قصص و روايات - قصص رومانسية :

رواية وصال مقطوع للكاتبة إيمان عادل الفصل التاسع والأربعون

رواية وصال مقطوع للكاتبة إيمان عادل الفصل التاسع والأربعون

رواية وصال مقطوع للكاتبة إيمان عادل الفصل التاسع والأربعون

صدرت شهقة من غادة وأعتلت الصدمة وجه الجميع فيما عدا صالح الذي عقد ذراعيه وهو يستند على الجزء البارز من الحائط بينما يراقب المشهد بإستمتاع شديد.

حاول فؤاد إخفاء غيرته لكن الإمتعاض كان واضحًا على وجهه وفي تلك اللحظة أدرك شعور زينة بالغيرة تجاه زوجته الراحلة والذي لم يكن يراه منطقيًا في السابق فالآن يريد الإعتذار منها ويخبرها بأنها كان لها كامل الحق في الشعور بالضيق والغيرة في بعض الأحيان، فمجرد التفكير في أنها لم تغادر بال وقلب زوجها السابق حتى في أيامه الأخيرة جعله يشعر بنيران تشتعل في قلبه بلا رحمة.

الكلام ده كدب، أنتَ بتكدب وبتصيع يلا! أيه هي اتفقت معاك تقسم معاك الفلوس ولا أيه؟ ما أنا عارفة الأشكال اللي زيكوا كويس!
كالعادة لجأت سالي إلى سلاحها الوحيد، سب من أمامها وإلصاق التهم الباطلة به مع التحدث بصوتٍ عالٍ بشكل مبالغ فيه لكن هذه المرة صُعقت بشخص آخر يعترض طريقها وهو فؤاد الذي لم يقبل أن يوجه مثل هذا الحديث لزوجته في حضوره.

أحترمي نفسك يا مدام وأعرفي أنتِ بتتكلم مع على مين، زينة مش محتاجة فلوس من حد ده على اعتبار إن الرقم ده فلوس من الأساس!
أقعد بس يا عمو بدل ما تحلى في عينيها وتحاول تسرقك من طنط زينة ونعيد الفيلم الحزين ده من الأول تاني.

علقت نانسي ساخرة ليكسو الحمرة وجه سالي من فرط الحنق فلقد تم أثبات كذبها وتعرضت للسخرية من الجميع وقد خسرت الأموال التي كانت تخطط في ضمها إلى ثروتها أو بمعنى أدق ثروة زوجها قبل أن تنهبها هي.
أيه يا طنط سالي هتفطسي ولا أيه؟ كمل يا متر خليها تاخد الصدمة كلها على بعضها. علق صالح ساخرًا محاولًا كتم ضحكاته لكون الوضع جاد ولا مجال للضحك هنا.

ليه هو لسه فيه حاجة تاني؟
المرحوم كان سايب شيك تاني قيمته 250 ألف جنيه بإسم بنته الآنسة ريتال عبدالرحمن وهي الوحيدة اللي يحق ليها صرف المبلغ.

توالت الصدمات على الجميع وأكثرهم ريتال التي لم تكن تتوقع قط حتى في أكثر أحلامها عشوائية أن يختصها والدها بشيء وليست هي فقط بل هي ووالدتها ومن صدمتها توقف عقلها عن العمل لبرهة وكأن الكون قد توقف من حولها ولم يجعلها تستفيق من ذلك العبث سوى صراخ زوجة أبيها - سابقًا - وهي تصرخ كقطة دعس أحدهم على ذيلها.
نعم يا أخويا؟ طب وابني؟ وحقنا؟

ده يعتبر هبة لأنه كتب الفلوس دي ليها بطيب خاطر ومش من الميراث، الميراث هي باقي فلوسه اللي في البنوك أو أي حاجة تُعد ملك ليه من عقارات واللي هي برضوا هيكون ليها جزء منها لأنها من الورثة الشرعيين.

هبة مريم ومريم مين يا أخويا؟ اه أنتوا شكلكوا طابخينها سوا، أنا عايزة حقي وحق ابني! كادت مريم أن تنقض عليها وتفترسها لإختيارها لإسمها لإبداء إعتراضها والسخرية لكن فؤاد أمسك بذراع شقيقته بقبضة حديدية لكن دون أن يؤلمها في الوقت ذاته ليمنعها من النهوض ونتف خصلات شعر تلك المشعوذة.

حق ابن حضرتك لكونه من الورثة لكن حضرتك ملكيش أي حق أو صفة لأنك طليقته، الفلوس دي ملهاش علاقة بالميراث لأن زي ما قولت دي هبة من المرحوم قبل ما يتوفى وهو في كامل قواه العقلية يعني متدخلش في الميراث.
حسبي الله ونعم الوكيل فيكوا ياللي هتاكلوا مال اليتيم، أربي ابني ازاي وبكام أنا؟

بقولك يا سالي خلي حفيدي يتربى هنا في بيت جدته ومصاريفه كلها عليا من أول لمدرسة ولحد الجواز كمان.
بتتكلمي جد يا حجة؟

سألت سالي بلهفة أدهشت الجميع، أي أم ترغب في التخلص من طفلها للدرجة التي تجعلها تستغل أول فرصة بهذا القدر من الحماس وكأنها كانت تنتظر مثل هذا العرض بفارغ الصبر كي تحصل على حريتها المُطلقة، تخلصت من عبدالرحمن وها هي على بعد خطوة من فعل المثل مع وحيدها وبذلك يبقى لها الكثير من المال وحرية مطلقة بلا قيود - ستقودها إلى الهاوية بلا شك - لكنها لم ولن تُفكر قط في عواقب أفعالها وهنا تأتي المتعة الأكبر حينما تُصفع بالحقائق وينقلب السحر على الساحر وتُدرك أنها ليست سوى امرأة وضيعة بلا كرامة أو أخلاق أو أي قيمة لكن حينها سيكون الوقت قد فات ولا مجال للتراجع والندم أو حتى طلب الغفران.

يا سلام عالأمومة، ترمي ابنك علشان قرشين؟

قرشين؟ بتسمي نص مليون قرشين؟ أنا مش قادرة أفهم حاجة، هتجنن! هو مش كان مات مجلوط ومكتئب علشان أفلس؟ مش كل اللي كان حيلته كان في جيبي أنا قبل ما نتطلق؟

قبل ما أيه؟ قبل ما أيه؟ سمعينا كلنا تاني كده؟ أيه يا مزة هو مش كان رجعلك قبل ما يتوفى؟ باغتتها مريم بخبث وهي تبتسم بإنتصار لتضطرب معالم وجه سالي وهي تحاول إيجاد مبررات لم قالته لكن ذلك لم يُهم مريم كثيرًا فلقد قامت بتسجيل ما قالته الآخرى بواسطة الهاتف على أي حال.

عمي قبل ما يموت بشهر في ناس أتواصلت معاه من اللي كان دخل معاهم في شغل بمبالغ ضخمة وخسر وقالوله إن حصل بعض التحسن وإن ليه نسبة وعلشان في جزء منهم عندهم ضمير مش زي ناس كده رجعوله فلوسه ده غير إنه باع عربية قديمة كانت مركونة عنده، عمي باع كل حاجة كان يقدر يبيعها علشان يضمن لولاده الإتنين عيشة كويسة لأطول مدة ممكنة. كان صالح يتحدث بأعين زائغة وبنبرة صوتية ثابتة وكأنه إنسان آلي لا بشري فمازالت وفاة عمه صادمه بالنسبة إليه ولم يتعافى من الأمر تمامًا.

أنا كل القصص دي متخصنيش أنا عايزة اضمن لأبني عيشة نضيفة وياخد حقه.

ياخد حقه ولا تاكلي عليه حقه علشان الدقة بس؟ بصي يا أبلة سالي تيته عرضت عليكي عرض وعلى الرغم من إني ضد القصة دي بس عايزة تقبليه أو ترفضيه دي حاجة تخصك بس مليم زيادة غير حق ابنك مش هتطولي.

كان الجميع مندهشًا من صرامة صالح، ذلك الشاب اللطيف الذي لا يُكثر من التحدث والجدال في العادة أصبح ذو شخصية قوية يقف دفاعًا عن الحق، يُدافع عن عمه الراحل وابنته، ابنته التي كان واضحًا للجميع أنه غارق في عشقها لدرجة أن الكل قد لاحظ لكن لم يجرؤ أحد على النطق بشيء أولًا لأن الوقت غير مناسب وثانيًا لأن ريتال بعد خطوات من الزواج بشخص غيره.

لم يخفى على نانسي كل ذلك لكن في الوقت ذاته لم تستطع كبح نفسها من النظر إلى صالح بإعجاب وأجل إعجاب وليس حب فمشاعرها نحو صالح كلها مبنية على كونه يروق لها وتصدر منه تصرفات تدل على الشهامة والرجولة لكن أدهم، آهٍ من أدهم ذلك الذي كانت تشعر نحوه بمشاعر مختلفة تمامًا.

في تلك اللحظة شعرت ريتال بإنقباض في قلبها، لم تعد تحتمل الجلوس أكثر وسماع جدالهم الذي لا داعي له فالكل يتشاجر عالأموال والممتلكات ولم ينطق لسان أيًا من الجالسين بدعوات الرحمة من أجل الفقيد وكأنهم لم يكن، غادرت ريتال المكان متجهة نحو حديقة المنزل متجاهلة نداء الجميع.

هربت من المكان بحثًا عن هواء نقي نظيف حيث شعرت بأنها على وشك الإختناق، لا تعلم كم من الدقائق مرت لكن صوت الشجار كان يعلو ويخمد من الحين للآخر حتى لمحت سالي تجذب حقيبتها بعنف قبل أن ترحل عن المكان وهي تسب وتلعن كل من فيه ولم يكن من الصعب تخمين أنها لم تحصل على شيء أو للدقة لقد حصلت فقط على نصيب طفلها من الميراث والتي وافقت على بقاءه في منزل جدته ليلقى تعليمه وتربيته هناك ولقد تعهدت بزيارته كل أسبوع وأنها على حسب كلامها بالطبع ستواصل الإنفاق عليه قدر المستطاع لكن ريتال وكل من كانوا في المجلس يعلمون أنها كاذبة لكن لا بأس فبقاء شقيقها هنا إلى جوار العائلة أفضل مئة مرة من بقاءه مع والدته التي لا تكترث به ولا تعلم شيء عن الأمومة من الأساس.

عادت ريتال نحو الداخل لتجد أن الجميع ما يزالوا مستمرين في الثرثة التي لم تفهمها، وجه لها المحامي بضع كلمات لم تكن قادرة على إستيعاب أيًا منها لكن مريم أشارت لها بأن تطمئن فهي ستتولى شرح جميع التفاصيل بإسلوب مبسط فيما بعد، رحل المحامي وبقي الجميع يجلسون في عدم راحة فتجمع أفراد هذه الجلسة هو أمر أشبه بأحلام العصاري بلا شك.

طيب نستأذن أحنا بقى. أردف جد ريتال قاطعًا الصمت ولقد أومئت زينة ب نعم فهي لم تعد تطيق البقاء في ذلك المكان لدقيقة آخرى لكن صوت جدة ريتال الحازم والذي لم يخلو من اللباقة سبق نهوضهم من مجلسهم وهي تقول:
عيب يا حج ميصحش ناكل لقمة كلنا مع بعض الأول وبعدين لو عايزين ترجعوا اسكندرية أرجعوا على راحتكوا لكن الغداء الأول.

يجعله عامر مش عايزين نتعب حضرتك هنبقى ناكل أي حاجة خفيفة في الطريق.

والله ولا يحصل ولا يكون، قومي معايا يا غادة نجهز السفرة.

ذهبت برفقة والدتها لتُعد الغداء في حين أن مريم استأذنت من الجميع لأن عليها حضور جلسة هامة موعدها قد أقترب، خيم الصمت على المكان قبل أن يقطعه صوت ريتال موجهة حديثها إلى صالح الذي جلس يتأملها في صمت مُردفة:.

صالح محتاجة أتكلم معاك، لوحدنا لو سمحت. وضحت ريتال لتضطرب معالم وجه نانسي ولم تفهم ريتال ردة فعلها لكن الوقت لم يسمح لها بمراقبة تصرفات نانسي وفي تلك اللحظة لم تكترث ريتال بأي شخص سوى نفسها فهي ترى أنها تستحق الحصول على إجابات لجميع أسئلتها وهي واثقة تمام الثقة أن صالح وحده هو من يملك جميع الإجابات.

أنتِ عارفة بقالنا وقت قد أيه مقعدناش قعدة زي دي يا ريتال؟ سألها صالح مع ابتسامة تعرفها هي جيدًا، الحنين الغبي إلى ماضٍ لن يعود لذا حمحمت هي لتخرجه من دائرة الأوهام وتُعيده معها إلى أرض الواقع حيث الأسئلة المهمة متجاهلة ما قاله تمامًا.

أنا مش فاهمة لما جزء مش قليل من فلوسه رجعله ليه كان مكتئب؟ ليه كان في الحالة اللي شوفته فيها قبل ما، قبل ما، قبل ما يتوفى؟

هو أنتِ فاكرة إن شوية الفلوس دول لما يرجعوله هيخلوا حياته تبقى وردي؟ بجد والله؟ بعد ما دمر بيتين وفشل كأب وخسر ولاده الاتنين اللي طلع بيهم من الدنيا؟ لا طبعًا المواضيع مش بتتحسب كده يا ريتال.

بطل تتكلم عنه وكأنه ضحية!

هو فعلًا ضحية، ضحية نفسه يا ريتال.

شعرت ريتال في تلك اللحظة بمشاعر أكثر سوءًا من الغضب والإمتعاض حيث أنها شعرت بالغدر والخيانة! صالح الذي كبر وترعرع معها أسفل سقف البيت نفسه، الذي رأى ما طالها هي ووالدتها بسبب أبيها الراحل الآن يقف في صفه ويراه مظلومًا لا ظالمًا، ما هذا العبث؟ لقد كان صالح يقف ضده وكاد أن يتشاجر معه من أجل ريتال عدة مرات في السابق لكنها كانت تمنعه وتطلب منه ألا يتدخل كي لا تشتعل الأمور أكثر والآن هو يتحدث بإسمه مدافعًا عنه كأنه ملاك برئ أجبرته ظروفه على اتخاذ القرارات التي لم تُدمر حياته وحده بل دمرت حياة المرأة الوحيدة التي أحبته بصدق ودُعس أسفل عجلات أنانيته وغروره ابنته المراهقة وابنه الطفل.

لا يا صالح لا هو عمره ما كان ضحية هو كان ماشي ورا هواه وعمل كل اللي في نفسه وعاش حياته زي كان عايز وفي الآخر بقى فهم وأدرك إنه غلط وخسر كل حاجة بعد ما كان فاكر بغروره إنه يقدر يملك كل اللي حواليه، ممكن يكون ضحية في قصته لكن مش في قصتي أنا!

هو كان غلطان وأناني وشخص بشع وحقير لو عايزة كمان، لكن إدراكه لغلطه ميشفعلوش؟ إنه أعتذرلك وحاول يعوضك ده ملوش معنى؟

ضمت ريتال عيناها وهي تحرك رأسها يمينًا ويسارًا بإستنكار شديد، عيناه الداكنة غلفتها طبقة بلورية من دموع كفكفتها بعنف عن وجنتيها قبل أن تُقرر طعن صالح بالكلمات لكي تجعله يتجرع من الكأس نفسها، اختارت ريتال أكثر المناطق إيلامًا في قلب صالح لتدعسها فإن كان يريد لعب دور الملاك الحارس ذو القلب الرحيم الذي يغفر للجميع فعليه أن يُثبت ذلك حينما يتعلق الأمر به.

وأنتَ لو عمي جيه أعتذر عن كل حاجة عملها فيك هتسامحه؟ طالعها صالح بصدمة وثغرٍ فارغ من هول سؤالها، لم يتوقع صدور مثل هذا السؤال منها على الرغم من أنه كان يطرح على نفسه ذات السؤال في كل ليلة ولم يجد يومًا إجابة شافية، صدرت منه ضحكات مزيج من الصدمة والآلم محاولًا إيجاد الرد المناسب لكن كل الكلمات هربت تاركة إياه يقف عاجزًا أمامها، يعلم أنها لم تتعمد جرح شعوره وأنه هو من دفعها نحو خانة اليك وأجبرها على طعنه كما فعل لكن ذلك لم يُخفف من وطأة الآلم.

أنا، أنا أسفة، مكنش المفروض أقول كده.

لا أنتِ ليكي حق تسألي السؤال ده، أنا بقالي ساعة موقفك بوجهلك اتهامات وأسئلة وبضغط عليكِ، أنا اللي أسف أوقات مش ببقى مُدرك بقول أيه أمتى ولمين. أعترف صالح بأنه أخطأ، لقد تبدلت شخصيته بالفعل ولقد كان التطور واضحًا عليه لكن في الوقت ذاته كان ما يزال هناك شيء مفقود بشأنه، أعتذرت منه ريتال مرة آخرى فلقد أشعرها حديثه بالذنب أكثر.

صالح أنا فعلًا مكنش قصدي وفاهمة أنتَ جاي منين والكلام ده ليه طالع منك، كتر قعدتك معاه ورعايتك ليه خليته يصعب عليك وده طبيعي لأنه في الأول وفي الآخر إنسان، كان عاجز ومريض لكن أنا أتظلمت يا صالح وأتعرضت لعنف نفسي وجسدي وأتبهدلت بسببه حاول تحط ده في كفة الميزان وأنتَ بتصدر عليا أحكام.

أنا مش بصدر عليكي أحكام يا ريتال ومش من حقي أساسًا أعمل حاجة زي كده! ريتال أنا،.

لا لا، الكلام كده هياخد منحنى تاني أنا عارفة، أصلي عارفة الدخلات دي كويس.

اتأخرت أوي مش كده؟

مكناش ننفع بعض من الأول يا صالح، لو كنت من نصيبك كان زمانا مع بعض لكن أنا دلوقتي مع حد تاني وبحبه وبحترمه وأنا بتكلم معاك دلوقتي بصفتك أخ وابن عمي اللي أتربيت معاه مش أي حاجة تانية.

مفيش أمل؟ ولو ذرة واحدة؟

القصة دي انتهت من زمان يا صالح، انتهت يوم ما أنا خرجت من البيت ده وسافرت اسكندرية أول مرة ومن وقتها والباب ده أتقفل عليه بقفل ملوش مفتاح، نانسي متستاهلش اللي أنتَ بتعمله ده.

كان الحزن باديًا على وجه صالح ممزوجًا بالندم لكن الجرعة ازدادت حينما ذكرت ريتال نانسي ليشعر صالح بمدى حقارته وكم كان - ومازال للأسف - مغفلًا، لم يكتفي بفقدان ريتال بل يرتكب نفس الحماقات التي ستقوده إلى فقدان نانسي كذلك في نهاية المطاف.

أنتَ مش بتحبها يا صالح ولا بتحبني ويمكن كمان مقدرتش تحب خطيبتك الأولانية عارف ليه؟

علشان مش بحب نفسي. أجاب صالح بثبات شديد جعل ريتال تندهش، لم تتوقع أن تصدر منه هذه الإجابة بهذه البساطة لكن قدرته على الوصول أخيرًا إلى السبب الحقيقي يعني بداية الفرج والخطوة الأولى في مشوار تحرره من سجن عقله.

أنتَ كده فعلًا بدأت تتحسن.

كلنا محتاجين نتعالج أنا عارف وقولنا الكلام ده قبل كده، أنا بخاف عليها وعايز أحميها والتجربة اللي هي مرت بيها مكنتش لطيفة وأنتِ عارفة. لم تكن ريتال واثقة هل يتحدث عنها أم يتحدث عن نانسي فالمشاعر متشابهة في الحالتين، ابتسمت ابتسامة صغيرة وهي تُحرك رأسها يمينًا ويسارًا قبل أن تقول بهدوء شديد وكأنها تقوم بتفسير أمر صادم لطفل صغير تخشى انهياره عند هدم معتقداته الطفولية الخيالية.

دي مشاعر أخ لأخته مش شرط أبدًا تكون مشاعر حبيب لحبيبته. أمتعض وجه صالح من كلماته فكل كلمة تصدر منها بمثابة صفعة على وجهه، عقب على حديثها بسخط حقيقي مُردفًا:
مش لازم كل الناس تحب حب الروايات والأفلام الشتوية المبتذلة زيك أنتِ وتليد علشان تبقى القصة ناجحة.

أنا مجبتش سيرتي خالص، أنا شايفة إنك هتبقى بتظلمها لو دخلت معاها في علاقة يا صالح، أنتَ قلبك مش ملكك حتى ودماغك مش على وفاق معاك ونانسي محتاجة حد يغرقها حب واهتمام ويبقى مختارها بكل ذرة في كيانه وأنت كمان، أنتَ كمان تستاهل حد يحب علشانك أنتَ ويديلك كل اللي أفتقدته.

أنتِ ليه منصبة نفسك حكم علينا؟ ما تسيبينا في حالنا يا ستي، هو حد كان جيه قالك حاجة لما قررتي ترتبطي بتليد بتاعك ده؟ صاح صالح في وجهها لتنفجر ريتال ضاحكة بسخرية قبل أن تقول:.

أنتَ أكيد بتهزر مش كده؟ بجد والله؟ محدش علق خالص فعلًا لما جيت ارتبط بتليد بدليل إنك لسه بتفتح سيرة الموضوع وبتظهر إعتراضك في كل وقت ممكن لكن ده مش موضوعنا دلوقتي، أنتَ عارف كويس إني بحبكوا أنتوا الإتنين وبخاف عليكوا وإن دي مجرد نصيحة مش أكتر ولو في يوم قررتوا ترتبطوا هكون أول واحدة موجودة جنبكوا، دي كانت مجرد نصائح من أخت لأخوها.

كانت كلماته بمثابة صفعة على وجهه، أنهت جملتها ورحلت عنه تاركة إياه يقف في وحدة تامة، دمعة حبسها كثيرًا هربت من عيناه وهو يقف حائر تمامًا لقد كان حديثها لاذعًا لكنه كان حقيقي إلى درجة كبيرة وهذا أكثر ما يُخيفه.

مر الوقت سريعًا من بعد ذلك المشهد، جلس الكل على طاولة الطعام يتناولوا ما وُضع في صحونهم في صمت لا يعكره شيء سوى صوت ارتطام الملاعق والشوك بالأطباق، تجنب صالح النظر نحو ريتال تمامًا لدرجة كانت ملحوظة للكل وأولهم نانسي التي كانت تراقب أوضاعهم من بعيد خاصة بعد أن قامت بالتنصت على حديثهم قبل قليل وعلى الرغم من شعورها بالذنب لإرتكابها فعلة كتلك إلى أنها شعرت بالراحة كون ريتال قد محت صالح تمامًا من قاموسها حتى وإن لم تكن نانسي تنوي الزواج منه فهي مازالت تشعر بالسعادة لأنه لم يعد هناك أي احتمال لشيء اسمه صالح وريتال.

بعد احتساء الشاي أعلن الجد نيتهم في الرحيل لتبدأ فقرة الوداع، عاهدت ريتال جدتها سريعًا بزيارة قريبة بمجرد وصول شقيقها إلى المنزل، ساد الصمت طوال الطريق فيما عدا صوت القرآن الكريم الذي صدر من المذياع خاصة السيارة، لم يكن أيًا منهم يمتلك ولو ذرة طاقة للحديث وهو أمر متوقع بعد كل ذلك القدر من الصدمات المتتالية.

ريتال أنتِ هتيجي معانا ولا هتروحي مع بابا؟ سألت زينة لتنتبه ريتال وتعتدل في جلستها حيث كانت على وشك الغرق داخل نوم عميق لتُجيب عن والدتها قائلة:
هروح مع جدو وهجيلك الصبح إن شاء الله.

ماشي خلي بالك على نفسك وعلى جدك ويلا صحصحي كده أحنا على وصول. أومئت ريتال ب حسناً وبالفعل في غضون خمسة عشرة دقيقة تقريبًا توقف فؤاد أمام منزل جدها.

حينما عادت زينة وزوجها إلى المنزل ألقت بأغراضها على الفراش بإهمال شديد غريبٍ عليها، أقترب منها فؤاد وأمسك بكلتا يديها بحنان.

زينة، حبيبتي، أنتِ كويسة؟ سألها فؤاد بقلق حقيقي فتصرفاتها وردود أفعالها منذ أن نطق صالح بتلك المعلومة الصادمة وزينة ليست في حالتها الطبيعية وكان من اليسير على فؤاد إدراك ذلك.

مالي؟ ما أنا زي الفل أهو. أجابته من وسط ضحكاتها الهستيرية الرنانة، أقترب منها بخطوات بطيئة وبحرص وكأنه يُمسك بقطعة كريستال باهظة الثمن يخشى تلفها وقبل أن تُدرك زينة ما ينوي فعله كان قد جذبها في عناق قوي حاولت هي التملص منه وكأنها بهذه الطريقة تفر من مشاعرها ومواجهة نفسها بما حدث لكن في النهاية توقفت عن المقاومة وألقت بنفسها بين ذراعيه تاركة العنان لدموعها التي بللت كتفه ولشهقاتها التي عكرت سكون الليل.

سايبلي فلوس؟ هو ده آخري؟ طب سايبها ليه؟ تمن السنين والعشرة ولا تعويض عن كرامتي اللي بعترها في كل حتة ولا يمكن تكون بدل ضرب وإهانة ورمية الشارع زي الكلاب، كان قلبها ينزف مع كل كلمة تنطق بها والمثل لقلبه، لا يقوى على لعن عبدالرحمن الذي فارق الحياة فهو في ذمة الله لكن في الوقت ذاته لا يتحمل سماع تلك الكلمات التي تنطق بها وبداخله ازدادت رغبته في حمايتها من كل شيء يؤلمها ويُدمي قلبها.

ولا تفتكر إنها بدل للوحدة والغربة اللي سابني فيها سنين لما سافر، بيعوضني عن الأوقات اللي قضاها في حضنها وسابني أنا وبنتي من غير سند في بيت كله برد وحيطانه عالية،.

كل حاجة خلصت خلاص، أنتِ وريتال في أمان تحت رعايتي ومفيش حد هيقدر يأذيكوا تاني.

ياريتني ما قابلته ولا عرفته، ياريتني فضلت في بيت أبويا لوحدي ولا كنت اتجوزت وبهدلت نفسي وجبت بنت بهدلتها معايا لا عرفت اختار ليها أب كويس ولا عرفت أكون أم كويسة ليها،.

استغفري ربنا يا زينة، كله مقدر ومكتوب وأحنا بشر وبنختار لكن نقول الحمدلله، ربنا رزقك ببنت زي القمر وأب داعم ليكي بيحبك ولولا اللي حصل عمر علاقتك بيه ما كانت هترجع كويسة وقوية وبعدين لو مكنش كل ده حصل مكناش هنتقابل ومكنش هلاقي حب حياتي اللي هخلف منها أجمل ولد وهتبقى أحن أم على ولادنا التلاتة.

طالعته زينة بأعين مُحمرة من فرط البكاء قبل أن يكفكف هو دموعها بحنان ومن ثم يضمها في عناقٍ أكثر لطفًا وحنانًا بينما يعبث بخصلات شعرها الناعمة وهو يتمتم الآتي:
كل حاجة وحشة عدت، الحكاية القديمة خلاص خلصت بكل الحلو والوحش اللي فيها والحمدلله إن كلنا بخير حتى لو موجوعين شوية بس قادرين نقف على رجلينا وبنتحسن وأنا عمري ما هسيبك أبدًا يا زينة وهفضل جنبك لحد ما ترجعي زي زمان وأحسن كمان.

ظلت زينة تبكي بين أحضان زوجها الحنون بينما يُتمتم هو بكلمات دعم ومواساة حتى غفت بين أحضانه أخيرًا، حملها بين ذراعيه ليضعها على الفراش برفق قبل أن يطبع قبلة رقيقة على جبينها وفي داخلة عزم على التحدث إليها وإقناعها بطلب المساعدة فهي لم تتخطى بعد تلك التجربة الصعبة القاسية وعلى ما يبدو أنها غير قادرة على فعل ذلك بمفردها ودون تدخل طبي.

في صباح اليوم التالي استيقظت زينة بحيوية ونشاط لا يمت بأي صلة لم حدث في اليوم السابق، كان فؤاد قد توجه إلى عمله بالفعل أما عن فريدة فلقد حضرت خالتها لتصطحبها لقضاء اليوم معها في النادي الرياضي لذا قررت زينة الذهاب إلى منزل والدها لتناول الإفطار معه هو وريتال.

صباح الخير. أردفت زينة بحماس حينما فتح والدها الباب محاولًا إخفاء الدهشة عن وجهه.

صباح الفل يا حبيبتي أتفضلي.

معلش قلقتك من النوم؟

لا أنتِ عرفاني بصحى من بدري أنا بس لسه مخلص صلاة، خشي صحي ريتال على ما أنزل أجيب فطار علشان ناكل لقمة سوا.

متتعبش نفسك يا بابا، أنا جبت الفطار معايا هضبط بس الفول ونقعد ناكل على طول. قالت بلطف شديد جعل قلق والدها يتضاعف وقبل أن يتجه نحو حجرة ريتال وجدها تأتي من الداخل وعلى وجهها نفس أمارات التعجب.

صباح الخير يا مامتي، صباح الخير يا دود عامل أيه؟ ألقت التحية على والدتها قبل أن تجثو على ركبتيها لتعانق شقيقها الصغير.

أقعدي ألعبي معاه عقبال ما أحضر الفطار.

طلبت منها زينة لتومئ ريتال وهي تنظر نحو جدها ببعض التعجب لكنه أشار لها بأن تفعل ما طلبته والدتها، في غضون دقائق كان جميعهم يجلسون على الطاولة يتناولون طعام الفطور بينما يتحدثون في مواضيع عشوائية لا صلة لها بما دار بالأمس.

هتعملي أيه بالفلوس دي؟ سألت زينة ليحمحم والدها مُنبهًا إياها أن الوقت ليس مناسب لفتح مثل هذا الحديث خاصة وأن ريتال وافقت أخيرًا على تناول الطعام بعد محاولات كثيرًا منه.

هحط جزء منها في تبرعات مستشفى أمراض نفسية وعقلية علشان ناس أكتر تقدر تتعالج من غير تكلفة، في ناس كتير محتاجين مساعدة زيي بالضبط بس معندهمش القدرة المادية اللي تسمح لهم بحاجة زي دي وأحنا الحمدلله ربنا موسع علينا وفي فلوس أتعالج فعايزة الفرصة دي تتوفر لناس كتير غيري. صُعق الجميع من إجابة ريتال الغير متوقعة لكنها تحدثت بثبات تام وكأنها قد اتخذت ذلك القرار منذ فترة طويلة.

ربنا يجازيكِ كل خير يا حبيبتي ويصبر قلبك وينور بصيرتك يارب. أردف جدها بحنان شديد لتبتسم ريتال وقد رأت نظرة الفخر في عيناه وقبل أن تُعقب على ما قاله جدها سبقتها والدتها وهي تسألها الآتي:
وأيه تاني؟ هتشيلي الفلوس في البنك؟

بفكر أشتري عربية قديمة صغيرة، والمفروض إني ناوية أنزل تدريب في عيادة يعني هيبقى ليا مرتب صغير ثابت ومع المصروف اللي باخده ممكن أحط بنزين وأصلح فيها حاجات على مهلي.

لم تعلم زينة مما عليها أن تندهش هل رغبة ريتال في شراء سيارة أم أنها تنوي بدء العمل أو التدريب المدفوع دون أن تعرض عليها الأمر من الأساس.

عربية؟ ما فؤاد عرض عليكِ يجبلك عربية وزيرو كمان لما دخلتي الجامعة بس رفضتي.

علشان ليه أكلفه بحاجة زي دي يا ماما؟ يبقى حرام عليا يعني، وبعدين ما أنا كده كده هجيبها بس بفلوس بابا. لم يروق لزينة قط إجابة ريتال وبالطبع شعرت بالضيق الشديد لأنها نطقت بلفظة بابا مُشيرة إلى عبدالرحمن.

وهو فؤاد مش بابا برضوا؟ مش أنتِ اللي على طول بتقوليله كده؟ ولا غيرتي رأيك؟

زينة!

سيبها يا جدو تقول اللي عندها عادي، اه يا ماما بقوله يا بابا وبعتبره أبويا فعلًا بس أنا بتكلم في حاجة تانية خالص، مظنش إنك هتفهميني يا ماما فمش هتعب نفسي في الشرح، أجابت ريتال بإمتعاض واضح لكن سرعان ما ندمت على أسلوبها في الحديث لذا شرعت في الإعتذار من والدتها على الفور قبل أن تقوم بتوضيح ما تعنيه.

أنا أسفة يا ماما، بس الملخص من الموضوع ده كله؛ بابا فؤاد صرف عليا في التعليم وخروجات ولبس وشرب وكمان اشترى حاجات في جهازي وواثقة إنه هيبقى مصمم يشتري حاجات تاني فا ليه بقى أكلفه بحاجات كتير زيادة؟ ده ميراث وحقي والمبلغ مش صغير سواء الشيك اللي سابه أو الرقم اللي طلعلي من الورث نفسه.

ماشي اللي يريحك. تمتمت زينة بتملل قبل أن يسود الصمت لبرهة قبل أن تسأل بفضول لا يناسب بتاتًا الموقف، ساد الصمت لبرهة فيما عدا صوت مضغهم للطعام قبل أن يقطعه صوت زينة وهي تسأل عن الآتي:
هي الشقة بتاعتن، بتاعته، داخلة في الورث؟ شقة بيت العائلة يعني.

لا، الشقة طلعت بإسم تيتا يعني مش داخلة في الورث.

أكيد الحرباية دي هتجنن.

مالناش دعوة يا بنتي، خلينا في حالنا وفي عيشتنا الله يسهلها بقى.

انتهت ريتال من طعامها سريعًا وهربت إلى حجرتها لتجلس منفردة بنفسها فهي لم تحظى بالوقت الكافي لإستيعاب كل ما دار بالأمس بل لم يكن لديها ما يكفي من الوقت لإدراك ما حدث منذ رحيل والدها وكذلك الزيارة التي سبقته، لم تكن ريتال لتتوقع ان تكون النهاية سريعة على هذا النحو فدائمًا ما يقولون بأن الأشرار يعيشون طويلًا لذا لم تكن قط أن ما حدث كان سيحدث الآن لكن هذه مجرد خرافة على أي حال فالأعمار جميعها بيد الله ولا دخل لأي مخلوق أو لشيء آخر في هذه المسألة.

استغفر الله العظيم استغفرت ريتال وهي تحاول تشتيت عقلها بعيدًا عن تلك الأفكار التي لا داعي لها.

أمسكت بهاتفها تتصفحه لتجد أن تليد لم يتصل بها وهو أمر غير معتاد فلقد كان تليد يهاتفها يوميًا في مثل هذا الوقت ولحظات صغيرة جعلتها تُدرك أنها لا تبادر بالتحدث إليه قط فمنذ سفره تقريبًا - ليس هذه المرة فحسب - وهو من يحاول التواصل معها أولًا وهو من يبذل قصارى جهده على الدوام ليبقى الإتصال بينهم بصورة شبه يوميه على الرغم من إنشغاله الشديد.

ريتو! أيه المفاجأة الحلوة دي؟ حينما رأت ريتال سعادته والحماس في صوته الذي كان مُختلفًا بعض الشيء بسبب إصابته بالإنفلونزا وفي غضون ثوانٍ لمعت عيناه المنطفأة من التعب وكأن سماعه لصوتها فيه شفاء لروحه وكامل جسده.

عامل أيه؟

بقيت زي الفل بعد ما سمعت صوتك، أنتِ اللي عاملة أيه؟ طمنيني المقابلة مع المحامي مشيت ازاي؟ شكلك مش مبسوط.

مرهقة بس، ولا مش هجاوب على أي سؤال لأن المكالمة دي علشانك أنتَ بس، أنتَ هتتكلم وأنا هسمع كل حاجة منك.

أردفت ريتال بلطف شديد ولم يستطع تليد أن يُخفي ابتسامته فلقد اشتاق كثيرًا إلى هذه النسخة من ريتال، ذات الإبتسامة الواسعة التي تُخفي اهتمامها أسفل رداء الخجل، ريتال التي أحبته وأكترثت بأمره والتي تحملت الكثير والكثير من الصعوبات كي يجمعهم منزل دافئ ووعود صادقة والتي فقدها في وسط المعارك التي عصفت بها في الآونة الأخيرة لكن ها هي ذا تحاول إستعادة نفسها.

واخد برد واه زي ما قولتلك جربت المطعم اللي كان نفسي أجربه وأكدت عليهم مية مرة إنه حلال وشوفت الشهادة أصلًا بنفسي، وعارفة حوشت رقم كويس من مرتبي يعني الزيارة الجاية إن شاء الله ممكن نضبط حاجات في الشقة و، دواء الكحة خلص محتاج أشتري تاني،.

كان تليد يتحدث بحماس شديد وبعشوائية تليق بطفل أو مراهق، فلقد كان يحاول إخبارها بكل شيء في الوقت ذاته دون أن يُشعرها بملل أو بأنه يُطيل في الحديث، كانت ريتال تضحك على أسلوبه اللطيف وتحاول مجاراته في الحديث ولبرهة غفلت ريتال عن كل ما حدث مؤخرًا بل وكل الصعوبات التي مرت بها ولم يبقى في ذاكرتها سوى تليد والأوقات التي قضتها برفقته منذ أن تعرف إليها في المدرسة الثانوية وحتى حفل الخطبة خاصتهم وكأنها لم تمر بأيام حزينة قاسية قط.

المهم بقى إني اشتريت البدلة اللي هلبسها في فرح العيال من هنا، ومفيش أي افتكاسات جبت بدلة سوداء عادي جدًا قبل ما تتخانقي معايا وتقوليلي ليه مخلتنيش أنقي معاك.

ابتسمت ريتال حينما أدركت أن تليد قد حفظ جميع ردود أفعالها حتى أنه خمن تعليقها على أمر شراؤه البذلة دون السؤال عن رأيها.

كنت هقولك كده فعلًا لأني عايزة ألبس فستان يليق مع لون القميص أو لون الجرافتة اللي هتلبسها حضرتك.

ناوي على قميص أبيض وجرافتة سوداء، حاجة Basic خالص يعني فممكن تلبسي فستان أسود ده في حالة إن فريدة وافقت ومضربتكيش بالنار.

حضرتك دي عايزاني ألبس فستان أبيض زيها وأن اللي رافضة الحوار ده. وضحت ريتال لتنمو ابتسامة واسعة على ثغرة وهو يتخيل ريتال في ثوبها الأبيض لا الذي سترتديه في حفل زفاف فريدة وياسين بل الذي سترتديه في حفل زفافها هي!

طب ما دي فكرة حلوة ولا أنتِ قلقانة من الناس الروشة بتاعت أحنا مش عارفين مين فيكوا العروسة والجو ده؟

شكلك متابع جامد، بصراحة حابة يبقى شكلها مميز وتبقى هي الوحيدة اللي باللون ده.

كده كده هيبقى شكلها مميز وهيبقى باين إنها هي العروسة عامة براحتك واختاري اللي يريحك بس لو هي شبطانة إنك تلبسي أبيض متزعليهاش بقى على اعتبار إنها عروسة والحاجات دي.

عندك حق بس عارف لو لمحت حد لابس أبيض يوم فرحي؟ هدغدغ القاعة.

بقيتي عنيفة أوي يا ريتو، مالك شرستي ليه كده؟ ده أنا سايبك قطة مغمضة وبعدين أفرضي ماما وأختي قرروا يلبسوا أبيض؟ هتطرديهم من القاعة ولا هتضربيني بالنار ولا أيه؟

أتمنى منتضطرش نختبر حاجة زي دي.

كده كده لو الموضوع هيضايقك هطلب من الكل محدش يلبس أبيض غيرك، ده هيبقى يومك أنتِ ومش هسمح لحد يضايقك فيه.

شكرته ريتال من كل قلبها لإهتمامه بكل شيء وحرصه الشديد على سعادتها حتى بخصوص الأشياء التي لم يحين وقتها بعد، تحدثت إليه مدة تزيد عن الساعة تقريبًا قبل أن يُخبرها بأنه عليه التوجه إلى الجامعة لتُنهي ريتال المكالمة وتعاود الجلوس مع أسرتها الصغيرة.

مرت الأيام التالية سريعًا، ابتاعت ريتال سيارتها الجديدة الصغيرة وكانت في جولتها الأولى برفقة جدها للتنزه، كانت تجهيزات العرس مازالت مستمرة والضغوط تزداد نظرًا لإقتراب موعد زفاف فريدة وياسين مما يعني عودة تليد إلى مصر مرة آخرى ولقاء قريب يجمع بحبيبها، كان آلم فراق والدها ما يزال يحرق صدرها بين الحين والآخر وكلما تذكرت قسوته والذكريات المؤلمة التي تسبب فيها قامت بالتصدق عنه لعل ذلك يُطفئ نيرانها ويساعدها على إتمام السماح والغفران من ناحيتها وفي الوقت ذاته كانت تدعو الله أن يغفر له.

بدأت الحياة في الإستقرار مرة آخرى وباتت الضغوط قابلة للتحمل ولقد كان الإستمرار في جلسات العلاج النفسي هو الدعامة التي جعلت ريتال قادرة على الإستمرار وبالطبع بوجود أسرتها اللطيفة وكلمات تليد الداعمة استطاعت الإستمرار.

وفي زيارتها التالية إلى القاهرة لزيارة منزل جدتها ومقابلة شقيقها الصغير - لم يعد الأصغر - طلب من والدها تليد أن يصطحبها هي ووالدها أي فؤاد لرؤية آخر التطورات.

تعالي يا حبيبتي نورتي شقتك.

ربنا يخليك يا عمو شكرًا، كان نفسي تليد يبقى معانا وأحنا بنشوف الحاجة،.

هو طلب مني أخدكوا في زيارة ونرفع مقاسات الشقة علشان أما يرجع بالسلامة تشوفوا الحاجات اللي هتتحجز والحاجة اللي هتتعمل عمولة. وضح والد تليد لتومئ ريتال مع ابتسامة صغيرة في حين أن فؤاد لم يكن راضيًا تمامًا عن الوضع لذا طرح السؤال الآتي:
ومين هيتابع الشغل ده؟ أكيد مش ياسين اللي كلها أسبوعين تلاتة ويتجوز.

أنا هتابع الشغل لو أنا موجود في مصر ولو مش موجود فالعمال اللي بتعامل معاهم ناس مضمونة وممكن أخلي حد من قرايب تليد يتابع.

مش عارف مش حاسس إن ده أحسن حل وفي نفس الوقت مفيش مجال نفضل منتظرين تليد لما يرجع من السفر.

خلاص لو حضرتك حابب تبقى بتابع معايا أنا والعمال طول فترة تواجدك بالقاهرة مفيش أي مشكلة وعالعموم أنا في مصر لفترة وتليد كمان هينزل حوالي أسبوع.

هنحاول ننسقها مع بعض لأن مش عايزين الشغل يتكروت أو الحاجة متبقاش مضبوطة دي شقة بنتي البكرية. تحدث فؤاد بحنان شديد ولكن حديثه كان صارم في الوقت ذاته، اتسعت ابتسامة ريتال وهي تحمد الله بداخلها أن رزقها زوج أم حل محل أبيها بنجاح.

أخذت ريتال تتابع التجول داخل منزلها هي وتليد بحرص ألا تتعثر في شيء، توقفت أمام الحجرة التي من المفترض أن تكون خاصتها هي وتليد لتشعر بنبضات قلبها تزداد تلقائيًا، إنها تقف في مملكتها، منزلها وحجرتها التي ستختار كل إنشًا فيها كما تريد، ذهبت للوقوف داخل الشرفة الواسعة حينما صدر صوت رنين من هاتفها وكما توقعت لقد كان المتصل حبيبها الأول والأخير وزوجها المستقبلي.

أخبار شقتنا أيه؟

شقتنا؟ الكلمة حلوة أوي، بعد الدرس بتاعنا وال Project بتاعنا بقى في شقتنا. قالت ريتال بمزيج من الخجل والسعادة لتتسع ابتسامة تليد من الأذن للأذن وهو يقول:
كل ما بفكر في الموضوع ده ببقى عايزة أتنطط من الفرحة بس لو عملت كده الجيران ممكن يطلبوا الشرطة علشان إزعاج المواطنين وكده.

وفر الكلام ده كله لما ترجع من السفر إن شاء الله، صحيح أنتَ حجزت ولا لسه؟ حاولت ريتال تغير مجرى الحديث كي لا يبدأ في وصلة الغزل خاصته كي لا تفوتهم أمور أهم.

حجزت قبل الفرح بتلات أيام وهقعد بعد الفرح زيهم برضوا إن شاء الله.

مكنش ينفع تقعد زيادة شوية كمان؟

للأسف لا، بس إن شاء الله هحضر الحنة وآخر كام تجهيزة قبل الفرح وبعدها هقعد يومين علشان نخرج ونروح نشوف الشقة أخبارها أيه علشان لو لاقيت حاجة مش مضبوطة هطين عيشتهم.

يا ابني هو كل حاجة خناق؟ إن شاء الله كل حاجة هتبقى كويسة وبعدين الشقة هنا مش محتاجة شغل كتير أوي ما شاء الله يعني.

المهم تكون كل حاجة عجباكي ومضبوطة وبعدين متنسيش كلها سنة أو أقل إن شاء الله ونبقى عايشين في الشقة اللي حضرتك فيها دي ومعروف إننا مش بنغير ولا بنصلح أي حاجة في الشقة أو 3 4 5 6 سنين جواز كده. علق تليد ساخرًا لتقلب ريتال عيناها بتملل قبل أن تقول:
يعني لو لمبة أتحرقت هنفضل عايشين في الضلمة 3 4 5 6 سنين؟

ياستي بنوفر كهرباء، سيبك أنتِ من الكلام ده كله وركزي بقى في المذاكرة وفي التدريب اللي بتنزليه علشان الأيام اللي قبل الفرح عايزك فاضية ورايقة ومش شاغلة بالك بأي حاجة.

حاضر، أنا لازم أقفل علشان بابا بينادي عليا، خلي بالك من نفسك.

مع السلامة يا ريتو.

أنهت ريتال المكالمة وهي تتجه نحو الخارج، شعرت ريتال بمدى تحسن علاقتها بتليد منذ أن بدأت في الإهتمام به كما يفعل المثل معها، لقد أدركت كم كانت مُقصرة في حقه فمنذ ظهور تليد في حياتها وهو يقع في مشكلات وينغرس معها في المآسي ولم يكل ولم يمل يومًا ومهما فعلت ريتال لن تقدر على أن توفيه حقه وكل كلمات الشكر لن يكون لها أي معنى لكنها عاهدت نفسها أن تحرص على سعادته وأن تغدقه بالإهتمام والحب حتى آخر يوم في عمرها.

بعد أن رحلت ريتال ووالدها عن منزل المستقبلي هاتفت نانسي والتي لم تقضي معها بعض الوقت منذ مدة طويلة فأمور الميراث وما سبقها من مشكلات لم يسمح لهن بالتسكع والتحدث كالسابق، هاتفتها ريتال ترغب في مقابلتها لكنها أعتذرت منها حيث كانت قد خططت لتناول الغداء في الخارج برفقة والدها لكنها وعدت ريتال بمقابلتها في الإسكندرية في نهاية الإسبوع، كما أن اللقاءات ستكثر بطبيعة الحال بسبب اقتراب زفاف فريدة.

في طريق العودة أخذت ريتال تثرثر بالخطط التي وضعتها من أجل زفاف فريدة وحفل الحنة الذي يسبقه وكم أنها تشعر بالتوتر الشديد كما لو كان حفل زفافها هي وعلى الرغم من تفاعل فؤاد معها في الحديث إلا أن عقله كان شاردًا في مكان بعيد ولأن ريتال تحفظ ردود أفعاله استطاعت ملاحظة أنه ليس بخير.

بابا هو حضرتك كويس؟

أنا زي الفل يا حبيبتي ليه بتقولي كده؟

شكلك سرحان، متضايق أو حاجة شغلاك.

بصراحة يا ريتال، أنا بفكر أقنع زينة تروح لدكتورة نفسية، الموضوع هيفرق معاها جدًا وهي فعلًا محتاجة ده لكن أنا خايف تاخد الموضوع على أعصابها وتقولي أنتَ فاكرني مجنونة،.

دي فكرة حلوة جدًا جدًا! ماما فعلًا محتاجة تعمل كده وهي أكتر واحدة هتستفيد بالموضوع ده، التجربة اللي هي مرت بيها مش سهلة ده غير طبعًا ضغوطات الحياة والبيت وأنا وأخواتي.

لم يتوقع فؤاد أن تتحمس ريتال لفكرته إلى هذه الدرجة لكنه سعد حينما علم أن هناك من سيقدم له المساعدة ليقوم بإقناع زينة بذلك الأمر.

ياريتها يبقى عندها نفس الحماس زيك كده بس أنا للأسف متوقع إنها هترفض، أنا مش المفروض أقولك كده علشان مزودش همك بس، موضوع الميراث ده والشيك اللي سابه - الله يرحمه - لغبط دماغها ومشاعرها خالص وهي مش كويسة أبدًا من وقتها.

أنا واخدة بالي طبعًا، طيب حضرتك محاولتش تتكلم أو تلمح خالص؟

حاولت ألمح وقت ما الموضوع حصل لكن حسيتها رافضة الموضوع نهائيًا فمحبتش اضغط عليها لكن أنا شايفها بتتدبل قدام عيني كل يوم وشايف إن لازم أتكلم معاها بصراحة في الموضوع ده علشان مصلحتها.

حضرتك عندك حق وأنا كمان هتكلم معاها، بس هل ينفع نخلي الموضوع ده بعد فرح فريدة؟ أخاف نتكلم دلوقتي الموضوع يقلب خناقة وخالتو وفريدة يحسوا وفرحتهم تتكسر.

أيوا صح، طيب نأجل الكلام أسبوعين كمان مفيش مشكلة. قامت ريتال بشكر زوج أمها على دعمه وحبه الذي يقوم بإثباته بالقول والفعل في كل يوم، ساد الصمت طيلة الطريق أثناء عودتهم إلى الإسكندرية.

في الوقت ذاته كانت نانسي تجلس في مقهى في منطقة المنيل، تراقب المراكب التي تسير والأنوار التي تصدر عنها فتُنير عتمة الليل وتُثير هدوء مياه النيل، تناولت قطعة آخرى من البيتزا وأخذت تلوكها في نهم شديد قبل أن يقاطعها صوت والدها وهو يسألها سؤال غير متوقع كادت أن تبصق ما في فمها بسببه...

نانسي دكتور أدهم أخباره أيه؟

مين أدهم؟ سألت والدتها التي وافقت أخيرًا على قضاء بعض الوقت برفقة زوجها السابق وابنتها الوحيدة بعد محاولات عديدة من نانسي.

لم تُجيب نانسي عن سؤال والدها لكن اضطرابها كان واضح لوالديها حتى أنا كادت أن تبصق ما أرتشفته من مشروبها البارد، أجاب والدها عن سؤال غادة بينما بقيت عيناه على ابنته.

كان دكتور العلاج الطبيعي بتاع نانسي.

يا ستار يارب أهي أيام وراحت لحالها عايز أيه ده؟ لم تخفى حدة والدتها في الحديث عن والدها وبالطبع كان الكل قد لاحظ في فترة علاج نانسي كم أن وجنتيها تشتعل حمرة حينما تراه وكيف كان ذكر اسمه يجعل كيانها بأكمله يهتز.

ولا حاجة.

هو حضرتك شوفته ولا أيه اللي فتح السيرة؟ سألت نانسي بتوتر واضح وفي تلك اللحظة شعرت بندم شديد لتناولها الكثير من الطعام فلقد ألتوت معدتها بشكل مفاجئ.

أصله جيه عزاء عمك الله يرحمه.

ده بجد؟ سألت نانسي بدهشة شديدة فهي لم تراه ولم يحاول التحدث إليها ولم يخبرها صالح بأنه رأه أو عن وجود شخص غريب في العزاء.

اه، وبعدين طبيعي ما هو كان قاعد في قاعة الرجالة فأكيد مش هتشوفيه.

وده مين اللي عزمه؟

عزمه؟ هو فرح يا هبلة؟ أكيد شاف بوست ولا حد كاتب في حتة. وبخته والدتها بسخرية على جملتها الساذجة لتقلب نانسي عيناها بتملل قبل أن تعاود السؤال بنفاذ صبر:
أيوا شاف فين برضوا؟ ما هو أصلًا مش عندي في أي حتة.

عرف مني أنا أصله كان كلمني قبل الوفاة بيومين تلاتة واتفقنا نتقابل لكن الظرف اللي حصل خلانا نأجل الميعاد. تبادلت نانسي ووالدتها نظرات ذات مغزى قبل أن تسأل الفتاة والدها بإستنكار شديد وإنفعال واضح:
يقابلك؟ يقابلك بصفته مين ولا بخصوص أيه إن شاء الله؟

مالك منفعلة كده ليه؟ الولد نيته خير أدهم طلب إيدك. فجر والدها القنبلة لتُطالعه نانسي بثغرٍ مفتوح حاولت إخفاءه بواسطة يدها وقبل أن تنبس ببنت شفة معلقة على ذلك الخبر الصادم صعقتها والدتها وهي تعلن الآتي بكل بساطة:
أدهم ده مين؟ سيبك منه وخليكي في المهم صالح ابن عمك طلب إيدك.

هل من يفوز بيدها سينال جائزة أم ما سبب زيادة رغبة الجميع في القرب منها وليس قرب بل الزواج منها الآن؟ لقد تمنت نظرة إعجاب من صالح لسنوات وفي ليالٍ كثيرة أخذت تدعو الله أن يكون أدهم من نصيبها لكن كلا الأمنيتان لم يتحقق حينها وقد حاولت نانسي تخطي الأمريين فما لم يقسم به المولاى ليس بخيرٍ لها لكن الآن لقد تبدل كل شيء، كلاهما قرر الظهور والعودة ليتنافس الشابين على الفوز بها وهي الآن لا تدري أيهما تحتار أم هل عليها رفض العرضين والمُضي قدمًا؟

الفصل التالي
جميع الفصول
روايات الكاتب
روايات مشابهة