قصص و روايات - نوفيلا :

نوفيلا حبهان للكاتبة دينا ابراهيم الفصل السادس

نوفيلا حبهان للكاتبة دينا ابراهيم الفصل السادس

نوفيلا حبهان للكاتبة دينا ابراهيم الفصل السادس

أطلقت زينة صرخة فزع باسم طفلتها وهي تركض للداخل تنتشل جلبابها بعشوائية وتضع حجابها ثم ركضت للاسفل ولسانها لا ينطق سوى باسم الصغيرة التي اختفت واختفى معها طمأنينة القلب وراحته...
وفهد يلحق بها مناديًا بأسمها ولكن لا حياة لمن تنادي، أخذت زينة تجوب الشارع بحثًا عن رنا حتى أستوقفت سيدة مارة وهي تسألها بلهفة:
-مشوفتيش رنا بنتي يا ست حسنات؟
فهزت الاخرى رأسها بأسف وهي تسألها:
-ليه هي مالها؟

ولكن زينة لم تقف امامها كثيرًا اذ ركضت تسأل باقي الاناس وهي تهز رأسها باكية وتردد بهيستيرية:
-مش لاقياها، مش لاقياها
أمسك فهد ذراعاها بحزم وعيناه تقابل عيناها التي تلبدت بها الدموع، ليهمس لها في حنو بصوت هادئ صلب:
-زينة امسكي نفسك، هنلاقيها صدقيني هنلاقيها متنهاريش بسرعة كده انا متأكد انها بتلعب هنا ولا هنا بس سرحت
دفعته زينة بعيدًا عنها ولم تعي النصل الذي صاحب كلماتها وهي تزمجر فيه بجنون:.

-اوعى متقوليش اهدي، انت مش حاسس بيا ولا هتحس، انت اناني وبارد ومابتحسش بحد اصلًا
اجتمع حولهم بعض السيدات والرجال وتعالت الهمهمات التي تحاول تهدئة زينة، بينما فهد لم تهتز ملامحه ولو للحظة، ابتلع الحصى الذي رمته في جوفه وصمت يمسك زمام أعصابه بصعوبة...
ثم تحرك باحثًا عن رنا بقلب يتآكله القلق، ربما لم تكن رنا أبنته، ولكنها استحوذت على ذلك القلب لتجعله مُكرس لها، تمامًا كما فعلت والدتها...!

بينما زينة كانت جالسة أرضا في منتصف الشارع بين أحضان والدتها التي اخذت تربت على كتفها تحاول مواساتها ولا تجد ما تواسيها به بينما زينة تهذي باستمرار:
-بنتي يا ماما، بنتي ضاعت مني يا ماما
فهزت والدتها رأسها نافية بسرعة تحاول جعل تماسكها سدًا امام دموعها التي اصبحت كالشلالات تمنعها من التدفق بصعوبة:
-لا لا، ربنا ما يوجع قلبنا عليها، باذن الله هنلاقيها يا حبيبتي.

أدارت زينة رأسها يمينًا ويسارًا علها تطفئ لهب شوق عيناها بالنظر لطفلتها ولكن لم تجد فصرخت بانهيار وهي تهز رأسها:
-مش موجودة، طب راحت فين ياربي راحت فين
ثم تجمدت عيناها فجأة وكأنها ادركت حقيقة كانت تتوارى منها، لتهمس بصوت مبحوح:
-هو، ايوه هو اكيد اللي اخدها منها عايز يوجع قلبي زي ما قالي
هبت منتصبة بسرعة تنوي الذهاب له ولكن فهد ظهر امامها يسألها بصوت أجش:
-انتي رايحه فين؟

فأجابته بلهفة وهي تستدير لتغادر:
-رايحه لمدحت اخد بنتي، مش هسيب بنتي معاه
هز فهد رأسه نافيًا، يقترب منها محدقًا فيها بثبات وكأنه يحاول زرع كلماته في عقلها الذي اصبح كالصحراء القاحلة:
-زينة لازم تثقي فيا شوية، أنا اللي هاروح ولو رنا معاه فعلًا صدقيني مش هرجع من غيرها والله
هزت زينة رأسها نافية بإصرار:
-لأ، رجلي على رجلك.

هز فهد رأسه باستسلام وبالفعل أخذها وتوجها لمنزل مدحت ، بدأوا يطرقوا الباب ولكن ما من مجيب، فأخرجت زينة هاتفها الموضوع في جلبابها لتتصل بمدحت ولكن ايضًا نفس النتيجة ما من مجيب...
فنظرت لفهد بعيون تقطر وجعًا وهي تهمس بوهن:
-مابيردش برضو يا فهد، شوفت انه هو اللي اخدها
سألها فهد بسرعة مستفسرًا:
-طب ليه قرايب ساكنين هنا؟
اومأت زينة مؤكدة ليسحبها فهد من يدها برفق وهو يخبرها بجدية:.

-طب تعالي وريني ساكنين فين، لازم ندور عليه في كل حتة ممكن يكون فيها
وبالفعل بدأت مرحلة البحث عن مدحت في كل الاماكن الممكنة ولكن اسفًا كانت النتيجة واحدة، وكأن الأرض إنشقت وابتلعته كما يقولون...!

عاد كلاً من زينة وفهد للحارة من جديد، ومع كل دقيقة تمر ينبش الشوق بأظافره الضارية في قلب زينة الملتاع بفراق ابنتها للمرة الاولى، فنظر فهد لرجال الحارة الذين كانوا يبحثون وكأنه يسألهم
هل من جديد؟
ولكن نظراتهم المتأسفة كانت اجابة صامتة بالنفي، استدار فهد يخبط جبهته بجنون، ليلمح طفل كان يلعب مع رنا دومًا معظم الايام، فركض نحوه بلهفة يسأله:
-تعالى يا حبيبي ثواني، انت كنت بتلعب مع رنا صح؟

اومأ الصغير مؤكدًا فتابع فهد تساؤله:
-طب اخر مرة شوفتها فين؟
اجاب الطفل بنبرة خفيضة بريئة:
-اخر مرة شوفتها لما كان عمو ياسر بيقولها حاجة وبيديها شيكولاته وراحت معاه
إحتدت عينـا فهد والأمل يتوهج فيهما، واخيرًا امسك بطرف الخيط...
استدار مسرعًا يعود لرجال الحارة يسألهم بنبرة سريعة صلبة:
-حد معاه رقم ياسر وساكن فين بالظبط؟

وبينما يجيبه الرجال وزينة ووالدتهم تقفان بتلهف ولوعة مزقت قلبهما، لمح فهد بطرف عيناه ياسر الأرمل الحقير يسير بهدوء في الشارع ليركض فهد نحوه دون لحظة تفكير اخرى يمسكه من تلابيبه وهو يهدر فيه بعنف:
-فين رنا يا راجل أنت
إنتفض الاخر فزعًا يصطنع الجهل:
-رنا إيه وانا ايش عرفني انا لسه راجع من بره دلوقتي!

لكمه فهد في وجهه بعنف ليسقط الاخر ارضًا متأوهًا بألم فالتف اهل الحارة حولهما ينظران لياسر بحقد شامتين وبعضهم يضربه مساندًا لفهد، جذبه فهد من ملابسه بقوة صارخًا فيه:
-هتقول وديت البت فين وإلا قسمًا بربي هفضل اضرب فيك لحد ما يظهرلك صاحب
أنهى كلماته ليتبعها بالفعل الذي يؤكد جدية نيته فبدأ يضربه بعنف ورجال الحارة يمسكونه، ولكنه كان يتأوه متألمًا وهو يستطرد بنبرة متوجعة:.

-يا ناس صدقوني معرفش راحت فين ولا شوفتها انهارده حتى
جذبه فهد بعنف نحو دكان زينة وهو يردد بلهجة اجرامية:
-سيبوهولي بقا انا هربيه في الدكان الاول وبعدين هطلع بيه على القسم واعمله محضر خليهم يكملوا عليه
حينها سارع ياسر ينطق بسرعة بحروف متوترة متفرقة:
-خلاص استنى هقول، انا ماخطفتهاش انا وديتها لابوها
-وديتها لابوها فين انطق؟!
وعندما صمت الاخر بملامح قلقة متورمة من ضربات فهد هزه فهد بعنف وهدده:.

-قسمًا بالله هحبسك انت بتهمة خطفها واهل الحارة شاهدين على كلامك
حينها أردف ياسر والخوف يتملك حروفه:
-والله العظيم أنا استنيته في شارع جمبنا وادتهاله ومعرفش راح فين بعد كده!

ليلًا...
سندت زينة رأسها على جانب مقعد الجالسة عليه وهي في حالة مرزيه بعيونها الحمراء المنتفخة من شدة البكاء، لا تصدق ان صغيرتها مختفيه منذ الصباح، لا تصدق انها بعيدة عن احضانها...
انهمرت دموعها من جديد وهي تضرب ساقها في قهر قائله لوالدتها الجالسة بجوارها:
-هموت يا ماما أنا عايزة بنتي هاتولي بنتي!

-يا بنتي وحدي الله عشان خاطري وان شاء الله بنتك هترجعلك، حسبي الله ونعمة الوكيل فيك يا مدحت ربنا يقهر قلبه زي ما هو قهرك كده.
سمعت الباب يُفتح وهرعت في لهفة وجنون نحو فهد العائد وحيدًا لتنطفئ لهفتها ما ان أغلق الباب فخبطت على صدرها وهي تقفز كالمجنونة في مكانها صارخة:
-قولتلكم سيبوني انا هدور عليها حرام عليكم.
-اهدي قولتلك هرجعلك بنتك متعمليش كده!

قالها في حده وهو يحاول تهدئتها لكنها دفعته عنها في حنق وأشارت إليه باتهام:
-أبعد عني انت السبب في كل اللي بيحصل ده، منك لله زي ما خربت حياتي،
انا كنت عايشة انا وبنتي مبسوطه منك لله اهو خدها مني بسببك.
انهت جملتها في وهن وهي تجثو أمامهم فتجاهل دعواتها التي تمزق صدره وتؤنبه وجثا جوارها يربت على ظهرها في حنو مؤكدًا:.

-والله العظيم هرجعها، صدقيني يا زينة بكره هتكون عندك انا كلمت كل زمايلي وكل معارفي الظباط وكلهم بيجمعوا معلومات عن اماكن وجوده.
ارتمت زينه بين أحضانه تكمل بكائها في حصره دون اهتمام لوالدتها الباكية خلفها، تقبلها فهد بين ذراعيه وعدل من جلستهما وهو يضعها بين ساقيه ويحتضنها وكل امنياته ان يمتص ذلك الحزن المسيطر عليها.

وعقله منشغل بمكان زوجها المختفي منذ الصباح فقد توجه برفقه صديقه الشرطي بعد أن تأكد ان الشرطة لن تتحرك إلا بعد مرور اربعة وعشرون ساعة وبحث عنه في مكان عمله حتة منزل زوجته الأولى لم يتركه لكن دون جدوى.
مرت فترة طويلة يتركها فيها تخرج ما بداخلها حتى شعر بثقلها يزيد بين ذراعيه وانفاسها المتقطعة غير قابلة للسيطرة على شهقاتها المنتزعة من قلبها الحزين، رفعها بعد دقائق وهمس لوالدتها:.

-ادخلي ارتاحي شويه يا أم زينة وبكره ان شاء الله كلنا هنطمن.
-انا خايفة على الغلبانه دي لتكون اغمى عليها مش نايمة.
صرحت والدتها القلقة فعدلها بين ذراعيه وهو يطمئنها:
-متقلقيش الضغط العصبي ده كله تعب جسمها هي نايمه بس للأسف مش هتفضل نايمه كتير.
هزت رأسها وهي تقبل جبينها ثم رفعت كفيها للسماء تدعوا بحرقة على ياسر وزوجها السابق الذي حرق قلوبهم ودمر افراحهم.

بعد ساعات...
جلست زينة في منتصف الفراش بعيون زائغة تتابع حركات فهد الذي يبدل ملابسه دون اهتمام لانه يتنقل شبه عاري حتى ارتدى قميصه قبل ان ينظر لها ويرسل اليها نظره مليئة بالشفقة مؤكًدا:
-خير يا زينة، انا قدرت اجمع حاجات عن جوزك مكنتيش تتخيليها وهجيب رنا لحضنك تاني انا بوعدك.

اكتفت بهزة لا ترى من رأسها وعقلها ينسج خطة للتمرد بذهابه فهي ترفض أن تبقى ساكنة وابنتها الوحيده مختفية ومين يدري كيف وصل بها الحال بدونها..!
ثم اقترب منها يقبل مقدمه رأسها في حنو وهو يحثها في هدوء:
-قومي افطري عشان ما تقعيش من طولك.

لم تجيبه واكتفت بالنظر إلى أقدامها فتنهد وهو يلعن الحياة التي ترفض الابتسام نحوه حتى بعد أن حقق حلمه بوجودها كزوجة داخل داره أصرت الحياة على انتزاع الفرحة التي أنارت ظلمات حياته البائسة...
اتجه نحو الباب ليتوقف في منتصف الطريق عندما صدح صوت رنين هاتف زينة التي ارتمت للخلف تجذبه لتتنفس في راحه وهي تخبره:
-ده مدحت..
ثم ردت بلهفة مجنونة:
-الو بنتي فين يا مدحت؟

ركض فهد نحوها والصق أذنه بالهاتف جوار رأسها فسمعه يقول:
-بنتك مين؟ تقريبا هي بنتي انا.
-حرام عليك متلعبش بيا وقولي بنتي فين، حرام عليك دي لسه صغيره متدمرهاش بالطريقة دي.
سمعت صوته المستمتع بانهيارها وكأنه بهذه الطريقة يعيد تهذيبها، ثم أردف بمكر استوطن نبرته الأجشة:
-هو شرط واحد صغنن وبنتك ترجع لحضنك تاني
نبض قلب زينة بلهفة وهي تسرع القول:
-قول انا مستعده اعمل اي حاجة بس بنتي ترجع لحضني.

وحينما نطق مدحت بشرطه الصغير إتسعت عينـا زينة بتوجس مصدوم وهي تحملق بفهد الذي لم يقل صدمة عنها و...

الفصل التالي
جميع الفصول
روايات الكاتب
روايات مشابهة