قصص و روايات - نوفيلا :

نوفيلا حالة وجد للكاتبة شاهندة الفصل الرابع عشر

نوفيلا حالة وجد للكاتبة شاهندة الفصل الرابع عشر

نوفيلا حالة وجد للكاتبة شاهندة الفصل الرابع عشر

لكن ما الذي يمكنني فعله، إذا تعملق ذاك الخوف وأصبح ينبض مكان قلبي، وإذا اختنقت العبرات في عيني، وأصبح العالم كله ثغرة تنفذ منه مليون فكرة سوداوية تجلدني حد الإنهاك، إذا ما التفت يمنة ويسرة أبحث عن طيفك أتفيأ من ظلاله الدافئة التي تعانق روحي وتواسيني وتشعرني بالمعية، أجد أن رحيلك أنت دون غيرك إجحافا في حقي، لأنك حقي في الحياة! إن تركت يدك الآن سترحل وربما ستعود أنت!، ولكنك ستعود كبريق خافت بين الضباب.

كانت (منى) تلف (وجد) بين ذراعيها وكلاهما تبكي بصمت وحرقة، لايتردد في أذني (منى) سوى وصية إبنها على (وجد)، وأما الأخيرة تحاول أن تكون أقوى من خوفها بسبب ذلك الوعد الذي قطعته من أجله.

مرت ساعات ثقيلة عليهما ترفع أمه يديها إلى السماء وتناجي الله رحمته، فتقلدها (وجد) لتلتفت إليها وهي تبتسم، فتشعر برحمة من الله تشد على قلبها بأن لاتخافي ولاتحزني إنا رادوه إليك، فتبتسم لها (وجد)، كأنها اليقين الذي نستودع الله به أحبتنا، فتقر العين دون خوف، هكذا مرت الساعات وكل ساعة لا تخلو من إتصال (عمار وأزاد) يطمئنان على صديقهما. والطبيب(رياض) كذلك.

انقضت ست ساعات كاملة، انفرج باب غرفة العمليات فهرعت (منى) تتبعها (وجد) تقتربان من الطبيب بلهفة سألته (منى):
كيف حاله؟!
بادلها بإبتسامة لطيفة وقال: على مايرام! إنه بطل متشبث بالحياة والحياة تتشبث به بقوة!
رددت (منى) من بين دموعها: الحمد لله رب العالمين. الحمد لله رب العالمين!

ليردف هو: سننقله على وحدة العناية المركزة، ونتابع حالته خلال 72 ساعة القادمة، لنرى الأثار الجانبية المحتملة للعملية، لذا لا تستطعان رؤيته سوى من وراء زجاج غرفته! عليكما التحمل لثلاثة أيام بعد.
قالت (منى) بصوت مبحوح مختنق: لايهم كم سننتظر، المهم أن يستفيق ويعود إلينا!
توجهت نحو (وجد) واحتضنت وجهها بكفيها وقالت: هيبقى كويس ياقلبي! عمليته نجحت وهينقلوه لاوضة تانية وهنشوفه، متخافيش!

انكمشت (وجد) على الكرسي بجانب الجدار، أما (منى) فكانت تقف أمام النافذة الزجاجية تطالع (تيم) بلوعة، كانت تشعر بالعجز، إنه شعور مقيت أن تقف بدون حراك والألم يزحف بأوصال من تحب وتكتفي أنت بالمراقبة، شعور غريب حين تستوطنك قلة الحيلة، فلا يسعك غير الإنتظار حين يكون الإنتظار أثقل من الهواء الذي يدخل إلى الصدر المثقل بالهموم، كان هذا ماتشعر به (منى) تماما حتى سمعت ارتطام شيء على الأرض، لتستدير فتجدها (وجد) قد فقدت وعيها، هرعت نحوها وهي تطلب المساعدة بصوت عال، لتلبيها الممرضات على الفور، وقتها فقط تذكرت أنها لم تتناول الطعام منذ يومين، قد غفلت عن هذا الأمر تماما، فأنبت نفسها بشدة، لقد انخفض ضغط (وجد) وانتابتها اعياءة، ستكون بخير بعد انتهاء كيس المحلول الذي تنغرس إبرته في ذراعها، وتناولها بعض الطعام...

جلست (منى) بجانبها تمسك بيدها وتربت على شعرها بحنان الأم وقد زاد إنهمار دموعها لشعورها بالتقصير في حق هذه الواهنة المسكينة...
بعد أن سرى مفعول الدواء بداخلها استفاقت من إغمائها، قبلت (منى) جبينها وهي تتأسف لها ثم انصرفت عنها ومالبثت حتى عادت تحمل صينية بها بعض الطعام والفاكهة، فجلست تطعمها كما كانت (وجد) تطعمها هي الأخرى بدورها لأنها كما غفلت عن (وجد) غفلت عن نفسها ولم تذق الطعام هي الأخرى أيضا.

مر يومان...
لا تزال (منى) و(وجد) في المشفى ولم تبرحانه، كانت حالة (تيم) مستقرة لكنه لم يستفق بعد وهذا ما جعل الأطباء يتحيرون من أمره، نادى الطبيب على (د. منى) لمكتبه ليحدثها عن حالته، أما (وجد)فبقيت جالسة على كرسي، لم تره خلال اليومين الماضيين، مراقبته من الزجاج كانت تؤلمها لذا آثرت أن تنتظره فحسب.

كان الممرضون يغيرون له ثيابه وملاءات سريره، واعطوه جرعات أدويته وانصرفوا، فانسابت قبل أن يقفل الباب الأوتوماتيكي، ودخلت إليه.
وقفت بجانبه تطالعه بخوف وشوق وحاجة إليه، أما هو فكان مستغرقا في النوم، وذاك الجهاز يصدر طنينا منتظما كأنه لحنا يهدهده لينام هانيء البال , وخيطانا وأنابيب متصلة بجسده الشاحب، أمسكت أصغر أصابعه بيدها الصغيرة وقالت:.

أنا مسكت صوابعي، من يومها وأنا بعد، في عشرات كتير عدتها لقيت إنك بتحبني عشرات كتير! وأنا دلوقتي همسك صباعك وأعد عليه هو بس أد إيه أنا بحبك كثير.
أنا هنا وماما(منى) كمان هنا، هي بتعيط كتير، وأنا كمان بعيط كتير، وانت لسه مصحتش،
لو فضلت نايم أنا هنام كمان، ومش هصحى غير لما انت تصحى.

أنا همسك صباعك وأطلعك من العالم إلى انت فيه عشان ترجعلي، افتح عينيك وشوفني، أنا لبست ملون، مش هلبس أبيض تاني. لبست الفستان اللي قلتلي ألبسه وانا محبتش لونه، الفستان الأزرق. إنت قلتلي أنه شبه عنيا. بس دلوقتي مش هعرف لو طلع حلو عليا. عشان انت لسه مشفتوش عليا.
اصحى يا (تيم)! أنا مستنياك.

في مكتب الطبيب.
كانت (د. منى) تجلس قبالته تطلع على التقارير والأشعة، وضعتها جانبا ومسحت بكلتا يديها على وجهها الشاحب وقالت:
لم يستفق بعد كيف نعرف أضرار العملية عليه؟
قال لها بعملية: سننتظر! لا تزال 24 ساعة أخرى، كما ترين لن يكون عاجزا عن الحركة لكن هناك إحتمال أن تتأثر إحدى حواسه! لكنه احتمال ضئيل، سيكون بخير اطمئني!

الأرواح الشفافة يخترقها النسيم، يخترقها الحب، تخترقها الكلمات، هكذا اخترقت كلمات (وجد) روح (تيم) فهمست بروحه أن ترتد إلى جسده فعادت من أجلها!
فتح عينيه بثقل وبدأت تتضح أمامه الرؤية وانقشع الضباب عن محيطه فهمس بثقل: مية. أنا عطشان! لو سمحتي.

انتفضت (وجد) من مكانها وضغطت على زر الجرس المعلق بجانب السرير لاستدعاء الممرضة، قامت بفحص مؤشراته و بللت شفتاه بقطرات من الماء وخرجت تستدعي الطبيب، أما (وجد) فاقتربت منه وقالت:
كنت متأكدة إنك هتسمعني! الحمد لله على سلامتك.
نظر إليها للحظات وكان يبدو عليه الحيرة وحين أراد أن يقول شيء دخل الطبيب وبرفقته (منى) التي تهللت أساريرها وهي تقول:
الحمدلله على لطف ربنا! (تيم) ياقلبي حاسس بإيه؟!

قال (تيم) بصوت متعب: أنا بخير الحمد لله.
والتفت إلى الطبيب حين قال: أرى أنك استفقت قبل الوقت المتوقع، أخبرني بإسمك بالكامل أيها البطل!
تلعثم (تيم) وهو يجاهد على التذكر ثم قال: لا أدري!
قال الطبيب: هل تميز من هما هاتين الجميلتين؟
وقد أشار إلى والدته و (وجد).
حملق فيهما (تيم) لبعض الوقت وقال: أشعر أنها أمي وهذه أشعر أنها تخصني لكنني لا أذكرهما!

نظر الطبيب إلى (منى)القلقة نظرة إطمئنان ثم قال ل(تيم): لا عليك ستتذكر كل شيء، إنه فقدان ذاكرة لحظي Instant memory loss لن يدوم سوى أسابيع قليلة، انك بخير ولم تتعرض لأي أثار جانبية أخرى، بعض الراحة وستتعافى بسرعة أيها البطل!
استأذنهما بوجهه البشوش فالتفت كل من(وجد) ووالدته حوله وهو يطالعهما بصمت، وبعد لحظات أتى الممرضون ينقلونه إلى غرفة عادية.

لأنني أحبك.
أنا وحيد الآن.
باللحظة التي يفترض بأن يكون الكثير من حولي.
الكثير من الأشخاص الذين يهتمون لأمري.
وتجمعهم أمنية حمل هذه الوحدة عني.
لأنني حينما أحببتك غرقت فيك.
ذلك الغرق الذي يجبرني على تذكرك وحدك دونهم.
الغرق الذي كان سيغرقني إن لم أنساهم.
وأكون فارغا من كل شيء إلاك.
لأنني أحبك!

أحس(تيم)بألفة كبيرة برفقة (وجد)، كان لا يتذكرها لكنه كان يشعر بأنها تحتل أكبر جزء من قلبه، كانت تقرأ له كل ليلة، وحين يستيقظ يجدها تحتضن صباحه بإبتسامة مشرقة، وتزين نهاره بأحاديثها اللطيفة التي جعلته يتماثل للشفاء، وإذا حل المساء أمسكت بيده ورافقته إلى الحديقة، فكانت تلامس وجدانه كهواء المساء اللطيف، لقد أحبها من جديد، وغرق في عشقها، من جديد!

عادت والدته إلى مصر بعد أن اطمأنت عليه وتركت برفقته (وجد)، إئتمنتها بكل ثقة على ولدها، كانت تعلم أنهما سيشفيان برفقة بعضهما، كان والده يزوره من حين لآخر، كما يفعل ( عمار وأزاد )، خضع لإعادة التأهيل والتدريب العقلي، وبدأت ذاكرته تجود عليه أحيانا ببعض الصور.

بعد مرور شهران...
رذاذ مطر شجي يداعب الأرض ليفوح عبيرها في الأجواء، دبت الحياة من جديد في مزرعة الجد التي أنقذها (كمال) من البيع حين شارك في مصاريف عملية إبنه، فحملت (منى) بعض الإمتنان على ذلك لزوجها السابق، كانت تحب المزرعة كثيرا، حيث تعتبرها حضن العائلة الدافيء، وعطر والدتها الزكي، فكانت فرحتها لا توصف بعدم خسارتها.
اجتمع كل الأصدقاء والعائلة على طاولة الغداء.

التي يترأسها الجد البشوش الطيب، وبينهم (تيم) الذي تعافى وبنى ذاكرة جديدة جمعهم فيها بحب وربما زاد عن حبه السابق لهم، قال الجد بإبتسامة تغمر وجهه:
أنا فرحان أكتر من أي حد في الدنيا بلمتكم حوالية، بشكركم كلكم، المكان كان ميت وأنا فيه لوحدي، دلوقتي رجعتله الحياة، والصوت الاي انتو بتعملوه دا وضحكاتكم وكلامكم بيفضل موجود بالمكان لحد ماترجعو له تاني.

نظر إلى (تيم) وأردف: انكتبلك عمر جديد يابني، حاول ماتضيعوش ورا الدنيا، عيش حياتك ببساطة وبكل تفاصيلها
حب حزنك وحب فرحك، الفشل والنجاح هما الللي هيوصلوك لهدفك اوعى تيأس أو تتغر، وأهم حاجة حافظ على الحاجات اللي معاك، وعيلتك اللي بتحبك
ووزع نظره بين (وجد) والبقية...

كان الجميع متأثر بما قاله، فقالت (منى) وهي تمسك بيده: ياقلبي يابابا! ياحبيبي أنا ياما طلبت منك تنتقل معايا على بيتي، إنت مصر تبقى هنا. لوحدك!
فأجابها بذات الإبتسامة: يابنتي أنا مش بشتكي وحدتي! دا بيتي وذكريات المرحومة والدتك بتونسني، وكل حد هنا بعتبروا زي ابني وفرحان وسطيهم، بس دا مايمنعش إني بحب لمتكم دي حوالية...
وقف (عمار) فجأة وقال بحماس: فرحي الأسبوع الجاي!

تهلل الجميع وراحوا يهنئونه بينما (أزاد) فغرت فاهها وجحظت عينيها وهي تقول: مش هنلحق! أسبوع إيه بس؟
وقالت والدته: منزلك لم يجهز بعد!
تناول فطيرة وراح يلوكها وهو يقول: هتخلص بعد شهر العسل، أنا كدا كدا هلف مع عروستي مش هنبقى بالبيت يعني.
وغمزها فشعرت ببعض الإحراج من جرأته وطأطأت رأسها.
أما (تيم) فاستقام وامسك يد (وجد) وقال: أستأذنكم ياجماعة، هقوم أفرج وجد على المزرعة وأوريها الأحصنة.

قالت (منى) بود: براحتك ياقلبي، خلي العم (صابر) يدلك!
أومأ برأسه وسار يمسك بيدها بين الأشجار وهو يدندن ويصفر لحن أغنية تعرفها، فكانت تنظر نحوه بدهشة وفرحة...
كان يامكان، كان في زمان.
في أرض الأحلام. كان في عصفور.
واقف حيران...
قدام أميرة صغنونة...
رفرف وحط على أيدها...
حس بأمان...
الأميرة حلوة وطيبوبة.
بس جواها دموع وأحزان.
سألها العصفور. مالك ياأمورة.
ليه قلبك تعبان!
فقالتلو الأميرة...

عايزة جناحين. وأطير لفوق.
ألمس غيوم. وأقطف نجوم.
وأشوف كل البلدان.
نزل العصفور من إيدها.
وبقى عصفور كبير. كبير كتير!
قالها. تعالي ياأمورة.
نحقق الأحلام.
ضحكت الأميرة. وضحكتها جنان!
وطارت لفوق. وحست بأمان.
انتهى. فقالت بصوت عال وهي تقفز: تيم إنت فاكر! رجعتلك الذاكرة!
توقف بعد أن عانقته وهي تضحك وتردد: الحمد لله
فلفها بين ذراعيه وراح يدور بها بفرحة وهو يردد: بحبك ياوجد. بحبك!

أمسك بيدها وسار نحو إسطبلات الخيل فاختار واحدا وحملها لتجلس على صهوته و امتطاه هو أيضا وسارا معا تلفهما هالة من السعادة التي ظفرا بها أخيرا، ثم قال لها:
إيه رأيك يا أميرتي يبقى الفرح فرحين؟
قالت (وجد) ببلاهة: فرحين مين!؟
ضحك على عفويتها وقال: فرحنا! مع فرحهم.
فقالت: أممم. الأسبوع الجاي!
فقال بحماس: لو عايزاه بكره نعمله بكرة. أمنياتك أوامر!
فقالت: أممم. بس مش عايزة فستان أبيض!

فقال وهو يحتضنها: نخليه أحمر. وبالمرة نعفي الست بيضا من الأبيض اللي هي غرقانه فيه بسببك.
جاء الجميع على صوت ضحكهما والعم (صابر) من بعيد يلتقط لهما صورا كما طلبت منه (د. منى)، كي تخلد لحظات سعادة وحيدها.

الفصل التالي
جميع الفصول
روايات الكاتب
روايات مشابهة