قصص و روايات - قصص رومانسية :

رواية وصال مقطوع للكاتبة إيمان عادل الفصل الخامس عشر

رواية وصال مقطوع للكاتبة إيمان عادل الفصل الخامس عشر

رواية وصال مقطوع للكاتبة إيمان عادل الفصل الخامس عشر

عادت ريتال إلى المنزل بعد انتهاء دوامها المدرسي وكم كانت تتمنى أن تمضي ما تبقى من يومها هناك بدلًا من العودة إلى المنزل إن كان هذا منزلها من الأساس، توجهت ريتال مباشرة إلى جدتها لترحب بها ترحيب لم تشهده ريتال من قبل وبالرغم من أن ذلك جعلها تشعر بالسعادة لوهلة إلا أنها أدركت أنه سيتم معاملتها معاملة خاصة بسبب الظرف الذي وضعت فيه قسًرا كما يحدث مع نانسي...

لم يروق ذلك لريتال بتاتًا فهي ليست بحاجة إلى الشفقة كما أنها لا تريد أن توضع في خانة واحدة مع نانسي، لقد أعتقدت ريتال على الدوام أن البشر الذين يتشاركون الجرح نفسه ينشأ بينهم نوعًا من الأولفة والتفاهم لأنهم مروا بتجربة مشابهة وآلم مشابه لكن ذلك لم ينطبق عليها هي ونانسي مطلقًا.
حبيبة تيته أنا حضرتلك حاجة خفيفة كده تاكليها على ما الغداء يستوي.

شكرًا يا تيته تسلم إيدك. تمتمت ريتال بقليل من الحرج وهي تتناول الصحن من يد جدتها، بالطبع لم تنفك جدتها على التأكيد على أن تُنهي ما وُضع في صحنها لأن جدتها لاحظت أن معدل تناولها للطعام يقل مع مرور الوقت.
تيته أنا هطلع بقى علشان أغير هدومي وأرتاح شوية.

طيب أيه رأيك تغيري وتنزلي تنامي في أوضتي يعني بدل ما تقعدي مع مرات أبوكي فوق.
أنا هقفل باب أوضتي عليا يا تيته متقلقيش. أومئت جدة ريتال بإستسلام لتمنحها ريتال ابتسامة صغيرة منكسرة قبل أن تصعد نحو الأعلى وهي تدعو بداخلها ألا تصطدم بتلك المرأة.

السلام عليكم ورحمة الله وبركاته. ألقت ريتال التحية فور أن خطت خطوتها الأولى نحو الداخل، لم تنتظر رد زوجة والدها بل خلعت حذائها واتجهت نحو حجرتها مباشرة.
بقولك أيه خدي هنا.

أفندم.
هو مش أنتِ المفروض راجعة بقالك فوق الساعة من المدرسة؟ كنتِ فين يا صايعة أنتِ؟ سألتها سالي بنبرة أشبه بالتحقيق وهي تُطالعها بنظرات غير مفهومة، اقتضب وجه ريتال على الفور وهي تدافع عن نفسها بحنق مُردفة:
كنت عند تيته وبعدين أنتِ ملكيش تسأليني أنا فين وبعمل أيه اللي ليه يسأل هو بابا وبس.

طب بصي بقى يا ريتال علشان نبقى على نور، أنا هنا الكل في الكل وكلمتي هي اللي بتمشي ولما اسأل سؤال تجاوبي عليا عدل علشان متزعليش.

أنا محدش يقدر يزعلني!
أنتِ شايفة كده يعني؟ سألت بإستهزاء قبل أن تجذب ريتال بقوة من وشاح رأسها بينما تتحدث من بين أسنانها قائلة:.

بصي بقى يا بنت زينة من هنا ورايح يا تتعاملي معايا كويس يا هوريكي النجوم في عز الضهر أنتِ سامعاني؟ أومئت ريتال بذعر بينما انهمرت دموعها دون إرادة منها، للمرة الأولى شعرت بهذا الكم الكبير من الإهانة والإنكسار في وقتٍ واحد، تركتها زوجة أبيها لتركض نحو غرفتها بكل ما أوتيت من قوة وتوصد الباب من خلفها.

ألقت ريتال بحقيبتها وأغراضها على الأرضية بإهمال وكانت تنوي أن تخلد إلى النوم لولا أنها سمعت صوت صالح بالأسفل يقهقه مع أحد أصدقائه من الجيران، أقتربت ريتال من الشرفة لتراقبه وهي تحاول أن تلفت انتباهه كي يراها لكنه لم يكن ينظر في اتجاهها
لذا اضطرت إلى البحث عن شيء صغير صلب نسبيًا لتقوم بإلقائه عليه.

بالفعل انتبه صالح ونظر نحو الأعلى بغضب بحثًا عن الفاعل ليلمح ريتال فيشير إليها بأن تدلف إلى الداخل ومن ثم يودع صديقه على الفور ويعود إلى المنزل، ابتسمت ريتال ابتسامة صغيرة وهي تعدل وشاح رأسها وتتجه نحو الخارج بخطوات بطيئة حتى لا تسمعها زوجة أبيها، قابلته عند مدخل البيت ليقابلها بوجهه البشوش بينما يُردف ممازحًا: ولما دماغي تتفتح هتتبسطي؟

بلاش أو?ر يا صالح أنا حدفتك بحاجة خفيفة.
ماشي يا ستي، كنتِ عايزة حاجة؟ اه صح أكيد عايزة تكلمي طنط زينة.

أيوا بس بسرعة من فضلك لأن مرات بابا مراقبة كل تصرفاتي وممكن تقولي لبابا وكده. طلبت منه ريتال وهي تلتفت حولها بتوتر ليطالعها صالح بحزن قبل أن يُردف: طيب حاضر هعملك اللي أنتِ عايزاه بس أهدي، طول ما أنتِ مبينة ليها إنك خايفة منها هتضغط عليكي أكتر.

تضغط عليا اه، همست ريتال بسخرية ممتزجة بالآلم ليطالعها صالح بقلق قبل أن يُعطيها الهاتف لكي تتحدث إلى والدتها وكانت المحادثة كالتالي: ألو، أيوا يا ماما أنا ريتال، وحشتيني أوي، تحدثت ريتال من بين شهقاتها وهي تنتظر سماع رد والدتها بإشتياق شديد، أجابتها والدتها من الجهة الآخرى وهي تبكي كذلك قائلة:.

أنتِ كمان يا قلب ماما وحشتيني أوي، طمنيني يا ريتال أنتِ كويسة؟ حد مزعلك في حاجة؟ باباكي بيضايقك ولا حاجة؟ سألت زينة اسئلة متتالية دون أن تُمهل ريتال فرصة للإجابة، طمئنتها ريتال أن كل شيء على ما يرام وبالطبع لم يكن من الصعب على زينة أن تُدرك كذب ابنتها فقط لكي لا تُقلقها.

وبينما كانت ريتال تتحدث إلى والدتها إلى بعض الأمور لمحت بعيناها زوجة أبيها تراقبها من الشرفة لتُلقي بالهاتف إلى صالح ثم دلفت مسرعة نحو المنزل بخطوات سريعة، رمقها صالح بضيق قبل أن يضع الهاتف على أذنه كي يُكمل حديثه مع زينة.

ألو، ريتال، ريتال أنتِ سمعاني؟
أيوا يا طنط ريتال طلعت فوق.

طب هو في حاجة؟ هي ليه سابت الموبايل فجأة من غير ما تفهمني أيه اللي حصل؟

بصي يا طنط أنا مكنتش عايز أقولك الموضوع ده بس بصراحة عمو عبدالرحمن جاب مراته وابنه هنا وهي شافت ريتال بتتكلم من موبايلي لأن عمو سحب منها التليفون وهي قلقت يعني إنها تقول لعمو إن أنا إديتها تليفون تكلمك، اضطر صالح إلى الإفصاح عن كل شيء وقد كان يعلم أنه عليه تحمل التوبيخ واللوم من زوجة عمه السابقة لكنه رأى كذلك أن إخبارها بالأمر أصبح شيء ضروري.

أنتَ ازاي متقوليش حاجة زي دي يا صالح؟ أحنا مش لسه متكلمين من يومين ليه مجبتش سيرة؟

مكنتش عايز حضرتك تقلقي أو تضايقي زيادة، المهم دلوقتي إنك تحاولي ترجعي وتاخدي ريتال في أقرب وقت ممكن.

هما بيعملوا في بنتي أيه؟ حد جيه جنبها؟

بقلب الأم استشعرت زينة أن ابنتها ليست بخير على الإطلاق لكن لم يكن في يدها شيء لتفعله حاليًا لكن كل ما كانت تتمناه هو أن تسمع كلمة مطمئنة من صالح لعل ذلك يُطفئ نيران قلبها.

لا لا يا طنط متقلقيش ريتال كويسة الحمدلله، هي بس قلقانة إن سالي دي تسخن عمو عليها أو كده ده كل الموضوع.

طيب يا صالح الله يكرمك متسيبهاش وخلي ماما بثينة كمان متسيبهاش ريتال ضعيفة وهشة أوي أي مواقف تواجهه هتتكسر،.

ريتال أمانة في رقبتنا يا طنط متخافيش، أنا لازم أقفل دلوقتي وهكلم حضرتك تاني. أنهى صالح المكالمة وهو يتنهد بإستياء شديد فلقد وعد زينة عدة وعود وهو لا يدري إن كان يقدر على الوفاء بها أم لا، هو يعلم أن عمه وزوجته الجديدة بإستطاعتهم إيذاء ريتال بكل الطرق الممكنة...

المشكلة الحقيقية تكمن في كون ريتال كتومة أي أنها لن تخبره إن كانت تتعرض للعنف سواء كان نفسيًا أو جسديًا لكنه عاهد نفسه أن يحاول فعل كل ما في مقدوره لمساعدتها على تخطي هذه الفترة الصعبة وحتى عودة والدتها لأخذها بعيدًا بغض النظر أن ذلك سيحزنه لأنه أعتاد على وجود ريتال أمام عيناه لسنواتٍ عديدة والآن قد تذهب في أي لحظة ولن تعود مجددًا...

طرد هذه الأفكار عن رأسه حينما شعر بمدى أنانيته فهو يجب أن يسعد لرحيلها عن هذا السجن لا يحزن لأنه شخصيًا يتمنى لو بإمكانه الإستقلال والعيش بعيدًا عن هذا البيت الذي لم يشعر يومًا بأنه منزله أو أنه ينتمي إليه قط...

بعد أن أنهت زينة مكالمتها مع صالح أخذت تبكي لوقتٍ لم تحسبه وهي تشاهد صور ابنتها التي احتفظت بها في هاتفها وقد شعرت بقلبها يحترق تارة من أجل ريتال وتارة بسبب ذلك الجرح الذي تسبب به زوجها السابق حتى أنها لم تعتد بعد قول لفظة السابق في حديثها عنه...

هي لا تكاد تصدق أن زوجها الذي أحبته بصدق قد أحضر امرأة آخرى إلى منزلهم لكي تنام في فراشها وتحتضن زوجها وتلعب دور الزوجة والأم في ذلك البيت الذي اختارت زينة كل ركنٍ من أركانه حينما انتقلت إليه هي وعبدالرحمن منذ أن اتخذ قرار العمل بالخارج والإنتقال للعيش في بيت أبيه وأمه بدلًا من السكن في مكانٍ بعيد ولقد وافقت زينة حينها إرضاءًا له بالرغم من أنها كانت تكره الإختلاط الزائد ولم تحبذ قط السكن في بيت عائلة لكن من أجله قد رضيت بذلك ولم تُبدِ أي أعتراض وفي النهاية هو لم يقدر أيًا من تضحياتها...

قطع تفكيرها صوت الباب وهو يُفتح لتكفكف دموعها على الفور وتستقيم من مقعدها لتستقبل والدها وتحمل عنه الأكياس الثقيلة التي يحملها.

بابا هو حضرتك قابلت صاحبك؟ سألته بحماس ممتزج بالقلق بعد أن جلس والدها ليلتقط أنفاسه،
منحها ابتسامة صغيرة قبل أن يُجيبها مُردفًا:
اه يا حبيبتي قابلته وقالي إنه هيكلم مراته في موضوع الشغل ده وفي حاجة كمان كده، ولا بلاش خليها لما الموضوع يتم هبقى أقولك.

لا قولي يا بابا متشوقنيش كده.

لا لا خليها بس لما أشوف الظروف، المهم أنا كلمت أختك وقولتلها تيجي تتغدى معانا بكرة إن شاء الله فأنا جبت معايا وأنا جاي فرختين وشوية خضار كده.

تسلم إيدك يا حبيبي أنا هجهز الحاجة من النهاردة وتبقى على التوسية بكرة إن شاء الله.

لا خليكي أنتِ هحضر أنا الأكل ما أنا بقالي سنين بقى بتطبخ لنفسي. عبس وجه زينة على الفور بعد سماع جملة والدها ولقد شعرت بقلبها يُعتصر من الذنب فلقد كان مقصرة في حق والدها الذي أمضى سنوات عديدة واحدة بعد وفاة والدتها منذ خمسة عشرة عام تقريبًا.

بالعودة إلى القاهرة في المساء، كانت ريتال تدرس في حجرتها وإلى جانبها طعام العشاء والذي أعدته زوجة أبيها واضطرت ريتال إلى تناوله كي لا تتلقى توبيخًا من والدها يكفي أنه سمح لها بأخذ الطعام إلى حجرتها، في ذلك الوقت جلست سالي هي وابنها وزوجها على طاولة الطعام يثرثرون ويضحكون في حين أن ريتال جلست وحيدة منكسرة بالداخل...

بقولك أيه يا بودي أنا حاسة إن الواد صالح ده مش مريح خالص،.

مش مريح ازاي يعني مش فاهم؟ ده ابن أخويا ومتربي كويس.

أنتَ دماغك راحت فين أنا مش قصدي حاجة، بس يعني هو قريب من ريتال وشكله مقويها كده ويمكن يكون بيخليها تكلم أمها أو تشوفها.

قامت سالي بحقن سُمها داخل عقل زوجها في محاولة منها لتضيق جميع سُبل الراحة عن ريتال لعل ذلك يجعل حالتها النفسية أسوء مما يسرع من عودة والدتها إلى هنا لكي تأخذها وترحل فهي لا تريد منها أن تبقى هنا برفقة أبيها فهي تود أن تمتلك زوجها إمتلاك تام وتُنسيه كل ما يتعلق بحياته قبلها.

أكيد لا طبعًا، ريتال مش بتخرج من البيت من غير إذن وحتى لما زينة كانت هنا مكنتش بتسيبها تطلع من البيت لوحدها خالص.

طيب خلاص طالما أنتَ واثق أوي، صحيح أبقى أدي لريتال التليفون بقى علشان تعرف تطمن عليها لم تروح المدرسة وكده.

ده أيه الحنية المفاجأة دي؟ خير إن شاء الله؟

قصدك إني مش حنينية يا بودي ولا أيه؟ إذا كان أنتَ متجوزني مخصوص علشان حنيتي دي، المهم بقى إنك قبل ما تديها الموبايل تخليني كده أخد لفة فيه أعرف كلمة السر بتاعت الأكونتات بتاعتها أشوفها بتكلم مين بتبعت لمين كده يعني. تردد عبدالرحمن لوهلة هو يريد أن يُراقب ابنته في كل تصرفاتها لكن التفتيش في هاتفها والسماح لزوجته بالتحكم في حساباتها ومعرفة كلمة السر هو أمر مبالغ فيه بعض الشيء.

متشغليش بالك أنتِ بالقصة دي أنا هبقى أعمل كده، حبيب بابا مش بتاكل ليه؟ حاول عبدالرحمن تغير الموضوع متجنبًا النظر إلى زوجته والتي يعلم جيدًا أن تعابير وجهها تبدلت تمامًا حيث أن ما قاله لم يُرضيها بكل تأكيد.

بعد أن انتهى من تناول الطعام توجه إلى حجرة ابنته كي يطمئن عليها ولكي يمنحها الهاتف لكنه وجد أنه قد غاصت في نومٍ عميق دون أن تتناول حتى نصف كمية الطعام المقدمة لها فلقد أكتفت بتناول بعض اللقيمات، تنهد بضيق قبل أن يقوم بتغطيتها جيدًا ثم عاد نحو الخارج.

في صباح اليوم التالي استيقظت على صوت المنبه الموضوع أعلى الكومود على يمينها حيث اضطرت ريتال إلى اتباع الأساليب القديمة فلم يعد أحدًا يستخدم مثل هذه المنبهات فالجميع يضبط المنبه على الهاتف لكن نظرًا لأن هاتفها ليس بحوزتها فقد اضطرت إلى فعل ذلك.

بدلت ثيابها سريعًا وبهدوء ومن ثم اتجهت نحو الأسفل كي تُلقي التحية على جدتها قبل أن ترحل.

صباح الخير يا تيته.

صباح النور يا حبيبتي تعالي افطري معايا.

لا ربنا يخليكي يا تيته أنا بطني بتبقى وجعاني الصبح مش بعرف أكل. كذبت ريتال فهي لم تعد لديها القابلية لتناول الطعام من الأساس لم يكن الأمر متعلقًا بكونها في الصباح أم في المساء فلقد أبت معدتها استقبال الطعام بالصورة الطبيعية.

طب خلاص خدي السندويتشات دي معاكي كليها في المدرسة، صحيح صالح قالي أقولك متركبيش الباص النهاردة أصله فاضي فهيوصلك أنتِ وعطر.

طب ونانسي؟ سألت ريتال بفضول فهي بالكاد كان ترى نانسي الأيام الماضية ليس وكأن وجودها يشكل فارق بالنسبة إلى ريتال لكنه كان فضول لا أكثر فهي تتمنى أن تبقى بعيدة عنها للأبد.

لا نانسي تعبانة شوية فمش هتروح المدرسة النهاردة. أومئت ريتال قبل أن تغادر المكان بعد توديع جدتها لتلتقي بصالح وعطر عند مدخل المنزل.

صباح الخير يا آنسة ريتال.

صباح النور يا صالح، صباح الخير يا توتو. ردت ريتال التحية بنبرة تخلو من الحياة وهي تشعر بألم في رأسها، عقد صالح حاجبيه عندما رأى حالتها تلك قبل أن يسألها بإهتمام واضح:
منمتيش كويس ولا أيه؟

لا، كنت بقلق كل ساعتين تقريبًا على كابوس شكل معرفش في أيه؟

معلش هتلاقي بس علشان مش بتبطلي تفكير وكده فعقلك الباطن قال يروقك يعني.

يلا مش مهم، ممكن نتحرك بقى؟ أومئ وهو يدلف إلى داخل السيارة، جلست عطر بالأمام بجانبه بينما جلست ريتال بالخلف تحت أنظاره المندهشة ولو أنه استنتج أنها فعلت ذلك لتجنب التحدث إليه.

بقولك أيه يا ريتال بما إن لسه في وقت عالطبور وكده تحبي نروح نفطر أحنا التلاتة في أي مكان قريب من المدرسة؟ عرض صالح عليها وهو ينظر إليها من خلال المرأة كانت شاردة وعيناها حمراء دامعة، لم تُجيبه ريتال لكن عطر أجابته بحماس طفولي مُردفة:
أيوا أيوا نروح.

أنا مش جعانة بصراحة وكمان مش عايزة اتأخر واسمع كلمتين من عمتو.

متأكدة؟ ده عرض مش بيجي في العمر غير مرة واحدة بس.

متأكدة. عبس وجه عطر على الفور ليعدها صالح أن يصطحبها إلى تناول الفطور بالخارج معًا الأسبوع القادم أثناء ذهابها إلى المدرسة.

بمجرد أن توقفت السيارة غادرتها ريتال على الفور دون أن تنتبه أنه يتوجب عليها توديع صالح، عقد حاجبيه بضيق وهو يراقب خطواتها المضطربة نحو الداخل فحالتها لم تبدو طبيعية قط، لقد كان واضحًا عليها الخراب الذي تسبب فيه ما حدث ولم يمر على هذا الوضع سوى بضع أيام فكيف ستكون حالتها بعد مرور شهر أو اثنين من الآن؟ سأل نفسه بقلق وهو يدعو الله بداخله أن تمر هذه المدة بأقصى سرعة وبأقل خسائر ممكنه...

صباح الخير يا ريتال. تمتم تليد الذي وقف أمام مقعد ريتال فور وصولها إلى الصف لترفع عيناها عن دفترها وقد رسمت ابتسامة صغيرة خجلة على ثغرها بينما ترد عليه التحية قائلة:
صباح النور يا تليد، عايز حاجة؟

أنا، أنا كنت يعني علشان أنتِ كنتِ غايبة الأيام اللي فاتت فأنا جمعتلك في الكشكول ده كل الحاجات اللي أخدناها والحاجات المطلوبة مننا وفي برضوا كام سؤال كده محلولين.

لأول مرة كان تليد يتحدث بهذه النبرة المتوترة بينما نمت ابتسامة صافية على ثغره، حك مؤخرة عنقه بينما يمنحها الدفتر الذي في يده لتتناوله من يده وتفحصه بعيناها سريعًا بينما تسأله بسعادة حقيقية:
أنتَ بتتكلم بجد؟ شكرًا جدًا يا تليد تعبت نفسك حقيقي،.

ياريت لو كل التعب حلو كده، قصدي يعني ياريت كل التعب يبقى في الخير يعني.

كانت يتحدث بنبرة حالمة وبعبارات غزل ثم سرعان ما أدرك ما يقوله ليُعدل من جملته على الفور وبالطبع كانت هناك العديد من الأعين الثاقبة تراقبهم، لم يهتم تليد بهم على أي حال لكن عالية اقتربت منهم لتجلس إلى جانب ريتال بينما تسأل تليد بمراوغة:
من أمتى يا تليد؟

من أمتى أيه بالضبط؟

من أمتى وأنتَ بتهتم أنك تكتب ورا المدرسين لا وما شاء الله مجمع المواد كلها وأسئلة وبتاع.

ياستي ربنا كرمني وبقيت بذاكر وبركز في الشرح والحصص ده يزعلك في حاجة؟ سألها تليد بإستنكار شديد لتطالعه عالية بإشمئزاز قبل أن تُردف:
لا وهيزعلني ليه؟

طب خلاص خليكي في حالك بقى، ريتال لو أي حاجة نقصاكي أو محتاجة حاجة عرفيني.

شكرًا يا سيدي مستغنين عن خدماتك لو احتاجت حاجة أنا وحنين وباقي البنات موجودين. أجابت عالية بدلًا من ريتال حيث أكتفت الأخيرة بالضحك على الحوار الذي يدور بينهم، تبادلت نظرات الإمتنان مع تليد قبل أن يذهب ليجلس في مقعده المعتاد في نهاية الصف.

بعد رحيل تليد وتوقف عالية عن الحديث والسخرية عاد شعور الخواء والتعاسة إلى قلب ريتال مرة آخرى وعلى الفور بدأت الأفكار السلبية تتغلغل داخل عقلها، كانت تتمنى لو تدوم لحظات السعادة تلك للأبد، وكم كانت تتمنى ألا ينتهي اليوم الدراسي فهي لا تود العودة إلى المنزل قط والأسوء من ذلك هو أن اليوم هو الخميس أي أنها ستبقى لمدة يومان ونصف داخل المنزل برفقة زوجة أبيها البغيضة...

للأسف انتهى اليوم الدراسي كما ينتهي كل شيء حلو في هذه الحياة واضطرت ريتال إلى العودة إلى المنزل وقد فوجئت بوالدها يستقبلها عند الباب.

حمدلله عالسلامة يا ريتال.

الله يسلمك يا بابا، في حاجة؟

لا مفيش أنا سمعت صوت الباص فقولت أجي أشوفك يعني، تعالي بقى نطلع شقتنا فوق ده سالي جهزت أكل حلو علشانك. طالعت ريتال والدها ببعض الريبة وهي تحاول فهم الغرض من وراء تلك المعاملة المُختلفة.

طيب حاضر يا بابا، هسلم على تيته بس الأول وبعدين هبقى أطلع فوق.

لا لا، أصل ماما نايمة شوية. عقدت ريتال حاجبيها بتعجب وقد بدأ التوتر يتسرب إلى قلبها فهي تعرف جيدًا أن جدتها لا تنام في مثل هذا الوقت من اليوم لذا سألت والدها مستنكرة:
تيته نايمة دلوقتي؟

اه، تعالي على فوق بقى، صحيح أنا خلاص قررت أرجعلك الموبايل بتاعك بشرط إنك متكلميش أمك غير بإذن مني.

حاضر يا بابا، شكرًا. صعدت ريتال نحو الأعلى برفقة والدها وبعد أن دلفت إلى الداخل ألقت التحية على سالي مضطرة ومن ثم منحها والدها الهاتف لتأخذه منه بسعادة.

هرولت نحو غرفتها بدلت ثيابها سريعًا ومن ثم ألقت بجسدها على السرير وهي تقرأ الرسائل التي فاتتها في الأيام الماضية وبينما كانت تفعل وقعت عيناها على رسائل من ذلك الرقم المجهول الذي أصبحت تمقته ريتال بشدة وقد كانت الرسائل كالتالي:.

أنتِ فاكرة ياللي اسمك ريتال إن تليد بيحبك؟ أنتِ بجد مغفلة، أنتِ بس صعبانة عليه فقال يساعدك ده طبعًا لو كان بيساعدك بجد مش عامل جو الطيبة قدامك بس وبيتريق عليكي مع صحابه،.

عمومًا يعني يا ريتال أنتِ مفيش حد بيحبك في المدرسة كلها وحتى عالية وحنين اللي أنتِ لازقة فيهم دول ومصدقة إنهم صحابك بيتكلموا عليكي مع الناس كلها وبيحكوا كل أسرارك زي موضوع صالح ابن عمك ده مثلًا،.

على فكرة الشلة اللي أنتِ زعلتيها دي مش ناسية اللي حصل ووقتك جاي يا ريتال، أحسنلك بقى تسيبي المدرسة وتشوفيلك حتة تانية تروحيها.

صحيح كده كده باباكي شوية وهيرميكي أكيد بقى وقتها هتطلعي من المدرسة ويمكن تبقي في الشارع ومتعرفيش تكملي تعليم أصلًا، ممكن تبقي تشحتي في الشارع محدش هياخد باله ما أنتِ أصلًا لبسك لبس شحاتين!

أقولك حاجة من الآخر لو تروحي تموتي هيبقى راحة لكل اللي حواليكي من قرفك وزَنك!

قرأت ريتال الرسائل المتتالية بأعين دامعة وهي تشعر بقلبها يحترق من الداخل، هي لم تُؤذي أحدٍ قط كي يتم معاملتها بتلك القسوة...

حاولت كتم شهقاتها لكن فشلت في ذلك لذا قامت بدفن وجهها في الوسادة بينما ألقت بالهاتف بعيدًا عنها وفي هذه اللحظة تمنت ريتال لو لم يعيد إليها والدها الهاتف لكي لا ترى مثل هذه الرسائل، لوهلة توقف عقلها عن العمل...

تُرى هل صاحب تلك الرسائل يقول الصدق؟ هل تليد يُشفق عليها أم أنه يسخر منها مع رفاقه؟ فتلك التصرفات قد تصدر من شخصٍ مثل تليد بالفعل...
ماذا عن عالية وحنين؟ هل هما أيضًا مثل الجميع يسخرون منها ويفضحون أسرارها؟

لماذا ستنتقم چودي وباقي شلة المشعوذات ألا يكفيهم ما فعلوه من تدمير وتخريب في نفسيتها في الأسابيع والأيام الماضية؟ ثم كيف يكون شخصًا بهذه القسوة كي يطلب منها إنهاء حياتها؟ وكأن حياتها شيء حقير لا يسوى شيء، هل لهذه الدرجة لا قيمة لها؟ هل لهذه الدرجة وجودها يسبب الضرر لكل من حولها بحيث سيرتاح الجميع حينما ترحل عن هذا العالم؟

استقامت ريتال من سريرها وقد تضاربت مشاعرها بين الغضب، الإنكسار، الخذلان والكره، اتجهت نحو المكتب خاصتها تبحث بين أدراجه عن تلك الآلة الحادة ومن ثم قربتها من ساعدها وهذه المرة لم تكتفي بجرحٍ واحد...

بالعودة إلى الإسكندرية وقفت زينة تساعد والدها في طهي الطعام إستعدادًا لإستقبال شقيقتها قرب صلاة المغرب وبينما كانت تفعل جاءها صوت طرقات على الباب، أشار لها والدها بأن تُكمل ما تفعله وأنه سيذهب ليرى من الطارق.

جدو حبيبي أنا جيت، مين دي يا جدو أنتَ قررت تتجوز ولا أيه؟ أردفت فريدة وهي الحفيدة الكبرى لرضوان بمجرد أن فُتح الباب ولمحت امرأة لم تراها من قبل تتحرك داخل المطبخ.

تعالي ادخلي يا ظريفة دي خالتك زينة.

خالتو زينة؟ ده بجد؟ حمدلله عالسلامة يا خالتو. هرولت الشابة نحو زينة لتأخذ في عناق قوي، تملكت الدهشة من زينة لكنها عانقتها في المقابل ودون أن تُدرك امتلئت عيناها بالدموع فلقد كانت الفتاة نسخة مصغره من شقيقتها الكبرى، زوج العيون الزاهية والبشرة الحنطية الناعمة والأسنان اللامعة.

أنتِ كبرتي أوي بقيتِ زي القمر ما شاء الله.

أنتِ اللي قمر والله يا خالتو، أومال فين ريتال؟ ريتال صح؟

اه ريتال هي عند باباها في القاهرة، بس هتيجي قريب إن شاء الله وهتبقوا صحاب بقى وتخرجوا مع بعض وكده. حاولت زينة أن تُخفي حزنها قدر الإمكان فلا يجب إدخال الصغار في مشاكل الكبار هذا بإعتبار أن فتاة في التاسعة عشرة أو العشرين من عمرها تقريبًا صغيرة.

أكيد طبعًا إن شاء الله هي تيجي بس وأنا هضبطها خروج وفسح وكل حاجة، أيه الروايح الحلوة دي يا جدو؟

لا دي خالتك زينة هي اللي عاملة الأكل أنا يعني ساعدتها مساعدة بسيطة بس.

طيب أنا هدخل أغير هدومي وأجي أساعد معاكوا عقبال ما ماما تيجي وكده، صحيح يا خالتو هي ماما ليه مش عارفة إنك هنا؟ أردفت فريدة وكادت أن تدلف نحو الداخل لكنها استدارت مجددًا لتسألهم بفضول، تنهد جدها وهو يُجيب على سؤالها بينما يدفعها بمزاح نحو الحجرة قائلًا:
خالتك عايزة تعمل مفاجأة لمامتك، بطلي رغي بقى وادخلي غيري وتعالي بسرعة.

وقفت زينة تتأمل ما يحدث بإبتسامة واسعة وهي تتخيل ردة فعل ريتال عندما تأتي إلى هنا لتجد عائلة حنونة في انتظارها ليتم تعويضها عن كل الآلم الذي رأته في السنوات الماضية وفي الأيام الأخيرة بالتحديد...

في مساء ذلك اليوم جاءت شقيقتها وزوجها وابنها الصغير، بالطبع قضوا بضعة دقائق في العناق والبكاء والتفوه بجمل غير مفهومة جمعت بين اللوم والعتاب وكذلك السعادة بسبب لم الشمل أخيرًا.

طيب أنتِ ازاي يا زينة سبتيها في القاهرة وجيتي هنا من غيرها؟ ازدردت زينة ما في فمها بصعوبة وهي تحاول أن تُجيب إجابة منطقية دون الخوض في تفاصيل الآن حتى تتسنى لها الفرصة للتحدث إلى شقيقتها على إنفراد.

أختك سايبة بنتها عند باباها وجدتها يعني مش لوحدها وبعدين ده وضع مؤقت كلها شهر ولا اتنين وهتجيبها هنا وتنقلها المدرسة كمان.

يا قلبك يا زينة، هتسيبيها شهر ولا اتنين من غير ما تشوفيها؟ عاتبت زهراء زينة بجهلٍ منها عن الوضع لتضطرب معالم زينة على الفور ومن ثم تضحك ضحكة متوترة بينما تُجيب عن سؤال شقيقتها قائلة:
لا طبعًا أنا هنزل في آخر كل أسبوع القاهرة اطمن عليها وكده،.

كلي يا زينة يا حبيبتي أنتِ مبتكليش ليه؟ سألها والدها محاولًا تغير الموضوع، ابتسمت زينة ابتسامة متألمة بينما تنبس بالآتي:
باكل يا حبيبي،.

بعد الإنتهاء من تناول الطعام جلست زينة برفقة شقيقتها داخل الشرفة وقد قدمت لهم فريدة كؤوس من الشاي بالنعناع الطازج وبعض الكعك، أخذت زينة تسرد لشقيقتها ما حدث طوال المدة الماضية بكافة التفاصيل، بالطبع اختلطت مشاعر زهراء فما قالته شقيقتها الصغرى ليس بالأمر الهين وبالطبع أخذت تُحسبن في زوج شقيقتها السابق تارة وتسبه تارة آخرى هو وزوجته الجديدة.

طب ما أحنا نوكل محامي يا زينة وأنا بابا ندفعله وبعدين نبقى نتحاسب براحتنا يعني.

لا يا زهراء أنا مش عايزة اتقل عليكوا ومش حابة استلف من حد أنا بدور على شغل وأول لما أمسك فلوس في إيدي هدور على محامي إن شاء الله.

حبيبتي أنتِ عقبال ما تقبضي وتحوشي فلوس هتكون المدة اللي النطع ده محددها عدت، وبعدين أصلًا أنتِ أي محامي سهل يكسبلك القضية دي في غمضة عين متخليش عبدالرحمن يضحك عليكِ.

بجد؟ يعني حقيقي الموضوع مش صعب؟

لا طبعًا، أنتِ بنتك ليها نفقة واللي أعرفه يعني إن من حقها تختار تعيش مع مين فيكوا وكمان أنتِ ليكي مؤخر هو واكله عليكِ يعني كل حاجة في صفك مش ضدك أنتِ بس اللي طيبة وهبلة.

كانت طريقة زهراء تميل إلى التوبيخ أكثر من كونها تشجيع ونصيحة لكنها كانت ترى أن تلك الطريقة هي الأنسب لإقناع زينة والتي لطالما شعرت بالذعر والتردد من كل شيء لكن الآن ليس الوقت المناسب لذلك فالوضع أشبه بالحرب وهي عليها أن تنتصر على كل مخاوفها وكل ما يقف عائقًا في طريق اجتماعها بإبنتها الوحيدة.

قطع حديثهم دخول والدهم إليهم وقد نمت على ثغره ابتسامة واسعة وهو يُخبر زينة بالآتي:
يلا يا ست زينة استعدي علشان تنزلي تعملي مقابلة بكرة إن شاء الله في الحضانة.

بجد يا بابا؟

ايوا بجد هو المرتب مش كبير أوي بس معقول يعني. تمتم والدها لتستقيم زينة من مقعدها وهي تجذب والدها في عناقٍ كبير دافيء وللمرة الأولى منذ مدة طويلة شعرت بأن الحياة تبتسم لها وأن كل شيء يتخذ المجرى الصحيح له، لقد اجتمعت بوالدها وشقيقتها، وجدت عمل، شعرت بالدفء والسعادة مرة آخرى فقط ما ينقصها هو عودة ريتال إلى أحضانها ومن بعدها ستكتمل سعادتها...

في صباح يوم الجمعة استيقظت ريتال بتكاسل وهي تشعر بآلم كبير في رأسها وعيناها التي انتفخت من فرط البكاء ليلة أمس، غادرت سريرها واقتربت من الشرفة تشاهد المارة لكي تعرف إن كان الجميع قد عادوا من صلاة الجمعة أم لا وبينما تفعل لمحت بقع متفرقة من الدماء على ثوبها نتيجة للجروح من ليلة أمس، بدلت ثوبها سريعًا وقامت بإخفاءه أسفل سريرها لكي لا تراه زوجة أبيها.

غادرت ريتال حجرتها لتجد زوجة أبيها وشقيقها الأصغر يجلسون على طاولة الطعام وقد تم إعداد طعام الفطور، عقدت ريتال حاجبيها وهي تسأل بتعجب:
هو أحنا مش هنفطر تحت عند تيته؟

لا أحنا مالنا بيهم تحت؟ أحنا هناكل ونشرب هنا في شقتنا. أجابتها بإقتضاب دون أن ترفع عيناها لتبتسم ريتال ساخرة فلقد كانت والدتها مجبرة على تناول جميع الوجبات بالأسفل بل والمساعدة في طهي الطعام كذلك، أخذت ريتال نفسٍ عميق قبل أن تُعلمها بلا مبالاة:
طيب عن إذنك بقى أنا هنزل افطر مع تيته.

خدي هنا رايحة فين؟ جذبتها سالي من ذراعها بقوة لتتأوه ريتال بآلم حقيقي وهي تحاول التخلص من قبضتها، عقدت سالي حاجبيها بعد أن تركتها بينما تُردف مستنكرة:
أنتِ مالك أو?ر كده ليه؟ أنا شديتك من دراعك يعني مضربتكيش بالنار! سخرت سالي من ريتال ولقد كان ذلك منطقي فهي لم تعلم بشأن الجروح الحديثة التي شوهت ذراع ريتال.

لم تُجيبها الأخيرة بل هرولت نحو الأسفل هربًا منها وقد أخذت هاتفها بحوزتها فلقد قررت أن تشارك صالح أمر تلك الرسائل لعله يساعدها في إيجاد صاحب ذلك الرقم والذي قام بتدمير نفسية ريتال عدة مرات لكنها لم تجده بالأسفل لسوء الحظ بل وجدت نانسي تجلس أمام التلفاز تنتظر طعام الفطور وتجمع الجميع.

صباح الخير.

صباح النور، ازيك يا ريتال؟ عاش من شافك ليكي وحشة مختفية فين؟

هو أنتِ يا نانسي مفيش إحساس خالص؟ يعني أنتِ بجد فاكرة إني هرد عليكي عادي بعد الكلام اللي أنتِ قولتيه آخر مرة أتكلمنا فيها؟

عادي يا ريتال يا حبيبتي عنك ما كلمتيني يعني أنتِ فاكرة وجودك أو عدمه فارق معايا أو فارق مع أي حد من الأساس؟ يا بنتي ده أنتِ حتى زينة اللي هي مامتك سابتك ومشيت ومفرقتيش معاها فاكرة بقى إنك هتفرقي معايا أو مع صالح ولا تليد ده أنتِ تحمدي ربنا أننا بنبص في وشك أصلًا!

كالعادة لم تتردد نانسي في طعن ريتال بكلماتها الجارحة وبالرغم من أن ريتال كانت معتادة على مثل هذه الإهانات من نانسي إلا أنها لم تستطع كبح دموعها ولا إستيائها لتصرخ في وجه نانسي قائلة:.

هو أنتِ ليه كده بجد؟ أنا عملتلك أيه علشان كل ما تشوفي خلقتي تتريقي عليا وتسمعيني كلام زي السم كده؟ حسبي الله ونعم الوكيل فيكي يا شيخة إن شاء الله كل ده هيترد ليكي علشان أنا عمري ما أذيتك في حاجة وأنتِ على طول بتسميني بكلامك ونظراتك،.

أفصحت عن ما يجول في خاطرها وسط شهقاتها قبل أن تهرول نحو الخارج لتجلس في الحديقة على الأرض الطينية تبكي من كل شيء وعلى كل شيء، لم تهتم في هذه اللحظة لرؤية نانسي لضعفها ولحظة انهيارها فحالتها النفسية لم تسمح لها بالتفكير في شيء كهذا من الأساس...

بعد أن انتهت ريتال من البكاء وبدأت تشعر بالقليل من التحسن جاءها صوت صالح من مكان قريب لذا استقامت من جلستها وأخذت تبحث عنه لتجد يقف بالجهة الآخرى من حديقة المنزل قرب البوابة ولقد كان يتحدث في الهاتف لذا لم ينتبه لوجودها، كادت أن تنطق بإسمه لكي ينتبه لكن جاءها صوته وهو يتحدث قائلًا:.

ازيك يا سارة عاملة أيه؟ أنتِ كمان وحشتيني، أتكلمتِ مع باباكي زي ما اتفقنا؟ طب حلو أوي يعني أنا أكلم بابا وتيته في الموضوع وأجهز؟ أنا قولتلك متقلقيش من موضوع الشغل ده خالص أنا هنزل شغل ثابت مع بابا لحد لما أخلص آخر سنة وإن شاء الله هلاقي شركة كويسة أشتغل فيها بشهادتي، تمتم صالح بنبرة هادئة حنونة، صمت لوهلة يستمع إلى ردها والذي لم يكن يصل إلى مسامع ريتال قبل أن يُتابع صالح حديثه برومانسية:.

طول ما أنتِ معايا كل حاجة تهون، خلاص أنا هفوت بس أسبوع ولا حاجة علشان حوار مرات عمي اللي حكتلك عليه ده وبعدين هافتحهم في الموضوع على طول.

توقف العالم لوهلة بالنسبة إلى ريتال، لم تعد تسمع، لم تعد ترى وحتى أن الأرض قد توقفت عن الدوران في تلك اللحظة بالنسبة إليها، تمنت لو أنها اخطأت السمع أو أنها اسأت الفهم فمؤكد أن صالح لا ينوي طلب يد سارة تلك للزواج فريتال لن تتحمل صدمة كتلك على الإطلاق...

لقد ظنت من اهتمامه بها في الأيام الماضية أنه ربما قد شعر بحقيقة مشاعره تجاهه، لقد صور لها عقلها أنه ربما قد رأها شيء ما أكثر من مجرد ابنة عمه وشقيقته الصغرى كما كان يُخبرها على الدوام، لقد خُيل لها أنه سيكون الجانب المشرق من حياتها البائسة تلك لا أن يزيد من همومها وجروحها...

شعرت برجفة في كامل بدنها وحرارة في عيناها، هل تبكي؟ أجل ولم يكن البكاء من أجل صالح فقط بل كانت تبكي كل شيء أحبته يومًا ولم تطله يداها وكل شيء أحبته يومًا وابتعد عنها ليُحرق قلبها...

تسارعت نبضات قلبها وشعرت بقواها تخور، لم تحاول التماسك ولم تدعي القوة كما اعتادت أن تفعل بل تركت العنان للضعف الذي أحتل كامل بدنها لينتهي بها المطاف مغشيًا عليها على الأرض الطينية للحديقة...

ألقي صالح بالهاتف حينما سمع صوت اصطدامها بالأرضية ليهرول نحوها بينما يصرخ بأعلى صوته:
تيته، بابا، حد يلحقني! حاول صالح ضرب وجنتيها بخفة كي تسترد وعيها لكن ذلك لم يفلح، هرول الجميع نحو الخارج ومن ضمنهم نانسي والتي هربت الدماء من وجهها فور رؤيتها لجسد ريتال المُلقى على الأرض.

وسعوا بس كده ادوها فرصة تاخد نفسها! صاحت سالي وهي تبعد الجميع، رمقها صالح بحدة وهو يصيح في وجهها بالمقابل قائلًا بإستهزاء:
هو أنتِ عارفة بتعملي أيه أصلًا ولا بتألفي؟

أنا كنت شغالة ممرضة يا أمور على فكرة، عبدالرحمن شيلها معايا نطلعها فوق وأنا هعرف أفوقها.

ماشي يلا بينا. كان الإعتراض باديًا على تعابير صالح لكنه لم يتفوه بكلمة، إلتقط هاتفه من الأرض وهاتف ريتال كذلك الذي وجده مُلقى بجانبها وبينما كان في طريقه نحو الأعلى لمح نانسي تقف في أحد الأركان تراقب ما يحدث مع ريتال من بعيد دون أن تجرؤ على التدخل.

نانسي، هو أنتِ وريتال اتخانقتوا ولا حاجة؟

أنا؟ لا لا مكلمتهاش خالص، هي تلاقيها مكلتش كويس ولا حاجة أنا مليش دعوة. أكد تلعثمها شكوكه فمؤكد أن نانسي قد حقنتها بكلماتها السامة كالمعتاد لكن الوضع أختلف قليلًا هذه المرة نظرًا لتلف أعصاب ريتال بشكلٍ عام.

في الأعلى استطاعت سالي أن تساعد ريتال في استرداد وعيها والتي بمجرد أن فتحت عيناها نظرت نحوها بهلع وهي تحاول استيعاب ما يحدث ولم تمر سوى دقيقة واحدة تقريبًا قبل أن يبدأ عقلها في استرجاع كل ما حدث قبل أن تفقد الوعي، تحدثها إلى زوجة أبيها شجارها مع نانسي وفي الخاتمة مكالمة صالح، صالح الذي ينوي أن يتزوج من تلك الفتاة زميلته في الجامعة!

حبيبتي أنتِ كويسة؟ سالي أنا من شايف إنها المفروض تروح مستشفى أو نشوفلها دكتور مش معقول موضوع الإغماء والدوخة المتكررة دي!

جمد قلبك كده يا بودي دي بتدلع، تلاقيها بس علشان مش بتاكل كويس حصل معاها كده ولا أيه يا ريتال؟ سألتها سالي بمراوغة لتومئ ريتال ب نعم فهي لا تود الذهاب إلى الطبيب، هي لم تعتد تهتم لصحتها أو ما يحدث معها، هي لم تعد تهتم بأي شيء في هذه الحياة هي فقط تود أن ترحل عن هذه الدنيا بأي شكلٍ كان...

ممكن أدخل؟ سأل صالح وهو يقف بالقرب من الباب إلى جانب جدته وعمته.

تعالى يا صالح اتفضل. أجاب والد ريتال لتعتدل في جلستها على الفور وهي تتأكد من ضبط وشاح رأسها كذلك، كانت علمات القلق ظاهرة بوضوح على وجه صالح والذي حاول جاهدًا أن يرسم ابتسامة مطمئنة على ثغره لكن ريتال رأتها على أنها مجرد شفقة ولا شيء أكثر من ذلك لذا طالعته ببرود تام.

بقيتِ أحسن دلوقتي؟

الحمدلله.

أنتِ لازم تروحي لدكتور يا ريتال مش معقول اللي بيحصل ده، وشك بقى أصفر وخسيتي زيادة وكل يومين تقعي من طولك، لو أنتِ مستغنية عن روحك أحنا مش مستغنين عنك. أردف صالح بصدق شديد وهو يُطالعها بحزن فإن حالتها تدهور يومًا بعد يوم وهو لا يملك أي حيلة لمساعدتها، زين ثغر ريتال ابتسامة جانبية ساخرة وهي تتحاشى النظر إليه ليعقد حاجبيه لبرهة بينما يسألها بإستنكار:
هو أنا بقول حاجة بتضحك يا ريتال؟

معلش أنا تعبانة ومحتاجة ارتاح شوية، نبقى نكمل كلامنا بليل يا صالح إن شاء الله. قامت ريتال بطرد الجميع ولكن بطريقة غير مباشرة ليضم صالح قبضته بضيق وهو يومئ لها ولكن قبل أن يغادر اقترب منها قليلًا وهو يتمتم من بين أسنانه:
ماشي يا ريتال بس متفتكريش إنك هتهربي من الكلام معايا بالحركات دي. لم تُعلق على جملته بل لم تنظر إليه من الأساس.

بمجرد أن غادر الجميع الحجرة أخذت تطالع سقف الحجرة بنظرات خاوية، على ما يبدو أنها لم تعد تملك المزيد من الدمع لتذرفه على ما يحدث، شعور بالفراغ أحتل كيانها ولم تعد لديها الرغبة في فعل أي شيء، رؤية أي شخص بل أنها تشعر بأنها لم تعد تهتم حتى لو تزوج صالح بتلك الفتاة ففي النهاية هي شخصية بائسة ضعيفة بشعة من الداخل والخارج لن يهتم أحدٍ لأمرها، ربما عليها أن تأخذ بنصيحة مُرسل الرسائل الجارحة وأن تموت حتى تنتهي معاناته ومعاناة من حولها...

استقامت من موضعها وهي تستند على الكومود كي لا تسقط نظرًا لعدم استردادها لطاقتها بعد هذا إن كانت ستسردها من الأساس، بحثت عن ورقة فارغة في أحد دفاترها ومن ثم أحضرت قلمٍ وجلست على الكرسي المقابل للمكتب خاصتها وقد قررت كتابة رسالة إلى والدتها وكانت بدايتها كالآتي:
ماما حبيبتي، سامحيني على اللي هعمله،.

الفصل التالي
جميع الفصول
روايات الكاتب
روايات مشابهة