رواية وصال مقطوع للكاتبة إيمان عادل الفصل السابع والأربعون
ازيك يا صالح عامل أيه؟
عمي جوا وصاحي لسه مخلص فطار، اتفضلوا. تمتم صالح بإقتضاب شديد دون أن يجيب على ترحاب ريتال به، رمقه تليد بإزدراء قبل أن يوبخه قائلًا الآتي: هي مش بتقولك عامل أيه يا قليل الذوق أنتَ؟
وهو أنتَ من الذوق إنك تدخل بيوت الناس تزعق وتعلي صوتك؟ حدثه صالح بالنبرة نفسها وهو يعقد ذراعيه أمام صدره بينما يستند على أحد الحوائط، صُبغ وجه تليد بالحمرة دلالة على إنفعاله وقبل أن يخطو خطوة واحدة أو ينطق بكلمة ردًا على سخافات صالح منعته ريتال وهي تمد ذراعها أمامه وكأنها تمنع من التحرك بينما تقول الآتي: تليد، تليد، مش وقته.
صدر صوتها ضعيفًا مهزوزًا فلقد كانت تلك الزيارة تعبث بأعصابها عبثًا ولم تكن تملك ذرة طاقة لتحمل شجارات صالح وتليد والتي تعلم أن لا ذنب لتليد فيها فإن صالح هو من بدأ بالتصرف بوقاحة لكنه كان شيء متوقع بالنسبة إليها فمن المستحيل أن يتقبل صالح وجود تليد في دائرته أو دائرة عائلته؛ الأمر الذي تراه ريتال سخيفًا فلقد أصبح تليد فردًا من العائلة الكبيرة رغمًا عن أنفه.
كما أن كل ذلك كان تأكيدًا لشكوكها في مشاعره تجاه نانسي ولقد حذرت نانسي من أن صالح لا يحبها وأنه بطريقة ما لم يتخطى إعجاب ريتال السابق بعه وأنه يُعامل ريتال وكأنها شيء مُكتسب من حقه هو وحده ولا يمكن لشخص آخر إمتلاكه - بغض النظر عن كون ريتال بني آدم لا يمكن إمتلاكه - لكن كل ذلك لم يهم في مثل هذا الموقف فكل ما أرادته ريتال هو إتمام تلك الزيارة التي ألح قلبها عليها بالقيام بها رغمًا عن صياح عقلها الغير متوقف ولم يكن هناك أي داعي للمزيد من الضغط والتوتر دون داعي.
هي تيته فين يا صالح؟ سألت ريتال وقبل أن يُجيب صالح عن سؤالها جاءها صوت جدتها التي كانت في الأعلى برفقة عمتها على الأغلب، هرولت العجوز نحوها بسعادة شديدة قبل أن تجذبها في عناق قوي لا يتماشى مع قوتها البدنية.
يا حبيبتي خطوة عزيزة وأنا أقول البيت منور ليه أتاري عروستنا عندنا.
حبيبتي يا تيته ربنا يخليكي، صحتك عاملة أيه؟
الحمدلله بخير، ازيك يا ابني؟ البيت نور.
بنورك يا تيته معلش عملنالكوا إزعاج عالصبح كده وجينا من غير ميعاد. أردف تليد بأدب شديد وهو يمنحها علبة الشيكولاتة التي أصر على شرائها فلقد رأى أنه ليس من اللائق زيارة منزل عائلتها دون تقديم شيء.
أيه ده؟ عصفورين الكناريا عندنا! صاحت نانسي بحماس شديد وهي تركض لتعانق ريتال عناق قوي قبل أن تمد يدها لمصافحة تليد الذي ظل يرمق يدها بحرج قبل أن يرفع نظره نحو ريتال، حمحمت نانسي بحرج قبل أن تقول:.
اه نسيت إنك بقيت مبتسلمش، المهم أيه سر الزيارة السعيدة دي؟
زيارة سعيدة فعلًا، كانت هتبقى أجمل لو كانت عائلية بس من غير ناس غريبة. صدر تعليق صالح وقحًا صارخًا بغيرته وحقده ليُطالعه الجميع بصدمة فيما عدا تليد الذي ابتسم ابتسامة جانبية خبيثة فلم يكن بحاجة لإثبات سوء أو ضعف شخصية صالح أمام ريتال فلقد كان صالح مستمرًا في فعل ذلك بنفسه.
اضطربت معالم وجه نانسي التي تمنت لو تذهب لتصفع وجه صالح فتجعله يعود إلى رشده ويتوقف عن العبث الذي ينطق به لكن حينما رأت نظراته الموجه نحو ريتال أدركت أنه لا فائدة من محاولاتها البائسة فهمها فعلت ستظل مجرد شبح من ريتال بالنسبة إلى صالح وإلى الكل بشكل عام.
وهو في حد غريب يا ابني؟ ده خطيب بنت عمك يعني كلها شهور ويبقى جوزها وواحد مننا رسمي. كانت إجابة جدته بمثابة صفعة لكبريائه، رمقته نانسي بنظرة مستهزأة وابتسامة لا تخلو من الشماتة قبل أن ترحل عنه وفي داخلها شعرت بنيران قادرة على المنزل بأكمله.
رايحة فين يا نانسي؟ مش هتقعدي معايا؟
هطلع أشوف ماما علشان كانت عايزة مني حاجة على ما تشوف عمو ولما تخلصي هنزلك نقعد مع بعض شوية.
ماشي يا حبيبتي هستناكي. تمتمت ريتال بتفهم فلقد كان الموقف ثقيل على الكل لكن في الوقت ذاته لم تكن ريتال واثقة من أنها ستنتظرها فلقد كانت ريتال متوقعة أن تفر هربًا من المنزل بعد رؤية والدها فالأمر لن يكون سهلًا على الإطلاق.
فطرتوا ولا أحضرلكوا فطار؟ استنوا هحضر فطار ولازم تقعدوا معانا للغداء كمان.
استني بس يا تيته يا حبيبتي متتعبيش نفسك، أحنا فطرنا قبل ما نيجي ومش نلحق نتغداء لأن لازم أرجع إسكندرية قبل ما الليل يليل.
وده يصح برضوا؟ روحي بس اطمني على أبوكي وأنا هحضر الغداء هواء.
تسلم إيديك يا حبيبتي. أردفت ريتال مع ابتسامة صغيرة قبل أن يعتدل صالح في وقفته ويشير إليهم نحو الداخل أو بمعنى أدق يقودهم نحو الداخل.
سبقهم صالح ببضع خطوات ليساعد عمه على الجلوس بشكل مُريح وتأكد من هندمة ثيابه قبل أن يأذن لهم بالدخول، لم يُخبر عمه بهوية الزائرين ونظرًا للمسافة بين الخارج والحجرة ففي الغالب لم يصله صوا ريتال ولم يعرف بوجودها.
مس، مساء الخي، ر. نطقت بها ريتال بصعوبة وقد شعرت بجفاف حلقها حتى أن خروج الكلمات كان مؤلمًا، انتفض جسد والدها بالدرجة التي كانت في مقدرة جسده العليل.
ر، ريت. ال! نطق والدها بصعوبة لكن سعادته الممتزجة بدهشة جعلته يبذل كل ما في وسعه كي ينطق بإسم ابنته بوضوح، أغرورقت عيناه بالدموع ليحاول جاهدًا تحريك النصف السليم من جسده لكفكفة دموعه السخيفة التي منعته من رؤية ابنته.
أخبار، حضرتك أيه؟ أتمنى تكون بتتحسن. نبست بها ريتال بصوت أشبه بالحشرجة، كانت كلماتها حنونة رقيقة لكنها كانت كالخناجر المسمومة تطعن قلب أبيها الذي كان يظنه صلدًا من قسوته في السابق لكن الآن أتضح أنه لين هش؛ لو كانت كلماتها قاسية تحمل في طياتها الكره لكانت أخف وطأة من الإهتمام والعطف الذي لا يستحقه هو!
بخير عل، شان شوفت. ك يا حبي. بتي.
أردف مع نصف ابتسامة قبل أن ينقل نظره نحو تليد بينما تجنب تليد النظر نحوه فلقد قام بالإعتداء عليه تقريبًا في ذلك اليوم المشئوم حينما طعن ريتال وعلى الرغم من أن تليد كان يبغضه ولم يعفو عن خطيئته تلك إلا أنه لم يملك الحق في منع ريتال من زيارته أو حتى مسامحته إن كان ذلك في مقدورها وفي الوقت ذاته لم يقوى على تركها تزوره بمفردها فهو يعلم مدى تأثير تلك الزيارة على قلبها الرقيق.
أومئت ريتال وهي تحاول منع نفسها من البكاء، كان المشهد مؤثر وموتر للأعصاب في الوقت ذاته فلا أحد منهم يدري ماذا عليه أن يقول أو ما هي الخطوة التالية وبشكل خاص تليد الذي كلما وجه نظره نحو والدها تذكر ما دار بينهم لكن في نهاية الأمر قرر أن يُلقي عليه التحية فقط من أجل ريتال.
ازيك يا حمايا يارب تكون بخير. أردف تليد بعد أن حمحم بحرج ليبتسم والد ريتال قبل أن يُجيب عنه بصعوبة قائلًا:
الحمد، لله يا ابني.
تعالي يا ريتال خدي مني الصنية. جاءها صوت جدتها ليخرجها من شرودها، غادرت الحجرة لبرهة لتحمل الصينية التي كان بداخلها عصير طازج قبل أن تعود إلى حجرة والدها حيث وجدت تليد بالقرب منه وقد جثى على ركبتيه كي يستطيع سماع ما يقوله والد ريتال.
في حاجة ولا أيه؟
لا، الله عصير مانجا ده؟
اه تيته عملته علشان ريتال بتحبه، هاتي عنك، أنا هاخد كوباية عمي علشان أشربه. أردف صالح متعمدًا إثارة ضيق تليد عن طريق إخباره بطريقة غير مباشرة أنه يعلم عن الأشياء التي تفضلها ريتال أكثر منه ولقد نجح في ذلك حيث ظهر الضيق على وجه تليد.
هتعرف تشربه؟
عيب عليكِ أنا اللي بأكل عمي وبشربه وبساعده في كل حاجة تقريبًا.
ربنا يجازيك عنه خير يارب. تمتمت ريتال بنبرة جافة خالية من أي مشاعر جرحت قلب والدها وإن كان يعلم أن لها كامل الحق في عدم الشعور بشفقة تجاهه لكن ذلك لم يكن حقيقي على الإطلاق فلقد كانت قلب ريتال ينزف لرؤية والدها في حالة العجز تلك لكنها لم تكن لتُظهر ذلك له.
طب أتفضلوا أقعدوا، هتفضلوا واقفين كده؟
أحنا خمس دقائق وهنتحرك.
طب والأكل اللي تيته بتجهزه؟
سألها صالح لكن ريتال لم تُجيب عنه بل طالعته بتيه دون أن تنبس ببنت شفة، أشار لها والدها بيده التي يستطيع تحريكها بنسبة لا بأس بها بأن تقترب لتجلس إلى جانبه، اضطربت معالمها من تصرفه الغير متوقع لتنقل نظرها نحو تليد وكأنها تستشيره ليومئ لها ب حسنًا فلقد كان بالقرب منهم على أي حال في حالة حدوث أي شيء على الرغم من أن ذلك لم يعد ممكنًا في حالة والدها الصحية.
عا، يز أشبع، منك.
أردف والدها وهو يرفع يده التي يستطيع تحريكها ببطء قبل أن يضعها على وجه ابنته برفق وكأنه يحاول حفر ملامحها داخل ذاكرته، هربت دمعة من عيناها بالتزامن مع خاصته، طالعته ريتال بتعجب من أين لعيناه بهذا اللين والرقة؟ تلك العين التي طالعتها يومًا بغضب شديد كاد يحرقها ويدمرها والآن باتت تبكي شوقًا لها! ماذا أصاب والدها؟ أين ذلك الرجل العنيف الذي فقد عقله وقد أودعه لشيطانه الذي حثه على حرق كل شيء بنيران الحقد والانتقام لذنب لم تكن هي من ارتكبه من البداية! هذا إن كان هناك أحدٍ قد أذنب غيره في هذه القصة!
ممكن تسيبونا لوحدنا خمس دقائق؟ طلبت ريتال منهم ليتبادل تليد وصالح النظرات القلقة قبل أن يتمتم تليد بالآتي مانعًا صالح من الرد على طلبها:
حاضر، أنا هكون جنب الباب لو احتاجتي حاجة، عن إذنك يا حمايا.
غادر تليد ومن بعده صالح في هدوء وقد سمعت ريتال صوتهم الخافت حيث قال صالح:
تعالى أقعد هو مش هياكلها، ده أبوها.
ياريت تخليك في حالك يا صالح، أنا أدرى بوضع خطيبتي واللي هيريحها.
لم يجادل صالح فلا كلام يُقال بعد ما نطق به تليد ولقد كان له كامل الحق فلو كان صالح في موضعه لما سمح لأي شخص بالتدخل في شؤون حبيبته، لم يتحدث صالح لكنه أكتفى بأن يرمقه ببغض شديد قبل أن يقف في الجهة المقابلة له وكأن كلاهما يرغب في حماية ريتال من الآخر.
في ذلك الوقت كانت ريتال تُطالع والدها في صمت، تنظر إلى حالته المرضية وعجزه ذلك الذي كان يحطم كل من حوله بات غير قادرًا على مساعدة نفسه، لم تكن ريتال تشعر بالشماتة بل بالشفقة عليه فلو كان أب وزوج صالح لكانت ريتال وأمها إلى جانبه الآن ليقوموا برعايته كما يليق لكن في حقيقة الأمر هي غريبة بالنسبة إليه، مجرد زائرة تراه وتدعو له بالشفاء وترحل وكأنها ليست ابنته التي من دمه...
قربت ريتال الكرسي خاصتها قليلًا منه بحيث تصبح أقرب منه ولكن ليست بالقرب الكافي وكأنها حيلة دفاعية من عقلها، حاولت تنظيم أنفاسها المضطربة وهي تحاول إيجاد الكلمات المناسبة.
أنا معرفش أنا جيت هنا ليه، يمكن علشان لازم أصل رحمي، يمكن علشان أحاول أرضي ضميري، يمكن علشان بالرغم من كل حاجة عملتها فيا وعلى الرغم من إن مجرد ما أشوفك لا، من غير حتى ما أشوفك مجرد ما أسمع سيرتك أو أسمع إن بنت باباها جنبها وبيحبها ومعاها بحس إن قلبي بيتقطع علشان أنا بقيت يتيمة وأنتَ لسه عايش على وش الدنيا بس أنا مش جاية ألومك، أنا بس جاية أعمل اللي عليا علشان لما أقف قدام ربنا سبحانه وتعالى ميبقاش عليا ذنب من ناحيتك،.
تحدثت ريتال من وسط دموعها وقد صدر صوتها ضعيفًا مرتجفًا غريبًا حتى على أذنيها، أغمض والدها عيناه وقد شعر بكلماتها تطعن قلبه لكنه تابع الصمت فهو يريد منها التحدث وإفراغ كل ما قلبها، يريد سماع صوتها كي يحفظه في ذاكرته ولا ينساه أبدًا حتى وإن كانت الكلمات تعصر قلبه عصرًا لا بأس طالما أنه صوت ابنته.
أنا حتى ما قادر أقولك با، مش قادرة أنطقها، لساني عاجز، بقيت بقولها لراجل غيرك علشان هو حسسني يعني أيه أبوة، وقف جنبي وطمني وحبني ودافع عني حتى قصاد ماما لما بتزعلني، كان معايا لما أهل تليد جم يزوروني ولما أهله حسسوني بإني عندي نقص علشان أنتَ مش معايا وقفهم عند حدهم وقالهم دي بنتي حتى ولو مخلفتهاش، عملي قيمة قدام الناس ورفع رأسي وحضرتك؟ حضرتك كنت فين؟ أوعى تتحجج وتقول علشان أنتَ عاجز ما أنتَ زمان مكنتش عاجز وكنت بكامل صحتك وجبروتك وجيت عليا!
يا، بنتي،.
متقوليش يا بنتي! أنا مش بنتك ويوسف مش ابنك، أحنا ولا حاجة بالنسبالك وحضرتك ولا حاجة بالنسبالنا! أنتَ معرفتش تكون ابن ولا زوج ولا عرفت تكون أب! أنا، أنا معرفش أنا بقولك الكلام ده ليه ومعرفش أيه اللي جابني هنا من الأساس، أنا عايزة أمشي،.
أردفت ريتال بحنق وهي تكفكف دموعها بعنف، استقامت من مقعدها وكادت أن تغادر لكن يد والدها منعتها، توقفت لثوانٍ ونظرت نحوه قبل أن تجثو على ركبتيها وتُلقي بنفسها بين أحضانه ليضمها بذراعه السليمة فيمتزج صوت بكاء كليهما، عناق كان كلاهما في حاجة ماسة إليه لكن أيًا منهم لم يكن يدري بذلك قبل الآن، من وسط دموعها وشهقاتها تمتمت ريتال بالآتي...
أنا عمري أبدًا ما هسامحك يا بابا. على الرغم من قسوة ما نطقت به ريتال إلا أن لفظة بابا جعلت قلبه يهدأ ويسكن فلقد أصبح واثقًا الآن من أن هناك أمل في الحصول على عفوها وغفرانها، فصلت ريتال العناق ونظرت إلى وجهه وكأنها تودعه قبل أن تبتعد عنه لترحل وقد تركها هذه المرة دون أن يحاول جذبها بيدها مرة آخرى لكن هذه المرة منعتها كلماته من الرحيل...
ر، يتا. ل أن. ا أس. ف، سا، سامحيني، يا بنت، تي، سامح، يني. أغمضت ريتال عيناها عند سماع تلك الكلمات لتنهمر الدموع من عيناها بكثافة مرة آخرى بدون إذن قبل أن تعاود فتحمها بعد ثوانٍ وهي تؤمي ب حسنًا قبل أن تُلقي على والدها نظرة أخيرة ثم ترحل تاركة إياه من خلفها غارقًا في دوامة من الندم والخجل.
لا تدري ريتال ما حدث بعد ذلك فالأمر كان أشبه بمشهد حركة سريع من أحد أفلام الأكشن والدراما، ركضت خارج المنزل غير مبالية بنداء جدتها ولا صياح تليد الذي هرول خلفها وجذبها من أمام سيارة كادت أن تدهسها، دموعها تنهمر بغزارة شديدة وقد أخذت على نفسها عهد بعدم دخول ذلك المنزل ثانية والأهم بأنها لن تسمح لنفسها بزيارة والدها مرة آخرى فيكفي ما تسببت فيه هذه الزيارة من ندوب داخل قلبها العليل، جلست على أحد الأرصفة وهي تُخفي وجهها بكلتا يديها بينما جلس تليد إلى جانبها في صمت لا يدري ماذا عليه أن يقول، وهل يوجد ما يُقال في مثل هذه المواقف من الأساس؟
مكنتش متخيلة، مكنتش متخيلة إني لما أشوفه عاجز بالشكل ده إن الموضوع هيكسرني، أردفت ريتال من وسط شهقاتها، أقترب تليد منها قليلًا وهو يمنحها منديلًا ورقيًا في صمت وكأنه يحثها على متابعة حديثها والإفصاح عن كل ما يجول في خاطرها ويُدمي قلبها:
بس عارف أيه اللي كسرني أكتر؟ لما أعتذرلي يا تليد، مكنتش أعرف إن الواحد لما بيجيله إعتذار من الشخص اللي دمره وأذاه بيحس بوجع أضعاف الوجع اللي حس بيه لما أتذى،.
عارف يا حبيبتي عارف.
أنا، أنا بحبه يا تليد ما هو برضوا أبويا! عمري ما قدرت أكرهه حتى بعد كل اللي هو عمله فيا، أنا بس كان نفسي يحبني ويكون حنين معايا زي أي أب مع بنته، كان نفسي يبقى جنبي يوم ما أستلم شهادتي ويبقى بيتباهى ببنته الدكتورة قدام الناس، كل يوم بحلم بيه وهو يسلمني ليك يوم فرحنا وأشوف دموع الفرحة في عينه علشان بنوته الصغيرة كبرت وبقت عروسة،.
في تلك اللحظة تمنى تليد لو كانت زوجته كي يضمها بين ذراعيه ويدعها تبكي على كتفه براحة، تمنى لو كان بإمكانه إخفاءها داخل قلبه ليحميها من قسوة ذلك العالم، لم يدري ماذا عساه أن يفعل وماذا يتوجب عليه أن يقول؟ فماذا يُقال في مثل هذا الموقف؟ لا معنى لأي كلمات سينطق بها...
لسه في أمل إن ده يحصل.
مبقاش ينفع يا تليد، حتى بعد ما قولتله جزء من الكلام اللي عندي وحتى بعد ما أعتذرلي، أنا لو نسيت اللي عمله جسمي مش هينسى، الجروح والعلامات اللي أتسبب فيها هتفضل طول حياتي تفكرني باللي عمله فيا. تحدثت ريتال بواقعية شديدة على الرغم من مرارة الحقيقة إلا أنها كانت على دراية تامة بها ولم يكن ليُقنعها أي كلمات أمل زائف ستُلقى على مسامعها.
هتنسي، أوعدك مع بعض هننسى كل اللي فات وكل الوحش اللي مريتي بيه والحمداله ربنا رزقك بأونكل فؤاد يعوضك ولو بجزء عن غياب باباكي وكل اللي حصل.
أهو من غير بابا فؤاد كان ممكن يجرالي حاجة بجد هو حقيقي نعمة من ربنا ورحمة ليا.
الحمدلله وأنا جنبك وأهلي أهلك، أنا عارف إن ده مش هيقدر يعوضك تمامًا عن اللي شوفتيه وعشتيه بس أدينا بنحاول، يلا أمسحي دموعك دي مش عايز أشوف العيون الحلوة دي بتعيط تاني سمعاني يا هانم؟ طمأنها تليد كعادته لتبتسم ريتال ابتسامة حزينة وهي تومئ قبل أن تقول الآتي بنبرة جاهدت على أن تصدر منها مرحة قدر الإمكان.
عُلم ويُنفذ.
يلا تعالي نروح ناكل أي حاجة وبعدها نطلع على محطة القطر.
خليك أنتَ يا تليد.
أخليني فين؟ في المحطة؟ سألها تليد مدعيًا البلاهة لتأخذ ريتال نفس عميق قبل أن توضح مقصدها التي كانت تعلم أنه فهمه من البداية لكنها أجابته على أي حال.
مترجعش معايا إسكندرية ملهاش لازمة.
عايزاني أسيبك في الوضع ده ازاي يعني؟ لا طبعًا هرجع معاكي ومفيش مجال للنقاش.
يا تليد،.
ولا كلمة يا ريتال خلاص خلصنا، شاورما؟ تحدث تليد بحدة مانعًا إياها من متابعة الحديث قبل أن تنقلب نبرته تمامًا وهو يعرض عليها تناول شطائر الشاورما لتصدر منها ضحكة ضعيفة قبل أن تُعلن عن موافقتها.
في ذلك الوقت كانت نانسي تقف خارج حجرة عمها في انتظار خروج صالح الذي جلس إلى جانبه محاولًا تحسين نفسيته وجعله يتوقف عن البكاء خوفًا على صحته، بالفعل في غضون دقائق غادر صالح الحجرة ولأنه يسير بسرعة لم ينتبه لنانسي التي وقفت تستند على الحائط.
لسه بتحب ريتال مش كده؟ سألته بنبرة جمعت بين الحدة والسخرية في الوقت ذاته، قد كانت تعلم نانسي الإجابة مُسبقًا إلا أنها طرحت السؤال على أي حال فحتى وإن كذب صالح فلقد فضحته عيناه حين رأها ألا يقولون أن العاشق تفضحه عيناه؟
خضتيني! الناس بتقول السلام عليكم، مساء الخير، أي حاجة يعني. حاول صالح تغير الموضوع لكن الأمر لم يكن بهذه السهولة، طالعته نانسي بأعين شاردة قبل أن تقول:
لسه عينيك بتلمع لما بتشوفها يا صالح.
وأنتِ عينيكي مش بتلمع لما بتسمعي اسم أدهم؟ هاجمها صالح بأكثر الأسلحة فتكًا، أتسعت أعين نانسي لبرهة بصدمة قبل أن تصدر منها ضحكة رنانة عالية تفوح منها رائحة المرارة قبل أن تقول الآتي:
لما أحنا لسه على البر وبنعاير بعض أومال قدام هنعمل أيه؟
بصي يا نانسي أنا قولتلك قبل كده أنا وأنتِ أكتر اتنين ننفع بعض، ده حتى أنتِ بنفسك قولتي كده قبل كده. أردف صالح بمراوغة لتبتسم نانسي ابتسامة خبيثة حاولت أن تُخفف بها من حدة توترها قبل أن تقول:
بتتجسس عليا وأنا بتكلم مع تيته ولا أيه؟
سمعتك من يومين بالصدفة، قولتي إنك مترددة بس في حاجة جواكي مقتنعة إننا ننفع لبعض.
ننفع لبعض؟ وكل مرة عيناك تلمحها تجري عليها زي العيل الصغير اللي ما صدق شاف مامته بعد توهان؟ علقت نانسي ساخرة ليتأفف صالح وهو يعيد خصلات شعره نحو الخلف بضيق قبل أن يقول الآتي بحنق شديد:
نانسي متكبريش الموضوع أرجوكي محصلش أي حاجة أساسًا!
لا حصل يا صالح، عارف أيه اللي حصل؟ إني طلعت مغفلة للمرة المعرفش كام، صدقتك لثواني وحسيت إن ممكن نبقى حاجة بس بعد اللي حصل النهاردة اتأكدت إنه كان مجرد وهم في دماغي مش أكتر.
تحدثت نانسي بإنفعال لم يتوقعه صالح لكن على ما يبدو أنه دعس على جراحها عن غير عمد لكن في نهاية الأمر توجب عليه الإعتذار منها.
أنا أسف، ممكن تديني فرصة أصلح غلطتي؟
للأسف يا صالح مبقاش عندي فرص، أنا حتى مش عارفة أدي نفسي فرصة وأسامحها تفتكر هقدر أديلك أنتَ فرصة؟
طيب استني. جذبها صالح من يدها بلطف ولخفة جسدها تحركت خطوتين فكانت قريبة منه نسبيًا، نزعت نانسي يدها من خاصته بعنف وهي تصيح قائلة الآتي موبخة إياه:
أوعى إيدك أنتَ عبيط يا عم ولا أيه؟
أنا أسف، أسف مكنش قصدي.
صالح، صالح، أمشي من وشي الساعة دي علشان أنا على آخري وأنتَ عمال تهبل والموضوع بيبوظ منك زيادة! وبخته نانسي قبل أن تدفعه من صدره بعيدًا وتغادر المكان ليقف هو مزهولًا فلقد قامت بتعنيفه لأنها أمسكت بيده لكنها لمسته لتدفعه بعيدًا عنها؟
ده تحرش على فكرة! صاح بها صالح لتتجاهله نانسي وتتابع سيرها نحو الخارج.
في ذلك الوقت كانت ريتال تنظر من نافذة القطار الذي كان مسرعًا، الهواء البارد المندفع يعانق الزجاج ومع مرور قطار آخر بجانبهم في عكس الإتجاه كانت ريتال تنتفض من مقعدها بفزع، كان تليد يثرثر لكنها لم تكن منتبهة.
صالح ده عايز ياخد على وشه أقسم بالله، ريتو أنتِ سمعاني؟
سيبك منه يا تليد. تمتمت بعدم إكتراث فلقد كان عقلها شاردًا في شيء آخرى، عبس تليد حينما رأى وجه ريتال المُرهق وعيناها المُحمرة.
أنا أسف بعك في الكلام وبقول حاجات مش وقتها خالص، أنتِ كويسة؟
هبقى، هبقى كويسة.
على فكرة أنا فخور بيكي. قال تليد بحب لتطالعه هي بتعجب دون أن تنطق بكلمة لكن الحيرة كانت بادية على ملامحها.
فخور إنك قدرتي تصلي رحمك وتودي باباكي على الرغم من كل اللي حصل، فخور إنك قدرتي تدخلي البيت اللي مكنتيش بتقدري تعدي من جنبه من كتر الآلم اللي عشتيه فيه، فخور إنك بتحاولي تعملي الحاجة الصح حتى ولو كانت صعبة. عبر تليد عن مدى فخره بها لتلمع عيناها وتظهر ابتسامة صغيرة على محياها بينما تسأله بإنبهار طفولي:
بجد يا تليد؟
بجد يا عيون تليد، أنتِ مش متخيلة كبرتي في نظري ازاي النهاردة أنتِ طبعًا كبيرة في نظري من زمان لكن بعد اللي شوفته النهاردة اتأكدت للمرة المليون إن أنا اختارت صح لما اختارت إنك تبقي مراتي وأم لولادي في المستقبل إن شاء الله.
مش متخيل كلامك فرحني ازاي وسط الوجع والغم اللي أنا فيه،.
لو متوجعناش ومرينا بأوقات صعبة عمرنا ما هنقدر نعرف قيمة اللحظات الحلوة.
بس الوجع اللي بالشكل ده بيدمر يا تليد، نطقت بنبرة أقرب إلى الهمس ليبتسم بحزن وهو يقول الآتي:
إبتلاء، الدنيا كلها إبتلاء وإن شاء الله ربنا يجازينا عنها خير.
الحمدلله على كل حال.
ساد الصمت لبرهة وقد علم تليد أن ريتال قد غرقت داخل دوامة من أفكارها مرة آخرى الأمر الذي جعله يشعر بالمزيد من القلق فهو على علم تام كم يكون مؤذيًا حديث النفس للنفس فمؤكد أن عقلها يقوم برسم سيناريوهات سيئة ويطعنها بكلمات قاسية.
تليد هو أنتَ مزهقتش؟
من اللي عمال ياكل في شيبسي في ودني من ساعة ما ركبنا القطر؟ زهقت طبعًا! تحدث تليد بضيق حقيقي وبجدية تامة ليسود الصمت لبرهة بينما تُطالعه ريتال بعدم استيعاب قبل أن تصيح في وجهه قائلة:
شيبسي أيه وكيكة أيه؟ أنا بتكلم على وضعي!
أيه وضعك يا ريتال هو أنتِ بتلات عيون؟ ما أنتِ زي الفل أهو وأحلى من الفل كمان! غازلها تليد لتقلب عيناها بتملل قبل أن تقول:
يا تليد أنا بتكلم بجد، أنا على طول تعباك معايا ومن وقت ما عرفتني وأنتَ في مشاكل وحوارات وكل شوية تجري ورايا من بيت لبيت ومن مستشفى لمستشفى.
وأجري وراكي لآخر العالم هو أنا عندي حد في الدنيا أهم منك؟
شكرًا.
شكرًا حاف كده؟ طب كرمشيلي عشريناية ولا أي حاجة أعرف أبات بيها لحد الصبح.
هتبات بعشرين جنيه؟ ده لو إيجار متر تنام فيه مش هيبقى بالسعر ده.
ممكن لو شقة فيها جن مثلًا، يا ستي فرفشي كده محدش واخد منها حاجة، بس أنا خدت منها كل حاجة وأحلى حاجة علشان لاقيتك وبقينا لبعض.
ابتسمت ريتال بخجل شديد قبل أن تشيح بوجهها بعيدًا عنه دون أن تُجيب على كلمات الغزل خاصته، غفت ريتال رغمًا عنها وقد بقى تليد جالسًا في نفس موضعه في هدوء تام خشية إيقاظها، لم يغادر تليد ريتال حتى قام بإيصالها إلى منزل والدتها وعلى الرغم من أن أصرت على تناوله وجبة العشاء معهم إلا أنه قام بالإعتذار فلقد كان مرهقًا للغاية ولحسن الحظ أن ياسين كان في الاسكندرية وقام بمد فترة حجز الغرفة الفندقية لذا وجد تليد مكان للمكوث فيه حتى صباح يوم الغد.
مساء الخير. أردفت ريتال بإرهاق شديد بعد أن دلفت إلى داخل المنزل بخطوات بطيئة وقبل أن تخلع حذائها أو تجلس لتستريح هاجتمها والدتها بزوبعة من الغضب التي لم تملك ريتال ذرة طاقة واحدة لمجابهتها.
روحتي تزوريه؟ مبسوطة يا حبيبتي؟ ضميرك إرتاح ولا لسه محتاجة تروحي تعيشي معاه مثلًا علشان متحسيش بالذنب؟
وبخت زينة ريتال بعصبية شديدة، كانت كلماتها تُمزق قلب ريتال الذي كان ينزف بالفعل من تلك الزيارة القاسية، لقد كانت ريتال على دراية تامة بالكره الذي تكنه والدتها لوالدها ولقد كان لها كامل الحق في ذلك لكن لوم ريتال لأنها تحاول أن تُبرئ ذمتها أمام الله وأن تبر والدها على الرغم من أفعاله القاسية فهو أمر لم تكن لتتقبله خاصة وأن والدتها تعلم بهشاشتها النفسية وأن كلماتها تلك قادرة على حث ريتال على إنهاء حياتها دون ذرة تردد.
ماما أبوس إيدك نأجل الكلام ده لبكرة أنا تعبانة أوي وبجد مش قادرة.
عندي أنا ومش قادرة؟ بس كنتِ قادرة تسافريله عادي؟ قضيتي معاهم ساعتين وعرفوا يقلبوكي عليا أومال لو كنتِ بايتي بقى!
يا ماما بقولك لو سمحتي نأجل الكلام ده لبكرة وأبقي سمعيني كلمتين عادي مش هقولك لا بس أنا دلوقتي والله ما قادرة أقف على رجلي. أردفت ريتال وهي تُلقي بحقيبتها بإهمال على الأريكة وقبل أن تصعد نحو الأعلى أوقفها صوت زينة وهي تقول:
تعالي هنا أنا لسه مخلصتش كلامي، ما هو مش على كيفك يا ست ريتال.
والله العظيم أنا غلطانة إني مرجعتش على جدو وجيت هنا!
صاحت ريتال فلقد طفح الكيل ولا طاقة لها لسماع الكزيد من كلمات اللوم والعتاب من أمها على ذنب لم تقترفه! فلا ذنب في الأمر من الأساس كي يُقترف! فماذا فعلت كي تتلقى هذا الكم من التوبيخ؟ قامت بوصل ما هو مقطوع؟ ألا يحثها الدين والعاطفة والعقل على ود والدها؟
خلاص خلصنا يا زينة! روحي يا حبيبتي على أوضتك وإرتاحي أنتِ مرهقة من السفر والصبح إن شاء الله نبقى نتكلم.
أنا لسه مخلصتش كلامي معاها يا فؤاد! تعالي هنا يا ست هانم خلاص كلامي مبقاش عاجبك وكل ما هفتح بوقي معاكي بكلمة هتخلي حد منهم يتخانق معايا؟ وقبل أن تُعلق ريتال على حديث والدتها وتُجيب عن أسئلتها سبقها صوت فؤاد وهو يقول الآتي بجدية تامة:.
زينة أقسم بالله لو نطقتي كلمة كمان هيكون آخر يوم ليكي على ذمتي! كان تهديد فؤاد صادمًا لكلتاهما وبشكل خاص ريتال التي شعرت بأنها على وشك التسبب في كارثة عن غير عمد كما يحدث دائمًا - من وجهة نظرها بالطبع -.
وقدرت تنطقها يا فؤاد؟
بابا، بابا خلاص، أنا أسفة محصلش حاجة بجد أرجوك الموضوع مش مستاهل. تحدثت ريتال بهلع شديد وهي تقترب منه ليمسك فؤاد بيدها بحنان أبوي قبل أن يقول:
أهدي أهدي، ريتال أنتِ سمعاني مفيش حاجة.
خلاص يا بابا متخانقوش أبوس إيدك. قالت من وسط دموعها التي انهمرت بغزارة دون أية مقدمات.
يا حبيبتي مفيش حاجة خلاص مفيش خناق.
قالت زينة وهي تضم ريتال بين ذراعيها ليرمقها فؤاد بنظرة حادة لأنها من تسببت في إيصال ريتال إلى هذه الحالة من الأساس فعلى الرغم من علمها بما تعانيه ريتال من ضغوطات وآلام نفسية وخاصة بعد زيارتها لوالدها اليوم قد تصرفت بأنانية شديدة وقامت بتعريض ابنتها لضغوطات لا داعي لها!
أطلعي على أوضتك غيري هدومك وإرتاحي شوية وبعدين أنزلي علشان نتعشى.
عايزة أروح لجدو.
دلوقتي؟ أنتِ لسه راجعة من برا وتعبانة.
لا عايزة أروح لجدو، عايزة أروح لجدو دلوقتي.
أصرت ريتال ليتبادل فؤاد وزينة النظرات، لقد كان إصرارها مريب بالنسبة إليهم لكن فؤاد فسر ذلك بأنها تحاول الهرب إلى أحضان جدها الحنونة ومنزله الدافئ بعيدًا عن ذلك المنزل الذي لا تخمد فيه الشجارات في الآونة الأخيرة.
أنا هغير هدومي بسرعة وهوصلك عند جدك، زينة تعالي معايا فوق لو سمحتِ. تحدث فؤاد بحنان لكن حينما وجه حديثه إلى زينة كانت نبرته حادة.
أنا هوصل ريتال لجدها وراجع نتكلم في اللي حصل علشان أنا مش هعديه يا زينة!
يعني وأنتَ فاكر إن أنا هعدي إنك بتهددنب بالطلاق يا فؤاد! وصلت لكده!
وأكتر من كده يا زينة لو هتدمري نفسية البنت، يا شيخة حرام عليكِ اللي بتعمليه فيها ده! بدل ما تخديها في حضنك وتطبطبي عليها؟ أنتِ عارفة زيارة زي دي صعبة عليها ازاي!
مش هي اللي عملت في نفسها كده؟
ما أحنا كنا ممكن نقولك نفس الجملة لما أذاكي، مش ده كان اختيارك؟
وأنتَ فاكر إني مش بقول لنفسي كده كل يوم؟ فاكر إني مش بلوم نفسي إني معرفتش اختار ليها أب كويس؟
وده مش صح لأن اللي حصل حصل فبدل ما تلوميها على حاجات مكنش ليها ذنب فيها افتكري إنه مهما حصل هيفضل أبوها وإن مهما حصل بينكوا أو حصل أخطاء منكوا الإتنين فهي عمرها ما كانت سبب أو طرف، أنا هنزل دلوقتي علشان هي تعبانة ومحتاجة تنام ولما أرجع لينا كلام كتير مع بعض.
أنهى فؤاد المحادثة وقد جذب معطفه وتوجه نحو الخارج تاركًا زينة غارقة داخل دوامة من أفكارها الممزوجة بالشعور بالذنب، وفي غضون ساعة تقريبًا كانت ريتال تجلس إلى جانب جدها على الأريكة وفي يدها شطيرة بيض بالبسطرمة وأمامها كوب من الشاي الممزوج بالحليب قد وضعت على الطاولة.
برضوا مش هتحكيلي أيه اللي حصل؟ سألها جدها لتتشبث ريتال بذراعه أكثر بينما تُحرك رأسها يمينًا ويسارً بمعنى لا.
زينة زعلتك؟ لو زينة شوفي هعملك فيها أيه أما بقى لو الواد اللي اسمه تليد ده،.
أنا زورته النهاردة يا جدو. أجابته ريتال بثبات ليسود الصمت لبرهة قبل أن يسألها جدها الآتي على الرغم من علم بالإجابة مُسبقًا:
هو مين؟ بابا؟
عبدالرحمن.
هو ده بقى اللي مزعل حفيدتي حبيبتي ومخلي عينيها وارمين من العياط كده؟
تخيل يا جدو إن بعد سفر تلات ساعات رايح وغيرهم جاي ده غير الضغط النفسي اللي فيه من أول اليوم لما أرجع ماما متقوليش عاملة أيه؟ متاخدنيش في حضنها؟ متطمنش عليا؟ كل اللي فارق معاها ازاي أنا قاسية وزبالة وواطية وروحت اطمن على الشخص اللي طلقها وأذاها!
هي قالتلك كده؟ سألها جدها بإنفعال شديد وقد ابتعد عنها قليلًا كي يستطيع النظر إليها أثناء تحدثه لتتنهد ريتال قبل أن تُجيب عن سؤاله قائلة:
مش بالضبط يعني، لكن اتخانقت معايا وزعقت فيا وبسببي هي وبابا اتخانقوا، خايفة أوي يبعد عنها أو يحصل مشاكل بسببي تاني يا جدو.
تاني؟ ريتال أنتِ عمرك ما كنتِ طرف! أنتِ عمرك ما كنتِ السبب في أي مشكلة ولا زمان ولا دلوقتي خليكي عارفة ده كويس!
بس ماما مش شايفة كده يا جدو، من جواها بتلومني علشان كنت رابط بينها وبينه وعلشان وجودي في الدنيا بيفكرها بغلطتها!
لا طبعًا يا ريتال أنتِ فاهمة غلط!
فهمني الصح يا جدو. أردفت ريتال وقد كانت واثقة بداخلها أنه لا يوجد أي كلمات قد ينطق بها جدها ستكون قادرة على تغير وجهة نظرها.
بصي يا ريتال يا حبيبتي زينة عاشت في ظروف صعبة وقاسية جدًا، مش ببرر اللي هي بتعمله طبعًا بس بفهمك أيه اللي خلاها توصل للمرحلة دي، وفاة والدتها، سكنت في محافظة بعيد عني أنا وأختها، وعود من عبدالرحمن الله يسامحه موفاش بيها وبيت عائلة وضغط وسلبية لسنين خليتها تنفجر لكن في الشخص الغلط، في الحسنة الوحيدة اللي عملتها في حياتها، أنتِ يا ريتال! أنتِ الحاجة الوحيدة اللي عملتها زينة في حياتها إنها جابت للدنيا.
حاول جدها شرح الأمر من وجهة نظر مختلفة عن التي ترى بها الأمور لعل ذلك يحد من سوء الفهم بينها وبين والدتها ذلك إلى جانب نيته في توبيخ زينة على سوء معاملتها لإبنتها، ابتسم ريتال بحزن قبل أن تقول:
ربنا يخليك يا جدو يا حبيبي.
بتكلم جد والله، زينة لما كانت في سنك كده وحبيت عبدالرحمن كانت فاكرة إني مانعها ترتبط بحد بتحبه واختارته لكن في الحقيقة أنا كنت بحاول أمنعها من غلطة هتندم عليها العمر كله وده اللي حصل فعلًا، عبدالرحمن أكبر صدمة وجرح في حياة زينة.
طبيعي لأنها كانت بتحبه وكان بينهم عشرة سنين،.
مش ده السبب، السبب الحقيقي هي أنها أتحدتني علشانه وضحت بيا، ضهرها وسندها وعائلتها وأتمسكت بيه هو وبالرغم من عدم رضايا سيبتها تعمل اللي على كيفها علشان مترجعش تقول أنتَ منعتني يا بابا.
وأهي رجعت تغني ظلموه وتقول يا أبويا كنت منعتني، ياريتك كنت منعتها يا جدو! أدخلت ريتال حس الدعابة على حديثها لتخفف من حدة ما يُقال، لم يفهم جدها مزحتها لكنه طبع قبل لطيفة على جبينها قبل أن يقول الآتي:
ما أنا لو كنت منعتها مكنتش أتجوزته ومكنش هيبقى عندي حفيدتي القمر اللي اسمها ريتال.
ساعات بحس إن ده كان هيبقى أحسن يا جدو ليا وليكوا كلكوا، ماما كانت كل مشاكلها مع بابا هتتحل بشكل أسهل لو مكنتش أنا طرف، كان هتطلق وتمشي مكنش هيبقى في حد تشيل همه وتتخانق عليه،.
ومكنتيش هتدخلي المدرسة وتقابلي الواد أبو شعر ملولو بتاعك ده! أردف جدها قاصدًا تليد لتنفجر ريتال ضاحكة قبل أن تقوم بتصحيح المصطلح الذي يقصده جدها قائلة:
اسمه وي?ي يا جدو أو كيرلي يعني مش عارفة نوع شعره بالضبط.
نسيب بقى أزمة الوجود اللي أنتِ فيها ونمسك في فتلة شعر سي تليد بتاعك ده! علق جدها بغيرة لتضحك ريتال وهي تُقبل يد جدها بينما تقول:
حبيبي يا جدو والله، ربنا يخليك ليا.
ويخليكي ليا يا حبيبتي يلا كملي أكلك بقى علشان تقومي تنامي شوية وترتاحي.
جدو أخدت الأدوية بتاعتك؟ شكلك مرهق.
أنا كويس يا حبيبتي متقلقيش عليا، يلا بقى متخلنيش أزعل منك.
حاضر يا حبيبي. أردفت ريتال وهي تتابع تناول الطعام على الرغم من عدم رغبتها في ذلك إلا أنها فعلت كي لا تحزن قلب جدها العجوز.
بالقرب من منتصف الليل صعدت نانسي للجلوس وحدها أعلى سطح المنزل، صدح في المكان صوت الأغاني الأجنبية الهادئة الصادرة من هاتفها بينما أمسكت شيء في يدها لم يتبينه صالح الذي صعد إلى الأعلى حينما لمح حركة بالأعلى وقد ظن في البداية أنه لص لكن أتضح أنها نانسي، بمجرد سماعها لصوت خطواته ألقت ما في يدها على الفور.
رميتي أيه؟
يخربيت كده افتكرتك ماما! أردفت نانسي بهلع، طالعها صالح بشك لبرهة قبل أن يغمز بإحدي عينيه قبل أن يسألها بسخرية:
محشية عجوة دي؟
عجوة اه.
مكنتش أعرف إنك بتدخني. أردف صالح وهو يخرج علبة السجائر خاصته من أحدى جيوبه قبل أن يدس واحدة في فمه ويُشعلها ثم يُقرب العلبة من نانسي وكأنه يعرضها عليها.
مبدخنش ده أولًا، ثانيًا بقى أنت متعرفش عني حاجة.
بس عارف إنك كدابة وإن أول مرة جربتي فيها السجائر مع صحابك كانت في ثانوي. طالعته نانسي في صدمة وهي تسأل نفسها من أين جاء بتلك المعلومة والتي كانت في الواقع، صحيحة!
مش هسألك عرفت منين بس عامة دي كانت تجربة لكن أنا مش بدخن علشان بخاف على صحتي.
أومال رميتي أيه أول ما طلعت؟ سأل صالح وقد ظن أن نانسي ستستمر في التلاعب لكنه فوجئ بها تُجيب عن سؤاله بإجابة حقيقية واضحة وصريحة.
ورقة كان أدهم كاتبلي فيها حاجة.
رميتيها علشان شوفتيني؟
رميتها علشان مبقاش ليها أي معنى. كان الآلم يفوح من كلماتها، أصاب صالح الضيق ليُطالعها بغيظ قبل أن يسألها بنبرته السخيفة التي تصدر منه بمجرد أن يشعر بالغيرة سواء من منطلق الأخوة أو الحب.
أنا بس مش قادر أفهم يفرق أيه أدهم ده عن أي حد غيره يعني؟ يفرق أيه عني مثلًا؟ يفرق أيه عن أي ولد أعجب بيكي؟ ولا علشان هو اللي سابك مش العكس.
الموضوع مش كده خالص وبطلع تطلعني وحشة وقاسية وواطية وبجرح قلوب ولاد الناس وبعشمهم وبخلى بيهم وكده. عقبت نانسي على ما قاله بسخرية ليُطالعها بجدية قبل أن يقول:
يمكن أنا مش فاهم فعلًا، فهميني بقى.
أدهم كان مختلف في كل حاجة، نظراته وكلامه وطريقته معايا، شافني في أضعف حالاتي وأنا تعبانة ومكسورة ومش مهتمة بنفسي وحبني، خلاني أشوف نفسي بطريقة مختلفة وأحبها، خلاني أكتشف مميزات في نفسي مكنتش واخدة بالي منها وخلاني واثقة في قدراتي أكتر، كان حاطط حدود بينا علشان كان عايز يحافظ عليا وكان داخل الموضوع جد بس، مش عارفة أيه اللي حصل، كل حاجة كانت ماشية كويس.
كانت أعين نانسي تلمع في البداية حينما تذكرت المشاعر الجياشة التي غادرت قلبها وهرولت صوبه لكن سرعان ما تلاشت تلك اللمعة وحل محلها دموع تنم عن جرح عميق جعل المرارة تفوح من كلماتها.
بس هو عمره ما حبك يا نانسي علشان اللي بيحب حد مش بيسيبه.
طعنتها كلمات صالح، أخرجها من فقاعة الذكريات الجميلة التي لم تصبح كذلك بعد موت الحب، كالعادة حاولت نانسي إيجاد المبررات فقط كي لا يظهر أدهم بمظهر الشخص السيء وقررت أن تسقي صالح من الكأس نفسها وأسقطت الموقف عليه نفسه.
بس أنتَ حبيت ريتال وسيبتها يا صالح!
الظروف كانت أقوى مني والوقت كمان!
وهو كمان الظروف كانت أقوى منه، أنا عايزة أفضل مصدقة ده علشان الذكريات الحلوة اللي بينا متتشوهش لأن أنا مكنتش استحق الوداع الباهت ده،.
أنتِ مينفعش تتسابي من الأساس يا نانسي.
طيب أحنا واقفتنا هنا غلط، غلط خالص وأحنا كده بنعك، تصبح على خير.
هتردي عليا أمتى يا نانسي؟ سألها صالح لتقف في موضعها وهي تعبث بالمفاتيح خاصتها، ساد الصمت لبرهة قبل أن تنبس نانسي بتوتر شديد:.
أنا موافقة. لم تكن نبرتها تنم عن ثقة لكن الرد بذاته كان كافيًا بالنسبة إلى صالح، هرولت نانسي نحو الأسفل وهي تحاول نسيان الحماقة التي أرتكبتها قبل قليل وبداخلها كانت واثقة من أنها مخطئة لكن متى سارت الأمور في صفها حينما حسبت أنها على صواب؟ فلما لا تُقرر أخذ الخطوة الخاطئة هذه المرة؟ خاصة وأن حياتها على حافة الهاوية على أي حال.
بالعودة إلى الإسكندرية كانت ريتال ما تزال تجلس على الأريكة فالنوم رفض زيارتها هذه الليلة، قلبها متوتر وشعور سيء ينهش داخلها وقد عكر صفو معدتها وبالطبع لم تغادرها نوبات الهلع، حاولت ريتال كتم صوت بكاءها وتنظيم أنفاسها كي لا يصل صوتها إلى مسامع جدها الذي خلد إلى النوم بعد أن أنهى آخر الفروض.
أرسلت ريتال العديد من الرسائل إلى تليد لكنه كان غائص في نومٍ عميق فبقيت هي وحيدة في تلك الحالة السيئة حتى غلبها النعاس وبالقرب من الفجر استيقظ جدها للصلاة وحينما وجدها قد غفت على الأريكة في وضع غير مريح قادها إلى حجرتها.
في صباح اليوم التالي كانت ريتال نائمة في ثبات عميق فلقد كان يومها بالأمس مُرهقًا طويلًا كما أن عقلها كان منهكًا من التفكير في سفر تليد والفراق الذي كُتب عليهم مرة آخرى حتى يحين موعد زفاف فريدة وياسين، كانت حجرتها مُظلمة دافئة والستائر الثقيلة داكنة اللون والتي قد منعت أشعة الشمس من التسلل ومضايقتها، صوت إذاعة القرآن الكريم يأتي هادئًا من بعيد ليُكلل منزل جدها الدافئ بمزيد من الطمأنينة والسكينة كان ذلك قبل أن يقطع هدوء الصباح الباكر ويعكر صفوه صوت صياح لم تتبين ريتال مصدره ولم تُدرك ما قيل في البداية حتى انتهى الصياح بصوت فؤاد زوج والدتها وهو يقول الآتي برهبة:.
إنا لله وإنا إليه راجعون.