحدث نفسها، فقد ظلت أنظاره معلقة على طيف المثيرة التي منحته شيئًا غريبًا في لحظة متهورة ليتغلغل في نفسه وبعمقٍ، ثم رحلت سالبة ذلك الإحساس معها، أخرجه من تحديقه الشارد بها نبرة كنده المتدللة عليه وهي تتابع متسائلة باستغراب:
عاصي، أأنت معي؟
ابتسم لها الأخير ببسمة باهتة قائلاً باقتضاب:
نعم
ركزت نظرها في نفس المكان الذي ينظر إليه متسائلة بفضولٍ:.

من تلك التي كانت معك؟
بهتت ملامحه وهو يرد بضيق قليل:
لا أعرف
شعر ببرود عجيب يجتاحه تجاه كنده التي تداعبه بطريقتها لتثير غرائزه، لم يتجاوب معها، ولم تقتنع هي بما قاله، وصلها إحساسه بالجفاء فتعابيره الواجمة أشارت إلى ذلك بوضوح، حثها حدسها الأنثوي على متابعة أسئلتها، فأكملت بحذرٍ:
أهي ضلت الطريق و...؟!
قاطعها بحدة بعد أن مل من أسئلتها المتلاحقة:
كنده، كفا!

عمدت سريعًا إلى تغيير طريقتها، تعلقت في عنقه بذراعيه متلمسة بشفتيها صدغه طابعة قبلة مغرية عليه، لم يتحمل ذلك، شعر بنفور عجيب منها، وضع يديه على ذراعيها يبعدهما عنه قائلاً بجدية:
لقد طرأ أمر ما، اعذريني
انفرجت شفتاها مصدومة من جفائها المريب معها، سألته بتوجس:
أين ستذهب؟
تحرك مبتعدًا نحو المسبح وهو يجيبها:
سنتحدث لاحقًا
قبضت على ذراعه هاتفة بانفعال:
لا عاصي، انتظر
رد بقسوة لم تعهدها منه:
كنده، إياكِ.

أبعدت قبضتها مصدومة، ارتفع حاجباها للأعلى باستنكار جلي، لقد بذلت مجهودًا كبيرًا لتستحوذ على اهتمامه وتكون ملكته، لكنه بكل بساطة تجاهلها وكأنها نكرة، انزعجت كثيرًا من تصرفه الفظ خاصة بعد أن تركها بمفردها لتكمل باقي الحفل الذي أقامته على شرفه لوحدها معلنًا بصورة غير رسمية انفصاله عنها لتمنح بذلك فرصة ذهبية للحاقدين عليها لتبادل الأقاويل والشائعات.

تورمت شفتيها بمسحها العنيف لهما بالمنشفة الورقية لما ظنت أنه بقايا أثار قبلته عليهما، لم تعبأ بإفساد أحمر الشفاه، ولا بجرحهما، المهم بالنسبة لها أن تتخلص من ذلك الإحساس الذي اختبرته في لحظة جامحة معه، لامت نفسها لموافقتها من البداية على الذهاب لحفلة لا تعرف من فيها إرضاءً لابنة عمها، وعنفت نفسها أكثر لاستسلامها في لحظة للتمتع بقوة قبلته، توجهت ديلارا إلى الجراح الملحق بالقصر مشيرة للسائق الخاص بها لينقلها إلى المنزل، نسيت في خضم ما مرت به أن تخبر جوانا بذلك، كل ما شغل تفكيرها هو الهروب ونسيان تلك التجربة بكل ما فيها، سألها السائق مستفهمًا وهو يتطلع إلى وجهها من المرآة المجاورة له:.

هل أنتِ بخير، آنستي؟
ظلت صامتة فتجمدت أعينه على تعبيراتها الشاردة، خشي أن يكون أصابها مكروه ما، عاود سؤالها باهتمام أكبر:
آنستي...
انتبهت لصوته ولنظراته نحوها، ابتلعت ريقها هامسة بارتباك:
نعم
تصنعت الابتسام وهي تضيف:
لقد مللت ذلك الصخب
حافظ على نبرته الهادئة وهو يسألها:
لم تأتِ معنا الآنسة جوانا، هل نعود لاصطحابها؟
هزت رأسها بالنفي وقد ارتجف صوتها:
لا، دعنا نعود للمنزل.

قطب جبينه متفرسًا ردة فعلها الخائفة، ومع ذلك لم يجادلها في طلبها، رد بنبرة عملية:
حسنًا، كما تريدين!
تنفست الصعداء لعدم تدخله أكثر في شئونها، فوالدها لا يعده سائقهم فقط، بل هو حارسهم الشخصي إن تطلب الأمر تدخله، شعرت أنها كالكتاب المفتوح أمام الأخرين، يسهل كشف أمرها، عاودت الجلوس باسترخاء على المقعد لتغمض بعدها عينيها مقاومة ما يسربه عقلها من ذكرى تلك القبلة.

دفنت نفسها تحت الغطاء في فراشها بغرفتها بعد أن عادت مبكرًا للفيلا، ادعت الإرهاق والتعب لتتجنب أسئلة والدتها عن عودتها الغريبة دون انتهاء الحفل، وما زاد من ارتيابها هو مجيئها بدون ابنة عمها، كانت ديلارا بحاجة للهروب حصارها، فمثلت جيدًا دورها، تركتها بشرى بعد أن اطمأنت عليها لتغدو من جديد أسيرة أفكارها، شعرت بالخزي من نفسها لكون ردة فعلها ضعيفة، ربما لأن فعلته الجريئة كانت غير متوقعة منذ البداية، حاولت تبرير موقفها، لكن زاد ذلك من تأنيب ضميرها، تقلبت على الفراش مقاومة رغبة عقلها في التفكير فيه ومعايشة ذلك الإحساس المغري من جديد، لم تشعر بمضي الوقت إلا عندما جاءت جوانا تعاتبها بضيق، ألقت الأخيرة بجسدها المتعب على الفراش لتجبرها على النهوض مرددة بسخطٍ:.

خائنة!
اعتدلت ديلارا في نومتها متسائلة بهدوءٍ حذر:
ما الأمر؟
ردت متسائلة بمكرٍ:
أتسألين ما الأمر وأنتِ تركتني وذهبتي هكذا مثل السندريلا؟
ارتعدت من احتمالية معرفتها بما صار فتعللت بتوتر:
لقد، مرضت فجأة
انتفضت الأخيرة في جلستها لتقترب منها، وضعت يدها على جبينها تتحسسه مرددة بتساؤلٍ:
ماذا بكِ؟ هل أصابتك حمى ما؟
أجابتها بابتسامة صغيرة:
لا لكني شعرت بمغص يضرب معدتي
تحسست وجنتها متابعة باهتمام مضاعف:.

ديلارا، أنتِ تبدين شاحبة
اتسعت ابتسامتها قليلاً مؤكدة بلطفٍ:
صدقيني أنا أصبحت بخير
زفرت جوانا بصوت مسموع كتعبير عن ارتياحها، سحبت الغطاء عليها لتتمدد إلى جوارها متابعة بعبثٍ وهي تغمز لها:
مممممم، فاتك الكثير من المرح في الحفل
ماذا حدث؟
الشمطاء اللعوب كنده تلقت مقلبًا من عاصي
قطبت جبينها متسائلة باستغراب:
من هؤلاء؟

تعجبت جوانا من جهلها لهويتهما المعروفة مسبقًا بسبب فضائحهما المتداولة على المواقع والصحف ناهيك عن صداقته للعائلة، تابعت مضيفة:
صاحب الحفل ورفيقته، بمعنى أدق عشيقته المدللة، الأخبار تتحدث دومًا عن علاقتهما
تفهمت ديلارا سبب اهتمامها بهما، فردت بتساؤل على الرغم من فتور نبرتها:
ماذا حدث لها؟
لقد هجرها فجأة دون أي مقدمات
أتقصدين تركها؟
صححت لها قائلة:.

لا، هو هجرها، لا نعرف السبب بعد، لكن مع انتهاء الحفل دبت بينهما مشاجرة حادة انتهت بإعلانه انفصاله عنها
لا تستهويني تلك التفاصيل
دعك من ذلك كله، كنتِ أميرة الحفل
كفا سخافة، لا أريد تذكرها مطلقًا
لماذا؟ أحدث شيء لا أعرفه؟
ردت بارتباك جلي محاولة نفي الأمر تمامًا:
لا، ولكني كما أخبرت أملُ سريعًا من تلك الحفلات الوقحة
وقحة!
لا تشغلي بالك بي، أنا شبه ناعسة، لا أعي ما أقوله
حسنًا.

ضغطت ديلارا على شفتيها متسائلة بتوترٍ وهي تفرك أصابعها معًا:
جوانا، هل تؤمنين بالحب من أول نظرة؟
هزت كتفيها قائلة بنبرة غير مبالية:
لا أعرف، لم أجربه من قبل
عادت لتسألها بعد أن شردت في وجه الغامض الجريء:
هل يحدث دون مقدماتٍ؟ هل يجعل قلبك يقفز بين ضلوعه؟
نظرت لها جوانا بغرابة متفرسة تعبيراتها الغير طبيعية:
ربما، ولكن لماذا تسألين؟
غيرت ديلارا نبرتها إلى الجدية وهي تجيبها:
ليس لغرض معين.

ابتسمت لها الأخيرة قائلة بتنهيدة وهي تنزل قدميها عن الفراش:
حسنًا، سأذهب لأتناول شيئًا، فمعدتي تصفر
اتسعت ابتسامتها مرددة:
كما تشائين
لوحت لها جوانا بيدها قائلة:
أراكِ غدًا، تصبحين على خير
وأنتِ كذلك
قالتها ديلارا وهي تنزلق بجسدها أسفل الغطاء محاولة استدعاء سلطان النوم لتغفو بعد أن أرهقها التفكير في صاحب التصرفات الجريئة ليعاود زيارتها في أحلامها مكررًا ذلك المشهد بكافة تفاصيله.

الفصل التالي
جميع الفصول
روايات الكاتب
روايات مشابهة