قصص و روايات - نوفيلا :

نوفيلا حبهان للكاتبة دينا ابراهيم الفصل الأول

نوفيلا حبهان للكاتبة دينا ابراهيم الفصل الأول

نوفيلا حبهان للكاتبة دينا ابراهيم الفصل الأول

حرك رأسه لليسار واليمين ليتمكن من اختراق المارة بأبصاره والوصول إلى تلك الفراشة الرقيقة ذات الوشاح الأسود زينة ، تنفس براحة ما إن استدارت ورأى بياض وجهها الشاحب أكثر من اللازم اليوم، تحركت تفاحة ادم لديه وهو يبتلع ريقه وكأنه يبتلع جمرة حارقة فتعلقت عيناه بشفاها الوردية الصغيرة المتحركة وهي تحادث أحد عملاء مطعمها الصغير الذي لا يكتسب المعنى الحرفي للمطعم فجميع أكلاتها المصنوعة بروح المنزل يتم اصالها للمنازل فالمكان الذي أفتتحه في تلك المنطقة الشعبية لتكتسب رزقها صغير بالكاد يكفي تنقلها لتجهيز الطلبات.

ضاقت عيناه وهو يتابع الشاب يبتسم بنظرات خبيثة وازدرد ريقه مبعدًا أنظاره منهي تفحصها بجملة اللهم أغزيك يا شيطان كي لا يتجه هناك ويكسر كل عظمة من عظامة ويوحل نفسه أكثر وأكثر معها.

اتجه للفتاة الصغيرة الحاملة لنفس ملامح والدتها التي ارتفع صوتها وهي تطرد الشاب مما جعل ابتسامة رضا تبتلع وجهه وهو يظلل بجسده الرجولي فوق الملاك الصغير التي نجحت في سرقت ما تبقى من مشاعر في قلبه كما فعلت والدتها زينة من قبل وسأل بحنو ما إن لمح بقايا دموع تتعلق بوجهها:
-الجميل كان بيعيط ليه؟

ارتفعت أنظار رنا ذات الأربعة سنوات من شاشة الجهاز الالكتروني الخاص بها الى وجهه ليسرقها من عالم الرسوم المتحركة، نظرت حولها للحظات ثم وبكل ثقة أشارت لفتى سمين يعلب بكرات زجاجية صغيرة في الأرض الموحلة مع بعض الأطفال، تنهد حين مرت ثوان كان من المتوقع فيها ان تشرح له ما حدث ولكن كالعادة اكتفت الصغيرة بالصمت، أرجع خصلاتها للوراء وهو يجاريها:
-الواد المقلبظ ده هو اللي ضربك؟

هزت رأسها بالموافقة وانعصر قلبه حين عضت شفتيها الصغيرة توقف ارتعاشه بكاء ترغب في الانفلات منها ولاحظ هالة من الاحمرار تحيط عينيها التي صارت تلمع بالدموع فأسرع يربت رأسها بحنان وهدهدها:
-ايه ده بقا احنا هنعيط ولا ايه، الكلاك ده مش نافع يبقى الشوكولاتة اللي بديهالك كل يوم مش بتديكي طاقة مع إن عماد مأكدلي انها بتدي طاقة،
كده يبقى عماد نصب عليا والشوكولاتة بايظه وخلاص مش هشتريها تاني!
-مش بايظة!

هربت منه ابتسامة نصر ما إن سمع صوتها الرفيع ببحته الرقيقة لندرة استخدامه وتساءل:
-معقولة مش بايظه اومال الواد ده ضربك وانتي مضربتوش لما ضربك ليه؟
حركت كتفيها بحركة طفولية فرفع حاجبه بتفكير ثم ابتسم بمشاغبة قائلًا:
-أقولك على حاجه تعمليها لما حد يضربك؟
هزت رنا رأسها واتسعت عيناها بفضول وترقب فهمس لها وهو يرفع صخرة صغيرة بجوارهم:
-تاخدي الطوبة وهوشي بيها وهو هيخاف ويجري..

حركت عينيها بتفكير ثم سمع تساؤلها الخافت:
-ولو ضربني برضه؟
ليجيبها بانفعال أبوي مكتسب على يدها وهو يلقي بالصخرة إلى الناحية البعيدة:
-ساعتها بالطوبة وفي وشه!
-ااااي!
تأوهت زينة الواقفة تحادث رفيقتها بالدكان المجاور وبحثت بغضب عن الذي قذفها بصخرة، اتسعت عيون فهد السوداء كالليل واستقام باضطراب عندما اصطدمت الصخرة بمُعذبته من الخلف فأشاح بصره بخجل نحو أطفال راكضة بعيدًا وهتف:.

-انت يا حيوان ياللي اهلك معرفوش يربوك، ماشين يحدفوا طوب على الناس، لا إله إلا الله، ربوا عيالكم بقى!
حمحم في حرج وابعد وجهه الأحمر عن نظرات زينة المستنكرة وبسرعة أخرج لوح من الشكولاتة يمنحه للصغيرة المبتسمة برضا بالغ قبل أن يوعدها بأخر قريب إذا دافعت عن ذاتها ثم ركض هاربًا نحو مبناه.

في العمارة التي يقطن بها فهد...
اخرج مفتاحه ليفتح باب منزله بإرهاق بات يلازمه، لم يعد إرهاق جسدي فقط، بل اصبح ارهاق جسدي ونفسي..!
مشاعره المكتومة باتت تعيق سير دقاته وتؤرق منامه لتلك العصية التي لا تراه من الاساس.
وكأنه ابتُلي بذلك العشق.
هز رأسه بيأس وهو يرمي كل ما يخصه وبما فيهم ملابسه وهو يتوجه نحو المرحاض ليأخذ حمام بارد يزيل عنه تعبه ولو مؤقتًا...

بعد فترة قليلة...
خرج من المرحاض يلف جسده بمنشفة، ليخترق سمعه صوت شجار حاد عالٍ وذلك الصوت لم يكن مجهول له بل صوت تلقى صداه باهتياج مُهلك في مشاعـره المكبوتة خرج مسرعًا نحو البلكونة دون أن ينتبه حتى أنه بالمنشفة فقط...!
ألقى نظرة على الأسفل ليجدها تعنف طفلتها على فعلتها، تهبط لمستوى طفلتها المنكمشة على نفسها بصمت، لتسألها بصوت حازم:
-مين قالك تعملي كده يا روني؟

ارتعشت شفتـا الطفلة ورفعت إصبعها نحو ذاك الذي يقف في شرفته يتابعهم بصمت، لتهمس بعدها ببراءة:
-عمو ده.
احتدت عينـاها بشراسة، يخمن أنه رأى ذلك الفتيل ينطلق ليحتضن أم عينـاها فيعطيها وهج حاد...!
تراجع سريعًا للداخل ليبدل ملابسه وشيء داخله يخبره متيقنًا أنها ستصعد له، لن تكن زينة التي يعرفها إن لم تصعد...!

بينما في الاسفل...
تحركت زينة نحو العمارة التي يقطن بها وداخلها يتوعده بالكثير والكثير، قطع طريقها والد الطفل الذي ضربته ابنتها والذي هو زوج صديقتها، يتنحنح بخشونة وهو يخبرها:
-استني يا مدام زينة ميصحش تطلعي لوحدك انا هطلع معاكي.
هزت رأسها بقليل من التردد ثم امسكت بيد طفلتها جيدًا وبالفعل صعدوا جميعهم وكأنهم على وشك الهجوم لقتل عدو في احدى الحروب المشتعلة بغضب حارق.

وصلوا امام باب منزله فاندفعت زينة تطرق الباب بعنف ليفتح لها بعد ثواني بابتسامة باردة، باردة ولكنها بين اعماقها نيران كالمرجل تغلي، تغلي وتغلي ويكتم هو غليان غيرته بتلك الابتسامة الباردة، ليردد:
-يا هلا يا هلا، ده البيت نور.
كزت على اسنانها بغيظ واضح، وابتسامته الباردة تلك تشعل جنونها بطريقة غريبة، ذبذبات ابتسامته تقريبًا توخز ثنايا مشاعرها لتهتاج مشاعرها بانفعال وغضب واضح!

فأخذت تزمجر فيه كنمرة شرسة دون مقدمات:
-بأي حق يا استاذ يا محترم تخلي البنت تتعامل بالعنف ده مع اطفال زيها
وقبل أن ينطق بما يستفز مشاعرها اكثر اكملت بنفس الغضب الاهوج:
-انت مين اساسًا عشان تتدخل وتنصح بنتي بنصايحك العميقة؟!

عينـاه أصرت على وصال عينـاها المتوهجة التي كانت تبعدها عنه بتلقائية، تحرمه حتى النظرة وهو الذي لا يتمنى سواها، لا يتمنى سوى تلك النظرة عساها تخرجه من شرنقة جوعه واشتياقه القاتل لها، لأي شيء منها!
لينتبه لهم بعدها فقال بلامبالاة وهو يرفع كتفاه معًا:
-انا واحد كان معدي وشاف بنتك بتنضرب!
فهزت هي رأسها ضاحكة دون مرح:
-مش عارفة من غير نصيحتك الهايله دي كنت هخلي بنتي بلطجيه ازاي.

حينها تدخلت طفلتها دون سابق إنذار تحتضن اقدام فهد ببراءة وهي تهز رأسها نافية وكأنها ترفض مقاتلة والدتها للشخص الوحيد الذي داعب طفولتها المقتولة بحنانه الفطري وحبه الغريب لطفلة ليست من صلبه، ثم رفعت عيناها الفيروزيتان لوالدتها تهمس لها بغضب طفولي:
-ماتزعقيش ليه، هو حلو.

إتسعت عينا زينة ولم تستطع فصل معالم التعجب التي راحت تحتلها، تحتل كيانها كله وهي ترى ابنتها لاول مرة تخرج من قوقعة انطوائيتها لتدافع عن شخص ما بل وتبادر لتحتضنه باندفاع طفولي!..
زفرت بعمق قبل أن تسحب ابنتها وتستطرد بنبرة لم تخلو منها الحدة:
-تعالي هنا يا رنا ده كلام كبار.

هزت رنا رأسها نافية وتشبثت بأقدام فهد والعند ينضح من عيناها, حينها ابتسم فهد دون شعور منه، هذه الصغيرة ورثت عن والدتها عناد صخري قاتل على ما يبدو...!
تدخل زوج صديقتها في هذه اللحظة ينهي ذلك الحوار بلهجة دبلوماسية أجشة:
-خلاص يا مدام زينة، هو الاستاذ ده مش هيقرب لرنا تاني اصلًا عشان لو قرب هيبقى في كلام تاني، يلا بينا.

ثم هبط لمستوى رنا ينوي حملها ولكنه وجد فهد يدفعه بعنف ملحوظ ويحمل رنا امام اناظر الرجل المدهوش، وبلحظة تلك النظرة الباردة التي كانت تغطي عينـا فهد اصبحت مختنقة بشتى المشاعر، اهمها الغضب، الغضب الذي جعل عيناه سوداء مشتعلة كجحيم الليل الأهوج المحترق بغضب حاد بين سواده فبدا مُخيف للناظرين...!
لينظر في عمق عينـا ذلك الرجل وهو يتحداه بشراسة لوحت للرجل بتجمهر واضح، وأردف بنفس الحدة:.

-مش هبعد وعايز أشوف الكلام التاني
فتح الرجل فمه ليتحدث ولكن رنا كانت الاسرع لتمنع معركة اخرى على وشك النشوب فتابعت بسرعة متوترة:
-خلاص يا استاذ سامح، الاستاذ هيبعد عنها ومش بمزاجه، الكلام خلص يلا بينا.

اومأ سامح يتأفف بغيظ، وبالفعل سحبت ابنتها من بين يداه بصعوبة فتركها هو على مضض، ليهبط سامح اولًا ثم طفلتها التي دفعتها زينة بهدوء، وما إن كادت زينة تسير لتنزل خلفهم ولكن فجأة وجدت يدا فهد امامها تمامًا ولكن دون أن يلمسها...
شهقت تلقائيًا وهي ترتد للخلف، لتجده يقترب هو منها اكثر، اقترب حتى اصبح وجهه امام وجهها مباشرةً، أنفاسه الساخنة تداعب شحوب بشرتها فتبث فيها نوع من الارتباك العاطفي...!

اقترب من اذنها ببطء مُهلك وراح يهمس بخشونة:
-ماكنش في داعي تجيبي واحد غريب معاكِ عشان تتخانقي معايا!
برقت عينـاها باهتياج حانق رهيب ودفعته بعيدًا عنها بعنف، ثم تلعثمت رغمًا عنها وهي تهب صارخة فيه:
-وانت مالك! وبعدين متقربش مني بالطريقة دي احسنلك، مش عشان انا مُطلقه بقا ومن غير راجل بقيت لُقمه سهلة!

رمقته بنظرة شذرة حادة قبل أن تنطلق راكضة من امامه قبل أن يشن عليها بأي هجوم مُربك، مُقلق لشيء داكن خامد داخلها...!

ألقى فهد نظرة أخيرة على نفسه في المرآة يتأكد من تصفيفة شعره الأسود الناعم، وفك زر قميصه الأخير كعادته ليلمع صدره الأسمر.
ارتسمت ابتسامة عابثة على ثغره حينما تذكر أنه سيراها بعد قليل، لا يدري هل ستتقبل تواجده حولها بين كل حينٍ وآخر ام لا، ولكنه لا يملك سوى أن يدور حولها كالحلزون منجذبًا لكل ذرة بها تربطه برباط العشق الذي تكاتف عليه منذ زمن.

وصل مدخل البناية ليرفع رأسه متنهدًا بقوة ثم خرج متوجهًا نحو المطعم الخاص بـ زينة حيث تطهو الطعام المنزلي وترسله للمنازل منقذة العُزاب أمثاله وربات الأسر من ذوات العمل..

وصل أمام المطعم ولكن استوقفه مشهد جعل الدماء تفور في رأسه، فقد رأى رجلًا أرمل يعرفه شكليًا فقط كان مع زينة داخل المطعم ويقترب من خلفها بدرجة كبيرة بينما هي جاهله لنواياه منغمسة في حربها السخيفة لإخراج إحدى الحقائب البلاستيكية من رف أمامها وفوق ذلك كان الباب الزجاجي مُغلق عليهما..!

تقدم بخطى ثابتة نحو الباب وصدره يغلي بنار الغيرة التي نشبت داخله دون سابق إنذار، ليسبقه خروج الرجل قبل وصوله لكن فهد استوقفه وهو يشمله بنظرة ساخطة حادة متمتمًا:
-عيب على سنك اللي بتعمله ده!
لوى الاخر شفتاه وهو يجيب مستنكرًا:
-وأنت مالك يا أخ بتتدخل ليه في اللي ما يخصكش؟
-لأ يخصني!
صاح بها فهد دون تردد، فتباطء الآخر في برود مستفز وهو يسأله:
-اتحفني وقولي يخصك في إيه؟

تمالك فهد نفسه بصعوبة حتى لا يهشم رأسه، فجز على أسنانه بعنف وهو يستطرد بنبرة حملت الضغينة بوضوح:
-لو مش عايز تحترم نفسك على الأقل احترم المنطقة اللي محدش يتجرأ فيها يعمل اللي بتعمله ده.
فرفع الآخر إصبعه يؤشر له في انفعال:
-انا محترم نفسي غصب عنك
فأغمض فهد عيناه، يحاول ترويض تلك الشياطين التي تعبث بعقله في تلك اللحظات، وشرار الغيرة يُظلل رؤيا عقله فيجعله هامش..!

إلى أن قال بنفاذ صبر:
-أحسنلك لو عايز تفضل محافظ على هيبتك في المنطقة أمشي من قدامي دلوقتي
عدل الآخر من هندام ملابسه ثم راح يخبره بنزق:
-أنا ماشي بس مش خوف منك، لأني مش فاضي دلوقتي.
قال أخر كلماته وهو يغادر بالفعل، فيما ابتسم فهد ابتسامة ساخرة تخفي خلفها همجي لا يشعر بأي شعور إنساني سوى الرغبة بالقتل..!

ارتفع وجهه نحو زينة لتصطدم عيناه التي اصبحت كتلة نار بعينيها المتحدية وهي تطالعه بقلق بينما تعمل على تثبيت الباب كي لا يغلقه زبون وقح من جديد، فتقدم نحوها ملتهمًا خطواته وعيناه تخبرها عما تحويه من غضب مجنون غير مبرر و...

الفصل التالي
جميع الفصول
روايات الكاتب
روايات مشابهة