قصص و روايات - نوفيلا :

نوفيلا أسانسير للكاتبة دينا ابراهيم الفصل الأول

نوفيلا أسانسير للكاتبة دينا ابراهيم الفصل الأول

نوفيلا أسانسير للكاتبة دينا ابراهيم الفصل الأول

-يا جماعه ان ابغض الحلال عند الله الطلاق!

قال المأذون الشاب ذو الثلاثون عام، المدعي صلاح وهو يتفحص الزوجان من خلف مكتبه، اخفضت رحمه ذات السابعة و العشرون عام انظارها رافضه التحام اعينها البنيه الرقيقه مع اعين زوجها السوداء و قريباً زوجها السابق، جحظ عبدالله صاحب التاسعة و العشرون عام عينيه وتنهد بأسي لرد فعلها القطعي، ولم يجد القوه داخله للحديث او الموافقة، فاكتفي بضم ذراعه المصاب بألم و لكن والدتها تدخلت كعادتها اللطيفة:.

-هما متفقين يا شيخنا، معلش خلصنا بسرعه!
مصمصت والدته شفتيها لتؤكد بمكر:
-ايوه، خلصنا احنا مش فاضين!
خرجت شهقه مستنكره من والده رحمه لترد:
-اسم الله، يكونش وراكوا الديوان!
وضعت والدته ساق على الأخرى بكل عنجهية غير مباليه بالفارق المادي بينهم، رافضه ان تتذل هي و ابنها لهم او ان يكونا تحت ضروس تلك الشمطاء و قالت:
-وانتي مالك و مالنا يا حبيبتي مش خربتيها وقعدتي على تلها!
-خلاص يا ماما!

قال عبدالله و رحمه بآن واحد ثم نظر احدهم للآخر بعتاب، قاطعهم المأذون:
-يا جماعة احنا بنحاول نوقف الضرر مش نزوده، وحدوا الله!
ردد الجميع لا اله الا الله و كذلك الشاهدان الجالسان امام الباب بجوارهم، صديقيه محمود و جلال و فريق عمله البسيط بنفس الوقت فتدخل محمود وهو يري الحزن مرسوم على وجه الزوجان بطيب خاطر:
-يا جماعه ده شيطان ادوا نفسكم فرصه!

رمقته رحمه بغضب و حقد دون وعي وكأنه قتل احد افراد عائلتها فأنزوي للخلف بصمت، اعادت انظارها لزوجها الجالس امامها تكره انه اوصلهم لهذا الحد بل تكره انها لم تكن اختياره، كما كان اختيارها، وبكل عفويه اعادتها ذكرياتها إلى نقطه البداية...

دلفت المبني بعجله تهرب من حراره الشمس، و رغبتها الوحيده هي الراحة بعد سته ساعات متواصلة من تلقي المكالمات في مركز الاتصال الخاص بمقر عملها، وظيفه مملة لا تتناسب مع طموحاتها ولكنها كافيه حتى تصل لهدفها كمحاسبه او اداريه بأكبر الشركات، ضحكت بسخريه وكأن ذلك سيحدث، ضغطت زر المصعد مرات متتاليه كارهه تأخره و الحرارة...

بالداخل كان عبدالله يضع سماعه بأحدي اذنيه يستمتع للأغاني في طريقه لإحضار باقي عدته من الاسفل سريعاً كي لا يراه احد السكان و يطالبه بإستخفاف ان يقله بالمصعد فهو لم ينتهي من إصلاحه بعد، ما ان صفر المصعد معلناً عن وصوله حتى دفع الباب في الوقت الذي مد ذراعه لرفع عصا صغيره اعلاه تمنعه من الانغلاق ولكنه فوجئ بالباب ينفرط من يده و بجسده يهوي للأمام وإلى احضان بحوريه من السماء!

تشتت عقلها في لحظه و تجمدت امام الرجل و اذرعه المتحركه في الهواء لجزء من الثانية قبل ان يرتطم جسده الصلب بها دون سابق انذار، لف ذراعيه حولها بصدمه محاولاً انقاذهم من السقوط وبعد لحظات بهلوانيه تنفس الصعداء وقد نجح في اعادة توازن كلاهما دون الحاجه لطحن الجميلة اسفله، فأسرع قائلاً:
-حضرتك كويسه، انا اسف!

اتسعت عيناها وتعلقت ابصارهم باضطراب ما ان سمعت صوته الذكوري لحظات قبل ان تعود لرشدها فأزاحت ذراعيه بخجل و انزعاج، تنحنح وهو يبتعد و يراقب احمرار وجهها مستكملاً:
- حضرتك طالعه طيب؟
حركت رأسها لأعلي واسفل بتلقائيه مجيبه ببديهيه:
-ايوه طبعا...
-تمام، طيب ممكن معلش تستنيني دقيقه اجيب حاجه ونطلع سوا..
ظهر الاستهجان على ملامحها فاستكمل مبرراً:.

-حضرتك مش فاهمه، انا قصدي ان الاسانسير بايظ و انا بصلحه فهوصلك وانا طالع بالعده لان مينفعش تطلعي لوحدك دلوقتي!
ابتسمت بضعف واجابت:
-تمام مفيش مشكله، متشكره لحضرتك!
اتسعت ابتسامته برضا و ضم ابهامه وسبابته يستسمح انتظارها، هرع نحو حقيبته قبل ان ينضم اليها وفي الداخل سألها:
-حضرتك قولتي الدور الكام؟
-التالت...

اجابته وهي تخطف نظرات نحوه تتفحص سماره الجذاب وحركه ذراعه القوية، حمحمت فتعلقت ابصارهم مره اخري وشعرا بالهواء ينحسر بينهما حتى انقذهم جرس وصول المصعد بتنه خفية فتلعثمت قائلة:
-شكرا تعبتك...
-انا اللي اسف على الموقف ده، بس الصراحه ربنا بيحبني عشان اقع في الجمال ده كله!

وكأي فتاه مصرية اصيله فاقده لحس الإجابة على المجاملات ارتبكت انفعالاتها و هربت ضحكه غريبه منها ادت إلى ارتفاع كلا حاجبيه، فصمتت بخجل وعقدت حاجبيها متخذه منحني اخر وهتفت:
-مش بحب حد يقولي كده على فكره!
-انك جميله؟
تساءل بحاجب مرفوع فاجابته وهي تضم حقيبتها:
-لا انه يحرجني و يعمل الكلام و كده!
انكمشت ملامحه في محاوله لفك شفرات الحوار ليقول:
-يعمل الكلام؟!
زفرت و حركت يدها بتوتر قائله بدون تفكير:.

-اقصد انك بتتحرش بيا عشان...
قاطعها سريعا وهو لا يزال معلقاً بين الباب و ردهه الطابق ليقول بأصبع مرفوع:
-لا معلش انا كنت بعاكس، ايه تحرش دي!
اضطربت فعقدت ملامحها بغضب موبخه:
-احترم نفسك يا محترم!
-الله هحترم نفسي ازاي وانا محترم، اعقلوا الجمله!
جز على اسنانها عاجزه عن الاجابه فأنقذها وصول صوت عالي ينادي من اعلي المبني:
-يا عبدالله، انت علقت ولا ايه؟

بللت شفتيها وذهبت سريعاً هاربه من امامه ولكنه لم يترك الفرصة حين استدارت ترمقه نظره اخيره، فغمز لها واجاب زميله بمكر:
-ايوه يا حوده، متقلقش الاسانسير معلق حبتين بس ورا ورا مش هسيبه، هيروح مني فين!
غطت ابتسامه عريضة وجهها ما ان اغلقت باب شقتها، وهي تستمع لكلمات الوسيم، كأنها تستشعر صدق كلماته بانه لن يتركها حتى تصبح له رغم كل العوائق!..

خرجت من افكارها على صوت المأذون الذي انتبه لعمق نظراتهم و ملامحهم الحزينة:
-انا حاسس ان في شئ غلط انتوا متأكدين من قرار الطلاق ده؟ لاني شايف اسيبكم دقايق اخيره مع بعض قبل الانتهاء من الوضع؟
لينتفض الجميع على صوت والده رحمه العالي نسبياً:
-ماتخلصنا يا شيخ عايزين نروح، هما خلاص متأكدين!
-لا اله الا الله، في الاوقات اللي زي دي ربنا يقدر الواحد على فعل الخير ولا انا اللي نكدي مثلا ومش عايز اشتغل؟

قال المأذون بحذر، فأجابته والده عبدالله بشماته:
-معلش يا شيخنا وهي هتعرف الحاجات دي منين دي حتى الستاير فضحتنا عليها عشان لما ينفصلوا تاخد الشقه زي ما هي!
انعقد حاجبي المأذون ليقول:
-ستاير؟
ردت والده رحمه بغيظ:
-فضيحه ليه ياااختي مش حق بنتي ولا مش حقها...
-ستاير ايه و كلام فارغ ايه دلوقتي!
تدخل عبدالله بضيق فأخر همه شجارهم السخيف في الوقت الذي يفقد فيه زوجته و حب حياته، تدارك المأذون الموقف بخفه مدروسة:.

-لا حول ولا قوة الا بالله، يبدو ان الموضوع كبير للغاية، لا حضراتكم تتفضلوا معايا برا نشرب حاجه ثم نحكم بأمر الستائر!
انكمشت ملامح رحمه و عبدالله بتعجب لقوله بينما هرع محمود الذي فهم عليه و فتح الباب على امل انقاذ زواج صديقه و مساعده صلاح في استدراج امهاتهم للخارج بقوله:
-ايوه انا سمعت ان الشيوخ بيفصلوا في الحاجات دي دلوقتي...

حرك عينيه لصلاح ليجاريه لكنه رفض الانغماس في تلك الكذبة، يكفيه ما فعله من مغامرة ساذجة لاعطاء الزوجان وقت خاص، استدار لهما ما ان تخرجهم مضيفاً بابتسامه:
-فوقوا بالله عليكم وتذكرا بانه اذا تبقى بينك وبين الناس شعرة فلا تقطعها!

خرج وترك الاثنان ينظران لبعضهما ببلاهم، ازدرد عبدالله ريقه ببطء يبحث عن قول ينقذه من هذا الخراب ولكنه لم يجد، انتظرت هي بأمل طفيف اجبره ذلك المأذون المجنون داخلها بمحاولاته، ربما كان يجب ان تستمع لوالدتها بالذهاب لغيره فهو شاب ويبدو ان طريقته غير تقليديه و مريبة، لكن هذا الامل سرعان ما انفرط عندما مرت الدقائق بينهم بصمت فوقفت بحده لمناداتهم، فزوجها اتخذ القرار، وقف سريعاً هاتفاً بخفوت:
- استني!

استدارت بملامح واجمه لتجيب:
-افندم عايزني استني عشان تكمل سكوت!
-انتي مستعجله اوي ليه كده، للدرجه دي مبقتيش طيقاني؟
ضحكت بسخريه لتقول بألم:
-ارجوك قولي انك بتهرج، مين اللي يعاتب مين يا عبدالله؟
هز رأسه برفض وهو يتفحص وجهها بشوق ليستكمل:
-مش عايز عتاب اصلا، انا عايزك انتي؟
فركت جبينها بتعب واجابت بخفوت:
-بلاش تلعب بيا، كفايه لحد كده، انت اخترت خلاص!
-لا انتي اللي اختارتي مش انا!

جزت على اسنانها وهي تكبح دموعها لتقول:
-بتضحك على مين هاه، بتضحك على مين؟
وضع يد على ذراعه المصاب وهو يقترب منها قائلاً:
-ايه يعني لما اتصاب وانا بشتغل مش نهاية الدنيا ما اي حد عنده مخاطر في شغله ليه انتي مصره اني اسيب شغلي عشان غلطه سخيفه...
هبطت دموعها وهي تصيح بتلعثم:
-غلطه سخيفة، يا مؤمن ده انت دراعك متنيل لحد دلوقتي، انت انت...

حاولت الاستكمال بين دموعها المنهمرة ولكن ذكريات الحادث المشئوم كانت اقوي...

ركضت بين اروقه المشفى بهلع، تدعوا الله ان تكون المكالمة التي جاءتها تنذرها بوقوع حادث لزوجها مجرد مزحه او مكالمه خاطئة، مسحت دموعها لإبعاد الغشاوة وامسكت بيد ممرضة تمر بجوارها:
-لو سمحتي في حد وقع في حادثه اسانسير اسمه عبدالله تعرفي هو عامل ايه او هوهوموجود موجود فين؟

-اه الحمدلله ربنا كتبله عمر جديد، هو موقعش متقلقيش لحق نفسه اخر وقت واتعلق في حبال الاسانسير بس للاسف كتفه اتخلع و عنده كدمات تانيه و هتلاقيه موجود هناك في الأودة اللي على اليمين والدكتور هيقولك على الحاله بالظبط!

اجابت الممرضة قبل ان تمضي لاستكمال عملها، اغمضت رحمه عينيها تحمد الله و توجهت اليه سريعا، وجدته مستلقي على الفراش نائماً بضعف، رأسه مغطي بشاش ابيض ملوث بدمائه و الجبيره تصل من كتفه حتى اصابعه، دنت منه وامسكت كفه تقبله بحزن:
-حبيبي انت كويس؟
رمش ببطء قبل ان يضغط بكفه على كفها مطمئناً:
-انا كويس، متعيطيش!

اجهشت في البكاء وهي تضع رأسها على كفه تطرد كل خوفها و قلقها بانها ففقدتهلتنهي بها اسوء ساعه مرت عليها في حياتها، ربت على رأسها بضعف حتى هدأ بكاءها...
ولكن مأساتهم الحقيقية بدأت ما ان عاد للمنزل بعد ايام و صدمته بقرارها:
-انت لازم تسيب الشغلانه دي!
قطب حاجبيه بلا مبالاه ليتساءل:
-ليه؟
حاولت اخفاء ذهولها وقالت:
-يمكن عشان كنت هتموت وانت لسه عريس مبقالكش سبع شهور!
-يا شيخه دي مشيئة ربنا!

قالها وهو يهرب لمكان اخر فأتبعته بأصرار:
-ربنا مقالش نرمي نفسنا في التهلكه!
استدار نحوها بانزعاج:
-في ايه يا رحمه مانتي عارفه ان دي شغلتي ايه اللي جد يعني؟
-لا متحسسنيش ان معندكش مشاعر للدرجه دي هو انت مش حاسس بالمصيبه اللي كانت هتحصلك، انت متخيل ان دراعك اتخلع وانت متشعلق بين السما و الارض وانك واخد 8 غرز في راسك و كان ممكن يجيلك نزيف في المخ؟ انت بجد مش حاسس؟

ابتعد من امامها بأنفاس عاليه، ماذا يخبرها؟ بانه فاشل لا يملك شئ في الحياه سوي تلك المهنة و صنعتها، هي تعلم جيدا انه لا يملك شهاده الثانوية حتى وانه لم يفلح في التعليم فلما تضغط عليه و تؤرق حياتهم؟
ام انها ملت منه و تحاول الهروب مع اول عقبه؟
نفض افكاره المؤلمة وتأوه عندما ادارته نحوها متناسيه اصابته لكنه اردف بقوه:.

-بقولك ايه يا رحمه، انتي من الاول عارفه انا ايه و شغلي ايه وهي حياتي كده مينفعش اغيرها، ولو مخدتيش بالك ليه فانا ههقولك واسهل عليكي الطريق انا مبعرفش اعمل حاجه غير الشغلانه دي و لولا خالي اصلا علمهالي كان زماني ضايع في الشوارع!
قاطعته بعفويه:
-مش مهم محدش بيموت من الجوع ثم انا بشتغل يعني ممكن ندبر امورنا لحد ما تشوف شغلانه تانيه واكيد ربنا مش هيسيبنا!
تجمدت ملامحه وصمت حتى توترت قائله:
-مالك؟

-انتي عايزاني اقعد في البيت وتصرفي عليا؟
انعقد حاجبيه وهي تلعن الكبرياء الذكوري الذي لم يجعله يفهم سوي هذا من كلماتها فاكملت:
-لا انا عايزاك تحافظ على نفسك لاني اكتشفت ان لو جرالك حاجه انا هموت و هتدمر مش هستحمل ضربه زي دي تاني في حياتي بعد بابا الله يرحمه...
ولكنه استمر بحده كأنه لم يسمعها:
-انتي شكلك اتجنيتي، هي دي طريقه حبك ليا، بصي يا رحمه حسك عينك تقولي الموضوع ده تاني وقفلي على كده!

-يعني ايه اقفله، انت مجنون، بقولك ايه مش هستناك تموتني ناقصه عمر، يا انا يا ام الشغلانه دي؟
ضيق عيناه بغضب ليقول:
-طيب انا و هقعد زي الولايه جنبك لكن محمود و جلال ذنبهم ايه اخرب بيتهم!
نظرت له مذهوله:
-محمود ايه و زفت ايه دلوقتي، هو ده اللي همك؟ واحنا و حياتنا اللي بتبوظ مش واخد بالك منها؟!
ضرب طاوله صغيره امامه بقدمه و صاح مستنكراً:.

-كفايه بقي مش عايز اسمع حاجه، وبذلك أسرع للهرب من امامها وإلى الطرقات...

تآوهت بخفوت عندما ضمها اليه يقطعها من اسوء أفكارها، فبكت باستلام واستندت على كتفه لتقول:
-كفايه وجع قلب، كفايه!

الفصل التالي
جميع الفصول
روايات الكاتب
روايات مشابهة