قصص و روايات - نوفيلا :

نوفيلا العوض للكاتبة زينب محمد الفصل الثاني

نوفيلا العوض للكاتبة زينب محمد الفصل الثاني

نوفيلا العوض للكاتبة زينب محمد الفصل الثاني

وقف يناظرهما من بعيد فرأي ذلك القذر ينظر لها نظرات يعرفها جيداً ولذلك، بدأت نيران الغيرة تلتهم صدره و البلهاء غير مدركة لِمَ يحدث خلفها، خرج من سيارته كالثور الذي يود أن يقتلع رأس أحدهم، اندفع داخل المكان بكل همجية ممسكًا بذلك الشاب:
تصدق إنك راجل مش مضبوط..
انتفضت الأخرى بفزع قائلة:
معاذ!

اشتد الغضب بداخله وبان عليه علامات الغضب وذلك ظهر جليلاً بنبرة صوته فخرجت حروفه غليظة رغماً عنه آمرًا إياها بحده:
اطلعي بره يالا..
هتفت برفض قاطع وهي تقول بحده مماثلة:
لا طبعًا، ابعد إيدك عنه.
تحدث الأخر بصعوبة وذلك بسبب يد معاذ القابضة على عنقه:
أنا مش راضي أتكلم والله وعاملك خاطر يا رهف..
استشاط غضباً وقام بالضغط أكثر بيده فوق عنقه وصاح قائلًا في وقاحة:.

لا يا شيخ، بتعمل خاطر للستات صح بتحب أنت تعمل كده!، بس أنا بقي عاوزك تتكلم وتقول اللي نفسك فيه.
أنهى حديثه بنظرة مرعبه، فأثار ريبه الأخر ليقول متوترًا:
أنا معرفش أنت بتتهجم عليا ليه؟!
قطعت حديثهما رهف وهي تتحدث بغيظ:
رد ولا معندكش رد علشان أنت همجي!
خفف من قبضه يده ثم التفت بوجهه نحوها وقد ظهر عليه إمارات الصدمة:.

أنا همجي علشان بدافع عنك! ما أنتي لو تعرفي المعفن ده كان بيبصلك إزاي مكنتيش تقوليلي كده، كنتي بوستي إيدي وشكرتيني، بس أقول إيه والبعيدة عامية!.

تبدلت ملامحها فجأة، اهتزت مشاعرها لحديثه الأخير، منعت نفسها من البكاء حتى لا تثير شفقته، رسمت على وجهها برود غريب بينما داخلها كان يغلى كحمم البركان، رغم ذلك اكتفت بأخذ حقيبتها والهروب بعيدًا عنه، ترك الرجل عندما أدرك حديثه واندفع خلفها يحاول تلطيف حديثه اللاذع:
رهف استني، استني بس أنا مقصدتش..

أشارت لإحدى سيارات الأجرة المصطفة بجانب الرصيف فتقدمت منها واحدة وقبل أن تضع يدها فوق باب السيارة كان يمنعها بيده قائلًا:
أنا أقصد إنك عامية القلب..
رفعت بصرها له وعيناها تمتلئ بالدموع، حاولت أن يخرج صوتها ثابتًا دون اهتزاز، أشارت بيدها على تلك اللاصقة التي تحيط عينيها:
شايف دي، عمرك ما هاتقدر تتخطاها، مهما مثلت عليا، أنت شايفني حاجة غريبة عنك وعاوزني بأي شكل، وأنا مش عبيطة علشان أنجرف ورآك!

حاولت أن تفتح باب السيارة مرة أخرى ولكنه هتف بصوت يحمل مشاعر الحب:
لا أنا بحبك بجد، وأنتي فعلًا عامية القلب يا رهف علشان مبتحسيش بحبي ليكي..
دق قلبها تلك الدقة التي لو سمعها لطار فرحاً، توترت إثر اعترافه بحبه لها بهذا الشكل وصوته الذي داعب مشاعرها في لطف، ظهر التوتر عليها كعادتها فقالت بتلعثم خفيف:
أنا همشي، اتأخرت عن إذنك، وبطل تراقبني علشان مشتكيش لمامتك..

فغر فمه بصدمة ونظر لها لثوانٍ يحاول تدارك ما قالت للتو وعندما وجد انها تهدده مثل الطفل الصغير تحدث قائلاً بتهكم:
مامتي!، أنتي بتكلمي ابن أختك!

لم تبالي بحديثة، فتحت باب السيارة بعنف وانطلقت بعيدًا عنه، هز رأسه بيأس منها ومن تفكيرها الغريب باتجاهه، تنهد بحرارة تملكت من صدره، التفت بوجهه نحو ذلك الوقح الذي كان يختلس النظرات من خلف زجاج محله، قرر تأديبه حتى لا يتعرض لها مرة أخرى، تقدم بخطوات واثقة نحوه، فتراجع الأخر سريعًا وتظاهر بالانشغال بالعمل، اقترب معاذ منه ثم دنى بجذعه العلوي نحوه قائلًا بنبرة تحمل الوعيد الصارم:.

لو شوفتك مرة تانيه جنبها، وربي وما أعبد مش هاتردد ثانية وأولع فيك.
رفع الأخر نظره يرمقه مشدوهًا منه، ومن عنفوان حديثة ليقول:
تولع فيا أنا، انت مين أصلًا أنا عمري ما شوفتك مع رهف...
جذبه معاذ بعنف من ياقة قميصه هاتفًا بغضب:
أنا أبقى خطيبها وجوزها مستقبلًا، تحب تعرف أنا بشتغل إيه، بشتغل ظابط، وبتليفون صغير هقفلك محلك اللي فرحان بيه!
تراجع الآخر في ثباته، قائلًا بتلعثم:.

لا أنا بعتبرها زي أختي، وبينا شغل، رهف موديل، وبتعرض لبس المحجبات عندها على الاكونتات وأكيد حضرتك فاهم شغلها كويس...
رسم ابتسامه مميته فوق محياه:
بطلنا...!
ضيق الأخر عيناه بعدم فهم ثم تحدث مستفسراً:
نعم؟!
أكد حديثه حتى لا يضطر لان يعيده مرة ثانية
بطلنا يا حلو مفيش شغل من كده تاني، لو هي قالتلك قولها بح مبقتش عاوزك موديل، فاهم..

أومأ إيماءة صغيرة بالموافقة وعيناه تستقبل نظرات الآخر المحملة بالوعيد والتهديد
ردد خلفه:
فف، فاهم.

وضعت المفاتيح بباب الشقة وقبل أن تفتح وجدت والدتها منال تفتح الباب بعجالة هاتفه بصوت خافت:
رهف، الحمد لله أنك جيتي، يالا بسرعة ادخلي أوضتك وغيري هدومك.
قطبت رهف ما بين حاجبيها باستغراب، تحدثت قائلة:
ليه في إيه لكل ده!
زفرت منال بحنق من اسألتها الكثيرة لتقول:
في عريس جوه واياكي تقوليلي مش هطلع.
رفعت إحدى حاجبيها قائلة بتهكم ولكن بداخلها نار نشبت ولن يطفئها أحد:.

عريس جوه من غير ما ترجعيلي، طب قوليلي طيب!
تبدلت ملامح منال لحزن وهتفت برجاء: علشان خاطري اطلعي، أنا مكنتش اعرف أنه جاي، وبعدين مرضتش ازعل طنطك ديدي، وبعدين متخافيش عارفين بموضوع عينك..
ضغطت فوق شفتيها وهي تحاول بيأس كظم غيظها:
لا فعلًا مكنتيش تعرفي خالص، أنا هدخل أغير هدومي واطلعلهم بس علشان محرجكيش، بس أنا مش موافقة ماشي.

وقبل أن ترد والدتها كان صوته يظهر مازحًا: واقفين بتتكلموا على السلم ليه، قفشتكوا.
رمقته بنظرة تعالى ثم هتفت قائلة لوالدتها:
أنا داخله..
راقب دخولها بعين فاقده للأمل وذلك رأته والدتها جيدًا ولكن فسرته انه تضايق فقط لفعل ابنتها ولذلك تحدثت بأسف:
معلش يا معاذ أصلها مضايقة مني..
نظر لها بعدم فهم، هتف بتساؤل:
ليه في إيه؟!
التفتت والدتها تنظر بداخل الشقة قائلة في همس:.

في عريس جوه، وجه من غير ما تعرف، وأنا أصريت تطلعله..
حاول كبح جماح الغضب بداخله، فكر لثوان في إيجاد حل مناسب لافساد تلك المقابله، فقال بصوت ثابت إلى حد ما:
طب تحبي ادخل أحضر معاكي، يعني مفيش راجل معاكوا، وأنتي زي أمي!

تجاهل أنها مثل أخته، ف والله لن يكذب بهذه النقطة، منذ أن وقعت عيناه عليها تمناها زوجه وأم لأولاده رغم رفضه الدائم لفكرة الزواج، الجميلة الرقيقة حولته كُليًا، وهو سعيد جِدًا بذلك التحول، وخاصةً إن كان بسببها!، غريبة المشاعر تتوغل بداخلك فجأة فتجعلك مسلوب الارداه تقع تحت سطوة العشق، تقذفك بين عواصف الحب بلا رحمه، تتلقى مشاعر جديدة ومختلفه عن ما قد شعرت به من قبل، مشاعر لها سكون مختلف يسيطر على قلبك المسكين ويجعله راضخ لعشق كُتب عليه الجهاد!

استفاق من شروده على يد والدتها قائلة:
آه أنت جتلي من السماء، أنا متوترة أوي أصلًا أول عريس رسمي يجي لرهف، كلهم الهانم بطفشهم من بره، ادخل..
دلف خلفها متمتمًا بمكر:
وأخر عريس إن شاء الله..

توالت الأحاديث الخفيفة، منتظرين خروج العروس، خرجت رهف أخيرًا، ترتدى جيب واسع من الون الأسود وستره بيضاء تزينها فراشات من اللون النبيذي، وحجاب وحذاء من نفس اللون، توسعت عيناها بصدمة عندما وجدته يجلس بينهم، كادت أن تفقد وعيها بسببه، يحاوطها في كل مكان، كادت تقسم أنها ستراه في أحلامها بعد ذلك، وليست الوحيدة في المكان التي كادت أن تفقد وعيها، فوالدتها أيضًا أصابها اليأس منها، عندما وجدتها مازالت تضع اللاصقة الطبية فوق عينيها، ضغطت فوق شفتيها السفلية بغيظ، نهضت سريعًا تجذبها نحو المطبخ..

تعالي يا رهف جيبي الشربات من جوه!
دلفت خلف والدتها قائلة:
شربات إيه!، أنتي بتجري وراكي جموسه!.
والله ما عاوزه أشتمك لتزعلي، أنتي هبله، حاطه الاذقه دي ليه، اخلعيها أنتي مش حاطه العين الصناعية!
نظرت لها بأستنكار وهي تقول
وأنتي عاوزني أشيلها ليه؟!
رفعت بصرها للأعلى تشتكي ربها، لتقول بعدها:
أنتي عاوزة تجنني، هو اللي بره ده جاي ليه، مش عريس!
ابتسمت باستهجان:.

عريس!، آه، وأنا مش هتجمل واطلع قدامه من غيرها علشان ينبهروا أن مفيش فرق، لا لو عاوزني بجد لازم يتعود عليا بالازقة دي، ومتخلنيش أطلع من غيرها ومن غير العين الصناعية كمان.
تأففت والدتها بنفاذ صبر:
ماش يا رهف اطلعي قدامي م نشوف أخرتها!

خرجت مع والدتها تحمل صينية المشروبات، وضعتها برفق فوق الطاولة ثم جلست بجانب والدتها، بدأت مشاعر القلق والتوتر تسيطر عليها ليست من نظراتهم ولكن من نظرات ذلك المتطفل الجالس
أمامها، انتبهت على حديث والده العريس قائلة:
قمر يا رهف مخلصه كليه ايه؟!
خرج صوتها متوترًا قليلًا:
آداب حضرتك!
هزت والدته رأسها عده مرات وهي ترمقها من الاسفل للأعلى، ركزت ببصرها على تلك اللاصقه، فأخذها فضولها قائلة:.

وانتي حاطه الازقه ليه على عينك!
رفع معاذ احدى حاجبيه من قولها، ليقول: يعني حضرتك متعرفيش ليه..!
حاولت ديدي انقاذ الموقف فتحدثت بأستدراك:
الله، هو انتي مش عارفه...
قبضت رهف فوق سترتها تحاول التمسك بآخر ذرة هدوء لديها، حاولت والدته أن توضح حديثها:
أنا أسفه والله، بس ديدي قالتلي إنك مركبة عين صناعية وزيها زي الطبيعي...
ابتلعت رهف ريقها لتقول بجمود:.

آه هي بتتركب وبتتشال يا طنط مش حاجة دايمة، وكمان لازم أحط اللازقة دي علشان عيني أنسجتها مش متقبلاها، ف أي نور أو شمس أو عفار بيئذيها!
خرج العريس أخيرًا عن صمته قائلًا بتعجب: امال لابسها ليه!
اجابته رهف بضيق:
علشان عيني متتقفلش خالص.
صاح معاذ هاتفاً بنفاذ صبر:
لا كده كتير!.
هتف العريس باستغراب:
في إيه يا أخ!
نهض معاذ قائلًا بعصبيه:
معندناش بنات للجواز..

زمت ديدي شفتيها بضيق قائلة لوالدة رهف: هو في إيه يا أبله منال، ماله أستاذ معاذ!
نهض العريس بغضب جاذبًا والدته خلفه: شكرًا على المقابلة.
خرجت ديدي خلفهما غير راضية عن تصرف معاذ الأهوج، وضعت منال يدها فوق رأسها بحزن، حزنًا على ما مرت به ابنتها اليوم، لم تتخيل قط أن تسير المقابلة بذلك الشكل، ولكن فضول الناس يجعلهم غير مدركين لمشاعر البشر، أشارت رهف على باب شقتهم قائلة باقتضاب:.

أتفضل اطلع ومتشكرين على اللي أنت عملته!
جلس مكانه دون أن يعيرها أي انتباه موجهًا حديثه لوالدتها:
أنا غلطت يا طنط، أنا كنت شايف أن حضرتك مضايقه من اللي بيحصل زي ما أنا كنت مضايق!
هتفت به رهف قائله بغيظ:
وأنت مالك، إيه دخلك أصلًا..
نهض بعصبيه وقد تناسي وجود والدتها:
لا أنا مالي ونص، أنتي مبتفهميش حاجة..
رفعت منال بصرها تراقب الوضع بينهم وحولها العديد من الاستفهامات لما تراه أمامها..

دبدبت رهف قدمها أرضًا قائلة بعصبية:
مبفهمش إيه يا أستاذ يا محترم، هما مغلطوش عريس ولازم يستفهم عن كل حاجة وده من حقه وأنا كنت موافقة إيه دخلك أنت!
كاذبة أيتها الحمقاء، عيناك تفضحك، وملامح وجهك تعبر عن جميع ما شعرتي بيه أثناء وجودهم، اعترفي أنك وددت أن تقتلعي رؤوسهم عما يفعلونه وفوقهم ديدي!
ارتفعت ضحكاته باستهزاء من حديثها:
أنتي عبيطه يابنتي على أساس أني معرفكيش، أنتي عامله ده كله عند فيا!.

توسعت أعين منال وباتت تراقب بتركيز أكثر، أما رهف فزادها حديثه جنونًا وأصبحت إنسانه أخرى غير التي تعرفها، تقدمت منه تشير بسبابتها بوجهه:
والله لو ما بعدت عني لأقول لامك..
اقترب هو الآخر ناظرًا لها بتحَدٍ:
هو إيه اللي كل ما تشوفيني هاقول لامك، أنتي بتكلمي عيل..
هزت رأسها بهستيرية وصاحت قائلة:
آه، عيل بدام اتصرفت بالطريقة دي، يابني أنت طردت الناس من بيت مش بيتك!
جز فوق أسنانه قائلًا بتحذير:.

بلاش طوله لسان علشان مزعلكيش مني، وبعدين مين قالك أن ده مش بيتي.
التفت بوجهه نحو والدتها التي تراقب الوضع عن كثب ليقول:
مش بيتي يا طنط بردو، وأنتي بتعتبريني ابنك.
هزت منال رأسها بالموافقة قائلة:
طبعًا يا حبيبي!
ضحكت رهف بسخرية لتقول:
حبيبك!، ماما أنتي أي حد ماشي في الشارع ابنك...
التفتت له وأكملت حديثها:
وأنت بلاش عشمك ده، انتوا مبقالكوش سنه ونص ساكنين هنا.
انتصب واقفاً ثم هددها قائلًا:.

مش بعدد السنين يا جاهله، بأصل الناس، ، ها بأصل الناس ركزي واحنا أصلنا طيب...
رمقها بنظرات غامضة، جهلت والدتها تفسيرها، وجدته يبتسم لها قائلًا:
هتعوزي مني حاجة يا طنط.
حركت رأسها بنفي دون أن تتحدث، فالمسكينة غرقت في بحر من التفكير في تلك العلاقة الغريبة بينه وبين ابنتها، راقبت خروجه وهو يشد على جسده بسعادة غريبة، خرج كالمنتصر محققًا ما أرداه، ألا وهو إفساد تلك الزيجة عليها!

دبدبت بقدمها أَرضًا من ذلك المستفز ثم اتجهت نحو غرفتها تنزوي بها تبكي على ما حدث لها اليوم...
ضيقت والدتها عينيها قائلة:
اقطع دراعي أن ما كان فيه إن في الموضوع!

نظرت منال للساعة بملل، ابنتها ترفض الخروج من الغرفة، وترفض حتى التحدث معها، أخرجت تنهيدة قوية من صدرها ثم نهضت وهي تحاول استجماع هدوئها للدخول في مرحلة تأنيب الضمير وذلك من خلال إلقاء اللوم عليها بسبب ما حدث اليوم، دلفت للغرفة دون أن تطرق الباب وجدتها تجلس فوق الفراش تتكئ بمرفقها فوق الوسادة تتابع شيئًا ما على هاتفها، اقتربت والدتها قائلة بعتاب:
طب ما أنتي صاحية أهو، أمال رافضة تتكلمي معايا ليه!.

ابتعدت بنظرها بعيدًا عن والدتها حتى لا تمسك بها وتفضح ما تخبئه لمده عام كامل، ردت باقتضاب:
مفيش!
هزت والدتها رأسها بتفهم ثم تحدثت قائله:
آه أنتي زعلانه مني بقي، من اللي حصل طب والله ما كنت أعرف أن ده هيحصل...
قاطعتها رهف بنبرة أشبه للبكاء:
وليه يا ماما، ليه تحرجيني وتحطيني في وضع زي كده، فرحتي يعني بيا لما كنت قاعدة زي التلميذة بتجاوب وأتحرج قدام معاذ..

انفجرت بالبكاء تخرج ما تكنه من فيضان مشاعر القهر والحزن والغضب:
أنا بحاول أتخطى اللي حصلي والناس بردوا مش سايبني، بيحاربوني في شغلي، وكمان في حياتي، طب اعمل إيه، أفضل حابسه نفسي بين أربع حيطان علشان يتبسطوا، أنا مش زعلانه والله من اللي حصل، وعارفه انه قضاء وقدر، وكل يوم ربنا يعوضني بحاجات حلوة كتير، بس نظرات الناس بتدبحني وبالذات لو كانت شفقة منهم.

مسحت منال دموعها التي هبطت فوق صفحات وجهها تحمل حرقه رهيبة على ما تعانيه ابنتها، لم تستطع السيطرة على مشاعرها فأجهشت بالبكاء، انفطر قلب رهف على منظر والدتها، فاقتربت منها تربت فوق رأسها بحنو:
أنا أسفه يا قلبي متزعليش، أنا مش زعلانه منك والله، حقك عليا يا ماما..
رفعت منال وجهها قائلة بنبرة خافتة:.

حقك عليا أنتي، والله ما تحصل تاني، أنا بس عاوزه أطمن عليكي يابنتي، خايفة أموت واسيبك لوحدك زي ما ابوكي سابنا لوحدنا.

أغلقت عينيها بألم عندما افتقدت الحبيب والصديق والأب في حياتها، افتقدت السند والحماية، تذكرت عندما مرت بتلك الحادثة المشؤومة وما فقدته بسببها، هون والدها عليها الكثير، وساعدها بتخطي تلك المرحلة، تذكرت عندما علم بأمر العين الصناعية، وعندما ارتدتها لأول مرة، مرت أمام عينيها فرحته بها، وحديثه لها عن العوض، تلك الكلمة التي استوقفتها كثيرًا وقتها، ظنت أنها فقدت ولا مقابل لمَ فقدته، ردد والدها أمامها كثيرًا أن الله سيعوضك حتمًا، حينها وجعها عن ما فقدته جعلها تتغاضى عن حديثه، ولكن عوض ربها لا يتوقف أبدًا منذ ذلك الوقت، اشتاق القلب لروح كانت تنبثق منها الأمان والطيبة، تنهيدة حارة خرجت من صدرها علها تهدأ تلك العاصفة التي بدأت بداخلها، انتبهت على حديث والدتها...

ياعني مسألتنيش عملت إيه مع رؤوف انهارده!
وضعت يدها فوق رأسها مرتبكة من نظرات والدتها وكيف لها أن تنسي رؤوف وما فعله بهم، ذلك الخسيس أمنت له وسلمته أرضها تحت مسمى الطيبة، ولكن لا مكان للطيبة بعالمنا، فقالت بارتباك: عملتي إيه، نسيت خالص أسألك.

روحت واتخانقت معاه وقولتله على اللي قاله ليا الحاج أحمد، قعد ينكر وبعدين الجبان بجح وفضل يزعقلي وكأنها أرضه هو مش أرضنا، ويقولي أنا اللي اهتميت بيها ومن حقي، وان مش بعدت عنه...
صمتت لبرهة تستجمع أعصابها، فكلما تذكرت كلماته يدب الرعب بقلبها: هايكب مياه نار عليكي..
التوى فمها بتهكم: مستنيه إيه منه، قولتلك سيبني أنا أتصرف..

هتفت والدتها بإصرار: لا أنتي ابعدي، وأنا هكلم المحامي وربنا يعديها على خير، ويهده رؤوف الكلب.
ضاق صدرها من كل شيء، لم تفشل الحياة أبدًا في إقحامها بالمصائب، نظرت حولها تبحث عن الهواء، ذلك الاختناق يلتف حول عنقها يعتصرها ببطء، اندفعت هاتفه:
أنا هنزل أجيب لزقه من الصيدلية اللي عندي خلصوا.
رفعت والدتها بصرها نحوها قائلة بقلق:
دلوقتي دي الساعة ١٠، اطلبي يجبوها هما، أو سالم البواب يجبهالك.

التقطت الأخرى حجابها وارتدته ثم التقطت حقيبتها الصغيرة:
سالم مش شغال عندي يا ماما وأنا بتحرج اطلب منه، وبعدين لسه بدري الناس في الشوارع وأنا بقي بصراحة محتاجه أشم هوا..

خرجت والدتها خلفها هاتفه بإرشادات وتنبيهات أي أم مصرية تخبر ابنتها بها عند الخروج ليلًا، أما الأخرى فكانت تسرع للخروج تبحث عن الهواء الطلق، تريد استنشاق أكبر كمية من الهواء لتساعدها على العودة لصفائها الداخلي، ذلك الصفاء الذي بدأ تعكيره بمشاعرها المتناقضة منذ أن أحبت، ولكن ما باليد حيله نحن لا نختار العشق بل ننصهر به كالحمقى، استفاقت من شرودها على صوت غليظ من خلفها..

لو القمر عاوزه حاجة، أنا ممكن أساعدك!

استدارت بسرعة وقلبها ينتفض فزع وجدت شاب أسمر الوجه حاد الملامح ينظر لها بخبث وكأنه أسد جائع ينتظر التهام فريسته، ركضت عيناها فوق ملامحه وخاصه ابتسامته الخبيثة، مررت ببصرها حولها، وجدت نفسها في شارع خالي من المارة، دب الرعب أنحاء صدرها وعلمت أنها ستقع بكارثة، حاول عقلها إسعافها بأي فكره للخروج من ذلك المأزق ولكن توترها كان المسيطر الأقوى على ذهنها...

الفصل التالي
جميع الفصول
روايات الكاتب
روايات مشابهة