رواية وصال مقطوع للكاتبة إيمان عادل الفصل الرابع عشر
في صباح أو مساء اليوم التالي لم تستطع ريتال أن تُحدد فهي فقدت اتصالها بالعالم الخارجي من حولها
جلست ريتال على الأرضية وهي تشاهد والدتها وهي تُلملم أغراضها في حقيبة سفر كبير، تنهمر الدموع من عينها في هدوء وصمت بينما تستند برأسها على الحائط البارد من خلفها.
تراقب البيت ينهار ويتحطم ممزقًا قلبها لكنها لا تملك وسيلة للنجاة، ستبدأ العد من هذه اللحظة وحتى إنقضاء خمسة وسبعون يومًا حتى ينفك عنها الحصار وتعود إلى أحضان والدتها؛ والدتها التي رضخت لتهديدات والدها وظلمه وقررت رفع راية الإستسلام البيضاء والفرار من هنا تاركة ريتال وحيدة داخل كهف الضباع.
ريتال ممكن تفكري معايا لو أنا ناسية حاجة؟ همست زينة بصوتٍ بالكاد مسموع بسبب الغصة التي في حلقها وبسبب محاولتها في الحفاظ على هدوءها وعدم البكاء كي لا تنهار ريتال، صمتت الأخيرة لبعض الوقت قبل أن تُجيب والدتها بنبرة مهزوزة: نسياني يا ماما، أنتِ نسياني أنا اللي المفروض أكون معاكي مش الهدوم والشنط والجِزم،.
أنا أسفة يا ريتال حقك عليا والله، أنا هرجع تاني علشانك مش هسيبك هنا معاهم وقبل الشهرين ونص إن شاء الله هكون جيت بعد ما اتصرفت في فلوس وشقة.
أنتِ بتحلمي يا ماما بتحلمي، بابا حطلك العقدة في المنشار علشان عارف إن الكلام ده صعب يتنفذ في المدة الصغيرة دي،.
لا لا متقوليش كده، أوعدك إن كل حاجة هتبقى كويسة، صدقيني يا حبيبتي أنا بعمل كل حاجة في الدنيا دي علشانك حتى لو أنتِ مش فاهمة ده،
وأنا هحاول استناكي يا ماما هحاول، همست ريتال كي لا تسمع والدتها بينما ضمت ركبتيها إلى صدرها لعلها تشعر ببعض الأمان والدفء.
بعد مرور ساعة آخرى تقريبًا من جمع أغراض والدتها حان لحظة الوداع والتي تمنت ريتال لو توقف الزمن عندها، استقامت من جلستها على الأرضية الباردة وهي تتبع والدتها نحو الخارج بينما تسألها بإنكسار: خلاص كده؟ هتمشي دلوقتي؟
اه، صالح هيوصلني بالعربية لحد محطة القطر، أول لما أوصل عند جدك هتصل بيكي أطمنك عليا وأطمن عليكي.
كانت زينة تتحدث من وسط دموعها وهي تحمل بعد الحقائب بينما حمل صالح البعض الآخر، عانقت ريتال والدتها وهي تُردف بقهر:
ماشي يا ماما، توصلي بالسلامة إن شاء الله.
قبلت ريتال جبهة ابنتها ومنحتها عناق أخير قبل أن تدلف داخل سيارة صالح أو سيارة والده بمعنى أدق، كان عبدالرحمن يراقب ما يحدث من شرفة والدته للحظة شعر بالندم على ما حدث فرؤية ابنته في هذا الوضع جعله يشعر بقليل من الذنب لكنه سرعان ما أبعد تلك الفكرة عن رأسه فزوجته زينة أو بمعنى أدق زوجته السابقة هي من قررت هدم الأسرة ولم تحاول تقبل ما حدث أو حتى منحه فرصة آخرى!
كان يعلم أن الشروط التي وضعها لزينة غير قابلة للتطبيق في تلك المدة الزمنية القصيرة وهو يعرف جيدًا أنها إذا استطاعت توكيل محامٍ جيد ستحصل على كل حقوقها وحضانة ابنتها بالإضافة إلى النفقة كاملة لذا قام عبدالرحمن بتطبيق العنف النفسي على زينة كي يشوش عقلها ويجعلها تشعر بالضعف والقلق فتتراجع عن فكرة محاربته والحصول على حقوقها.
هو واثق تمامًا من أنها في نهاية الأمر ستضطر إلى إعلان استسلامها حينما تدرك أنها لن تستطيع العيش بدونه وبدون أمواله لأنها لن تجد عمل ومسكن جيد بالطبع وعاجلًا أم أجلًا ستأتي إلى هذا المنزل مرة آخرى وهي تطلب منه السماح والزواج منها مجددًا.
هكذا كان يعتقد هو لكنه لم يكن يعلم أن زينة لن تتراجع عن قرارها حتى وإن تطلب الأمر أن تبيع كل ما تملك من مجهورات وثياب لإعالة ابنتها الوحيدة.
قام صالح بإيصال زينة إلى محطة القطار وقد قامت غادة بالإدعاء بالحزن أثناء توديعها لم تُصدق زينة دموع التماسيح تلك فهي تعلم جيدًا أنها جاءت فقط لكي تُظهر الشماتة وهي ترى حياة زوجة شقيقها سابقًا تحترق تمامًا كخاصتها وكأنها تُعاقب الأخيرة على فشل زواجها.
صالح أنا مش هوصيك على ريتال، ريتال هتبقى أمانة عندك لحد لما أرجع، أوعى يا صالح يحصلها حاجة في غيابي، أوصت زينة صالح أثناء توديعها له والذي كان مؤثرًا للغاية نظرًا لأنها أعتنت بصالح لسنوات منذ وفاة والدته ولقد كانت تعتبر نفسها أمًا ثانية وشقيقة كبرى له والآن يتوجب عليها توديعه كما ودعت ريتال وعطر منذ وقتٍ قصير.
متقلقيش يا طنط ريتال في عينيا أنا هاخد بالي منها ولو حصل أي حاجة بعد الشر يعني هكلمك على طول، ومتقلقيش أنا هتصرف وهحاول أخليها تقابلك في السر.
تسلملي يا صالح ربنا يخليك، أشوفك على خير إن شاء الله.
إن شاء الله يا طنط. كان صالح يشعر هو كذلك بثِقل كبير على قلبه، هو يرى الظُلم بعينيه لكنه لا يقدر على فعل أي شيء سوى المراقبة من بعيد ربما دوره الوحيد هو الحفاظ على ريتال قدر المستطاع حتى تعود والدتها لأخذها هذا بالطبع إن عادت من الأساس فهو يعلم أن الطريق طويلًا وشاق وامرأة مثل زينة لم تعتد على الشقاء والتعب.
لم يعلم أحد كيف مرت تلك الليلة القاسية، لم يغمض لريتال جفن حتى بزوغ الشمس ولم تجف دموعها قط، لم تتذوق الطعام ولم تغادر حجرتها ورفضت رفض تام التحدث إلى أي شخص، أكتفت بالتمدد على سريرها وهي تسترجع في رأسها كيف كانت الحياة هادئة ومُسالمة قبل أسبوعين تقريبًا، كانت هي سعيدة برفقة والدتها تقضي وقتها بين المذاكرة والذهاب إلى النادي وبالطبع الشجار مع والدتها...
لو كانت تعلم ريتال أنها لن تتمكن من رؤية والدتها لمدة لا يعلمها إلا الله ما كانت لتُحزنها قط، ما كانت لتعترض على أي شيء تقوله والدتها ولنفذت كل ما تطلبه والدته حتى قبل أن تطلبه، كانت لتعانقها عناق طويل وكانت لتُقبل يدها ورأسها آلاف المرات...
لكن أسوء جزء في هذه الحياة هو أن القدر لا يمنحنا تحذيرًا ولا يُمهد لنا الأحداث التالية والتي قد تقلب حياتنا رأسًا على عقب، والخطأ البشري نفسه يتكرر في كل القصص، عدم تقدير ما يملكه المرء إلا حينما يفقده تمامًا، وفي ذلك الحين هو لا يملك أدنى فكرة إن كان يقدر على إستعادة ما فقده أم أن الحكم النهائي قد صدر بالفعل...
لم تكن ليلة زينة أفضل كثيرًا من خاصة ريتال، فبعد أن تركها صالح في محطة القطار استغرقت رحلتها ما يقرب من الثلاثة ساعات ونصف وبعد مغادرة محطة القطار والذي توقف في واحدة من أجمل محافظات مصر وهي الإسكندرية وتحديدًا في محطة سيدي جابر غادرت زينة المحطة وهي تحاول جاهدة حمل كل الحقائب حتى أنها اصطدمت بشخصٍ ما لم ترى وجهه لكنها أعتذرت منه على الفور وعلى ما يبدو أنه كان منشغلًا في التحدث إلى الهاتف للدرجة التي جعلته لم يرد على إعتذارها وأخذ يسير بخطوات سريعة نحو مخرج محطة القطار.
بعد مرور ساعة آخرى استطاعت زينة الوصول أخيرًا إلى منزل والدها، داخل أحدى العمارات العريقة والتي تستطيع رؤية مياه البحر اللامعة ولكن من مسافة بعيدة للغاية دلفت زينة إلى الداخل بعد أن أخبرت حارس العقار عن هويتها والذي لم يستطع إخفاء تعجبه ودهشته فهو على حسب علمه يعرف أن السيد رضوان لا يملك سوى ابنه واحدة وهي مدام زهراء ولم يكن يعلم قط أن له ابنة تُدعى زينة.
ساعدها حارس العقار في حمل الحقائب وإدخالها داخل المصعد، في تلك الأثناء كانت تتأمل زينة ذلك المبنى العتيق والذي لم يتغير كثيرًا عن المرة الأخيرة التي جاءت فيها منذ أكثر من عشرة سنوات تقريبًا حيث أن مقابلتها لوالدها كانت تقتصر على رؤيته في الخارج حينما يزور القاهرة كل سنتين تقريبًا.
كلما تحرك المصعد إلى طابق أعلى كان قلب زينة ينقبض داخل صدرها جاعلًا عملية التنفس شاقة بالنسبة إليها، هي لا تعلم بأي وجه ستقابل والدها بعد كل تلك السنوات، ماذا ستشكو إليه وقد حذرها آلاف المرات لكنها لم تكن تستمع إليه...
تُرى ماذا ستكون ردة فعله؟ هل سيتقبل خطأ ابنته ويسامحها ويفتح ذراعيه كي يُضمها في حنان أم أنه سيُغلق بابه في وجهها بلا شفقه عقابًا على أفعالها الشنيعة السابقة؟ لم يكن أمام زينة أي خيار سوى الإنتظار ورؤية ما سيحدث فالآن لم تعد هناك أي فرصة للتراجع...
شكرًا معلش تعبتك، ممكن تسيب الشنط هنا وأنا هبقى أدخلهم.
حاضر، ميلزمكيش أي خدمة تاني يا مدام؟
لا تسلم. تمتمت زينة وهي تدس في يده ورقة مالية ليأخذها منها على استحياء وهو يشكرها ثم يغادر تاركًا إياها وحيدة تطالع الباب بتوتر حقيقي...
طرقت زينة الباب بهدوء محاولة إحكام قبضة يدها والتي كانت ترتجف بقوة، غلف الصمت المكان لثوانٍ قبل أن تسمع صوت خطوات بطيئة من داخل تبعها صوت والدها الحنون الذي أشتاقت إليه وهو يقول بصوت مسموع ولكن بنبرة هادئة في الوقت ذاته:
أيوا لحظة واحدة، تحت أمرك، أردف قبل أن يُعدل من نظارته الطبية كي يرى بوضوح من الطارق.
لحظات من الصمت بينما يُطالع كلًا منهم وجه الآخر، لم ينبس والدها ببنت شفة ولم تستطع هي فتح فمها بل وجدت نفسها ترتمي بين أحضانها ووجد ذراعي والدها يحاوطانها بكل الحب والإشتياق الذي وجد في هذا الكون.
صدى شهقات زينة أحتل المكان وقد امتزج بصوت نحيب أبيها والذي كان في بداية عقده السادس، بقى الوضع على هذا الحال لمدة قصيرة قبل أن يفصل والدها العناق وهو يدعوها إلى الداخل لتومئ هي ثم تبدأ في نقل حقائبها نحو الداخل ثم ذهبت لتجلس على الأريكة إلى داخل والدها وأول ما سألها عنه فور جلوسها هو حفيدته.
ريتال مش معاكي ليه يا حبيبتي؟ اضطربت معالمها على الفور بمجرد أن سمعت سؤاله وعاودت البكاء وهي تُجيب والدها مُردفة:
خدها مني يا بابا، خدها مني وحط شروط كتير أوي ومش عارفة هقدر أنفذها وأرجع بنتي لحضني تاني ولا لا،.
طيب خلاص أهدي يا حبيبتي وإن شاء الله هنقدر نلاقي حل لكل حاجة، قومي كده ريحي شوية من السفر عقبال ما أحضر لقمة ناكلها. تمتم والدها بحنان شديد وهو يحاول ألا يضغط عليها فحالتها سيئة بدرجة كافية لذا قد رأى أنه لا بأس من تأجيل هذه المحادثة لساعة أو اثنتين.
حاضر يا بابا ربنا يخليك ليا، نبست زينة وهي تبتسم من وسط دموعها وقد استقامت من مقعدها وذهبت نحو أحدى الحجرات ولكنها توقف قبل أن تدخلها وهي تنظر نحو والدها قائلة:
بابا، ممكن تسامحني؟ ابتسم ابتسامة متألمة وهو يُشير بيده نحو الحجرة بينما يطلب منها بحزن تراكم داخله لسنوات:
ادخلي نامي يا زينة يلا، متضيعيش وقت.
حاضر،.
في مساء تلك الليلة جلست زينة تسرد لوالدها كل ما حدث في الأيام القليلة الماضية مع ذكر نبذة صغيرة عن كل المشكلات التي كانت تُعانيها في كل السنوات الماضية منذ سفر عبدالرحمن للمرة الأولى ومن ثم قراره بأن تسكن في البيت ذاته مع عائلته، كان أبيها يستمع إليها بإهتمام واضح ولكنه لم يُبدي ردة فعل على ما يقال ولقد كان هذا طبعه، فهو هادئ للغاية ظاهريًا حتى وإن كان قلبه يحترق من الداخل تمامًا مثل تلك اللحظة.
الموضوع مش محتاج محامي شاطر بس المسألة مش مستحيلة يعني، أنا هحاول أتصرف.
بس أحنا يا بابا مش هيبقى معانا فلوس تكفي نجيب محامي شاطر، أنا لازم الأول ألاقي شغل وبعدها نشوف الموضوع ده.
أنتِ مش عيشتي سنين يا زينة بتاخدي قرارات من دماغك وفي الآخر الدنيا كلها اتطربقت فوقك ومش أنتِ جيتي النهاردة علشان تطلبي مساعدة مني؟ سيبيني أتصرف أنا بقى المرة دي. كانت نبرة والدها حادة على غير العادة لكنها كانت متفهمة تمامًا لغضبه فلقد كان مُحق تمامًا.
أومئت زينة بإستسلام تام وقد عزمت على ترك زمام الإمور في يد والدها هذه المرة ليقوم بإصلاح ما خربته هي بالرغم من أنه لم يكن له ذنب في أي من ذلك لكن دوره كأب حتم عليه مساعدتها خاصة وأنها قد عادت إلى أحضانه بعد غياب لسنوات طويلة.
في الواقع ما كان يُحرك مشاعره ليست فقط مشاعر الأبوه تجاه ابنته بل شوقه لحفيدته وشعوره بالخوف عليها فهو واثق من أنها غاية في الحساسية والرقة كما كانت ابنته في مثل عمرها ومؤكد أنها تعاني الآن أضعاف ما تُعانيه ابنته...
كانت الليلة شاقة على الجميع أجل لكن الكون لا يقف على شخص أو شيء فلقد انقضى الليل وحل الصباح وقد استيقظت ريتال على صوت طرقات والدها على باب حجرتها بقوة، انتفضت من سريرها واتجهت نحو الباب لتقوم بفتحه بتكاسل شديد.
صباح الخير، فوقي كده وغيري هدومك علشان هنروح مشوار مع بعض.
مشوار أيه ده إن شاء الله؟
هنروح نجيب أخوكي ومراتي من المطار. فسر والدها بجدية تامة لتنفجر ريتال ضاحكة بمرارة قبل أن تُعقب على حديثه قائلة:
هو أنتَ بجد دماغك صورتلك إن أنا هوافق على حاجة زي دي؟
أنا مش باخد رأيك على فكرة أنا بعرفك بس، لم تنتظر ريتال أن يُكمل حديثه حيث تركته واقفًا واتجهت نحو غرفتها لكن قبل أن تصل إليها جذبها والدها من ذراعها بقوة وهو يصيح:
لما أكلمك متسبنيش وتمشي يا بت أنتِ!
حاسب يا بابا دراعي، صرخت بها ريتال وهي تحاول أن تُفلت من قبضته ليُرخيها فجاءة فيصطدم جسدها بالطاولة القريبة من حجرتها، كانت تنوي الإختباء في حجرتها لكنه أوقفها وهو يُردف:
هاتي موبايلك.
ليه أنا عملت أيه لكل ده؟
بقولك هاتي الزفت! صاح بعنف شديد لتنتفض ريتال وهي تشعر بالدموع تتجمع في عيناها، هي لم تسمع نبرة والدها تلك من قبل ولم ترى تجهم وجهه لهذه الدرجة كذلك.
لم يكن أمامها خيارٍ آخر سوى تنفيذ أمره لكي تأمن سخطه وبالفعل منحته الهاتف وقد ظنت أنه سيقوم بتفتيشه لكنه لم يفعل بل أخذه ببساطة ووضعه في أحد جيوبه ثم أردف بهدوء:
أدخلي أوضتك لو عايزة صحيح هتلاقي جوا على المكتب عندك الأدوية علشان الجرح اللي في رأسك لو معرفتيش تغيري البلاستر نادي عليا، أما بالنسبة بقى للموبايل هيفضل معايا لحد لما أبقى أخد قرار هعمل أيه.
أومئت ريتال بخوف بينما مازال جسدها يرتجف من أثر ما حدث وبمجرد أن سمح لها بالرحيل هرولت إلى حجرتها وأوصدت الباب من الداخل، ألقت بجسدها الهزيل على السرير لتُطلق العنان لعبراتها التي بللت وسادتها ولقد استمرت على هذا الحال لبضعة دقائق قبل أن تغادر سريرها بحثًا عن تلك الآلة الحادة التي ألقتها في مكانٍ ما في وقت إنهيارها الأخير.
قطرة دافئة ذات لون أحمر صارخ تلامس الأرضية الباردة، تتبعها واحدة آخرى وآخرى، لامست دموعها معصمها الملوث بذلك السائل اللزج، طرقات عنيفة على باب حجرتها جعلتها تنتفض من مجلسها وهي تهرول بحثًا عن مناديل ورقية علها تقوم بإخفاء فعلتها الشنعاء تلك، لم تكن جروحها عميقة لكن عمقها كان كافي لجعل الدماء تتساقط من معصمها.
ريتال أنا رايح المطار، متأكدة إنك مش عايزة تيجي معايا؟
مش عايزة أروح في حتة.
خلاص على راحتك أنا عامة مش هتأخر مسافة السكة لو جعانة عمتك عملت أكل وسابته جوا في المطبخ، ياريت تحاولي تضبطي أي حاجة مكركبة في الشقة علشان لما مراتي تيجي تلاقي المكان حلو ونضيف.
أعلن عن ما ينوي فعله وقد كانت ريتال تستمع إليه بنصف انتباه فلقد كانت تبحث عن شيء تُطهر به يدها خشية أن تُصاب بالتسمم ولكن أخرجها من شرودها طلب أبيها والذي استفز كل ذرة في كيانها لتقترب من الباب وتفتحه بحركة سريعة لتقابل جسد أبيها الذي فاقها في الطول والحجم بالرغم من أنه لم يكن ضخمًا لكن حجمه كان يفوقها نظرًا لضعف جسدها.
أنا مش خدامة عند حد ومش هعمل حاجة في الشقة وبعدين ماما أساسًا سايبة المكان زي الفل لو هي معترضة أو مش عاجبها بقى تشوفلها حتة تانية تعيش فيها.
يعني أنتِ ناوية تبدأيها بقلة أدب مش كده؟ طب أسمعي بقى يا ريتال الدلع بتاع زينة ده تمحيه من دماغك خالص! صاح والدها في وجهها موبخًا إياها لترمش ريتال عدة مرات برعب وفي اللحظة ذاتها يجذبها والدها من ذراعها بقوة وهو يتابع إعلان قوانينه التي فُرضت عليها قهرًا وظلمًا:.
الكلمة في البيت ده كلمتي أنا الأول وبعدها تيجي كلمة مراتي ومن هنا بقى لحد ما أمك تيجي تاخدك مش هتقولي حاجة غير حاضر ونعم، ولو فتحتي بوقك بكلمة غير دول مش هيبقى ليكي عندي غير الجزمة أنتِ سامعة؟
انهمرت دموع ريتال وهي تسمع ما يقوله والدها غير مُصدقة لمدى بشاعته، لقد أصبح بتلك البشاعة ولم تأتي زوجته إلى هنا بعد فماذا عساه يفعل بها حينما تأتي؟ كان هذا السؤال يجول في خاطرها حتى نسيت أن تُجيب والدها ليُحكم قبضته على ذراعها فتتأوه وهي تنبس بضعف:
حاضر يا بابا حاضر،.
برا?و عليكي يا حبيبة بابا، يلا بقى روحي أغسلي وشك كده وألبسي بيچاما نضيفة علشان تستقبلي أخوكي ومامتك التانية. اضطرت ريتال أن تومئ ب حسنًا حتى لا يدعها وشأنها وبالفعل تركها والدها وذهب ليرتدي الحذاء إستعدادًا للخروج.
بمجرد أن أغلق الباب تنفست ريتال الصعداء ولقد كانت فكرة واحدة فقط تدور في بالها؛ عليها الهرب من هذا المنزل بأي طريقة ممكنة...
هي لا تملك مكان للذهاب إليه ولا تملك قدر كافي من المال لكن ما تعرفه جيدًا هو أنها لن تقدر على تحمل هذا الوضع لأكثر من شهر، لكن للأسف الشديد دمر والدها ذلك الحلم في الدقيقة ذاتها حينما قام بإحكام غلق الباب بواسطة المفتاح لكي يمنعها حتى من النزول إلى جدتها وكأنه علم ما تفكر فيه...
يارب هون الأيام دي عليا، همست بها ريتال بإنكسار من وسط دموعها قبل أن تكفكفها وتذهب لتنفيذ ما طلبه منها والدها قبل مغادرته.
بعد ساعتين تقريبًا عاد سمعت ريتال صوت طرقات على باب المنزل متبوعًا بصوت ضحكات طفولية، ازدردت ريتال ما في حلقها وهي تقترب من الباب بخطوات بطيئة للغاية وبمجرد أن فتحت الباب رأت عطر تقف أمام الباب وهي تُمسك في يدها طفل صغير لم يتجاوز يتراوح عمره بين الثالثة أو الرابعة تقريبًا لم تعلم ريتال.
أخذت تتأمل ريتال هيئته اللطيفة دون إرادة منها، حيث كان يمتلك بشرة حنطية زُينت بزوج من الأعين البنية الواسعة الزاهية ومن تلك الإبتسامة المميزة التي يمتلكها علمت ريتال على الفور أنه شقيقها وذلك لأن والدها يملك الإبتسامة ذاتها وعلى الأرجح قد ورث الطفل تلك العيون من والدته.
عمو بيقولك انزلي تحت عند تيته علشان تسلمي على طنط سالي.
هي اسمها سالي؟ سألت ريتال بإستنكار وبصوتٍ منخفض وهي تومئ لعطر وهي تتحاشى النظر مرة آخرى نحو ذلك الطفل الصغير والذي لم يتحدث إليها بتاتًا بل أخذ يتأمل المكان من خلال المساحة المرئية التي ظهرت حينما فتحت ريتال الباب.
في غضون دقيقتين تقريبًا كانت ريتال قد ارتدت وشاح الرأس خاصتها وتوجهت إلى الطابق السفلي، كانت قد فكرت في عدم الإمتثال لأوامر والدها عن طريق رفض طلبه في التوجه إلى شقة جدتها لكنها كانت تعلم أن العواقب ستكون وخيمة وأنه لا يوجد أي شخص هنا يستطيع حمايتها منه.
سلام عليكم. بصوت مهزوز ألقت ريتال التحية بمجرد أن دلفت إلى الداخل، كان يتقدمها عطر وذلك الطفل والذي هرول نحو أمه، تلك الشابة والتي تبدو في نهاية العشرينيات أو بداية الثلاثينيات من عمرها، اشمئزت ريتال لفكرة أن والدها يكبر تلك المرأة بما يقرب من العشرة سنوات وربما يزيد عن ذلك!
تعالي يا ريتال سلمي على طنط سالي مراتي.
تمتم والد ريتال بنبرة مُستفزة وهو يبتسم ابتسامة سمجة لتُطالعه والدته أي جدة ريتال بنظرات حارقة، فهي لم يروق لها الوضع بتاتًا ولم تستطع أن تهضم تلك الفتاة التي تزوجها ابنها واستبدلها بزينة.
لا طنط أيه بس يا عبدالرحمن ده أنا وريتال من سن بعض خليها تقولي يا سالي أو يا سو. أردفت زوجة عبدالرحمن بنبرة لعوب وهي تقهقه بمبالغة لتطالعها ريتال بإشمئزاز لكنها لم تملك القدرة على التعقيب على جملتها.
لحسن الحظ أن صالح كان هناك ليرد بدلًا عنها حيث قام بالسخرية من زوجة عمه عن طريق التعليق على شيء يكره أغلب النساء التحدث عنه أو ذكره وهو ذكر عمرهن.
ريتال مين اللي من سنك؟ ليه شايفة ريتال في نص التلاتينات ولا أيه؟
نص تلاتينات أيه يا أمور؟ أنا عندي 28 سنة بس وبعدين ده أنا شكلي أصغر بكتير من ست ريتال بتاعتك دي. كان الغضب واضحًا في نبرتها لقد استطاع صالح أن يصل إلى مراده لكنه لم يكتفِ بذلك بل عقب على جملتها ساخرًا:
ما شاء الله يعني أنتِ معترفة إنك بتتصابي أهو، على العموم مهما حاولتي فرق السن واضح.
ما تخليك في حالك يا صالح وملكش دعوة ولا بمراتي ولا ببنتي.
مراتك أنتَ حر فيها، بنتك دي تبقى بنت عمي وفي مقام أختي وأكتر من أختي كمان وطنط زينة سايباها أمانة في رقابتي وأنا متربتش أخون الأمانة وعلشان نكون على نور بس أنا مش هسمح لأي حد أيًا كان مين يزعل ريتال أو يجي عليها.
ولو زعلناها هتعمل أيه يعني يا عم البطل الخارق هتزعقلنا ولا هتضربنا؟ سألت سالي بإستهزاء وهي تُدافع عن نفسها وعن زوجها الذي جلس عاجزًا عن الرد على قول ابن أخيه.
صك صالح فكيه بغيظ من نبرتها تلك لبرهة قبل أن يتحدث بنبرة واثقة لا تخلو من التحدي مُردفًا:
جربي وهتشوفي.
أنا بقول كفاية لحد كده يا عبدالرحمن وتاخد بقى مراتك وعيالك وتطلع على فوق.
حاضر يا أمي، يلا بينا على شقتنا. سبقتهم ريتال نحو الأعلى وقد دلفت إلى الداخل دون أن تغلق الباب من خلفها، كانت تنوي الإختباء في حجرتها كما كانت تفعل طوال الأيام السابقة لكن أوقفها صوت زوجة أبيها الكريه وهي تقول:
مش هتسلمي على أخوكي يا ريتال؟ ده يوسف حتى مبسوط أوي إنكوا هتعيشوا مع بعض.
بصي يا طنط أنا مليش أخوات أنا وحيدة ماما، ابنك أنا مليش دعوة بيه مبسوط زعلان ده شيء ميهمنيش لأنه بالنسبالي ولا حاجة! صاحت ريتال في وجهها بحنق شديد وكأنها قررت أن تصب غضبها وضيقها على تلك الواقفة أمامها.
اضطربت معالم شقيقها وهو يستمع إلى صراخها دون أن يُدرك مغزى الحوار الذي يدور لكنه شعر بأن ريتال تهدده هو ووالدته، أمتلئت عيناه بالدموع على الفور لتشعر ريتال بالذنب لثوانٍ لكنها سرعان ما تحول ذلك الشعور للخوف حينما رأت والدها يأتي من الخارج والإستياء باديًا على وجهه.
أنتِ صوتك عالي ليه يا بت أنتِ؟
مفيش حاجة يا بابا.
مفيش حاجة ازاي طالما أنتِ شجاعة وحلوة كده قولي لباباكي كنتِ بتقولي أيه من شوية وخليتي أخوكي يعيط.
عملتي أيه يا ريتال؟
معملتش حاجة يا بابا معملتش حاجة! أردفت ريتال بنبرة أقرب إلى الصياح وقد كانت على حافة البكاء لكنها حاولت منع نفسها كي لا تبدو ضعيفة أمام تلك المرأة.
طيب يا ريتال، أدخلي أوضتك دلوقتي وأقعدي ذاكري ومتطلعيش منها غير لما اطلب منك. نقذت ريتال ما قاله والدها على الفور دون جدال فهي تود الجلوس في حجرتها على أي حال.
زفرت ريتال براحة فور دخولها مملكتها الخاصة وهي تُفكر في طريقة للتواصل مع والدتها دون علم والدها لكنها لم تعرف كيف ستفعل ذلك وقد سُحب منها الهاتف خاصتها، ربما تجد الحل عند صالح فلقد وعد والدتها بأنه سيبقيها على تواصل معها.
في تلك الأثناء كانت زينة تقوم بتجهيز وجبة الغداء من أجلها هي ووالدها بعد أن أصرت عليه أن تقوم بتحضير الطعام بنفسها، كان والدها يراقب كل حركة تقوم بها بإشتياق وحب شديد حتى وإن كان مازال غاضبًا منها إلا أن حبه لها شعور الأبوة كان يفوق أي غضب وخذلان...
زينة هو أنتِ كلمتي زهراء أختك تعرفيها أنك هنا وهتقعدي معايا؟ شعرت زينة بغصة في حلقها حينما سألها والدها عن شقيقتها فهي تشعر بالتقصير الشديد تجاهها، أخذت زينة نفس عميق قبل أن تُجيب على سؤاله قائلة:
لا لسه، حضرتك عارف يا بابا إنها زعلانة مني وأحنا بقالنا كتير متكلمناش يعني آخرنا كنا بنبعت رسالة أو اتنين لبعض،.
اه ما أنا عارف، أنتِ مزعلة ناس كتير أوي يا زينة خدي بالك وأول وأهم زعلتيه هو نفسك يا بنتي، على العموم بنتها الكبيرة بتيجي تبات معايا هنا كل يوم خميس وجمعة بتيجي على هنا بعد الجامعة.
هي بقت في سنة كام؟ أولى كلية مش كده؟
تانية طب أسنان يا حبيبتي. شعور الذنب تفاقم حينما أدركت أنها حتى لا تعرف في أي عام دارسي تكون ابنة شقيقتها الكبرى، ابتسمت زينة ابتسامة مزيفة وهي تُردف بقليل من الحرج:
اه صح هي أكبر من ريتال بحوالي 3 سنين مش عارفة ازاي محسبتش صح.
على أساس يعني إن دي الحاجة الوحيدة اللي محسبتيهاش صح؟ سخر منها والدها وإن كانت نبرته جادة تمامًا.
هو لم يقصد أن يُزيد من حزنها أو همها لكنه شعر بأن عليه صفع الحقائق في وجه ابنته حتى وإن كانت تلك الطريقة قاسية قليلًا إلا أن هذا كان الحل الأمثل في حالة زينة والتي عاشت سنوات من الوهم لأنه لم تستطع مواجهة الحقيقة من حولها فقط لأنها مؤلمة ومؤذية والآن حان وقت الإصطدام بالواقع.
على رأيك يا بابا والله، على العموم أنا هكلمها ونتقابل وكده كمان أنا محتاجة انزل بقى أدور على شغل في أي مكان.
تنزلي تدوري؟ أنتِ عايشة في العصر الحجري يا زينة ده أنا اللي كبير ودقة قديمة بقى عندي فيس بوك واتحطيت في مجاميع على الواتساب، الأسهل والأسرع إنك تشوفي منشورات الوظائف إلى على النت هتلاقيهم عاملين صفحة وظائف للناس هنا. لم تستطع زينة أن تمنع نفسها من الضحك بقوة، لقد كانت مصطلحات والدها العربية غير مألوفة على أذنها لكنه كان محق ولكن أكثر ما كان يُضحكها هو أسلوبه الساخر والذي لم يتغير على مر السنين.
حاضر يا بابا هدور على النت الفكرة بس إني مش عارفة المفروض اشتغل أيه؟ أكيد يعني حضرتك عارف إني مكملتش في الجامعة علشان كنت حامل يعني بإختصار مش معايا تعليم عالي.
الوظائف كتير وفي أماكن ممكن توافق بس طبعًا المرتب والمعاملة هيبقوا غير.
معنديش مشكلة بس، حضرتك عارف برضوا إن أنا سني كبير ومعنديش خبرة في حاجة مفيش حد هيرضى يشغلني، لقد كانت زينة محقة ولقد كان عبدالرحمن يعلم ذلك جيدًا حينما وضعها في ذلك المأزق لأنه كان على ثقة تامة من أنها لن تجد وظيفة بسهولة فمن سيقوم بتوظيف سيدة في نهاية عقدها الثالث ولم تُكمل تعليمها الجامعي؟ كما أنها لا تملك أي خبرة في أي مجال.
كان والدها يُفكر في الوقت ذاته بالحلول المتاحة، هو يملك الكثير من العلاقات الجيدة هنا لكن هل تلك العلاقات كافية كي يقوم أحدًا بتعيين ابنته؟
بصي هو في واحد كان زميلي في المدرسة المدام بتاعته عندها حضانة في حتة مش بعيد عن هنا، أنا يعني ممكن أكلمه وأسئله لو ينفع تتعيني هناك مدرسة عربي وحساب مثلًا، أو إنجليزي أنا فاكر إن نطقك كان حلو.
ياريت يا بابا دي تبقى فرصة حلوة أوي وهاخد أي مرتب مش فارقة معايا.
على البركة، أنا بكرة إن شاء الله هبقى أعدي عليه بليل كده في القهوة اللي بنقعد عليها سوى وهقولك
قالي أيه.
تمام يا حبيبي، ربنا يخليك ليا يا بابا متحرمش منك يارب،.
مر اليوم ببطء شديد حيث كان عقل زينة منشغلًا بشيء واحد وهو ابنتها، حاولت زينة مهاتفتها أكثر من مرة لكنها لم تُجيب وقد تسرب القلق إلى قلبها.
هاتفت صالح والذي أخبرها أن كل شيء على ما يرام وأنه على الأرجح قرر عبدالرحمن أخذ هاتفها منها لأنه لم يراه بحوزتها أثناء تناولهم للغداء وفي النهاية وعدها صالح بأنه سيجعلها تتحدث إلى ريتال بالغد دون علم والدها كما أنه لم يذكر أي شيء عن حضور زوجة عمه الجديدة حتى لا يُحزن قلب زينة أكثر...
في تمام الساعة العاشرة وأثناء استعداد ريتال للنوم سمعت اسمها يُنادى بصوت والدها، غادرت الحجرة بتملل وهي تنتظر سماع المزيد من الأوامر.
ريتال خدي أخوكي ينام جنبك بقى مؤقتًا لحد ما نشوف هنجبله سرير في أوضتك ولا هشيل المكتب والحاجة وأعمل أوضة المكتب أوضة ليه.
نعم؟ أنا مش هنيم حد جنبي أنا يروح ينام جنب مامته أنا مليش دعوة. أبدت اعتراضها بغضب شديد فهي لم تتوقع بتاتًا أن يطلب والدها طلبًا كهذا، كانت تنتظر ردًا من والدها لكن زوجته أجابته بدلًا منه مُردفة:
لا ينام جنب مامته أيه خليه جنبك هو مش أنتِ أخته برضوا؟ وبعدين ده بيفضل يقلق طول الليل ويعيط وأنا بصراحة عندي صداع ولسه راجعة من السفر ومحتاجة ارتاح.
أيوا أنا ذنبي أيه مش فاهمة هو ابني ولا ابنك؟
ما تتكلمي عدل يا بت أنتِ! وبعدين مش عاجبك خدي هدومك وانزلي باتي تحت عند جدتك مش ناقصة وجع دماغ.
لا لا يا بودي متعصبش نفسك كده وبعدين يعني مينفعش تزعق لريتال قدامي كده بتحرجها.
ماشي يا بابا أنا نازلة أنام عند تيته تحت. أعلنت ريتال وهي تتجه نحو حجرتها كي تبحث عن منامة وما تحتاجه من أغراض قبل أن تتجه للأسفل لكن قبل أن تفعل ذلك أقتربت سالي من أذن عبدالرحمن وهي توسوس له بنبرتها اللعوب:.
كده غلط يا بودي، مينفعش تسيب ريتال تقرب من جدتها لأنها كده ممكن تشتكيلها منك وبعدها بقى مامتك تفضل تتخانق معانا كل شوية وتعملنا مشاكل الأحسن ريتال تفضل هنا تحت علشان تعرف تمشي كلمتك عليها.
صح يا حبيبتي، أنتِ عندك حق بس أنا خلاص يعني قولتلها تنزل تحت أعمل أيه دلوقتي؟
استنى أنا هتصرف، تعالي يا ريتال يا حبيبتي متزعليش خلاص أنا هاخد يوسف ينام جنبي أنا وباباكي وأنتِ نامي في أوضتك براحتك.
ضمت ريتال حاجبيها بتعجب، كيف لتلك المرأة أن تُغير طريقتها ونبرتها بهذه السهولة؟ وما هو سبب التراجع عن قرارها في غضون ثلاثة دقائق تقريبًا؟
لم تشعر ريتال بالراحة قط لكنها لم تملك شيء سوى الإيماء ب حسنًا والعودة إلى حجرتها مرة آخرى وقد قامت بغلق الباب بواسطة المفتاح متجاهلة أمر والدها بعدم إغلاق الباب.
في صباح اليوم التالي استيقظت ريتال باكرًا على صوت المنبه خاصتها، ذهبت للتوضأ ثم بدلت ثيابها سريعًا إلى ثياب المدرسة، استطاعت تأدية كل تقوس الصباح في هدوء تام نظرًا لأنها الوحيدة المستيقظة في مثل هذا الوقت وبينما كانت على وشك وضع طعامها في حقيبتها صدر صوت مُزعج في الغالب ناتج عن محاولة فاشلة لفتح باب غرفة أبيها وبعد تكرار المحاولة ظهر ذلك الكائن الصغير؛ شقيقها.
عايز أيه؟ أيه اللي صحاك دلوقتي؟ سألته بضيق شديد ليطالعها ببعض الرهبة وهو يُشير نحو زجاجة المياه الموضوعة أعلى الطاولة، تنهدت ريتال وهي تستغفر ربها بصوتٍ غير مسموع قبل أن تذهب إلى المطبخ لتحضر كوبًا بلاستيكيًا صغير من أجله.
اتفضل.
شكرًا. شكرها الفتى بأدب لم تتوقعه هي وقد كان واضحًا من نبرته شعوره بالخوف منها لكنها لم تكن في مزاج جيد لمحاولة إصلاح أمرًا كهذا.
بقولك أيه أنا نازلة ادخل نام جنب مامتك بقى. أومئ لها الفتى ب حسنًا وركض نحو الغرفة لتزفر براحة وهي تحمل حقيبتها متوجهة نحو الخارج.
قابلت نانسي وعطر أمام المنزل في انتظار الحافلة، ألقت ريتال التحية على عطر فقط متجاهلة وجود نانسي والتي رمقتها بإشمئزاز دون التفوه بكلمة، في غضون خمسة دقائق كانت ريتال داخل الحافلة.
جلست إلى جانب الشرفة تطالع الطريق بشرود تام، كانت تشعر بتوتر أكبر بكثير من الذي شعرت به في يومها الأول في المدرسة فتلك الجروح التي تسبب بها الموقف الأخير بالمدرسة لم تُشفى بعد، لا تعلم كيف ستقدر على النظر إلى أعين زملائها بعد أن علم الجميع بما حدث بين والديها بل وتعرضت للإغماء بعد مشهد البكاء الدرامي أمام الجميع، كم كانت ترى نفسها مثيرة للشفقة...
يلا يا ريتال ننزل.
حاضر يا توتو يلا. أمسكت ريتال بيد عطر وهي تساعدها على النزول من الحافلة، ودعتها ريتال ثم توجهت إلى صفها بخطوات بطيئة وبمجرد أن دلفت إلى الداخل شعرت أن كل الأعين تُطالعها بفضول، اضطربت معالمها قليلًا وهي تذهب للجلوس بجانب حنين بينما جلست عالية أمامهم.
عاملة أيه دلوقتي؟
الحمدلله بقيت أحسن، معلش معرفتش أرد على حد خالص الأيام اللي فاتت وأصلًا بابا سحب مني التليفون بتاعي،.
متضايقيش نفسك أحنا كتبنا كل حاجة أخدناها الكام يوم اللي فاتوا وهنذاكرلك في الفسحة فكي وروقي كده.
ربنا يخليكوا يا حبايبي تسلمولي.
محدش يكلمني في اليوم اللي زي ال، صدرت هذه العبارة بصوت تليد وهو يقتحم الصف بطريقته الدرامية المُعتادة وكاد أن يُكمل جملته بغضب لكن حينما وقعت عيناه على ريتال عدل من جملتها على الفور قائلًا:.
زي العسل، يومكوا اللي زي العسل ده! لم تقدر ريتال على منع نفسها من الضحك وبالرغم من أنها لم تكن في حالة مزاجية جيدة إلا أن جملة تليد وبالطبع طريقته المميزة تلك جعلتها تقهقه بعد أن صُبغت وجنتيها باللون الأحمر.
على فكرة تليد كان بيسأل عليكي كل يوم وقرفنا في عيشتنا وحاولنا نقنعه إننا منعرفش عنك حاجة خالص مكنش مصدق. كان تليد يستمع إلى الحوار الدائر بينهم لكنه كان يحاول إخفاء ذلك، ابتسامة صغيرة نمت على ثغر ريتال وهي تستمع لعالية لكنها لم تنبس ببنت شفة.
خلاص بقى يا عالية كفاية رغي ما أنتِ شايفة إن ريتال تعبانة متاكليش دماغها بقى.
صح أنتِ عندك حق. ساد الصمت بعد ذلك بسبب دخول المُعلم، كان اليوم يسير ببطء شديد لكن ريتال لم تمانع ذلك فهي لم ترغب في العودة إلى المنزل.
تحدث عدة معلمين إلى ريتال ليمنحوها بعض الدعم بعد أن علموا بما حدث وبالرغم من أنهم كانوا يظنون أن ذلك سيرفع من روحها المعنوية إلا أن ذلك جعلها تشعر بالمزيد من الحرج والحزن...
في نهاية اليوم الدراسي وقبل أن تصعد ريتال إلى الحافلة لمحت تليد يقف مع أصدقائه ولكن بمجرد أن رأها ابتعد عنهم على الفور وتوجه نحوها، ابتسمت بتوتر وهي لا تدرِ ماذا تقول فلقد كانت تنوي التحدث إليه لتشكره على دفاعه عنها كما أخبرتها عالية ولأنه كذلك منع رأسها من الإصطدام بالأرضية.
أنا كنت، يعني عايزة أشكرك علشان لحقتني يوم ما تعبت وكمان هما قالولي أنك اتخانقت مع چودي ونانسي علشاني، أنا برضوا بقول هي نانسي مش بتتكلم معايا ليه؟ طلعت أنتَ محذرها،.
أردفت بتوتر وهي تضحك ضحكات عشوائية بينما وقف تليد يستمع إليها بصمت قبل أن يسألها بجدية:
أنتِ كويسة؟ كان سؤاله غير متوقعة بالنسبة إليها ولسبب ما جعلها ذلك السؤال ترغب في إطلاق العنان لدموعها وشهقاتها، حاولت جاهدة منع نفسها من ذلك لكنها حينما أرادت أن تُجيبه شعرت بغصة في حلقها منعتها من التحدث وقد أمتلئت عيناها بالدموع...
أنا لازم أمشي الباص هيفوتني، أردفت ريتال بإنكسار وهي تتحاشى النظر إلى تليد قبل أن تتركه وحيدًا وتتجه نحو الحافلة، وقف يراقبها لبرهة وهو يبتسم ابتسامة حزينة، ربما لم تكن في أفضل حال نفسيًا لكن على الأقل لقد اطمئن عليها لأنه لن يقدر على التحدث بصيغة مؤنثة مرة آخرى وإرسال رسالة إلى المعلمة لكي يطمئن على صحتها.
في ذلك الوقت كان جد ريتال أي والد زينة يبحث عن صديقه في المقهى كي يسأله عن إمكانية عمل ابنته وبالفعل قابله وقد رحب صديقه بالفكرة للغاية حيث أنه يثق في رضوان صديقه لكنه طلب منه أن يمهله يومان لكي يستشير زوجته في الأمر.
كان يسير في السوق ليبتاع ما يحتاجه المنزل وهو يسترجع بذاكرته الفواكه المفضلة عند ابنته كي يبتاعها وبينما يفعل ذلك اصطدم بشابة عن طريق الخطأ، أعتذر منها على الفور وكاد أن يُكمل طريقه لكن أوقفه صوتها وهي تُردف:
مستر رضوان؟
حضرتك تعرفيني؟
مستر رضوان هو حضرتك مش فاكرني؟ أنا كنت طالبة عند حضرتك في ثانوي أول لما حضرتك نقلت من القاهرة لهنا.
أهلًا وسهلًا يا بنتي معلش بقى العتب على النظر وده كان من سنين كتير أنتِ عارفة. أجابها بخجل شديد وهو ينظر إلى الأرض متجنبًا النظر إليها.
لا ولا يهم حضرتك خالص على فكرة أنا حققت حلمي زي ما كنت بقول لحضرتك وبقيت محامية شاطرة وبقيت بمسك قضايا كبيرة الحمدلله.
بسم الله ما شاء الله، اللهم بارك ربنا يحميكي ويزيدك من فضله.
يارب اللهم آمين شكرًا لحضرتك يا مستر، طيب أنا معلش لازم أمشي ضروري ده الكارت بتاعي لو لا قدر الله احتجت أي استشارة قانونية أو محامي أنا هيكون ليا الشرف أخدم أستاذتي.
منحته البطاقة خاصته وودعته ثم رحلت على الفور، وقف رضوان في دهشة من الموقف بأكمله، فكيف جعله القدر يجد محامية لأبنته قبل حتى أن يشرع في البحث عن واحدة؟