رواية وصال مقطوع للكاتبة إيمان عادل الفصل السادس عشر
•تنويه يحتوي هذا الفصل على مشهد محاولة انتحار، من لا يفضل هذه المشاهد سيتم كتابه تنبيه قبل بداية المشهد•
بحثت عن ورقة فارغة في أحد دفاترها ومن ثم أحضرت قلمٍ وجلست على الكرسي المقابل للمكتب خاصتها وقد قررت كتابة رسالة إلى والدتها وكانت بدايتها كالآتي:
ماما حبيبتي، سامحيني على اللي هعمله...
ماما الحياة طلعت قاسية أوي، أنتِ مبقتيش جنبي وأنا تايهة وخايفة من كل حاجة وكل الناس، أنا تعبت ومبقتش قادرة أكمل في الحياة دي أكتر من كده ويمكن نانسي وصحابي في المدرسة عندهم حق الحياة هتبقى أحسن وأسهل بكتير من غيري، سامحيني يا ماما بس وقت ما هتكوني أنتِ بتقرأي الرسالة دي أنا غالبًا مش هكون هنا تاني،.
- ريتال
أنهت ريتال كتابة رسالتها والتي بُللت أطرافها بسبب بكاء ريتال دون أن تُدرك ذلك، صوت طرقات على الباب أخرجها من شرودها لتُخبئ تلك الرسالة في أحد الأدراج وتكفكف دموعها وتهرول نحو سريرها لتختفي أسفل الأغطية مدعية النوم.
ريتال حبيبتي أنتِ صاحية؟ سأل والدها لتتجاهل سؤاله ليتنهد بضيق ويغادر الحجرة مجددًا، بعد أن غادر أمسكت ريتال بهاتفها وهي تُعيد قراءة تلك الرسائل القاسية مرة بعد مرة حتى غلبها النعاس...
بالإنتقال إلى اسكندرية استيقظت زينة باكرًا لكي تستعد لمقابلة العمل خاصتها وقد توجهت إلى المكان قبل موعد المقابلة بخمسة عشر دقيقة تقريبًا، دلفت زينة إلى داخل الروضة والتي كانت ذات مساحة متوسطة مقسمة إلى ثلاثة حجرات تقريبًا وقد زُينت جدرانها برسومات ملونة لشخصيات كرتونية مختلفة بالإضافة إلى لوحات قام الأطفال برسمها.
ابتسمت زينة حينما وصل إلى مسامعها صوت قهقه الأطفال وحركاتهم السريعة المليئة بالنشاط والحيوية وللمرة الأولى منذ سنوات تشعر بهذا الإشتياق أن تصبح أم لطفلٍ آخر لكن لم يعد بمقدورها تحقيق ذلك بعد انفصالها عن زوجها...
السلام عليكم ورحمة الله وبركاته يا فندم، أنا زينة رضوان،.
أهلًا أهلًا اتفضلي، أنتِ بنت أستاذ رضوان ده انسان محترم جدًا وصديق جوزي من سنين طويلة، تعالي معايا على المكتب جوا.
أومئت زينة وتبعتها نحو مكتب وضع داخل حجرة صغيرة، جلست زينة على الكرسي المقابل للمكتب خاصة المديرة والتي تُدعي ناهد.
لما جوزي طلب مني أشوفلك وظيفة هنا وعرفت إنك بنت أستاذ رضوان مترددتش لثواني إن أوافق بس طبعًا أحنا محتاجين ندردش مع بعض بشكل ودي كده علشان أعرف بس خبرتك، أشوف اللغة عندك، طريقة تفكيرك كده يعني.
طبعًا تحت أمرك.
بعد انتهاء المقابلة أخبرتها مدام ناهد أو ميس ناهد كما يطلقون عليها بأنه تم قبولها لكن الراتب لن يكون عالٍ بالطبع لكنه قابل للزيادة بعد فترة من الآن، لم تعترض زينة ولم تناقشها فهي بحاجة ماسة إلى المال بل وأنها طلبت من مدام ناهد أن تبدأ في عملها من تلك الدقيقة وبالفعل بدأت تسير بين المعلمات والأطفال تُلقي التحية عليهم وتُعرفهم بنفسها.
توقفت زينة أمام فتاة صغيرة تنذوي على نفسها في أحد الأركان، كانت تملك جمالًا فريدًا من نوعه حيث كانت لها خصلات شعر بنية مموجة وزوج من الأعين الخضراء الواسعة ووجه صُبغ بحمرة طبيعية، اقتربت منها زينة وهي تجثو على ركبتيها بحيث تصل إلى نفس مستواها وهي تسألها الآتي:
القمر قاعد لوحده ليه؟
مفيش حد عايز يلعب معايا،.
أكيد هما مش قصدهم بس هقولك أنا ممكن ألعب معاكي وبعدين نروح نلعب كلنا مع بعض ماشي؟ عرضت عليها زينة لتومئ الفتاة بحماس شديد وكأنها كانت في انتظار قدوم أحد للتحدث إليها وتشجيعها على الإنخراط بالبقية، جلبت زينة كرسي خشبي كبير وواحدٍ صغير لكي تجلس تلك الفتاة أمامها.
طيب قبل ما نلعب ممكن أعرف اسمك أيه؟
اسمي، فريدة. كان الإسم يليق بالفتاة بحق فهي كانت فريدة من نوعها، تشبه القمر في جاذبيته وجماله ووحدته كذلك، ابتسمت زينة حينما سمعت طريقة نطق الفتاة لحرف الراء فلم تكن تنطقه بطريقة صحيحة أي كانت لدغة بمعنى أصح.
أنتِ فريدة فعلًا يا قمر، تعالي نلعب بقى مع بعض. أومئت الفتاة وهي تضحك بسعادة بينما تُمسك أحد أصابع زينة وهي تجذبها نحو الطاولة الممتلئة بمختلف الألوان والألعاب.
قضت زينة معظم يومها تقريبًا برفقة الأطفال لكنها لم تبقى لنهاية اليوم وحينما حان وقت رحيلها هرولت نحوها فريدة وهي تضمها في عناقٍ قوي حتى أن زينة لم تحاول فصل العناق قبل أن تفعل قمر ذلك بنفسها، قضاء الوقت برفقة أولئك الملائكة الصغار ساهم في تحسين حالتها النفسية وبمجرد أن غادرت المكان هاتفت ريتال لكي تطمئن على أوضاعها ولكي تطمئن قلبها أن الوضع قابل للتحسن.
ألو، أيوا يا ريتال يا حبيبتي عاملة أيه؟
أنا كويسة يا ماما الحمدلله،
مال صوتك؟ أنتِ تعبانة ولا حاجة؟ سألت زينة بقلق حينما جاءها صوت ابنتها المُرهق المضطرب، ابتسمت ريتال ساخرة قبل أن تُجيبها بمرارة:
لا لا أنا تمام، أنتِ بس وحشتيني أوي ونفسي أشوفك مش أكتر، طمنيني يا ماما أنتِ بخير؟
أنا بخير الحمدلله ومتصلة أبشرك كمان أنا لاقيت شغل الحمدلله وهدور على محامي إن شاء الله أنا بس عايزاكي تجمدي شوية وأنا قريب إن شاء الله هاجي أخدك من المكان اللي عندك ده.
إن شاء الله يا ماما، حاولي متتأخريش عليا،
هكذا أنهت ريتال المكالمة مع والدتها وهي لا تدرِ إن كانت ستقابل والدتها مرة آخرى أم لا فهي ليست واثقة من قدرتها على تحمل هذا الضغط لحين عودة والدتها من الإسكندرية...
مرت عشرة أيام كاملة على ريتال منذ فقدانها للوعي في الحديقة لا تعرف كيف مرت، أخذت الأمور تزداد سوءًا من حيث معاملة زوجة أبيها، لقد ازداد انشغال صالح بالجامعة وبتلك الفتاة التي ينوي الزواج بها، تم تحديد موعد امتحانات نصف العام الدراسي في المدرسة مما زاد الضغط عليها، أصبحت تلك الفكرة التي تراودها أشبه بخطوة مؤكدة تنتظر الوقت المناسب لتحقيقها كي تتحرر من هذه الدنيا، هذا إن كان ما تنوي أن تفعله هو تحريرًا وليس تدميرًا فهي لم تُفكر قط في عواقب تلك الخطوة سواءٍ عليها نفسها أو على من حولها وأولهم والدتها بالطبع!
كانت تجلس شاردة داخل الصف تستمع إلى المعلم بنصف وعي، على غير العادة لم تكن تجلس إلى جانب عالية أو حنين بل كانت تجلس في نهاية الصف وحدها في مكان يبعد عن تليد فهي لم تعد تعرف من عليها أن تصدق فبعد الرسائل التي تُرسل إليها من ذلك الرقم المجهول بإستمرار أصبحت تشك في جميع من حولها وأصبحت تُصدق أن الكل يكن لها الكره والضغينة...
بمجرد أن سمعت ريتال صوت الجرس مُعلنًا عن فترة الراحة هرولت نحو الخارج كي تتجنب رؤية أيًا من أصدقائها وذهبت لتجلس في بقعة غير مرئية في ساحة المدرسة، في تلك الأثناء حاول تليد تتبعها كي يطمئن على حالتها النفسية وأحوالها لكنه فقد أثرها لذا ذهب ليسأل صديقتيها لعلهم يعرفون أين تجلس.
حنين مشوفتيش ريتال؟
لا، أول لما جرس الفسحة ضرب أختفت.
طب هو أنتوا زعلتوها في حاجة؟ سأل تليد بقلق واضح لتُجيبه عالية بعد أن طالعته من الأعلى إلى الأسفل بشك وإزدراء قائلة:
ابن حلال كنت لسه هسألك نفس السؤال، أنت قولت حاجة لريتال ضايقتها؟ ما أنا عارفة حركاتك دي يا تليد كويس.
والله ما عملتلها حاجة! وبعدين لو أنا زعلتها هتبطل تقعد معاكوا انتوا ليه؟ أيه العلاقة يعني؟ ده أنتِ ذكية جدًا ما شاء الله عليكي.
كلام منطقي، ممكن تكون حصلت حاجة في البيت عندها، تكون نانسي زعلتها مثلًا أو صالح، حينما سمع تليد اسم صالح جز على فكيه بغيظ قبل أن يُردف من بين أسنانه بتوعد:
لو طلع حد فيهم هما الإتنين اللي مزعلها أنا بقى اللي هزعله بجد!
أهدى علينا يا عم السوبر هيرو، أنتَ مالك أصلًا؟ تليد قولي بصراحة كده هو أنتَ عايز أيه من ريتال؟ يعني آخرة اللف والدوران حواليها أيه؟
خليكي في حالك يا عالية وعمومًا هيجي اليوم اللي هتعرفي فيه أنا عايز أيه، عن إذنكوا.
بصق تليد جملته الغامضة وهو يسير مبتعدًا عنهم بخطوات واسعة، تبادلت عالية النظرات مع حنين يحاولون إيجاد تفسير لرده الغير مفهوم.
في الواقع لم يكن يعلم تليد مقصده بالتحديد لكنه تفوه بتلك الكلمات بتحدٍ دون تحضير مسبق لها وكأن أحدًا قد تحدث بلسانه وليس هو، حاول طرد تلك الأفكار من رأسه وأخذ يُكمل بحثه عن ريتال وقد فشل في إيجادها في النهاية...
في عصر اليوم التالي في محافظة الإسكندرية عادت زينة من العمل بحماس شديد حيث هاتفها والدها وأخبرها أنه قد حضر مفاجأة من أجلها، أخذت تدعو طوال اليوم أن تكون المفاجأة هو قدرته على إيجاد محامٍ من أجلها ولقد كان فبمجرد وصولها إلى المنزل أخبرها بأنه قد أخذ موعد في مقهى قريب من منزلهم مع محامٍ جيد.
طب والمحامي ده شاطر على كده يا بابا؟ سألت زينة وهي تقضم من ثمرة التفاح خاصتها ليبتسم والدها قبل أن يُصحح قائلًا:
هي محامية مش محامي.
ست؟ سألت زينة بإنتباه حينما تحدث والدها عن المحامي بصيغة المؤنث ليُجيب والدها على سؤالها بقليل من التعجب:
عندك اعتراض؟
لا مش معترضة أنا اتفاجئت بس.
دي حاجة هتبقى في صالحك لأنها هتبقى حاسة بوجعك ومتأثرة كونها ست زيك بغض النظر إنها أصغر منك شوية يعني.
عندك حق، طيب مش عايزين نتأخر عليها.
هنصلي المغرب وننزل نقابلها إن شاء الله.
أومئت زينة ب حسنًا، وبالفعل بعد صلاة المغرب توجه رضوان برفقة ابنته الصغرى نحو المقهى، نهش التوتر قلب زينة نهشًا وهي تجلس برفقة والدها بإنتظار تلك المحامية.
مساء الخير يا مستر رضوان مساء الخير يا مدام زينة، معلش بعتذر على التأخير.
لا ولا يهمك.
طيب أعرفك بنفسي الأول، أنا مريم كنت تلميذة عند والدك من سنين كتير وبصراحة هو ليه فضل كبير عليا وجيه الوقت بقى اللي اثبتله فيه إني بقيت ناجحة في شغلي الحمدلله زي ما كان دايمًا بيقولي وأنا تليمذه.
أهلًا بيكي يا أستاذة مريم، بابا دايمًا بيبقى عنده ناظره في اللي قدامه وواضح إن كان عنده حق، كانت زينة تتحدث بمزيج من الحزن والغيرة، لقد أحسنت فتاة آخرى في تقدير قيمة والدها وقيمة حديثه ونصائحه بينما لم تفعل هي ويا ليتها فعلت ما كانت لتكون في هذا الموضع اليوم...
ده حقيقي فعلًا، المهم خلينا نبعد عن الشكليات بقى ندخل في المهم، ممكن تحكيلي بالتفصيل كل حاجة حصلت؟ هو مستر رضوان يعني شرحلي بإختصار بس أنا محتاجة اسمع كل تفصيلة منك.
حاضر، أخذت زينة تسرد ما حدث بالتفصيل، كانت تستمع إليها المحامية في هدوء دون إبداء تعبيرات وجه واضحة بينما كان والدها يزداد غضبًا كلما تفوهت بحرفٍ عن ذلك الوغد المدعو عبدالرحمن.
طيب الموضوع مش محتاج كل القلق ده، إن شاء الله القضية هتبقى سهلة وهنعرف نخلصها في وقت قليل. حاولت طمئنة زينة والتي لم تبدو وكأنها مقتنعة كثيرًا بما يقال لكنها في الوقت ذاته كانت تحاول الحفاظ على الجزء الضئيل المتبقي من الأمل داخلها.
بصي يا مدام زينة أحنا لو قدرنا نثبت دخل جوزك كام ونخلص باقي الأوراق والإجراءات في وقت قليل إن شاء الله الموضوع هيخلص في حدود تلات لأربع شهور لكن لو معرفناش نحدد داخله كام بسهولة الموضوع ممكن يوصل لست شهور.
شعرت زينة بإنقباضه في معدتها وهي تشعر بذلك الأمل يتبخر، لقد منحها عبدالرحمن شهران ونصف تقريبًا ولقد مر منهم قرابة الأسبوعين، الوقت ينفذ منها وهي مازالت في البداية...
طيب وبنتي، هو أنا مينفعش أخدها؟
هو أصلًا بنت حضرتك وصلت للسن اللي من حقها تختار فيه الحاضن، اللي طليقك عامله ده أنا أسفة يعني اسمه بلطجة ومش قانوني هو بس استغل طيبتك وضحك عليك وفهمك إنه من حقه يعمل كده. وضحت مريم وهي تتحدث بهدوء شديد بينما اتسعت أعين زينة وقد لمعت عيناها ببريق الأمل وهي تسألها الآتي:
يعني أنا من حقي أخدها؟ خلاص دي أول حاجة لازم اعملها.
مضبوط، كمان أحنا محتاجين ناخد مستحقاتك منه، المؤخر، النفقة، أي حاجة تخصك في بيت الزوجية لو كنتِ مثلًا مشاركة في الأجهزة أو العفش في حالة وجود قائمة بالمنقولات طبعًا.
تمام فهمت،.
خلاص على بركة الله، ابدأي الإجراءات القانونية المطلوبة وعرفينا لو في ورق معين هتحتاجيه وأنا هخلي زينة تجهزه على طول. أردف والد زينة لتومئ مريم بينما تقول:
تمام بإذن الله.
طيب بالنسبة للأتعاب؟ سألت زينة بتوتر وهي تفرك كفيها فأمر الأتعاب كان يشغل بالها لوقتٍ طويل حتى أنه كان السبب الرئيسي في تأجيل أخذ هذه الخطوة من البداية.
أنا اتفقت مع مستر رضوان إن أنا مش هتكلم في فلوس غير لما القضية تخلص خالص إن شاء الله وتبقى بنتك في حضنك وكل مستحقاتك معاكي متشغليش بالك من دلوقتي، صحيح أنا عندي اقتراح،.
شكرًا على ذوقك بجد، أكيد اتفضلي.
أنا بقترح إني أحاول أتكلم مع طليقك بشكل ودي، نحاول نوصل لحل للموضوع بصورة ودية لو اقتنع ووافق إنه يردلك حقوقك ممكن منحتاجش نرفع قضية لكن عاند بقى هنكمل الإجراءات عادي. أقترحت مريم لتعجد زينة حاجبيها فهي لم تتوقع سماع اقتراحًا كهذا وللحظة لمعت الفكرة داخل رأسها لكن سرعان ما عادت إلى الواقع وتذكرت كيف كان يعاملها في الأيام الأخيرة لهم معًا لتقول:.
عبدالرحمن مش هيوافق، هو مبسوط وهو شايفني مذلولة ليه ومفيش في إيدي حاجة أعملها،.
معاش ولا كان اللي يذيلك وأنا عايش على وش الدنيا يا زينة!
ربنا يخليك يا بابا ويباركلي في عمرك يارب،.
طيب أنا هستأذن بقى معلش علشان ورايا شغل كتير أوي، بكرة إن شاء الله هكلمك يا مدام زينة علشان أخد منك باقي المعلومات وهقولك على كام حاجة المفروض تجهزيهم.
تمام، شكرًا جدًا معلش تعبتك معايا.
لا لا مفيش أي تعب ولا حاجة ده شغلي.
ودعتهم مريم لتتركها ووالدها يجلسون في المقهى بمفردهم، خيم الصمت على المكان حيث غاصت زينة داخل أفكارها اللامتناهية وهي تُطالع السماء الملبدة بالغيوم من خلال الزجاج الشفاف للمقهى، أصبح الجو أكثر برودة في هذه الأيام حيث بدأ الفصل الأجمل من العام في إعلان ظهوره بوضوح وخاصة بمحافظة ساحلية كعروس البحر المتوسط.
بتفكري في أيه؟
ريتال، قلبي مش مرتاح خالص يا بابا حاسة إن في حاجة مش مضبوطة وكل لما أكلم صالح ابن عمها بيطمني بس أنا برضوا مش مطمنة،.
تمتمت زينة وهي تشعر بغصة في قلبها، كان هناك شيء غير سار يحدث لإبنتها ولم تعلم تحديدًا ما هو لكنها ليست مطمئنة أبدًا، أمسك والدها بيديها بحنان محاولًا جعلها تهدأ مُردفًا:
ده طبيعي يا زينة، بنتك عمرها ما كانت بعيد عنك وأكيد هي نفسيتها تعبانة من الوضع اللي حاصل، بس أنتِ لازم تبقي قوية علشانها وكمان تفضلي على اتصال بيها دايمًا لحد ما ربنا يكرمنا ونعرف نجيبها هنا.
عندك حق يا بابا،.
خلاص اضحكي بقى وفكي التكشيره دي، قوليلي يا ستي أخبار الشغل أيه؟ مبسوطة مع الأطفال؟
جدًا الحمدلله، عارف يا بابا أنا كنت نسيت حبي للأطفال وتعلقي بيهم لأن زي ما حضرتك عارف أنا وعبدالرحمن كنا متفقين منخلفش تاني، بقيت كل لما أشوف طفلة أو طفل من الحضانة بحس إني هموت من كتر الندم بجد.
تحدثت زينة بإنكسار شديد وهي تتذكر ريتال في طفولتها، كيف كانت هادئة وجميلة، كانت تلهو وتلعب دون إثارة جلبة وفي نهاية اليوم كانت تذهب للجلوس داخل أحضان والدتها حتى تخلد إلى النوم.
هو كان قرار غلط طبعًا، بس برضوا يا بنتي أنتِ لسه صغيرة وقدامك العمر يمكن لما نخلص من كل المشاكل دي ربنا يكرمك بواحد ابن حلال كده.
حاول منحها أملًا يعلم جيدًا أنه ليس بقريب فهو واثق من كون زينة قد صرفت فكرة الزواج بل وقد تكون كرهت الجنس الآخر بأكمله بعد ما حدث معها لكن في الوقت نفسه أراد أن يُذكرها بأنها مازالت في مقتبل العمر وأنه مازالت بعض الفرص متاحة أمامها.
معتقدش يا بابا إني ممكن أفكر في فكرة زي دي تاني في حياتي كلها، أنا مش عايزة حاجة غير إني أعيش علشان بنتي وبس.
ربنا يكتبلك الخير والسعادة يا بنتي،.
بالعودة إلى القاهرة في تمام السادسة كانت ريتال قد عادت من دوامها بالمدرسة وحصلت على قسطٍ من الراحة، بالطبع حاولت تجاهل أصدقائها كما فعلت في الأيام الماضية ولحسن الحظ أنهم قاموا بإحترام رغبتها في الجلوس وحيدة مما جعلها تشعر بأنه تم الإستغناء عنها بسهولة...
علي أي حال حاولت نفض تلك الأفكار إلى مؤخرة رأسها ثم جلست في حجرتها تطالع كتب الكيمياء ببلاهة وهي تحاول جاهدة أن تصب تركيزها على المعادلات الموضوعة أمامها بدلًا من التفكير في تلك الأفكار السلبية التي تنهش عقلها نهشًا لكن لم يستمر هذا الوضع كثيرًا حيث اُقتحمت الحجرة بواسطة زوجة أبيها بعنفٍ شديد وهي تصيح قائلة:.
أنتِ يا زفتة ياللي اسمك ريتال، قومي هنا! لكمت ريتال في كتفها بخفة لتتسع أعين الأخيرة برعب وهي تحاول إستيعاب ما يحدث.
أيه ده في أيه؟
فين الخاتم الدهب بتاعي؟ أنا كنت سايباه على الترابيزة برا!
خاتم أيه أنا مش فاهمة حاجة،.
هتستعبطي ولا أيه؟ أوعي كده وريني شنطتك وحاجتك، صاحت سالي وهي تجذب ريتال بقوة جعلتها تفقد توازنها وتسقط على البساط، أخذت سالي تُبعثر كل أغراض ريتال بدءًا من حقيبتها المدرسية وانتهت بأدراج المكتب خاصتها متبوعًا بخزانة الثياب.
أنا معملتش حاجة والله،.
أنا هوريكي يا بنت زينة، أنا لو ملقتش الخاتم ده أنتِ مش متخيلة أنا هعمل فيكي أيه فالأحسن ليكي تقوليلي خبتيه فين! أخذت سالي تصرخ في وجه ريتال التي أنكمشت على نفسها في أحد أركان الحجرة على الأرضية الباردة في محاولة منها لتجنب ضربات سالي المتفرقة في كتفها وذراعها بينما أخذت دموعها تنهمر بقوة.
ماما، ماما، الخاتم بتاعك. تمتم يوسف بجملة مفهومه وإن كان اخطأ في نطق حرفٍ أو اثنين بينما يمنح سالي الخاتم الذهبي خاصتها.
أنتَ لاقيته فين؟
وقع في الأرض.
ماشي يا قلب ماما شاطر إنك خليته معاك، معلش بقى يا ريتال أصلي افتكرتك أنتِ اللي اخدتيه أصل أبوكي كان دايمًا يقول إن أمك زينة إيديها طويلة وبتقلبه في الفلوس. في تلك اللحظة لم تستطع ريتال كبح غضبها وشعور الإذلال أكثر من ذلك لتستقيم من مقعدها وهي تدفع سالي إلى خارج الحجرة بينما تصيح في وجهها قائلة:.
الحرامية دي تبقى أنتِ! أنا ماما أشرف منك ومن مليون واحدة زيك، اطلعي برا أوضتي وياريت تطلعي برا حياتي كلها حسبي الله ونعم الوكيل فيكي، منك لله! كانت تصرخ ريتال بطريقة هستيرية وهي تحاول إغلاق الباب بعد أن أجبرت سالي وطفلها على الخروج من حجرتها.
قضت ريتال ما تبقى من يومها داخل حجرتها، لم تغادرها لتناول الطعام قط وكانت بالكاد تشرب القليل من المياه بين الحين والآخر، تمددت على سريرها في سكون تام وهي تتأمل سقف حجرتها بشتات، بقي الوضع على ما هو عليه لبعض الوقت وقد كان الأمر أشبه بالهدوء الذي يسبق العاصفة حيث قطع الصمت صوت والدها الغاضب فور عودته من الخارج...
أنتِ يا حيوانة أنتِ افتحي الزفت الباب ده بدل ما أكسره فوق دماغك!
صاح عبدالرحمن من الخارج وهو يصفع باب حجرة ريتال بكل قوته، انتفضت من جلستها برعب وهي تحاول أن تستوعب ما يحدث بينما تابع هو الصراخ من الخارج وإطلاق السباب، اقتربت هي من الباب بخطوات مهزوزة وهي تحاول فتحه وفي اللحظة زادها كان يحاول والدها فتحه بالقوة ليصطدم بها الباب ويختل توازنها وتصطدم بالحائط من خلفها عن طريق الخطأ لكن لحسن الحظ لم تصدم رأسها بقوة.
في أيه يا بابا أنا عملت أيه؟
بقى بتمدي إيدك على سالي وأخوكي؟ هي دي التربية اللي زينة ربيتك عليها؟ ما أنا هستنى أيه من تربية واحدة ست لا ومش أي ست واحدة زي أمك!
أنا معملتش حاجة يا بابا والله مضربتش حد فيهم أديني فرصة بس أشرحلك اللي حصل،.
حاولت ريتال أن تُخبره بما حدث والذي على ما يبدو أن سالي قامت بتغيره تمامًا أثناء سردها لعبد الرحمن عن الموقف الذي دار بينهم سابقًا في هذا اليوم، لم يستمع إليها بل جذبها من ساعدها بقوة شديدة وهو يُحرك جسدها نحو الأمام والخلف بقوة كما لو أنها كانت دُمية بين يديه.
مش عايز اسمع منك كلمة واعتبري ده أخر تحذير مني يا ريتال يا إما هتشوفي معايا أيام أسود من قرن الخروب وأعملي حسابك بقى على إنك هتفضلي عايشة هنا معايا ومع مراتي علشان بس متحطيش أمل على رجوع زينة فالأحسن ليكي تحترمي نفسك كده معانا!
كان صوت صياحه يصل إلى الخارج مسببًا ضوضاء، وقفت سالي تراقب ما يحدث من بعيد وقد نمت على ثغرها ابتسامة انتصار سمجة وهي تطالع ريتال بنظرات توعد وكأنها تُخبرها بأن الجحيم قد بدأ للتو لكن قطع لذتها بالتشفي في ريتال صوت طرقات قوية على الباب لتُغطي رأسها بوشاح شبه شفاف وهي تذهب لترى من الطارق.
صالح؟ وكمان غادة أهلًا أهلًا، في حاجة ولا أيه؟ سألت ببرود تام وكأنها لا تسمع صوت صراخ زوجها بالداخل وبكاء المسكينة، نظر إليها صالح بإشمئزاز شديد دون أن يُجيبها حيث بادرت عمته بسؤالها الآتي:
أيه الزعيق ده في أيه؟ أنا طلعت أنا وصالح جري على صوت عبدالرحمن أفتكرناه بيتخانق معاكي.
لا لا مش معايا، ده عبدالرحمن راجع من برا متعصب وشايط دخل فش غله في البنت الغلبانة وأنا حاولت أهديه وأقوله مينفعش كده يا عبده حرام عليك زعق فيا وقالي دي بنتي ملكيش دعوة بيها. لم يستطع صالح تحمل ثرثرتها وكذبها الواضح لذا تجاهل حقيقة أنها لم تفتح الباب بمساحة تكفي لمروره ليقوم بدفعه بواسطة قدمه وهو يدلف إلى الداخل متجاهلًا وجودها.
عمي، يا عمي اخرجلي هنا من فضلك! توجه عبدالرحمن نحو الخارج بعد سماعه لصوت صالح الغاضب بعد أن ترك ريتال لتُكمل وصلة البكاء خاصتها على الأرضية الباردة لحجرتها غير آبهٍ بما يحدث لها.
أيه يا صالح داخل تجعر في بيتي ليه؟
أولًا ده بيت تيته، ثانيًا هو حضرتك بتزعق في ريتال كده ليه؟ حصل أيه يعني يخليك تكلمها بالشكل ده؟ أثار رد صالح حنقه أكثر فلقد ذكره أن هذا البيت ليس ملكًا له على الأقل في الوقت الحالي نظرًا لوجود الجدة على قيد الحياة.
وأنتَ مالك أنتَ، على الآخر الزمن هتكلم مع عيال وأقولهم بعمل أيه ومبعملش أيه؟
أنا مش عيل يا عمي أنا كل ده عامل احترام إنك عمي وأكبر مني بس لو عملت حاجة لريتال أنا مش هعمل اعتبار لأي حاجة أو أي حد!
طب أيه رأيك بقى إني زعقتلها وضربتها كمان أيه رأيك بقى؟ شعر صالح بأنه يستشيط غضبًا بعد سماعه لرد عمه ورؤيته لتلك الإبتسامة التي لا تخلو من الإستهزاء المرسومة على وجهه، ضم صالح قبضة يده وكاد أن يفقد أعصابه ويلكمه عمه لولا أن عمته وقفت في المنتصف وهي تحاول كبح غضب الأخير.
بقى هتمد إيدك عليا يا صالح؟ حلو أوي الكلام ده أنا بقى هخلي أحمد يربيك علشان شكل الضرب بتاع زمان وحشك! دعس عبدالرحمن على كرامة صالح بجملته تلك لكن الأخيرة حاول الوقوف بثبات وكأن شيء لم يحدث بالرغم من أنه شعر بغصة في حلقه، ضحك صالح ساخرًا بينما يُعقب على جملته قائلًا بإزدراء:.
لما تحب تقف قصادي يا عمي وتهزقني، هزقني بحاجة أنتَ قادر تعملها ومتتحماش في بابا وعلى فكرة أنتَ عارف كويس إن أنا أقدر أقف قصاد لبابا وأردله كل اللي بيعمله فيا بس أنا في الأول والآخر براعي أنه هو أبويا، لكن أنتَ بقى مش أبويا!
كان صالح يتحدث بنبرة هادئة للغاية جعلت الآخر يزدرد ما في فمه بتوتر، كان رد صالح مقنعًا للغاية وفي نهاية حديثه صاح مهددًا عمه بأنه لن يحترمه أكثر من هذا إن أطال حديثه، حمحمت غادة وهي تحاول تصفية الأجواء مُردفة:
خلاص بقى أهدوا شوية أنتوا الإتنين عيب كده، صالح مينفعش تكلم عمك بالإسلوب ده وأنتَ يا سي عبدالرحمن حرام عليك اللي بتعمله في بنتك ده! دي كانت نور عينك هي وأمها أيه اللي حصل؟
ما هو مفيش حاجة بتفضل على حالها يا غادة يا حبيبتي وأنتِ ست العارفين يعني.
عقبت سالي على حديث غادة بنبرة مستفزة لتطالعها الأخيرة بإبتسامة صفراء بينما تُردف بإستهزاء:
اه عندك حق، ربنا ينتقم من الشيطانة يووه، قصدي من الشيطان اللي دخل بينهم.
عمتو ممكن تسيبك من الكلام ده وتدخلي تطمني على ريتال بعد إذنك؟ وياريت لو عرفتي تقنعيها أنها تنزل تتغدى معانا تحت لأن تيته قلقانة عليها ومش هتقدر تطلع السلم. طلب صالح بأدب شديد منافي للنبرة التي كان يتحدث بها إلى عمه قبل وقتٍ قليل، أومئت غادة ونفذت طلبه وبصعوبة استطاعت إقناع ريتال بالتوجه نحو الأسفل معهم.
عاملة أيه دلوقتي؟ بقيتِ أحسن؟ سألها صالح فور جلوسها على الأريكة بإنهاك لتأخذ نفس عميق قبل أن تُجيبه بإنكسار:
تفتكر هكون عاملة ازاي؟ أنا مش عارفة بجد أنا عملت أيه علشان يحصل فيا كل ده؟
معملتيش حاجة يا ريتال، مش كل حاجة بتحصل في حياتنا بنكون أحنا سبب فيها ساعات بيكون ابتلاء مثلًا، قدر، مرحلة ما سيئة وبعدها ربنا هيعوضنا بفرحة كبيرة.
أنا مش قادرة استنى الفترة دي تعدي يا صالح، مش عارفة أصلًا هتعدي ولا لا، مبقاش عندي طاقة للمقاومة ولا المواجهة بأي شكل،.
لازم تفضلي قوية علشانك أولًا وعلشان مامتك، أنتِ عارفة هي بتتعب ازاي علشان تقدر ترجع هنا وتاخدك معاها. أومئت ريتال دون أن تنبس ببنت شفة فما يقوله لا يفعل أي شيء سوى زيادة الضغط الذي تشعر به...
تعالي نجيب الأكل مع تيته وبعدين نكمل كلامنا. همست ب حاضر وذهبت لمساعدة جدتها.
بعد مرور يومان على ما حدث تجاهلت فيهم ريتال والدها وزوجته بل كانت تتجاهل جميع من حولها تقريبًا لولا إلحاح صالح على إجراء بعد المحادثات القصيرة معها وفي أحد المحادثات هاتفته حبيبته المدعوة سارة ليستأذن صالح منها أن يُجيب كي يطمئن سارة عليه ولكن عندما أنهى مكالمته وعاد لم يجد ريتال حيث صعدت نحو الأعلى بغيظ شديد...
دلفت إلى حجرتها وأخذت تعبث في هاتفها بشرود، تمر على الكلمات المنشورة والصور دون أن يُترجم عقلها ما تراه ولكن أخرجها من شرودها وصول رسالة جديدة من ذلك الرقم البغيض والتي قد حفظت أرقامه عن ظهر قلب بعد وصول الرسائل المتكررة منه لكن هذه المرة لم تكن رسالة بل كانت صورة لمحادثات Screenshot على ما يبدو أنها كانت تدور بين عالية وحنين وقد كانت المحادثة كالتالي:.
بقولك أيه أنا زهقت من البت ريتال كل يوم عياط ونواح في المدرسة وأنا بصراحة دماغي وجعاني ومش ناقصة.
وأنا كمان وبعدين كل لما تليد يلمحها يروح يرغي معاها ويسبني أنا، مع إنك عارفة إني معجبة بتليد من زمان.
أنا عارفة وبعدين أنتِ كده كده عارفة إن تليد عمره ما هتعجبه واحدة زيها ده أحنا مصاحبينها شفقة يا بنتي.
طب بقولك أيه يا حنين أنتِ هتشاركي چودي في الحوار اللي عايزة تعمله في ريتال ده ولا هتخافي زي كل مرة؟
لا يا ستي أخاف أيه خلينا نخلص بقى من قرفها بس المهم إنها متعرفش أننا معاهم علشان مش عايزة حد ياخد عننا فكرة وحشة أحنا طول عمرنا معروفين أننا شاطرين ومحترمين.
عندك حق، يا عيني ريتال المغفلة هتيجي المدرسة بكرة عادي وهي متعرفش اللي هيحصل فيها أيه!
كانت تقرأ ريتال ما كُتب بصعوبة شديدة بسبب الدموع التي تجمعت داخل عيناها، لم تستطع إكمال باقي المحادثات فما رأته كان كافيًا جدًا بالنسبة إليها، تضاربت مشاعرها في تلك اللحظة بين الصدمة، الغضب، الإستياء والأهم الخذلان، لقد كانت مغفلة حينما ظنت أنها يمكنها الوثوق في عالية وحنين وتليد لكنه من الواضح أنها كانت مخطئة ولقد كان مُرسل الرسائل على حق...
لقد طفح الكيل وتوجب عليها معرف مُرسل تلك الرسائل لعل ذلك يساعدها في الوصول إلى صاحب الرقم والتحدث وجهًا لوجه لكي تعرف من أين جاء بكل تلك المعلومات، وبالتأكيد هي لا تنوي الذهاب إلى المدرسة بالغد فهي لا تعرف ماذا دُبر من أجلها بواسطة چودي ومساعديها.
بعد تفكير استغرق بضعة دقائق قررت ريتال طلب المساعدة من صالح فهو يعد الشخص الوحيد الذي يمكنها أن تثق به هذا بالطبع إن لم يكن يُدبر لها شيء هو الآخر فما عادت تعرف هي من يزيف لها الحب والإهتمام ومن يحبها بصدق، بالفعل توجهت ريتال نحو حديقة المنزل حيث كان يجلس صالح أمام الحاسوب اللوحي المتنقل خاصته يعمل على مشروع من أجل الجامعة.
صالح فاضي اسألك على حاجة؟
اه طبعًا تعالي، مالك عاملة كده؟ عينك منفخة أنتِ معيطة ولا لسه صاحية من النوم؟ سأل بإهتمام حقيقي لتتنهد ريتال بضيق من سؤاله الذي بدا سخيفًا جدًا بالنسبة إليها.
سيبك من الكلام ده دلوقتي مش مهم خالص، ممكن بس تقولي هو لو في حد بيبعتلي مسدچ أو بيكلمني وأنا مش عارفة اسمه المفروض أعمل أيه؟ هو رقم غريب، سألته ريتال وهي تفرك كفيها بتوتر بينما تحاول جاهدة أن تحافظ على نبرة صوتها الهادئة لكنها فشلت في ذلك، رفع صالح عيناه ليقابل خاصتها بينما يُجيبها ببساطة مُردفًا الآتي:
في أبلكيشن عالموبايل بيطلعلك الإسم عادي.
تمام،.
هو في حد بيضايقك ولا أيه؟
لا لا ده هو بس في رقم غريب اتصل عليا فكنت عايزة اعرف مين وكده.
طب هاتي الرقم وأنا أشوفهولك.
ماشي، منحته ريتال الرقم ليقوم صالح بالبحث عن هوية ذلك الشخص لم يستغرق الأمر سوى دقيقة تقريبًا قبل أن يظهر أمامه الإسم، كان يراقب صالح في تلك الأثناء تعابير وجه ريتال المضطرة وبالتأكيد هو لم يصدق تلك القصة الساذجة التي اخترعتها فلقد تذكر أنه رأى رسالة سخيفة من رقمٍ غير مسجل على هاتفها منذ فترة لكنه ليس واثقًا إن كان هو الرقم نفسه.
ها يا صالح مين اللي بيبعت؟
واحد اسمه، تليد، تليد أحمد.
توقف عقل ريتال عن العمل للحظة، تليد أحمد؟ هل أخطأت السمع أم أن صالح قد أخطأ القراءة؟ هناك شيء غير مقبول وغير مفهوم هنا، تجمعت الدموع داخل عين ريتال دون وعي منها بينما أخذ يراقب صالح تعبيرات وجهها بمزيج من الحيرة والتعجب وقبل أن يسألها عن سبب بكاءها وعن إن كانت تعلم من يكون سبقتها هو وهي تُردف بإستنكار:
أكيد في حاجة غلط، أنتَ متأكد من الرقم اللي كتبته؟
اه متأكد أنا كتبته زي ما أديتهولي بالضبط، هو أنتِ تعرفي مين تليد ده؟
تليد! لا لا، تليد لا، أكيد، أكيد يعني في حاجة غلط، مينفعش كده، همست بطريقة هستيرية غير قادرة على تكوين جملة ذات مغزى مما زاد من اضطرابه.
أنا مش فاهم في أيه؟ أهدي شوية واشرحيلي براحة، أنتِ تعرفية طيب؟ وهو عملك أيه وأنا أجبهولك من قفاه!
أنا، معرفوش، أنا معرفوش ومش عارفة حاجة خالص يا صالح، أردفت بنبرة منكسرة وهي تطالع صالح بأعين خاوية وإن كانت ممتلئة بالدموع، حاول صالح أن يستفهم منها حول هوية ذلك الفتى أو سبب تأثرها الشديد لكنها لم تمنحه الفرصة حيث استقامت من جلستها وهرولت نحو الداخل على الفور تاركة إياه في حيرة من أمره.
دلفت ريتال إلى حجرتها وهي تصفع الباب بكل ما أوتيت من قوة ومن ثم تغلقه بواسطة المفتاح قبل أن تبدأ في إلقاء كل شيء على الأرضية بحنق شديد وهي تبكي بحالة هستيرية، لم يعد الآلم يُحتمل لقد كان أمر هوية صاحب الرقم هي القشة التي قضمت ضهر البعير، فقدت ريتال قدرتها على استيعاب المزيد من الصدمات...
شعرت بنبضات قلبها تتسارع كما اعتادت أن يحدث في الآونة الأخيرة فلقد أصبحت تستشعر قدوم تلك النوبة التي لم تعلم لها اسم لكنها قد أدركت أن هذه الأعراض تظهر عليها في حالة الحزن الشديد، التوتر، والغضب، لم تحاول أن تقاوم تلك الأعراض ولم يكن بجانبها أحد ليساعدها على التخلص من تلك الفقاعة التي حُبست داخلها رغمًا عنها...
هوت على أرضية حجرتها تلتوي كالفرخ المذبوح تارة بسبب الآلم الذي يعتصر معدتها وتارة بسبب صعوبة التنفس ولثلاثة دقائق كاملة ظنت ريتال أن هذه هي النهاية وقد حاولت استقبال الأمر بصدرٍ رحب دون أدنى مقاومة لكن في النهاية استطاعت بعد عناء تنظيم أنفاسها وقد هدأ ذلك الآلم البغيض في معدتها وإن كان قلبها مايزال يؤلمها.
بللت الدموع وجنتيها وهي تحاول كتم شهقاتها فذلك سيزيد الطين بلة، مرت بضع دقائق سكنت في الحركات داخل الغرفة حيث اسندت هي رأسها إلى الحائط بوضعية أشبه بالصنم بينما تُفكر في جميع الأشياء دفعة واحدة ثم تشعر بالتيه والفراغ في غضون الدقيقة نفسها، استقامت ريتال من جلستها وهي تنظر إلى التوقيت في هاتفها ولقد كان هذا آخر فعل يدل على اتصالها بالواقع قبل أن تغوص في تلك الدوامة الغائرة اللامنتهاية وقد اتخذت قراراتها الأكيد، لقد عزمت على إنهاء كل شيء، الليلة!
لم تغادر ريتال حجرتها قط وقد أمتنعت عن تناول الطعام ولم تفلح هذه المرة محاولات عمتها أو صالح، لم تتحدث ريتال إلى أي شخص سوى والدتها فلقد أرادت أن تسمع صوتها للمرة الأخيرة على الأغلب...
ماما حبيبتي عاملة أيه؟
أنتِ اللي عاملة أيه يا قلب ماما؟ أنا قلقانة عليكي أوي يا ريتال، قلبي واجعني قوليلي حصل أيه يا حبيبتي متخبيش عليا، كانت زينة تتحدث بنبرة ملهوفة على ابنتها، انهمرت دموع ريتال وهي تستمع إلى ما تقوله والدتها وهي تحاول جاهدة كتم شهقاتها كي تصل إلى مسامع والدتها.
أنا خلاص هبقى كويسة يا ماما، أقصد يعني أنا بتحسن وبتأقلم على الوضع المؤقت ده متقلقيش.
هحاول أصدقك، متخافيش خلاص هانت وفاضل خطوة أو اتنين وكل حاجة هتبقى زي ما أحنا عايزين يا قلبي.
إن شاء الله يا ماما، ماما ممكن تسامحيني؟
أسامحك؟ أسامحك على أيه يا ريتال؟ هو حصل حاجة يا حبيبتي؟
لا محصلش حاجة أنا قصدي سامحيني على كل مرة زعلتك فيها أنا أسفة يا ماما، أنا بجد بحبك أوي أنتِ أغلى حاجة في حياتي. أثار حديث ريتال قلق والدتها أكثر فمثل تلك العبارات لا تقال إلا في حالات الوداع وربما الموت بالتحديد...
حاولت زينة أن تفهم ما يجول في بال ابنتها لكن ريتال أخذت تراوغ حتى استطاعت إنهاء المكالمة بسلام دون أن تُخبر والدتها عن ما تنوي فعله تاركة تلك المرأة في حالة من الهلع في محافظة آخرى...
بابا أنا قلقانة أوي على ريتال،.
مش أحنا اتكلمنا في الموضوع ده من يومين يا حبيبتي وأقتنعتِ وقتها بكلامي؟
اه يا بابا بس النهاردة في حاجة غلط بجد، دي بنتي وأنا بحس بيها، صوتها النهاردة مش مضبوط خالص حاسة إنها محتاجة لوجودي أكتر من أي يوم تاني،.
تحبي نسافرلها الصبح؟ عرض عليها والدها لتومئ زينة ب نعم بموافقة شديدة ومن ثم دلفت إلى حجرتها لكي تقوم بتجهيز ما قد تحتاجه إلى السفر بينما تدعو من داخلها ألا يصيب ابنتها أي مكروه أو سوء...
بحلول المساء في تلك الليلة قررت ريتال أن تنتظر حتى يخلد الجميع إلى النوم حتى تستطيع تنفيذ قرارها، جلست في أحد أركان حجرتها وهي تميل إلى الأمام ثم إلى الخلف بحركات ترددية متكررة، يتردد في عقلها صدى كل الكلمات القاسية التي سمعتها منذ أن دلفت إلى تلك المدرسة البغيضة لا لم يبدأ الأمر هنا بل بدأ منذ أن جاءت إلى هذه الحياة، كل عبارة ساخرة تم توجيهها لها من عائلتها؛ عائلتها التي كان يجب عليها أن تغمرها بالحب، الإهتمام والإحترام لكنهم لم في الواقع لم يفعلوا بل كانت السخرية والإستهزاء والتمييز هي منطقهم الذي لم يتغير قط...
لقد تعلمت ريتال أن تكره ذاتها وأن تُحقر من هيئتها قبل حتى أن تتعلم أن تُحب نفسها، لم تكن لريتال القدرة على التصدي لما تتعرض له من عنفٍ نفسي وتنمر لأنها لم تشعر قط بقيمة نفسها، لم تُصدق قط بأنها تستحق الحب والدعم ربما لأنها لم تحصل على تلك المشاعر من جيشها الوحيد، عائلتها فهي لم تصدق ذلك قط...
علي أي حال لم يعد أيًا من ذلك يهم الآن فكل ذلك الآلم سينتهي بفعلتها المتهورة تلك، لقد ظنت أن هذا هو سبيلها نحو النجاة ولم تُفكر قط في بشاعة ما تنوي فعله، لم يستوعب عقلها مدى سوء تلك الفكرة وأن الموت هو ليس الحل بل إنها تُدمر حياتها بأكملها بحركة غير محسوبة، إنها على بعد خطوة أو اثنتين من خسارة حياتها الدنيا ومن آخرتها كذلك...
لم يخطر على بالها كم الحسرة التي ستحطم قلب والدتها إلى قطع صغيرة حينما يأتيها خبر إنهاء ابنتها الوحيدة لحياتها، وليست والدتها فقط بل إنها ستترك ندبة لن تُشفى في قلب كل من يكن لها مقدار ذرة من الحب، ستغادرهم جميعًا تاركة حالة من الصدمة والذعر لا يمكن تخطيها...
•تنويه هذا المشهد يصف محاولة انتحار من لا يفضل هذه المشاهد يمكنه تجنب قراءة هذا المشهد وإكمال الرواية من الفصل القادم•.
بعد أن سكنت الأجواء في المنزل بأكمله وفي تمام الثانية بعد منتصف الليل غادرت ريتال سريرها بحركات بطيئة أشبه بخاصة الإنسان الآلي، خصلات شعرها مبعثرة وعيناها منتخفة من فرط البكاء، ترتدي منامتها الشتوية التي أصبحت تفوق قياسها بمرتان نظرًا لخسارتها الكثير من الوزن في الآونة الأخيرة، تغادر الحجرة بهدوء وتتأكد من نوم والدها وزوجته قبل أن تتجه نحو الخارج بحذر شديد وهي تحاول إغلاق الباب بهدوء قدر الإمكان كي لا يتسبب في حدوث جلبه وإيقاظ أحدهم.
صعدت ريتال بخطوات مهزوزة وأعين غائمة نحو سطح المنزل، أقشعر جسدها من برودة الطقس خاصة في مثل هذا الوقت المتأخر لكنها لم تهتم فلا مجال للعودة الآن لأي سبب من الأسباب، تقترب ريتال من السور ذو الإرتفاع المتوسط وهي تنظر نحو الأسفل بقليل من التردد والذي سرعان ما يختفي فور تذكرها لسبب وجودها هنا الآن...
تلك المواقف والذكريات التي جعلت منها جسدًا بلا روح والتي جعلت فتاة في عمر الزهور مثلها تتمنى الموت أكثر من أي شيء في هذه الحياة ظنًا منها أن هذا نهاية للآلم، والآن حان الوقت لإيقاف الممالطة وأخذ تلك الخطوة وقد كان المشهد كالتالي...
أقدام مرتجفة وأعين دامعة مُحمرة كدماء حيوان قد ذُبح للتو، آلاف الأفكار تعصف بخلايا عقلها ومئات الوغزات تُصيب قلبها الوهن، تقترب أكثر من السور وهي ترفع قدمها اليمنى ببطء بينما تستند على السور بيد باردة كبرودة ليالي شهر ديسمبر، وضعت قدمها الأولى لتشعر بإختلال توازنها وكادت أن تسقط لولا أن حاولت جاهدة أن توازن جسدها بحيث تضع قدمها الآخرى على السور...
تقف بتوتر ويزداد انهمار الدموع من عيناها بغزارة وكأنها شلالات آنجل بينما لفح الهواء البارد وجهها متسببًا في تطاير خصلات شعرها المُجعدة تنحني إلى الأمام وإلى الخلف بحركات اهتزازية خفيفة نتيجة لعدم اتزانها، وفي تلك الأثناء وقعت عيناها على الحديقة متوسطة الحجم وقد صُدمت من كِبر المسافة بين موقعها في أعلى المبني وبين العُشب الأخضر الذي يكسو أرضية الحديقة...
ريتال! أوعي تتحركي من مكانك،.