رواية وصال مقطوع للكاتبة إيمان عادل الفصل الثامن والأربعون
انتفضت ريتال من فراشها الدافئ ليصفع جسدها برودة الصباح الباكر، قدماها تتخبط في المكان ورؤيتها مشوشة فعيناها لم تعتد الضوء بعد وعقلها لم يستوعب ما يحدث حتى أن جسدها لم يملك الوقت الكافي لكونها قد استيقظت وتتحرك بتلك الحركات السريعة، اضطربت معدتها وما تناولته ليلة أمس صعد إلى حلقها من الخوف وقلبها المسكين كان ينبض بجنون وكأنه قنبلة موقوتة في الثواني الأخيرة لها قبل الإنفجار، كل ذلك حذث في غضون ثوانٍ قبل أن تفتح باب الحجرة وتهرول بتيه نحو الخارج حافية القدمين مبعثرة المظهر.
لم تبحث ريتال عن مصدر الصوت ولم تحاول إيجاد زوج والدتها أو والدتها نفسها، لم تبحث عن تفسير للشجار ولم يشغلها لم هم هنا الآن بل كل ما أرادته هو رؤية جدها، يجلس على كرسيه المفضل بصحة جيدة وفي يده السبحة حيث يبقى بذكر الله على الدوام دون إنقطاع مُعطًرا فمه بذكر الله ودعوات لإبنتيه وأحفاده بينما يوزع ابتسامته على الجميع ويوبخ والدتها حينما تُختطئ في حقها قبل أن يعاود ممازحتها ليُخفف من حِدة الأجواء ولأنها ابنته في نهاية المطاف.
وفي مثل هذا الوقت كان يستعد لإعداد وجبة الفطور التي تفضلها ريتال، الشاي الممزوج بالحليب وإلى جانبهم شطائر الجبن الرومي التي تعرضت لحرارة الفرن فأصبحت سيحة لكن تلك الروائح لم تصل لأنفها، كان الكرسي فارغًا وكانت المسبحة موضوعة بإهمال على الطاولة الصغيرة.
جدو؟ نطقتها ريتال بصعوبة شديدة وبصوت أقرب إلى الحشرجة بينما ارتجفت يداها، اقتربت لتلامس الكرسي لكنها لم تقوى على ذلك ودمعة لم تعلم بوجودها فرت من عيناها وقبل أن تسقط أرضًا أمسكتها أذرع داعمة.
ريتال يا نور عيني، البقاء والدوام لله وحده يا بنتي. كان هذا صوت جدها وتلك الأذرعة القوية مقارنة بعمره كانت أذرع جدها، أجل لقد كانت رائحة المسك تلك تفوح منه، ألتفتت بلهفة شديدة وعانقت جدها بقوة صدمت جدها ووالديها أنفسهم.
جدو جدو حبيبي الحمدلله الحمدلله أخذ يُربت جدها على رأسها وظهرها بحيرة في البداية فلم يفهم أحد منهم ما خطبها حتى أدرك جدها أنها قد سمعت ما نطق به فؤاد لكن بالتأكيد قد اخطأت الفهم!
أقعدي يا حبيبتي أقعدي ساعدها جدها على الجلوس وهي مازالت تتشبث به بهلع شديد وكأنها لو أفلتته سيندثر ويختفي من أمامها وتفقده إلى الأبد ولم يكن يُمانع ردة فعلها بالطبع لكنه تبادل النظرات الحزينة مع فؤاد وهو لا يدري كيف يزف إليها ذلك الخبر الذي لا يوجد شخص في هذه الدنيا على إستعداد لسماعه أيًا كانت الأوضاع.
هو في أيه؟ أنا، أنا مش فاهمة حاجة؟
البقاء والدوام لله وحده يا بنتي، ربنا يصبر قلبك. أردف جدها بأعين دامعة وبحالة لم تراها ريتال من قبل.
بابا؟ هل يكون السؤال سؤالًا إذا كنت تعرف إجابته مُسبقًا؟ أعتقد أنه لا يهم ذلك الآن فلقد طُرح السؤال ووصلتها الإجابة حتى وإن كانت للأسف قد توقعتها...
البقاء لله يا ريتال، تضاربت مشاعرها وشعرت بطنين في أذنيها حينما تلقت إجابة عن سؤالها.
أمتى؟ أنا، أنا كنت معاه من كام ساعة!
عمره وقضاه، بعد صلاة الفجر ولسه عارفين دلوقتي. أومئت ريتال بتفهم غير متوقع، لم تدمع عيناها ولم تُبدي أي مظهر للإنهيار بل تمتمت الآتي بثبات وصبر شديد:
إنا لله وإنا إليه راجعون، سبحان من له الدوام.
معلش يا ريتال، ربنا يصبرك يا بنتي.
كان جد ريتال هو من يتحدث فقط فلم يجد فؤاد الكلمات المناسبة ومن فرط خوفه على ريتال التي اتخذها ابنة له حُشرت الكلمات داخل حلقه، أما عن زينة فلقد كانت في حالة من الذهول فهي لم تتوقع حدوث ذلك، لم تظن أن عبدالرحمن قد يرحل بهذه السهولة ودون أية مقدمات وعلى هذا النحو، حينما كانت تتمنى زينة أن يغيب عن هذه الدنيا ويختفي تمامًا لم تكن تعلم أنها ستشعر بالتأثر والتيه، لم تكن تعلم أن شهور اليُتم بهذا السوء!
لقد كانت تعتبر نفسها يتيمة الأب منذ ما علمت بحقيقته وما حدث بينه وبين والدتها ومنذ أن عاملها بقسوة شديدة وعنفها حتى كاد أن يُنهي حياتها عن طريق الخطأ لكن الوضع مُختلف الآن فهي ليس يتيمة الأب بتعبير مجازي بل هذا هو الوضع حقيقةً وأسوء ما في الأمر أنها لا تستطيع فهم ما تشعر به! هل بالراحة لإنتهاء معاناتها ومعاناته؟ هل بالحزن لأنها لم تحظى معه بلحظات سعيدة تجعلها تقوى على الدعاء له بالرحمة والمغفرة؟ أم بالرضا لأنها على أقل تقدير استطاعت أن تودعه ولو للمرة الأخيرة؟ أم تشعر بالذنب لقسوة الكلمات التي أسمعته إياها حتى وإن كان يستحق فهذا أقل تقدير مقارنة بالأذى الذي سببه لها؟ أم أن عليها إطلاق العنان لدموعها وقلبها الدامي حتى يرثي والدها؛ أبيها الذي فقدته بغض النظر عن أي شيء قد حدث منه...
عايزة أشوفه.
نطقت بها ريتال بصعوبة بسبب جفاف حلقها، أومئت زينة وذهبت للبحث عن ثياب سوداء اللون كي ترتديها ابنتها، كانت ريتال تسير كتمثال شمعي لا ترى لا تسمع لا تتكلم حتى أنها لا تشعر، ساعدتها زينة على تبديل ثيابها.
في تلك الأثناء كان جدها وزوج والدتها يجلسون في الخارج في انتظار حضور خالتها وابنتها التي من المؤكد أنها لن تترك ريتال في مثل هذه الظروف، لقد كان الوقت باكرًا للغاية والطقس يميل إلى البرودة في مثل هذا الوقت لذا جلس جد ريتال على أحد الكراسي المواجهة لأشعة الشمس وهو يتابع التسبيح.
ريتال فين؟
سأل تليد وهو يلهث بمجرد أن فُتح الباب بواسطة فؤاد الذي هلع من طريقة طرق الباب وكأن هناك كارثة - بغض النظر عن الكارثة الحالية بالطبع - حاول تنظيم أنفاسة بصعوبة بينما أخذ يبحث عنها بعيناه ومن ثم حاول أن يُنصت عله يسمع صوت بكاءها أو صراخها لكن المنزل كان هادئًا تمامًا لا يُسمع فيه سوى صوت أنفاسهم وصوت خافت يصدر من الراديو القديم.
ريتال حصلها حاجة؟ هي كويسة؟
ريتال جوا مع زينة مفهاش حاجة متقلقش، أنتَ عرفت منين أصلًا؟
أنا أسف البقاء لله وحده أولًا، ربنا يرحمه ويغفر له أنا بعتذر على طريقتي بس أنا جاي سايق زي المجنون مرعوب على ريتال.
ونعم بالله، لا يهمك تعالى أتفضل. أردف فؤاد ليومئ تليد وهو يتجه نحو الداخل ويُلقي السلام على جدها قبل أن يجلس على الكرسي المقابل لجدها وقد كان التوتر مازال باديًا على وجهه.
فريدة كلمت ياسين في التليفون وكانت منهارة، صحيت على صوت عياطها من المكالمة قومت زي المجنون غيرت هدومي وخدت العربية وجيت على هنا، ياسين راح عند بيت فريدة هياخدهم بالعربية ويجوا على هنا.
أحنا لازم نتحرك عالقاهرة لو هما هيتأخروا ممكن يحصلونا على هناك. قال فؤاد وهو يرتدي المعطف خاصته إستعدادًا للرحيل لكن أوقفه تليد وهو يقول الآتي:
لا لا ياسين قال إنه جاي ورايا على طول.
طب أنتَ مش كانت طيارتك بكرة يا ابني؟
طيارة أيه بس يا جدو؟ أكيد مش هسافر وأسيب ريتال في الظرف ده.
بس حجز الطيارة وشكلك وجامعتك يا ابني مش صح إنك ترمي كل ده ورا ضهرك. تمتم جد ريتال بقلة حيلة فهو يعلم أن وجود تليد إلى جانب ريتال سيشكل دعم كبير بالنسبة إليها لكنه لا يقوى على طلب بقاءه حتى لا يُضر بمستقبله.
هي أهم من كل حاجة وأي حاجة يا جدو، أنا هتكلم معاهم وبالنسبة لفلوس الحجز هغير ميعاد التذكرة وأدفع فلوس زيادة مش مشكلة وحتى لو راحت عليا خالص فداها.
نطق تليد بدون ذرة تردد وبجدية تامة وقبل أن يُعقب جدها على حديثه جاءت ريتال، كانت تسير بخطوات متلكئة وقد هربت الدماء من وجهها فبدت شاحبة للغاية وزاد اللون الأسود الذي طغى على ثيابها من شحوبة وجهها، رقت ملامحها الجامدة حينما وقعت عيناها على تليد وحينما أجلسها جدها في مكانه بحيث تكون مقابلة لتليد دمعت عيناها على الفور وهي تقول بضعف:
بابا يا تليد،.
عارف، عارف يا حبيبتي،.
أنا كنت معاه إمبارح، أنتَ كنت معايا! أنا كان قلبي مش مطمن، عرفت ليه كنت مصممة إننا نروح نشوفه؟ تخيل لو مكنتش شوفته!
الحمدلله إنك روحتي وعملتي الواجب اللي كان عليكِ، الحمدلله،.
الحمدلله، يلا نتحرك، أنا عايزة أشوفه.
طب يا بنتي أشربي بوق ماية ولا عصير ولا أي حاجة تغيري بيها ريقك هتنزلي على لحم بطنك كده وأنتِ لسه قايمة من النوم؟ قال جدها لكن ريتال أشارت ب لا فهي لم تشعر بالحاجة إلى فعل أي شيء سوى الذهاب لرؤيته للمرة الأخيرة.
في غضون عشرة دقائق حضرت خالتها ومعها فريدة وياسين، كانت فريدة تبكي بأنهيار من أجل ريتال وهي تعانقها بقوة في حين أن ريتال كانت هادئة تمامًا فلا تبكي ولا تنتحب بل على العكس تمامًا.
ريتال أنتِ كويسة؟ سألت فريدة بقلق وهي تتفحصها لتُشير إليها ريتال بأن تطمئن بينما تقول:
أنا كويسة مفيش حاجة.
طيب يلا أحنا جاهزين نتحرك.
مفيش داعي يا فريدة محدش يتعب نفسه أنا رايحة أنا وجدو وماما وبابا فؤاد.
لا طبعًا مش هسيبك.
وأنا كمان رجلي على رجلكوا.
لا خليكي أنتِ يا خالتو مش هينفع نسافر كلنا وعلشان أخواتي كمان.
أيوا خليكي أنتِ يا ماما أنا وياسين هنتحرك معاهم على القاهرة ولما يتحدد ميعاد العزاء أبقى تعالي عادي. لفتت فريدة انتباه ريتال لتفصيلة لم تكن قد انتبهت لها، سيتوجب عليهم القيام بعدة ترتيبات من أجل العزاء أو بمعنى أدق سيتوجب على عائلتها فعل ذلك فهي ليست طرف في ذلك الأمر...
في غضون نصف ساعة كان الكل في طريقهم إلى القاهرة، ريتال وجدها ووالدتها في سيارة فؤاد أما الباقية فلقد كانوا في سيارة تليد، ظلت ريتال مستيقظة طيلة الطريق لكنها أغمضت عيناها كي لا يتحدث إليها أي شخص فلا طاقة لها بسماع حرف.
أخذت ريتال تسأل نفسها هل تقوى على رؤيته في هذا الوضع؟ هل رؤيته في هذا الوضع ستساعدها على مسامحته؟ هل ترغب هي في مسامحته في الأساس أم أن قسوته جعلت قلبها صلدًا نسي معنى الغفران والسماح، على الفور أختفت جميع الأفكار من رأسها حينما أقتربت السيارة من المنزل، تسارعت نبضات قلبها حتى شعرت بأن قلبها على وشك أن يغادر موضعه، توقفت السيارة أمام المنزل ليصل إلى مسامعها صوت آيات القرآن الكريم تصدر من الداخل وحينما غادرت السيارة وصلها صوت البكاء والنحيب من الداخل.
لم تكن بوابة المنزل الخارجية مُغلقة لذا توجهوا نحو الداخل دون طلب المساعدة من أحد، بقيت زينة في السيارة برفقة فؤاد في حين أن ريتال وجدها وتليد هم من دلفوا إلى المنزل، كانت عمتها تقف بالقرب من الباب في انتظار عودة شقيقها الآخر ليحضر بالأوراق اللازمة وأي شيء يخص الخطوات التالية حتى يتم الدفن.
ريتال، يا حبيبتي، أبوكي يا ريتال، أخويا مشي وسابنا، الصبر من عندك يارب. قالت عمتها من وسط نواحها وهي تعانق ريتال بقوة لا داعي لها، شعرت ريتال بإنقباض قلبها يزداد مع كلمات عمتها قبل أن تفصل الأخيرة العناق سامحة لريتال بالتنفس أخيرًا.
تعالي سلمي على ماما، يا عيني من الصدمة مش قادرة تنطق كلمة.
أومئت ريتال واتجهت نحو الداخل حيث تجلس جدتها العجوز والتي بمجرد أن وقعت عين ريتال عليها أدركت أن هول الصدمة والحزن قد جعل الكِبر أكثر وضوحًا على ملامح جدتها وكأنها كبرت أعوام في يومٍ واحد، كانت تجلس على الكرسي المفضل لها وقد أراحت أحدى يديها على طرف الكرسي بينما الآخرى كانت تحمل المسبحة خاصتها، عيناها كانت شاردة وكأنها في عالمٍ بعيد عن عالمنا لكنها لم تكن تبكي كذلك بل كان الثبات واضحًا عليها حتى وإن كان مشوبًا بالحزن.
تيته،.
ريتال! يا حبيبتي يا بنتي، لم تنطق ريتال بحرف بل ألقت بنفسها بين أحضان جدتها التي أخذت تُقبل وجنة حفيدتها وقد لوثت الدموع وجهها وفي تلك اللحظة شعرت جدتها بأنها تعانق ابنها في عناقها لريتال، تسمع صوته في صوتها وترى وجهه في وجهها التي أدركت الآن مدى حسنه!
أبوكي قطع بيا يا ريتال، سابني، أنا قولتله أنا غضبانة عليك بس ربنا يشهد إني سامحته ما أنا أم في الأول وفي الآخر وده ابني، اه كان بيزعلني كتير وكان بيعصاني مش هنكر بس برضوا ضنايا وحتة من قلبي،.
كانت هذه المرة من المرات النادرة التي رأت فيها ريتال جدتها تبكي وتعبر عن مشاعرها بوضوح فلقد دائمًا جامدة القلب هادئة تمامًا حد البرود، لم تراها ريتال كثيرًا تقف في صف الحق حتى ظهرت بشاعة وقسوة والدها تجاهها هي ووالدها في ذلك الوقت بدأت جدتها في توبيخه وإلقاء اللوم عليه حتى أوصلها بتصرفاته الغير عقلانية والبشعة ليجعلها تُعلن أنها تتبرأ منه وأنها غضبانة عليه لكنها الآن ندمت على كل مرة قامت بتوبيخه فيها وفي كل مرة طلب منها السماح وهي لم توافق لكنها الآن تود أن تصرخ بأعلى صوت لديها بأنها قد سامحته وودت لو تعتذر له لأنها اسأت تربيته من الأساس!
ربنا يرحمه، نطقت بها ريتال بصعوبة، كيف يمكن أن تقترن الدعوات بالرحمة بإسم شخص كنت تدعو له بالشفاء وطول العمر قبل ساعات؟ كيف أصبح الحديث عن والدها بصيغة الماضي وكأنه شيء كان ولم يعد له وجود؟
أدخلي شوفيه يا حبيبتي، أومئت ريتال بتوتر شديد، لم تسمع صوت جدها وتليد وهم يقدمون واجب العزاء لجدتها وعمتها ولم تعد تسمع الأصوات من حولها وكأن كل شيء قد اندثر...
حينما خطت ريتال خطوها الأولى نحو الداخل وقبل أن تلمح جسد والدها رأت صالح يجلس منكمشًا على ذاته في أحد أركان الحجرة، يضم ركبتيه إلى صدره ويُخفي وجهه بذراعيه وصوت نحيبه المتقطع يصدر مكتومًا ليُزيد من رهبة وحزن المشهد، لقد كان صالح رفيق عمه الراحل في الأشهر الأخيرة الماضية ولقد كان آنيسه الوحيد، لقد كان من يرعاه ويُسليه ويُنير ليله المظُلم لكنه الآن قد رحل ليُدرك صالح أن عمه هو من كان يؤنس وحدته لا العكس!
استقام صالح من جلسته تلك حينما رأى ريتال، سار بضع خطوات نحوها لتتقابل أعينهم التي تحمل ذات الآلم، والدموع، ومرارة الفقد وفي تلك اللحظة كان كلًا منهما قريب من الآخر أكثر من أي وقت قد مضى فلقد كانت تلك اللحظة تعادل السنوات الطوال التي قضتها معه أسفل سقف هذا المنزل.
البقاء لله يا ريتال. خرج صوته متحشرجًا لا يخلو من الإنكسار، طالعته بحيرة لبرهة وقد توقف عقلها عن العمل ولم يعتد لسانها بعد الرد على تلك الجملة لذا وقفت تطالعه في سكون قبل أن تهمس بنبرة مشابهة لخاصته:
ونعم بالله.
في تلك الأثناء كانت ريتال تحاول إستغلال أي شيء يجعلها تنشغل عن الإلتفات نحو فراش والدها ومواجهة الحقيقة القاسية لكن في النهاية لم يكن هناك أي مفر فلقد كان عليها فعل ذلك؛ مواجهة حقيقة رحيل والدها للأبد هذه المرة...
أقتربت ريتال من الفراش لتجد جسده المُمدد في ثُبوت وقد تم تغطيته بواسطة الفراش الأبيض، مدت يدها المُتجمدة المُرتجفة التي هربت منها الدماء لتنزع الغطاء عنه لترى وجهه للمرة الأخيرة، تحاول حفر صورته في ذاكرتها كي لا تنساه، تتمعن في تفاصيله وتحفظها كي لا تغيب عن بالها أبدًا.
كان مُغمض العينين وكأنه نائم في هدوء تام لكن وجهه كان خالي من أي تعبير وبشرته قد أختلف لونها قليلًا، تحسست ريتال وجهه لتشعر بكهرباء تسري في كامل جسدها، هربت دمعة من عيناها لتستقر على وجنة والدها وحينما لمحتها ريتال تجمدت لبرهة قبل أن تضم جسد والدها البارد الساكن الذي كان بالأمس دافئًا مُتحركًا ينبض بالحياة، ذلك الرجل الذي لم تقوى على حبه ولم تقوى على كرهه الآن بات مجرد جسد بلا روح، وضعت يدها المرتجفة لتلمس وجه والدها لينتفض كامل جسدها.
بابا؟ نطقتها بصيغة سؤال وكأن عقلها لا يصدق أنه والدها، ذلك الذي كانت برفقته منذ ساعات وكان يجلس باكيًا يطلب منها السماح بات غير قادرًا على فعل أي شيء ببساطة لأنه لم يعد هنا!
لم تكن تعلم ريتال أن الموت صادمًا بهذه الدرجة فهي لم تتعرض لفقدان أي شخص قريب منها وحينما فارقت والدة صالح الحياة لم تكن سوى طفلة صغيرة لا تذكر أي شيء سوى أن جميعهم كان يحسن معاملة صالح لأنه يتيم، أهذا هو اليتم إذًا؟ شعور غير مبرر بالخوف والوحدة والرغبة في الهرب؟ الشعور بأن هناك جزءًا من روحك قد مُزق وأُخذ منك بعيدًا فلا أنتَ قادرًا على رده إليكَ ولا قادرًا على متابعة الحياة بدونه؟
الآن تفهم لم تدمع أعين صالح كلما تذكر والدته الراحلة، تتفهم شعوره بالغيرة والآلم كلما رأى زينة إلى جانبها فهي الآن في الوضع ذاته وربما أسوء، فعلى الأقل لقد كانت والدة صالح تُغدقه بالحنان والحب أما والدها فلقد رأت منه أسوء الأيام وقد أسمعها أقسى الكلمات لكن في نهاية الأمر كان والدها، الذي تحمل اسمه ملازمًا لخاصتها، الذي حملها من بين يدي الممرضة في المستشفى حينما وُلدت، الذي ساعدها على السير والذي أحضر لها عشرات الألعاب باهظة الثمن عند عودته من الخارج وهو ذاته الشخص الذي تفنن في تعنيفها والذي كاد يقتلها جنونًا لأنها سُلبت منه هي ووالدتها!
بابا رد عليا، طب أنا دلوقتي تايهة ومش عارفة أعمل أيه؟ رد عليا قولي المفروض أحس بإيه،؟ قولي أسامحك ولا لا؟ أفضل بكرهك ولا أحبك،؟ طيب قولي هو أنا كده بقيت يتيمة ولا أنا أصلًا يتيمة من وقت ما سبتني،؟ رد عليا يا بابا،.
قالت ريتال من وسط دموعها وهي تتشبث بذراعه، كانت رؤيتها مشوشة من الدموع وصوت شهقاتها يكاد يهدم أعمدة المنزل، أقترب صالح منها وكاد أن يُربت على كتفها بحركة تلقائية لولا أن جاءه صوت تليد الذي جعله ينتفض نحو الخلف وكأنه صُعق.
لا إله إلا الله، إنا لله وإنا إليه راجعون. تمتم جدها حينما دلف إلى الحجرة بينما يتحاشى النظر إلى والد ريتال، أقترب جدها منها ليحاول ضمها وفي الوقت ذاته يفصلها عن والدها بينما وقف ريتال في أحد الأركان لا يدري ماذا عليه أن يقول، فماذا يُقال في مثل هذه المواقف؟
يا بابا رد، رد عليا متعملش فيا كده حرام عليك، عيشت حياتي محرومة منك بمزاجك ودلوقتي خلاص مبقاش في إيدك ولا في إيدي حاجة أعملها ليه كده يا بابا؟
تعالي يا ريتال، متعمليش في نفسك كده يا حبيبتي، ادعيله بالرحمة. قال جدها وهو يُبعدها عن والدها ويتجه بها إلى خارج الحجرة بينما كان تليد يقف على عتبتها يراقب الوضع بحزن وقلق وقبل أن يقترب من ريتال محاولًا تهدأتها سقطت فاقدة للوعي بعد أن غلف السواد دنياها...
كانت زينة قد غادرت السيارة وأخذت تسير ذهابًا وإيابًا وحينما شعرت بغصة في قلبها توجهت نحو الداخل متجاهلة نداء فؤاد كانت هذه هي اللحظة التي سقطت فيها ريتال لتهرول نحوها وفي أثناء محاولتها لرفع جسد ريتال عن الأرض معهم وقعت عيناها عن غير عمد على ذلك الجسد الراقد في سكون على فراش الموت، أقشعر جسد زينة وهي تبعد نظرها عن الحجرة على الفور.
لم تعلم ريتال ما حدث لكنها فتحت عيناها لتجد نفسها أعلى فراش جدتها ورائحة البخور الذي تشعله على الدوام قد ملأ هواء الحجرة، بجانبها كانت تجلس والدتها وقد دمعت عيناها وعلى الجانب الآخر جلست جدتها تتلو القرآن من المصحف خاصتها.
ريتال، أنتِ كويسة يا حبيبتي؟
أيه، أيه اللي حصل؟
تعبتي شوية وفؤاد وبابا شالوكي جابوكي هنا.
أنا عايزة أروح. طلبت ريتال وقبل أن تُجيبها زينة سبقها رد جدتها التي فرغت من التلاوة وهي تقول:
تروحي أيه يا بنتي؟ طب وعزاء أبوكي؟
مش هقدر أفضل هنا أكتر من كده، مخنوقة، مش قادرة أتنفس.
وهترجعي إسكندرية بعد ما ندفن وترجعي تاني علشان العزاء؟ ما شقتي موجودة وشقة أبوكي كمان موجودة.
لا! الشقة دي ريتال مش هتعتبها وبعدين أخواتها في اسكندرية لازم نرجع لهم.
وهي الأصول بتقول إنها تسيب بيت أبوها في ظرف زي ده يا زينة؟
ارجعي أنتِ يا ماما أنتِ وبابا أنا هفضل هنا مع جدو ده بعد إذنك يا تيته طبعًا. تحطم قلب جدة ريتال حينما وجدت الأخيرة تلقب شخص آخر ب بابا غير والدها الحقيقي أو البيولوجي بمعنى أدق.
لا طبعًا أنا رجلي على رجلك، ممكن أبات في شقة فؤاد اللي هنا وأجيلك الصبح بدري.
في ذلك الوقت كان تليد يجلس على أعصابه في انتظار ظهور أي شخص ليطمئنه على حبيبته وحينما لمح نانسي انتفض من جلسته وهو يسألها الآتي:
نانسي، ممكن تطمنيني على ريتال؟
هي فاقت بس مقعدينها جوها علشان ترتاح في أوضة تيته، مش عارفة أيه المواقف الغريبة اللي بتحصل دي يعني تليد في بيتنا للمرة التانية علشان بيعزي في خالو اللي هو ضر،.
ششش بس أنتِ بتهبلي ليه في الكلام؟ هو أنتِ شايفة إن ده وقته يعني؟ قبل أن تُجيب عنه نانسي وجد جد ريتال يتوجه ليجلس بالقرب منه قبل أن يُربت على قدمه بحنان ويقول:
قوم يا تليد يا حبيبي روح إرتاح شوية.
ميصحش طبعًا يا جدو أحضر الدفنة وبعدين نبقى نشوف هنعمل أيه، هو أحنا متعطلين على أيه أصلًا؟
عم ريتال بيخلص حاجات في الأوراق وبيعمل اللازم إن شاء الله ساعتين بالكتير. أومئ تليد بأسف شديد دون أن يجد ما يقوله.
كل ما تلى ذلك حدث سريعًا حتى وجدت ريتال نفسها قد عادت إلى منزل والدها ثانية لكن بدونه هذه المرة لتُدرك أن الساعات الماضية كانت هي المرة الأخيرة التي تجتمع فيها بوالدها أسفل السقف ذاته، بعد مرور يومين حان موعد العزاء والذي لم تحضره زوجة أبيها السابقة ولم تعلم إن كان شقيقها الصغير قد علم بغياب والدهم للأبد...
جلست ريتال في العزاء مثلها مثل أي غريب، لا تعلم تفاصيل ذلك الرجل الذي رحل لكنها تدعو له بالرحمة لأنه نفس مسلمة قد فارقت الحياة، هدأ صوت الشيخ العذب من روعها وشعرت بالسكينة حينما سمعت آيات القرآن الكريم، كانت تستقبل واجب العزاء كالجثة ولسانها يتمتم ونعمة بالله مع مرور كل شخص دون أن ترى لمن تقولها ودون أن تسمع ما يليها من كلمات شفقة على الفتاة الشابة التي فقدت أبيها وقليلًا من كانوا يعلمون بحقيقة علاقتها بوالدها، حينما انتهى العزاء أصرت ريتال على العودة إلى الإسكندرية وعلى عودة تليد إلى إنجلترا كذلك فلا داعي لتعطيله أكثر من ذلك فالتغيب عن العمل والجامعة بضع أيام هو أمر كارثية هناك وبالطبع خاض كلاهما نقاش طويل أحتدت فيه ريتال بعض الشيء دون أن تدرك ذلك.
عادت الحياة لمجراها الطبيعي بالنسبة إلى الكل - عدا ريتال بالطبع - وقد أنشغل الكل في الأيام التي تلت العزاء، تم البدء في إجراءات إعلام الوراثة لكن تم تعطيل العملية بسبب إضطرار والد صالح للسفر من أجل عمله، عادت ريتال إلى الإسكندرية مرة آخرى وقد بدأت تحاول إعتياد واقعها الجديد.
داخل منزل جدها كان يقف ياسين إلى جوار فريدة في الشرفة يتناولون الكعك الذي أعدته والدتها وإلى جانبه شاي ثقيل.
هنعمل أيه يا ياسين؟ سألت فريدة بإنكسار ليُطالعها ياسين بتعجب قبل أن يُجيب عن سؤالها بإستنكار شديد:
يعني هنعمل أيه يعني يا فريدة؟ أكيد هنأجل الفرح طبعًا!
أنا قلقانة بابا،.
أيه يا فريدة؟ أكيد عمي بيفهم في الأصول يعني ومش هيهون عليه زعل ريتال ولا أنتِ شايفة أيه؟ تحدث ياسين بحدة شديدة فحتى وإن كان والدها ذو طباع صعبة وقد يتصرف ببعض الأنانية أحيانًا فمن المستحيل أن يفعل في مثل هذا الظرف.
أيوا أكيد أنا بس بفكر معاك بصوت عالي، بشارك معاك قلقي وخوفي أنتَ ليه بقيت عصبي كده؟
فريدة مش وقته خالص الكلام ده كله، الفرح هيتأجل وخلاص خلصنا.
متأجلوش حاجة يا ياسين، الحزن حزني لوحدي محدش ليه ذنب في حاجة.
لا طبعًا يا ريتال مفيش حاجة اسمها كده، الفرح هيتأجل عادي جدًا ولحد ما تحسي إنك بخير لأن الفرح ده مش لينا لوحدنا دي فرحة بنشارك فيها كلنا مع بعض وأحنا عائلة واحدة في النهاية ولا تليد بس هو اللي من العائلة ولا أيه؟
كان ياسين يتحدث بإصرار شديد فهو لن يقبل أي جدال بخصوص تلك المسألة وفي نهاية حديثه حاول أن يكون لطيفًا هينًا كي لا تشعر ريتال بالضيق، ابتسمت فريدة مؤكدة على حديثه:
طبعًا هنأجل الفرح ياسين عنده حق أنا والله مش بتكلم عليا أنا أكيد وأنتِ عارفة بس بابا يعني،.
علشان كده بقولك متأجلوش حاجة يا فيرو، مش هتنكدوا على نفسكوا وتعطلوا حياتكوا علشاني دي تبقى أنانية مني أوي.
لا يا ريتال أحنا هنأجل وخلاص خلصنا.
لا حول ولا قوة إلا بالله، أعملي اللي يريحك يا فريدة بس أنا قولت رأيي. أردفت ريتال بحنق قبل أن تغادر المكان وتذهب للجلوس في حجرتها وفي ذلك الوقت هاتفها تليد من الخارج وقد كانت ريتال قد توقعت أن ياسين هو من طلب منه ذلك بعد النقاش الذي دار بينهم في الخارج.
ازيك يا تليد.
الحمدلله كويس، أنتِ عاملة أيه دلوقتي؟ حاسة نفسك أحسن؟
الحمدلله، أنا كويسة مش كل شوية حد يسألني أنا كويسة ولا لا مالي يعني؟ تحدثت ريتال ببعض الإنفعال الذي كان غير مبرر في العموم لكن في حالتها النفسية تلك كان متوقعًا بالنسبة إلى تليد، كاد أن يطلب منها أن تهدأ لكنه كان يعلم أن تلك الجملة ستزيد من حنقها لا العكس.
ملكيش يا حبيبتي أنتِ زي الفل، أنا كلمت ياسين وعرفت إنه مصمم على موضوع تأجيل الفرح ده.
وأنتَ رأيك أيه بقى؟ سألت ريتال بتحفز شديد ليتنهد تليد قبل أن يُجيب عن سؤالها بإجابة غير متوقعة بتاتًا بالنسبة إليها.
أنا شايف مفيش داعي للتأجل، وقت الفرح هيكون عدى حوالي 4 شهور على حالة الوفاة وهو مش قريبهم من الدرجة الأولى وشايف بصراحة إن التجهيزات والترتيبات هتساعدك تغيري من المود وحالتك النفسية هتبقى أحسن.
لم يكن ذلك رأي تليد تمامًا فهو بالتأكيد كان يرى من الأفضل أن يتم تأجيل الزفاف لكن في الوقت ذاته كان يعلم أن الإنشغال هو دواء ريتال في مثل هذه الحالة كما أن الوضع كان سيكون مختلفًا تمامًا لو كان الفقيد هو زوج خالتها لكن ذلك ليس الوضع فعلاقة زينة وعبدالرحمن قد انتهت منذ زمن فلا يوجد علاقة مباشرة تجمع بين عبدالرحمن وأي فرد من أفراد العائلة سوى ريتال تقريبًا والتي بنفسها قد أصرت على عدم التأجيل.
بجد يا تليد؟ سألته بسعادة وعدم تصديق فلقد ظنت انه سينطق بنفس الكلمات التي ملت سماعها من الجميع طيلة الأيام الماضية.
بجد، طبعًا أنا التأجيل أحسن بالنسبالي علشان أقدر أخد اجازة براحتي لأن طبعًا لما طولت في الإجازة اللي فاتت بسبب الظروف اللي حصلت ده خلاهم هنا في الشغل متضايقين شوية.
أيوا صح، أنا أسفة، أنتَ اتعطلت في السفر بسببي أنا.
ريتال ممكن بلاش هبل من فضلك؟ أنا بقول أيه وأنتِ بتقولي أيه بس؟
بس أنا مقدرش أطلب منهم يأجلوا يا تليد، أنا عارفة إن أنا مش كويسة وعارفة إني هحتاج وقت طويل أوي علشان أتعافى من كل اللي حصل، مش هقدر أفرح ومش هقدر أضحك ولا ابتسم ما هو اللي حصل مش قليل، أنا بابا مات للمرة التانية يا تليد، دي مش أول مرة أخسره،.
تحدثت ريتال بإنكسار شديد مُفصحة عن ما يدور في داخلها، تشوشت رؤيتها من الدموع الغزيرة التي هطلت من عيناها مع كل كلمة تنطق بها وفي تلك اللحظة تنفس تليد الصعداء أخيرًا ليس لأنه يسعد لرؤيتها تعيسة بالطبع لكن لأنه كان يخشى عليها كتمان مشاعرها وأفكارها داخلها ولأن تحدثها عن الأمر بصوت مسموع يعني خطوة إيجابية نحو التعافي حتى وإن كان في انتظارهم مئات الخطوات حتى تتم رحلتها.
أنا تعبانة أوي، حاسة إن أنا تايهة وموجوعة، مش قادرة أحدد أنا سامحته ولا لا وده جارحني يا تليد علشان هو خلاص الله يرحمه مبقاش موجود وأنا نفسي أسامحه وبدعي ربنا يغفر له بس في جزء جوايا مش قادر ينسى اللي عمله فيا،.
النسيان مش مقترن بالسماح يا ريتال وبعدين أنتِ مش مجبرة إنك تسامحيه أو تسامحي أي حد أتسبب في أذى ليكي لكن علشان هو طلب السماح وخلاص بقى في ذمة الله فلو سامحتيه هتبقى حاجة كبيرة أوي وكويسة بس لو مقدرتيش يبقى خلاص!
لم تتصور ريتال قط سماع تلك الكلمات والتي على غير المتوقع جعلتها تشعر ببعض الراحة، فلقد بدأت تُدرك بأنها ليست مُجبرة على إرغام نفسها على الشعور بشيء محدد أو إرغام نفسها على السماح أو محاولة نسيان كل شيء فبعض الندوب لا تُشفى!
بس أنا كده مش هبقى وحشة وقاسية يا تليد؟
أنتِ بعيدة كل البعد عن القسوة يا ريتال، أنتِ حنينة وطيبة فوق ما تتصوري.
شكرًا، على فكرة المفروض أرجع القاهرة تاني الأيام اللي جاية، ليا ورث من بابا، طبعًا الحاجات دي بتاخد وقت طويل وإجراءات كتير، مش فاهمة أوي بس تيته طلبت إني أروح وطبعًا أنا مش بتحرك لوحدي لازم بنروح كلنا مع بعض. أخبرته ريتال بضيق واضح فهي لم ترغب في العودة إلى ذلك المنزل مرة آخرى لكن لا خيار لها للأسف.
أحسن برضوا من بعد اللي حصلك يومها عمري ما هكون متطمن أبدًا وأنتِ لوحدك، أنا بجد أسف علشان مش عارف أكون جنبك في الفترة دي،.
أنتَ عملت اللي عليك وزيادة.
مش حاسس إنه كفاية بس قريب إن شاء الله هنبقى مع بعض على طول وعمري ما هسيبك أبدًا يا ريتو.
بقالك كتير مقولتليش يا ريتو.
وما هو الوقت مكنش مناسب يعني لحاجة زي كده أكيد. أردف تليد وهو يضحك قبل أن يتحدث إليها لبضع دقائق آخرى ثم يُنهي المحادثة ليذهب لإكمال عمله.
بالعودة إلى القاهرة وفي صباح اليوم التالي كان صالح يجلس في حديقة المنزل يحتسي القهوة وينفث أدخنة لفافة التبغ رقم خمسة وينظر إلى اللاشيء بينما عقله كان يدور في داخله كل شيء ولا شيء في وقتٍ واحد، كان ينتظر ظهور نانسي ليتحدث إليها فهي الوحيدة التي يطيق إجراء حوار معها فوالده ذو المشاعر المتبلده القاسية لم يُظهر أي مشاعر لوفاة شقيقه ولم يتعاطف مع صالح في إنهياره أما عن جدته فيكفيها آلم فراق صغيرها - الذي لم يكن صغيرًا سوى في عينيها هي - وأما عن عطر ففتاة صغيرة بدأت تتخبط بين مشاعر الطفولة والمراهقة لا يمكنه إجراء محادثة جادة معها.
صباح الخير. تمتمت نانسي حينما لمحته يجلس أثناء توجهها نحو الخارج لكن أوقفها صوت صالح حينما طرح عليها سؤالًا غير متوقع دون أي مقدمات:
نانسي هو أنتِ لسه عند رأيك؟
في أيه؟ سألته نانسي بتيه شديد فمنذ وفاة عمها والأجواء مضطربة في المنزل وبالطبع زاد تشتت نانسي وحيرتها بشأن كل شيء.
موضوعنا، قبل اللي حصل قولتيلي إنك موافقة بس رميتي الجملة وهربتي.
أنتَ شايف يا صالح إن الوقت مناسب نتكلم في حاجة زي كده؟ إش حال إن أنتَ كنت أكتر واحد منهار بوفاة عمنا الله يرحمه يا راجل ده أنتَ كنت متأثر أكتر من ريتال شخصيًا!
هو أنا مقولتش حاجة يا نانسي أنتِ بتهاجميني وبتيجي عليا ليه؟ أنا بسألك سؤال ولا طلبت منك نعمل خطوبة ولا أحتفال أنا بسأل عن رأيك لسه زي ما هو ولا لا، بتأكد أنتِ عايزاني ولا لا! لسه شايفاني زي ما أنا ولا لا!
لم تتوقع نانسي أن يتحدث صالح بهذا القدر من الآلم والإنفعال في الوقت ذاته، لم تكن تقصد هي أي إهانة أو مضايقة لكنه أخذ إجابتها على نحو آخر غير الذي كانت تقصده لكن حينما ساد الصمت وأمعنت في حديثه أدركت أنه يشعر بالحزن والإنكسار وكذلك بالوحدة وبأنه منبوذ، لقد كانت نانسي آخر شخص يتقبله - حتى وإن كان نسبيًا - فبعد رحيل عمه لم يبقى أي شخص يُحب صالح ويتقبله كما هو في دائرته وبعد كل شيء قد حدث وبعد أن أظهر ضعفه أمامها في الأيام الماضية فقد خشي أن صورته قد تشوهت داخل عيناها.
صالح مفيش أي حاجة اتغيرت، أنتَ لسه صالح اللي أعرفه واللي بعزه جدًا واللي كبر في نظري أوي الفترة الأخيرة، وقفتك مع عمو عبدالرحمن مكنتش حاجة سهلة ولا بسيطة خاصة إن محدش كان بيتقبله غيرك أنتَ!
نادي المنبوذين.
متحطش نفسك معاه في نفس الحتة علشان هو الله يرحمه يعني كان، يلا ما علينا مش هتكلم عليه بس أنتَ يا صالح لازم تفهم إنك شخص جميل وفي جواك بذرة إنسان كويس، وعلشان أنتَ إنسان كان طبيعي تنهار وتنفعل ويصدر منك شوية تصرفات عشوائية من الصدمة والزعل ولا ده مغيرش وجهة نظري فيك.
طب ورأيك في ارتباطنا؟ لسه زعلانة مني علشان موضوع ريتال؟
مش زعل يا صالح، أنا بحاول أفتح عينك وأخليك تشوف حاجات أنتَ رافض تشوفها. كانت نانسي تتحدث بعقلانية شديدة غير معهودة بالنسبة إليها لكنها كانت محقة وكالعادة لم يحتمل صالح النقاش الجاد وصفع وجهه بالحقائق لذا حاول التملص من الرد الصريح على حديثها وقرر أن يطرح عليها الأسئلة بدلًا من ذلك.
هترجعي تقوليلي تاني إني لسه بحبها؟ طب ولو أنا لسه بحبها هطلب أتجوزك ليه؟
إجابة السؤال ده المفروض تبقى عندك أنتَ مش عندي أنا!
نانسي نانسي أرجوكِ حاول تفهميني.
أرجوك أنتَ حاول تفهم نفسك!
صدرت جملتها تلك بإنفعال شديد كطلقة نارية أخترقت قلب صالح وشظاياها تناثرت داخل عقله، ساد الصمت لبرهة قبل أن تتنهد نانسي وهي تعيد خصلات شعرها الطويلة الناعمة نحو الخلف بتوتر قبل أن تحاول إعادة ضبط مجرى الحديث وتوضيح ما كانت تقصده بكلماتها التي كانت أشبه بالصفعة على وجه صالح - وكبريائه كذلك - عن غير عمد.
صالح صدقني أنتَ إنسان جميل ومجتهد، عندك طموح وبتقدر توصل للحاجة اللي بتتمناها بس ده بيحصل لما تكون محدد الهدف مش أي حاجة تيجي قدامك والسلام، أرجوك متكررش نفس الأخطاء تاني وترجع تستغرب إنك بتلاقي نفس النتائج مرة تانية.
بس أنا محولتش بالإصرار ده قبل كده، أنا شبه بتحايل عليكِ يا نانسي ومش عارف المفروض أعمل أيه تاني علشان توافقي عليا!
خرج صوت صالح متحشرجًا وكأنه على وشك البكاء، تجاهلت نانسي الغصة التي في حلقها وشعور الذنب الذي أخذ ينهشها نهشًا وهي تعرض عليه الآتي بنبرة أشبه بالترجي:
صالح ممكن تروح معايا عند الدكتورة بتاعتي؟
حاضر، لو ده هيريحك حاضر يا نانسي. لم تتوقع نانسي أن يوافق صالح بهذه السهولة، ربما أدرك أخيرًا أنه بحاجة إلى ذلك حقًا وليس مجرد طلب ساخر أو سخيف، على الرغم من سعادة نانسي من موافقته إلا أنها رفضت تمامًا صيغة الجملة وكأنه سيفعل ذلك من أجلها هي لا من أجله هو.
ما أنتَ مش فاهم ده اللي هيريحك أنتَ! ده اللي هيخليك تفهم أنتَ عايز أيه وتفهم نفسك أصلًا الأول قبل أي حاجة وبعدها نتكلم.
ما أنا قولتلك حاضر يا نانسي.
طيب متزقش! عامة أنا طالعة أنام علشان نازلة أخلص حاجة في الكلية بكرة إن شاء الله.
أنتِ مش امتحاناتك خلصت؟ سألها صالح وهو يرفع أحدى حاجبيه بشك لتقلب نانسي عيناها بتملل قبل أن تُجيب عنه قائلة:
أيوا بس في ورق بتاعي مع واحدة صاحبتي وأنا شاكة إني احتمال أشيل المادة فعايزة أخليه معايا احتياطي.
لا إن شاء الله مش هتشيلي حاجة أنتِ شاطرة، تحبي أجي معاكي؟
هو أنتَ مش عندك شغل؟
اه صح، طيب لو خلصتي متأخر شوية أو قعدتي تصيعي مع صحابك كلميني أجي أروحك.
هو أنتَ أيه جو Crazy Taxi ده؟ عايز توصلني والسلام؟ ماشي يا عم. مازحته نانسي قبل أن تلوح له وهي تغادر المكان.
بالفعل توجهت نانسي إلى الجامعة لمقابلة رفيقتها وبعد أن انتهت قررت أن تحتسي قهوتها المثلجة المفضلة باهظة الثمن - بلا سبب مقنع - قبل أن تقرر مهاتفة صالح لتخبره بأنها ستعود إلى المنزل باكرًا حتى لا يمر بسيارته إلى الجامعة خاصتها وبمجرد أن جلست نانسي على الطاولة لمحت وجه أحدهم تمنت لو بإمكانها أن تمحيه من تمامًا من ذاكرتها...
أخذت تسأل نانسي نفسها لم كثرت الصدف هذه الأيام؟ بين الملايين القاطنين في محافظة القاهرة ومن بين جميع المقاهي تجد أدهم يجلس في مقهى بالقرب من جامعتها؟ ما هذا الهراء؟ سألت نفسها وهي تحمل حقيبتها مرة آخرى مستعدة للرحيل من حيث جاءت فلا طاقة لها بأدهم اليوم بلا طاقة لها بأدهم في أي يوم آخر فذلك الجرح ما يزال يؤلمها، كادت أن تغادر المكان لولا أن سمعت اسمها يخترق مسامعها من صوت قد اشتاقت له رغمًا عنها لكنها لم تضعف ولم تلتفت بل تظاهرت بعدم الإنتباه واتجهت نحو الباب لتغادر المكان لكنه تبعها نحو الخارج بخطوات متلهفة.
نانسي استني يا نانسي.
عايز أيه؟ سألته بحنق واضح لتضطرب معالم أدهم ويغزو التوتر ملامحه قبل أن يقول الآتي:
عايز أتكلم معاكي، أرجوكي اسمعيني.
مفيش حاجة نتكلم فيها يا، يا دكتور. لم تقوى على النطق بإسمه لذا استخدمت لقبه عوضًا عن ذلك، تحرك خطوة آخرى محاولًا منعها من المغادرة بينما يُردف بحرج:
لا في، أولًا البقاء لله أنا عرفت من الفيس بوك بوفاة عمك.
ونعم بالله، لو مفيش حاجة تاني يبقى عن إذنك.
ثواني بس يا نانسي أرجوكي، نانسي أنا عارف إن أنا غلطت، وظلمتك معايا، أنا مكنش ينفع أختفي بالطريقة دي واللي عملته، فاح الندم من حديثه لكن ذلك لم يؤثر في المستمعة كثيرًا فلقد صدرت منها ضحكة ساخرة لا تخلو من المرارة قبل أن تُعقب على حديثه قائلة:
مبقاش ليه لازمة الكلام ده يا أدهم، ربنا يباركلك في خطيبتك وفي حياتك الجديدة.
أنا سيبتها يا نانسي، سيبتها علشان مش شايف نفسي مع حد غيرك وأصلًا الخطوبة دي كانت غلطة من الأول! كان لحديث أدهم وقع كبير على قلب وعقل نانسي، غلفت الدهشة وجهها وهي تنظر إليه تحاول التأكد من صدق حديثه ومن طريقته في إعلان الأمر استشعرت نانسي صدق حديثه وعلى الفور انتقلت ببصرها نحو يده بحثًا عن خاتم الخطبة الفضي والذي لم يعد له وجود!
لم تنطق نانسي ببنت شفة بل رمقته في صمت قبل أن تتابع سيرها بخطوات بطيئة واثقة تاركة أدهم خلفها في حيرة وحزن شديد، بعد أن سارت نانسي بعيدًا عنه توقفت في أحد الشوارع الجانبية لتلتقط أنفاسها التي حاولت كتمها لمدة طويلة، تسارعت نبضات قلبها وقد تشوش تفكيرها تمامًا فقبل ذلك اللقاء الغير متوقع كانت قد اتخذت قرار نهائي - تقريبًا - بشأن عرض صالح لكن الآن ها هي ذا تسقط داخل دوامة الحيرة والصراع بين قلبها وعقلها مرة آخرى ولسوء الحظ لم يكن هناك شخص تثق فيه كفاية لتستمتع إلى نصيحته في مثل هذا الموقف الصعب؛ في الواقع كانت ريتال هي الوحيدة التي تصلح لشيء كهذا لكن كان من المستحيل أن تتحدث نانسي إليها في مثل هذه الظروف!
في ذلك الوقت وبالعودة إلى الإسكندرية كانت ريتال تجلس إلى جانب فريدة والتي كانت تراسل ياسين بشأن بعض التفاصيل النهائية الخاصة بعش الزوجية خاصتهم والبعض الآخر خاص بحفل الزفاف ولقد كان التوتر والحنق واضحًا في نبرتها أثناء إرسال مقاطع صوتية لذا قررت ريتال التدخل في الأمر والقيام بمحاولة للتهدأة من روعها.
فريدة متشليش هم حاجة أنا معاكي في باقي ترتيبات الفرح زي ما كنا متفقين مفيش أي حاجة أتغيرت يعني.
لا يا ريتال خليكي أنتِ مرتاحة ماما وخالتو وفي بنات صحابي ممكن يبقوا ينزلوا معايا أو يساعدوا في حاجات في الشقة.
وهو أنتِ هتحطيني في نفس الخانة مع الناس دي؟ يا بنتي أنتِ أختي ورجلي على رجلك مش كفاية نزلتي تشوفي فساتين من غيري؟
والله حقك عليا بس كان لازم أبدء أبص لأني يعتبر متأخرة كمان وبعدين ماما قالتلي ميصحش أطلب منك تنزلي معايا.
ياريت متسمعيش كلام خالتو تاني بقى، وأقولك كمان نانسي كملتني من يومين وعايزة تيجي تجهز معانا لو أنتِ معندكيش مشكلة يعني. فوجئت فريدة بما قالته فريدة وعلى الرغم من أن لدى فريدة بعض التحفظات بخصوص نانسي إلا أنها لم تمانع وجودها خاصة وأن ذلك سيحسن من نفسية ثلاثتهم.
معنديش مشكلة طبعًا بس هي الشقة في القاهرة فأحنا اللي هنروحلها فهي تبقى تقابلنا هناك وتبقى تجيب معاها هدوم قديمة وحاجة تربطها على شعرها اللي فرحانة بيه ده علشان الشقة فيها كمية تراب ولا نقلتين رمل!
عامة أحنا محتاجين نسافر علشان إعلام الوراثة والمحامي محتاجنا وقصص كده مش فاهمة منها أي حاجة بس يارب كله يعدي على خير علشان مش هستحمل أبات هناك تاني. قالت ريتال بضيق لتقترح عليها فريدة الآتي:
طب ما نقعد في شقة مريم وعمو فؤاد؟
لا مش حابة أنا عايزة أفضل في شقة جدو، هنا أعصابي بتبقى مرتاحة أكتر مش عايزة أفضل في القاهرة.
تحبي أجي معاكي؟
لا يا حبيبتي مش مستاهلة متتعبيش نفسك، كده كده هبقى أحكيلك التفاصيل كلها. قالت ريتال لتقترب منها فريدة لتعانقها عناق قوي وكأنها تدعمها دون الحاجة إلى النطق بكلمات دعم.
في ضهر اليوم التالي توجهت ريتال إلى القاهرة برفقة أسرتها ولكن دون أشقائها حيث بقيت خالتها للإعتناء بهم هي والمربية خاصتهم، لم تكن ريتال تكترث كثيرًا بما سيدور في تلك الجلسة فهي ليست بحاجة إلى أي شيء يأتي من طرف والدها لكنها حقوق يجب أن يتم توزيعها حسب الشرع ومن ثم يمكنها فعل ما تشاء بها سواء التنازل عنها لشقيقها الأصغر أو لجدتها أو التبرع بتلك الأموال لدار أيتام أو أحدى المستشفيات يتوقف ذلك على المبلغ والذي لم تظن ريتال أنه سيكون ضخمًا لأنها قد علمت أن والدها قد خسر أغلب ماله في استثمارات فاشلة ومن ثم استولت سالي - زوجته السابقة - على ما تبقى من ماله ورحلت وكان ذلك سبب الإنتكاسة.
جلس الجميع في الصالون الكبير خاصة جدتها، كانت الجدة قد أصرت على حضور أسرة ريتال أي والدتها وزوج والدتها وجدها وقد جلست هي في المنتصف بينهم وفي الجهة الآخرى جلست جدتها وباقي العائلة أما عن المحامي فكان يجلس على كرسي في أحد الأطراف يسمح له برؤية الجميع، ساد الصمت إستعدادًا لسماع ما سيُلقى عليهم وقبل أن يبدأ حديثه جاءهم صوت نواح مفتعل للغاية يأتي من جهة المدخل:.
جوزي، حبيبي، أبو ابني، ربنا يرحمك يا غالي، سيبتني لمين يا بودي؟
أيه ده؟ أيه ده؟ أنتِ داخلة زريبة يا ست أنتِ؟ جوزك مين؟ صاح صالح موبخًا إياها وقد انتفض من مقعده.
جوزي على سنة الله ورسوله ودي القسيمة، بص عليها كده يا متر، المرحوم ردني قبل ما يموت.
أنتِ كدابة والورق ده مزور! نطقت غادة بإنفعال شديد وكادت أن تنقض على سالي لولا أن جذبتها نانسي بقوة.
لا لا ده كده غلط وقلة أدب!
أنتِ لسه شوفتي قلة أدب ده أنا، كادت غادة أن تسب تلك الخائنة الكاذبة التي لم تكتفي بتدمير حياة شقيقها بل وتريد الإفتراء عليه حتى بعد وفاته.
سيبك منها يا عمتو، أنتِ بتقولي إنك مراته والمفروض تورثي مش كده؟
أيوا يا سيدي.
طيب، على فكرة عمو كتب وصية وهو في كامل قواه العقلية وسبحان الله اسمك مجاش فيها خالص لكن في شيك قيمته ربع مليون جنيه بإسم طنط زينة.