قصص و روايات - قصص رومانسية :

رواية وصال مقطوع للكاتبة إيمان عادل الفصل الحادي والأربعون

رواية وصال مقطوع للكاتبة إيمان عادل الفصل الحادي والأربعون

رواية وصال مقطوع للكاتبة إيمان عادل الفصل الحادي والأربعون

كان مطلوب مني أيه ومعملتوش يا ماما؟ أموت نفسي يا ماما؟ أموتلك نفسي علشان تتبسطي؟

ضجَّ المكان بصوت صياح ريتال ممتزجًا بصوت شهقاتها نتيجة إصابتها بإنهيار عصبي وفي لمح البصر وقبل أن يُدرك من حولها ما تنوي فعله جذبت ريتال عنق زجاجة وقامت بتحطيم نهايتها في طرف الطاولة الخشبية، نزعت حجاب رأسها قبل أن تُقرب الجزء الحاد من عنقها وتضغط ليبدأ السائل الأحمر في اللزج الدافئ في التدفق ببطء وسط صرخات والدتها ونظرات الهلع في أعين فؤاد...
ريتال!

صاح جدها وهو يُلقي الأغراض التي في يده أرضًا، ثمار الفاكهة التي تُحبها ريتال ووشاح الرأس الجديد الذي إبتاعه جدها من أجلها لقد تناثر كل شيء أرضًا كما تناثرت دماء ريتال، ألتفتت لصوت جدها الذي كان حبل النجاة الذي أخرجها من بئر نوبة الهلع تلك، نظرت نحوه بأعين تترجاه أن يُنقذها وفي الثانية نفسها هرول فؤاد نحو ريتال ليسحب منها بقايا الزجاجة وبسبب مقاومتها البسيطة جُرحت يده لكنه لم يكترث وأصر على سحبها من يدها.

جدو، نبست بها بوهن وهي تدفن وجهها داخل أحضان جدها الواسعة الحنونة، صوت شهقاتها يصدر متقطعًا بينما يُمسد جدها على رأسها ويقول بعطف محاولًا كبح نفسه من البكاء معها:
أهدي يا حبيبة جدو مفيش حاجة خلاص أنتِ كويسة، أنا جنبك.
كل حاجة صعبة أوي، يا جدو أنا مش عايزة أعيش كده، مش عارفة أعيش كده،.

قالت بينما تنهمر الدموع من عيناها وقطرات الدماء تلوث قميص جدها زاهي اللون، جلس على أقرب أريكة لتجلس هي معه وتظل متشبثة به وكأنه درع حمايتها من قسوة وشعور العالم من حولها، كانت تراقب زينة ما يحدث بأعين دامعة لا تكاد تُصدق الحالة التي قد وصلت إليها ابنتها غير مُدركة أنها كانت أحد الأسباب التي ألقتها نحو الحافة لتسقط في هاوية الإكتئاب ونوبات القلق من جديد.

تعالي معايا! أردف فؤاد بنبرة حادة وهو يسحب زينة من يدها نحو أحد الغرف، كانت يداه تقطر بالدماء لكنه لم يهتم ولم يشعر بالآلم في تلك اللحظة فلقد كان عقله منشغلًا بريتال وحالتها للدرجة التي جعلته لا يشعر بأي شيء.

أنا عايز أفهم أيه اللي أنتِ عملتيه ده؟ وبخها فؤاد لتنهمر دموعها أكثر لكنها لا تُجيب على أيًا مما يقوله فلقد كانت تُتمتم بشيء آخر وكأنها لم تسمعه: بنتي، بنتي بتضيع مني يا فؤاد! ريتال كانت، كانت هتموت نفسها!

ومش أول مرة تحاول وبعدين مالك مستغربة ليه مش أنتِ السبب؟ أنتِ اللي وصلتيها للحالة دي!
أنا مكنش قصدي، أنا كنت بعاتبها،.

اسكتي يا زينة اسكتي، أنا بعديلك بقالي فترة وبسكت وبقول معلش حامل وتعبانة لكن تبقي عارفة اللي ريتال فيه وضغط مشاكل باباها وبرضوا تدوسي يبقى كده لازم أقفلك!
لقد طفح كيل فؤاد هذه المرة، لم يكن بالشخص ذو الطابع الحاد أو سريع الغضب ولقد تحمل كل ما يصدر من زوجته رأفة بوضعها كونها تحمل بين أحشائها طفله أو طفلته ولطالما كان مراعيًا لها لكنها الآن تسببت في إفقاد ريتال عقلها قبل قليل.

ثانية واحدة، يعني أيه مش أول مرة؟
لازم ناخد ريتال المستشفى.

لا استنى بس رد عليا!
مش وقته يا زينة مش وقته! كادت أن تتابع حديثها لكن فؤاد لم يُمهلها الوقت وفي طريقه نحو خارج الحجرة جاءه صوت والد زينة وهو يُناديه بصوت بالكاد مسموع.

فؤاد،
أيوا يا عمي، أقعدي هنا لو سمحتِ. طلب من زينة وهو يُكمل طريقه نحو الخارج، قابله رضوان في المنتصف وهو يقول الآتي بإنكسار:
ريتال نامت تعالى شوف الجرح اللي في رقبتها ده عميق محتاجة خياطة ولا أيه؟
أومئ فؤاد وتبعه نحو الخارج، كان جسد ريتال مُمدد على الأريكة بعد أن غفت داخل ذراعي جدها، أقترب منها فؤاد وهو يفحصها برفق وبعد أن تأكد من أن الجرح ليس بعميق قبل أن يُطمئن حماه قائلًا:.

لا الحمدلله هي ملحقتش تعور نفسها جامد بس محتاجة تتطهر طبعًا وهنربطها بس،
بس أيه؟ سأل رضوان بقلق ليتنهد فؤاد تنهيدة طويلة وهو يحاول صياغة ما ينوي قوله بطريقة لا تُحزن قلب العجوز الذي أمامه ولا تُزيد من همومه.

ريتال لازم تتحجز في مستشفى عالأقل كام يوم لحد ما حالتها النفسية تستقر وتتحسن ولازم ترجع تاني لأدويتها وتتابع مع الدكتورة.
لا حول ولا قوة إلا بالله، الحمدلله على كل حال، لو قعادها في المستشفى في مصلحتها نوديها ونفوض أمرنا لربنا. ربت فؤاد على كتف حماه وهو يقول الآتي مع ابتسامة صغيرة مُطمئنة.

متقلقش يا عمي الدكتورة بتاعتها شاطرة وطبعًا هوديها مستشفى خاصة وهتبقى في أوضة لوحدها وتحت إشراف دكاترة وممرضين شاطرين.
كتر خيرك يا ابني، بس هنعمل أيه في الجامعة؟ ده الترم بدأ ولو غابت أكتر من مرة ممكن تتحرم من دخول الامتحانات.

هطلعلها تقرير طبي تاخد بيه اجازة بس طبعًا مش هكتب السبب الحقيقي، ناس كتير عندها جهل بالأمراض النفسية واللي ممكن يحصل بسببها وممكن ميتوافقش عالاجازة فأنا هعملها تقرير إنها محتاجة اجازة لمدة أسبوعين. أفصح فؤاد عن ما ينوي فعله ليطمئن قلب الرجل العجوز، أومئ جد ريتال قبل أن يشكر زوج ابنته بإمتنان شديد.
أنتوا عايزين تاخدوها على فين؟

أنا مش قولتلك تستني جوا يا زينة وأنا جاي؟ سأل فؤاد موبخًا إياها وإن كان قد حافظ على نبرته الهادئة إحترامًا لوالدها، اضطربت معالم زينة قبل أن تسأله الآتي بإستنكار واضح:.

استنى أيه؟ عايز تاخد بنتي على فين يا فؤاد من غير ما تاخد رأيي؟ مش علشان ريتال قالتلك بابا مرة يبقى تقدر تاخد قرارت تخصها من غير ما ترجعلي أو تعرفني! كانت كلمات زينة قاسية، لاذعة حتى أنها صُدمت من بشاعة ما نطقت به وحينما رأت تعابير وجه زوجها أدركت أنها قد أفسدت كل شيء بسبب مزيج الغضب والقلق الذي أجتاحها.

بنتك؟ دلوقتي بقت بنتك أنتِ لوحدك؟ هي مش كانت بنتنا برضوا؟

سأل فؤاد بنبرة حادة فزوجته على وشك أن تفقده عقله وهذه المرة قرر والدها التدخل، لقد كان يتجنب توجيه أي حديث لها كي لا يصب سخطه عليها من ما تسببت فيه لريتال لكن بعد هذه الجملة لقد طفح الكيل ولم يعد قادرًا على سماع كلمة واحدة منها.

زينة! أنتِ أتجننتي ولا جرالك أيه؟ مكفاكيش اللي عملتيه في بنتك والحالة اللي وصلتيها ليها؟ ده أنا سامع صوت زعقيك فيها من عالسلم، ودلوقتي بتجرحي جوزك بالكلام وبتقلي أدبك!

يا بابا أنا، حاولت زينة إيجاد مبرر لتصرفاتها والدفاع عن نفسها لكن والدها لم يُمهلها فرصة وفي ثوانٍ عادت طفلة صغيرة يوبخها أبيها كما كان يفعل حينما كانت طفلة تغضب وتهدم كل ما حولها.

بابا أيه وزفت أيه؟ ليكي عين تنطقي وتبجحي؟ البنت كانت هتموت نفسها بسببك أنتِ والحيوان اللي اختارتي تتجوزيه زمان وأصريتي عليه مع إني قولتلك مية مرة عبدالرحمن ده لا، ويوم ما ربنا يكرمك براجل كويس بيتقي الله فيكي وبيخاف على بنتك وبيعتبرها بنته تقومي تقلي أدبك عليه وتكلميه بالإسلوب ده!

أنا مكنش قصدي يا بابا والله ما كان قصدي، أنا بس زعلت علشان راحت لعبدالرحمن بعد كل اللي حصل، كنت عايزاها تركز معايا أنا وتديني شوية إهتمام زي اللي بتديه لعائلة عبدالرحمن، الناس دي دمرتها بس هي بترجعلهم وتجري وراهم في كل مصيبة ومشكلة،.

كل الكلام ده والدموع دي مش هتأثر فيا يا زينة أنتِ المرة دي غلطانة ومفيش أي مبرر للي عملتيه وقولتيه وأحمدي ربنا إني عمري ما مديت إيدي عليكِ أنتِ وأختك لأنك حقيقي محتاجة قلمين علشان تفوقي. صُعقت زينة من كلمات والدها لتنهمر الدموع من عيناها بغزارة أكثر، أقترب فؤاد ليُربت على كتفها بحنان محاولًا تهدأتها قبل أن يقول بنبرته الهادئة المعتادة:.

أهدي يا زينة، حصل خير يا عمي أهم حاجة إن ريتال تبقى كويسة وبعدها نقعد نتناقش في كل ده ونشوف مين غلطان،.

عندك حق، طيب أحنا هنوديها المستشفى النهاردة ولا هنستنى للصبح؟

سأل جدها ليسود الصمت لبرهة بينما يُفكر فؤاد فالحل الأنسب وفي النهاية قرر مهاتفة طبيبة ريتال وإخبارها بالوضع وأيضًا طلب منها حجز وتجهيز حجرة داخل أحدى المصحات النفسية الخاصة من أجل ريتال، في النهاية كان القرار هو انتظارها حتى تستيقظ وإخبارها بما سيحدث فلو استيقظت ووجدت نفسها حبيسة غرفة في مصحة فلن يكون الوضع جيد على الإطلاق.

حينما استيقظت ريتال قرب الفجر كان جدها مازال جالسًا إلى جوارها وفي يده مصحفه الكبير يتلو القرآن منه، أعتدلت ريتال في جلسته وبحركة تلقائية تحسست عنقها لتُلامس اللاصق الطبي والشاش الذي وضعه فؤاد.

صباح الخير يا جدو.

صباح الخير يا قلب جدو، عاملة أيه دلوقتي؟

أنا أسفة يا جدو، أسفة على كل حاجة، أنا فعلًا غلطانة زي ما ماما قالت بس، أعتذرت منه ريتال على الفور وقد غلفت الدموع عيناها، كفكف جدها دموعها بيده قبل أن يقول الآتي بحنان شديد:
متتعبيش نفسك بالكلام ومتعتذريش، أقولك تعالي نحضر الفطار عايز أقولك على كام حاجة.

مش قادرة أقوم يا جدو، مش جعانة.

طب متاكليش بس تعالي أقعدي معايا في المطبخ. جذبها من يدها برفق لتستقيم ريتال من نومتها بإستسلام، تبعت جدها نحو الداخل وجلست تراقبه وهو يُعد طعام الفطور.

ريتال أنا عايز أقولك على حاجة،.

هروح مصحة مش كده؟ سألت ريتال وهي تبتسم ابتسامة جانبية تنم عن آلم شديد، ترك جدها ما في يده وأقترب منها ليضمها في عناق شديد بين ذراعيه بينما يقول:
حقك عليا يا حبيبتي، حقك عليا. قال جدها وقد أجهش في البكاء لتُربت هي على كتفه برفق قبل أن تقول:.

متزعلش يا جدو، أنا مش زعلانة صدقني، كده أحسن ليا وليكوا أقولك أعتبرني مسافرة كام يوم أغير جو. حاولت ريتال طمأنته ولقد كانت تعابير وجهها جامدة تمامًا وكأنها فقدت قدرتها على الإحساس والتأثر.

أنا هزورك كل يوم، هفضل معاكي دايمًا وهدعيلك وهستناكي ترجعيلي يا حبيبتي.

إن شاء الله يا جدو.

انتهت المحادثة سريعًا وذهبت ريتال لتبديل ثيابها، لم تتحدث إلى والدتها قط ولقد كانت عيناها شاردة طيلة الطريق حتى توقفت السيارة أمام المستشفى، لم تُبدي ريتال أي ردة فعل حينما قاموا بتوديعها بل تبعت الطبيبة نحو الداخل في هدوء تام، في الأيام الأولى لها داخل المستشفى لم تتحدث كثيرًا وبالكاد كانت تبوح بما يجول في خاطرها للطبيبة لكن بمرور الوقت بدأت تُخبرها بما حدث دون الدخول في تفاصيل، رفضت ريتال جميع زيارات والدتها لكنها كانت تُصر على القدوم في كل مرة على الرغم من شعورها بالتوعك والإنهاك الدائم كونها تنتظر مولودًا في وقت ليس ببعيد.

أهلًا يا مدام زينة، أهلًا يا دكتور. رحبت الطبيبة بوالدة ريتال وزوجها وكان الغرض من هذه المقابلة هو إخبارهم بآخر التطورات فيما يخص حالة ريتال.

أهلًا بيكي يا دكتورة ممكن تطمنيني على ريتال؟ أكيد إنهارت طبعًا لما لاقت نفسها هنا، أكيد حاولت تخرج مش كده؟ كانت زينة تتحدث بتوتر شديد دون أن تمنح الطبيبة النفسية خاصة ريتال الوقت للإجابة عن أسئلتها.

مدام زينة أهدي من فضلك، ولا أي حاجة من الكلام ده حصل، البنت كان رد فعلها هادي جدًا وأول لما فاقت قعدت معاها في جلسها وشرحتلها الوضع وقولتلها إنها هنا بصورة مؤقتة وهي تفهمت الموقف وتقبلت وجودها هنا.

ولما هي هادية كده أيه لزمتها تقعد هنا؟ لو كانت في وسطنا في البيت كان هيبقى أحسن ليها.

مدام زينة أنا أسفة على اللي هقوله بس بنت حضرتك حاولت تنهي حياتها، الموضوع جد تمامًا البنت في حالة لازم تبقى تحت إشراف طبي ولو لمدة قصيرة لحد ما حالتها تستقر ونقدر نخرجها، وأظن إن وقت النوبة كانت في البيت على حسب كلامها مش كده؟

كان حديث الطبيبة أشبه بخنجر يطعن قلب زينة لكن على الرغم من قسوة حديثها إلا أنه كان صحيح تمامًا، لقد كانت ريتال بينهم داخل بيت جدها ومع ذلك طاردها شبح الإكتئاب والقلق حتى كاد أن يودي بحياتها لولا لطف الله بها وإنقاذ جدها للموقف.

مدام زينة ريتال محتاجة تبعد عن الضغط، البنت قطعت مسافة كبيرة في رحلة العلاج لكنها رجعت إنتكست تاني بسبب الضغط اللي أتعرضتله في الفترة الأخيرة.

هي هتفضل طول عمرها كده؟ قصدي يعني كل لما تحصل حاجة هتنتكس تاني؟

سألت زينة بإنكسار وهي تتمنى سماع إجابة محددة من الطبيبة، تتمنى لو تخبرها بأن ابنتها ستتحسن ولن تُعيد الكرة مرة ثانية في حياتها، أنها لن تحتاج إلى تلك العقاقير التي تجعل منها تمثال من الرخام يُشبه ابنتها يفتقر إلى الروح وردود الأفعال الطبيعية، تمنت لو تخبرها أنها لم تفشل كأم ولم تُفسد حياة ابنتها التي كانت وحيدة قلبها لسنوات.

بصي يا مدام زينة مش كلنا نفسية واحدة ومش كلنا أعصبنا بتستحمل نفس الحاجات ومخنا مش بيشتغل وبيترجم الحاجات بنفس الطريقة وريتال شخصية حساسة من أقل حاجة بتنهار هي طبيعتها كده، طبعًا بتتحسن مع التدريب والعلاج وبتبدأ تحلل المواقف بهدوء وتستقبل الحاجات السلبية بصورة أفضل لكن إنها متتأثرش خالص ده مش هيحصل.

طيب أيه اللي المفروض نعمله؟

تحاولوا تبعدوها عن الضغط قدر الإمكان، تبقى محاطة بناس فاهمين حالتها كويس، طبعًا لازم تلتزم بالعلاج والجلسات وحتى لما تتحسن متوقفش خالص لكن ممكن تبعد ميعاد الجلسات عن بعض زي ما هحدد معاها.

هنلتزم بكل التعليمات دي يا دكتورة إن شاء الله، شكرًا جدًا لوقت حضرتك. أردف فؤاد وهو يستقيم من مقعده وينتظر من زينة أن تفعل المثل لكنها طالعته بإستياء قبل أن تطلب من الطبيبة مرة ثانية:
يا دكتورة لو سمحتِ أنا عايزة أشوف ريتال بعد إذنك أول لما وصلنا خالص الممرضة قالت إنها نايمة وقعدنا نستنى حضرتك شوية، مش معقول هي نايمة كل ده؟

كان حديث زينة مزيج بين الإستنكار والقلق، طالعت الطبيبة فؤاد بنظرات ذات مغزى ليومئ لها ب حسنًا لتُفصح هي عن حقيقة الأمر.

مدام زينة ريتال رافضة تقابل حد.

أيوا الكلام ده على أي حد من العائلة من صحابها، لكن أنا، أنا مامتها مستحيل ترفض تقابلني.

للأسف يا مدام زينة ريتال رافضة تمامًا تقابل أي حد بمعنى أي حد غير جدها، أنا مكنتش عايزة أقول الكلام ده وأجرح مشاعر حضرتك بس هي هو ده طلبها وأنا مقدرش أجبرها على حاجة.

كده يا ريتال؟ ده أنا ماما حبيبتك، يارب صبرني يارب عالإبتلاء ده، همست زينة من وسط دموعها بينما أقترب منها فؤاد ليضمها بين ذراعيها ليصدح صوت شهقاتها في الأرجاء، لقد كانت ردة فعل ريتال تلك متوقعة بالنسبة إليه لكن لم يخطر في أسوء كوابيس زينة أن ترفض ابنتها لقاءها.

أحضر فؤاد زجاجة مياه من أجل زينة وأبقاها بين ذراعيه لحين تهدأ تمامًا وحينما هدأت عاد بها إلى منزلهم حيث كانت شقيقتها وفريدة في انتظارهم، زَفت زينة إليهم خبر رفض ريتال مقابلة أي شخص وعلى عكس المتوقع لم تنهار فريدة ولم تُبدي أي ردة فعل بل تفهمت الأمر تمامًا وقالت أنها لو كانت في نفس موضع ريتال لأختارت الأمر ذاته وهو الإبتعاد عن كل شيء وكل الأشخاص وإستغلال تلك العزلة في تصفية ذهنها والحصول على بعض الهدوء.

حينما عادت فريدة إلى منزلها هاتفها ياسين ليطمئن عليها وكيف كان يومها، في بداية الأمر لم تُخبره بشأن ريتال وكل ما حدث لكنه أخبرها أنها مختفية تمامًا وأن فريدة توقفت عن ذكرها وهو أمر غير معتاد، في نهاية الأمر أخبرته بما حدث دون ذكر تفاصيل وبعد أن فعلت شعرت بالندم لأن ما حدث أمر خاص لا ينبغي عليها إخباره لأي شخص.

لكن ياسين قد قطع عهدًا على نفسه ألا يتحدث بشأن ذلك الأمر مع أي شخص - هو قليل الكلام في العادة ولا يملك العديد من الأصدقاء على أي حال - فيما عدا تليد الذي كان يسأل عن أحوال ريتال في كل مرة يهاتف فيها ياسين والذين كان يحاول التهرب من الإجابة حتى تلك المكالمة الأخيرة التي دارت بينه هو وتليد...

هي ريتال فين يا ياسين؟ بكلمها مش بترد عليا ولا بتفتح المسدچات، هي كويسة؟ سأل تليد بقلق وهو يراقب تعبيرات وجه ياسين التي كانت مضطربة، ابتسم ياسين ابتسامة متوترة قبل أن يُجيبه قائلًا الآتي:
اه الحمدلله، المهم خد بالك من نفسك بقى الجو على طول برد عندك وأنتَ مناعتك مش ناقصة.

ريتال فين يا ياسين رد عليا عدل؟ ريتال حصلها حاجة مش كده؟ أنا قلبي مكنش مرتاح لغيابها، متخبيش عليا لو سمحت واحترم غربتي يا أخي!

مش عارف أقولك أيه،.

انطق يا ياسين ريتال حصلها أيه؟ صاح تليد بقلق واضح، نبضات قلبه تتسارع حتى كاد يسمعها بأذنه، فارق الثواني بين سؤاله وإجابة ياسين كاد أن يُفقده عقله.

ريتال في المستشفى علشان كده مش عارفة ترد عليك، مش معاها الموبايل.

مستشفى؟ مستشفى أيه؟ ليه أصلًا؟ ريتال جرالها حاجة؟ ما تنطق ساكت ليه يا ياسين؟ صاح تليد وهو يسأله أسئلة متتالية بفزع دون أن يترك له مجال للإجابة، تنهد ياسين بحزن قبل أن يُجيبه بنبرته الهادئة:
مستشفى أمراض نفسية وعقلية، جالها إنهيار عصبي من إسبوع تقريبًا، خناقة في البيت وتعبت جامد يعني فريدة مقالتش تفاصيل أوي احترامًا لخصوصيتها،.

أنا لازم أنزل مصر، لازم أتصرف. قال تليد بإنفعال كان قد توقعه ياسين منه لذلك لم يُخبره بما حدث من البداية.

تنزل فين أنتَ مجنون؟ هو أنتَ فاكر نفسك في السنبلاوين؟ ده أنتَ في بلد تانية ومش سهل تفضل رايح جاي وشغلك وجامعتك.

ريتال أهم من كل حاجة!

أعقل يا تليد لو سمحت أنا مكنتش عايز أقولك علشان عارف ردة الفعل دي، هي الحمدلله أتحسنت وخلاص بقت كويسة وأسبوع كمان بالكتير وتخرج إن شاء الله.

لو بتكدب عليا يا ياسين هيبقى فيها زعل ورد فعل مش هيعجبك.

والله العظيم بقول الحقيقة منى أمتى بكدب عليك أنا يعني؟

طيب يا ياسين لو سمحت تطلب من فريدة تخلي ريتال تكلمني أول ما تطلع من المستشفى.

حاضر يا تليد، خلي بالك على نفسك.

انتهت المكالمة بينهم على هذا النحو، لم يستطع تليد النوم في تلك الليلة ولقد فقد تركيزه تمامًا في العمل فلقد كان عقله مشتت تمامًا وقلبه ينازع من أجل حبيبته التي غادرها في أرض الوطن وهي بصحة جيدة وبخير لتنتكس حالتها فجأة دون أية مقدمات واضحة بالنسبة إليه، منذ تلك الليلة لا ينفك تليد يدعو لريتال بالشفاء ويدعو الله أن يجمعه بها عن قريب وهي في صحة جيدة وبأحسن حال.

في ذلك الوقت وبالعودة إلى أرض مصر الحبيبة وبالتحديد في الإسكندرية، وقفت ريتال تُطالع إنعكاسها في الشرفة، بَهت وجهها وسكنت الهالات السوداء أسفل عيناها، ندبة لجرح غير عميق في عنقها تسببت هي فيه تماشى مع ندبة آخرى سببها والدها، رأسها يدور بقوة وهدوء تام يجتاحها بسبب العقاقير التي تناولتها قبل قليل، شعرت بأنها تطفو على مياه البحر تتمايل مع الأمواج لا يؤثر فيها شيء هكذا كان تأثير الدواء، ثبات إنفعالي رهيب ممزوج بهدوء وبرود تام، تتناول الطعام وكأنها إنسان آلي وبالكاد تتحدث إلى طبيبتها والممرضة، ترفض زيارات والدتها ولا تُقابل سوى جدها كل ثلاثة أيام.

مساء الخير يا ريتال عاملة أيه النهاردة؟

الحمدلله.

أحنا النهاردة هنقلل الجرعة بتاعت الأدوية حاجة بسيطة علشان الحمدلله بدأتي تتحسني. لم تُبدي ريتال أي إهتمام بحديث الطبيبة بل طالعتها بأعين باردة قبل أن تومئ ب حسنًا.

كنت جاية أقولك على خبر حلو على فكرة، تقدري ترجعي البيت من بداية الأسبوع الجاي إن شاء الله بس طبعًا هنفضل ملتزمين بالدواء والجلسات لحد ما حالتك تستقر أكتر.

هو في أمل؟ قصدي إن أنا أتحسن وأعيش حياة طبيعية؟ بخاف أوي نهايتي تكون، تكون على إيدي، خايفة حزينة وتايهة مش لاقية نفسي،.

إن شاء الله مفيش حاجة من دي هتحصل وأنتِ في إيدك تضمني لنفسك حاجة زي دي بإذن الله، استمرارك على العلاج والجلسات وإنك تخلي في محيطك ناس بتحبك وبتخاف عليكي هيساعدك تعيشي الحياة اللي بتتمنيها.

عندك حق. تمتمت بها ريتال قبل أن تُشيح بوجهها عن الطبيبة وتعاود النظر إلى الحديقة الواسعة والقمر المُنير من خلال شرفة حجرتها أو بمعنى أدق حجرتها المؤقتة التي على وشك مغادرتها خلال بضعة أيام.

بالفعل كما وعدتها الطبيبة فلقد أُطلق سراح ريتال بعد أن استقرت أوضاعها، كانت والدتها وزوجها وكذلك جدها في انتظارها رحبت بهم ريتال بهدوء تام قبل أن تقول والدتها الآتي:
هتيجي معايا عالبيت صح؟ عملالك كل الأكل اللي أنتِ بتحبيه وديدا مستنياكي كمان، هقولك ممكن أكلملك خالتك وفريدة يجوا يتغدوا معانا،.

شكرًا يا ماما بس أنا عايزة أروح مع جدو على البيت. رفضت ريتال بأدب كل ما عرضته عليها والدتها ليعبس وجه الأخيرة لكن ريتال لم تتأثر كثيرًا فلقد كانت بحاجة إلى العودة لمنزل جدها لتحظى ببعض الراحة والخصوصية.

خلاص يا زينة خليها ترجع معايا النهاردة وبكرة ولا بعده تبقى تجيلك إن شاء الله.

ماشي يا بابا على راحتها.

عادت ريتال إلى منزل جدها بعد مرور أربعون دقيقة تقريبًا، طالعت المكان بأعين زائغة قبل أن تقع عيناها على الطاولة حيث قامت بتحطيم الزجاجة وفجأة شعرت وكأنها قد غرقت في دوامة من الذكريات، تردد المشهد في رأسها وكأنها تعيشه من جديد ودون مقدمات شعرت بدوار شديد حتى كادت تسقط أرضًا لولا أنها جلست على أقرب مقعد من مقاعد السفرة.

أنتِ كويسة يا حبيبتي؟ استني، خليكي قاعدة هنا هروح أجيبلك كوباية ماية وأجي.

قال جدها بحنان لتومئ ريتال مع ابتسامة مُنهكة، أغمضت عيناها بثوانٍ بينما تقوم بتحريك قدمها بحركات متتالية سريعة تحاول التخلص من شعور التوتر والقلق الذيةأصابها بمجرد أن خطت خطوتها الأولى داخل المنزل، أخذت تُسارع من وتيرة تحريك قدمها حتى صدمت قدمها بقوة بالطاولة لتُطلق سبة بصوت غير مسموع قبل أن تشعر بشيء رقيق قد سقط على قدمها.

أيه ده؟

سألت بتعجب حينما لمحت ذلك المظروف الورقي الصغير الذي سقط من الطاولة والذي كان بمعنى أدق مُخبأ في أحد أركان الطاولة الخشبية وحينما صدمتها ريتال بقدمها سقط، أمسكت به بفضول قبل أن تُقربه من أنفها بحركة تلقائية لتخترق أنفها رائحة عطر رجولي مميزة تعرف صاحبها.

تليد؟ سألت العدم وهي تُطالع المظروف الورقي وكأنه سيُجيبها عن سؤالها.

ريتو، لما تشوفي الجواب ده هكون سافرت (ده طبعًا في حالة إن أنتِ اللي شوفتيه ومش حد تاني اللي قفشه) عايزك تتطمني أنا عمري ما هسيبك، أعتبريني في مشوار بعيد شوية وراجع، عايزك تفضلي قوية زي عادتك، أوعي تخافي من حاجة أو من حد أنتِ جنبك ناس كتير بتحبك وأولهم أنا وعمري - عمرنا - ما هنسمح إن حد يأذيكي، جدك ده ألطف وأحن راجل قابلته في حياتي وأنا أتفقت معاه أول اجازة ليا نقرأ فاتحة واللي بعدها نتخطب إن شاء الله، عارف إن الفترة دي صعبة أوي عليكي وعلى عيني بجد إني سافرت وسيبتك بس أنتِ عارفة الظروف، أوعديني تخلي بالك على نفسك لحد أما أرجعلك يا حبيبتي،.

معرفش أنا بكتب الكلام ده ليه بس قولت أعمل فيها رومانسي وبتاع وبحبك أوي وكده، أتمنى إن أنتِ اللي لاقيتي الجواب وإنه متقطعش وأترمى في الزبالة.

ملحوظة: أنا هخبي الجواب ده في الترابيزة من تحت على أساس تمويه وكده، ولا أنا مش حرامي ولا هجام أنا كتبته لما كنت بايت هنا أنا وياسين.

كل الحب، حبيب عيونك تليد.

قرأت ريتال ما كتبه تليد بأعين دامعة، كانت دموعها مزيج من السعادة، والإشتياق، والحب نحو ذلك الفتى - الذي بالمناسبة لم يعد فتى بل أصبح شابًا يملأ العين والقلب - المُشاغب الذي أوقعها في عشقه، لطالما كانت تسخر من قصص العشق التي تُولد في مرحلة الثانوية ولم تكن تعلم أنها ستكون بطلة واحدة من تلك القصص.

بتعملي أيه؟

ها، مفيش ده، تليد كان سايب جواب. كانت على وشك أن تكذب كردة فعل تلقائية لكنها قررت أن تصارح جدهة في نهاية الأمر فهي تكره إخفاء الأمور عنه خاصة ما يتعلق بتليد، عقد جدها حاجبيه قبل أن يسألها بدهشة لا تخلو من الإعجاب:
جواب؟

اه، كان مخبيه وحاجه جوا ظرف وعامل ختم بالشمع الأحمر جو ستينات خالص كده.

والله أنا قولت الولد ده بيفهم، عارفة؟ ياما كتبت جوابات لجدتك الله يرحمها قبل ما أتقدملها وكل مرة كنت بموت في جلدي من الرعب إن حد يشوف الجوابات دي غيرها.

طب وبعدين يا جدو؟ أحكيلي. سألته ريتال وللمرة الأولى منذ أسابيع يرى جدها تلك اللمعة داخل عيناها والحماس للحديث، حمحم بحرج وهو يُفكر ما الذي يتوجب عليه قوله وما الأجزاء التي يتوجب عليه تخطيها.

وبعدين في مرة في جواب أتقفش كده ووالد جدتك كان يعرف والدي الله يرحمه وأشتكاله مني وطبعًا خدت العلقة التمام لكن وقتها والدتي الله يرحمها جت ومسحت دموعي وقالتلي لو بتحبها ورايدها تطلبها في الحلال.

سرد رضوان قصته مع حبيبته الأولى والأخيرة بأعين حالمة لا تخلو من الدمع إشتياقًا لزوجته الراحلة ولوالديه - رحمة الله عليهم جميعهم - بينما كانت ريتال تستمع إليه في حماس شديد، متشوقة لمعرفة المزيد عن جدها وجدتها التي لم تراها سوى في بضع صور وبالكاد ذكرتها والدتها مرات معدودة.

وأتقدمتلها يا جدو؟

أنا كنت لسه طالب، كان والدي مستواه المادي متوسط معقول يعني يقدر يساعد لكنه رفض إنه يساعدني في البداية واضطريت أشتغل وأنا بدري لحد ما قدرت أحوش مبلغ مش بطال وأول لما أتخرجت طلبت إيدها وفضلنا مخطوبين السنة بتاعت الجيش وأول ما نزلت أتجوزنا.

سرد لها بعضًا من تفاصيل قصة الحب والمغامرة التي عاشها في شبابه حينما وقع في عشق تلك الفتاة الشابة - أي جدتها رحمها الله - وعلى الفور قام عقل ريتال بالمقارنة بين قصة جدها وجدتها وبينها وبين تليد، فلقد سافر تليد للدراسة والعمل أيضًا من أجل تجميع الأموال الكافية ليظفر بها زوجة له.

الله دي قصة حلوة أوي يا جدو، أنتَ كنت شجاع أوي وكنت تستحق إنك تفوز بيها في النهاية.

الحمدلله كل ده من فضل ربنا عليا ودعواتها، عارفة يا ريتال كانت دايمًا تدعيلي من أول يوم شافتني فيه ولحد ما أتوفت في حضني.

أردف بتأثر شديد وقد دمعت عيناه شوقًا إلى زوجته، ابتسمت ريتال ابتسامة صغيرة وهي تقول:
ربنا يرحمها يا جدو ويباركلنا في عمرك.

تليد شجاع، إدعيله دايمًا يا ريتال.

بدعيله يا جدو بدعيله، تمتمت مع ابتسامة صغيرة وإن كانت لا تعرف ما الذي يقصده جدها بالتحديد بشأن تليد لكن ربما شعر بأنه يذكره بنفسه في شبابه.

استأذنت منه ريتال وذهبت إلى حجرتها لتُبدل ثيابها وتُلقي بجسدها على فراشها الذي أشتاقت إليه كثيرًا، بعد بضع دقائق طرق جدها الباب لتأذن لها بالدخول ليدلف إلى الحجرة وهو يحمل في يده صينية بها عشاء خفيف من أجل ريتال.

تعبت نفسك ليه بس يا جدو؟

دي حاجة بسيطة ما أنا مش هسيبك تنامي على لحم بطنك كده.

شكرته ريتال وتناولت القليل من الطعام كي لا تحزن قلب جدها العجوز، حينما فرغت من تناول الطعام قال جدها الآتي دون أي مقدمات:
أوعدك طول ما أنا عايش هحميكي من كل حاجة وحشة يا حبيبتي على قد ما ربنا يقدرني ولو حصل أي حاجة خليكي عارفة إني ضهرك وسندك وإني دايمًا واقف في صفك.

ربنا يخليك ليا يا جدو أنتَ رحمة من ربنا ليا مش عارفة كنت عايشة من قبل ظهورك في حياتي ازاي، أنا من غيرك مقدرش أكمل. أردفت ريتال وهي تعانق جدها عناق دافئ ليقول هو الآتي:
ربنا يطول في عمري مش علشان حاجة أنا خلاص خدت كل اللي محتاجه من الدنيا بس ربنا يطول في عمري علشان أفضل جنبك لأطول مدة ممكنة علشان لما أقابل وجه كريم أبقى أديت أمانتي وألاقي حفيدة زي السكر زيك تدعيلي.

بعد الشر عليك يا جدو متقولش كده ربنا يطولنا في عمرك يا حبيبي. صاحت ريتال بإستياء شديد من حديثه فمجرد تخيل حدوث شيء لجدها جعا قلبها ينقبض بشدة.

وفي عمرك يا حبيبتي يارب وأشوفك كده أحلى عروسة في الدنيا أنتِ والواد الشعنون بتاعك ده.

آمين يارب يا آمين. آمنت ريتال على دعاء جدها وهي تضحك في خجل، ابتسم ابتسامة واسعة حينما سمع صوت ضحكاتها الذي أفتقده كثيرًا في الأيام الماضية قبل أن يقول:
هسيبك ترتاحي بقى علشان عندك جامعة الصبح إن شاء الله.

ماشي يا حبيبي تصبح على خير.

تمتمت ريتال قبل أن يُغادر جدها الحجرة بعد أن أغلق الأنوار، تمددت ريتال براحة أكثر على فراشها الذي أشتاقت إليه وأخذت تتأمل سقف الحجرة والحائط الذي ينعكس عليه ضوء خفيف كلما مرت سيارة أسفل العقار، دقائق معدودة مرت قبل أن تنام بعمق وهي تحمد الله بداخلها على نعمة وجود منزل لها ونعمة العودة إليه.

في صباح اليوم التالي وأثناء إستعداد ريتال للذهاب إلى الجامعة تذكرت أنها لم تفحص هاتفها منذ أن غادرت المستشفى ولقد نصحتها الطبيبة بالإبتعاد عن وسائل التواصل الإجتماعي لأطول فترة ممكنة فتلك التطبيقات والإنفتاح التام على العالم من حولها مع عدم وجود رقابة كافية كفيل بجعل حالتها أسوء والأمر لا يخص ريتال فقط بل يخص جميع البشر تقريبًا فتلك التطبيقات والمحتويات التي يتم عرضها بداخلها تُزيد من تطلعات المرء، تُشتت الكثير عن دينهم، وتاريخهم، وتطمس هويتهم كما أنها تسلب الأشخاص الرضا وتبث فيهم روح القنوط والحقد.

مئات الإشعارات جاءتها حتى كاد يصرخ الهاتف طالبًا الرحمة، كانت أغلب الإشعارات هي رسائل ومكالمات فائتة من تليد.

(ريتال أنا لسه مخلص شغل شكلك نايمة بس كنت عايز أطمنك عليا، / ريتال أنتِ مش بتردي عليا ليه؟ ريتال أنتِ كويسة؟ / ريتال حصل حاجة؟ / طمنيني عليكِ/ طب أنا زعلتك؟ أسف لو زعلتك بس أرجوكي ردي عليا/ ريتال، / ريتال أنا عرفت اللي حصل إن شاء الله أزمة وهتعدي وهترجعي أقوى من الأول مية مرة أنا واثق فيكي، / عارف إنك مش هتشوفي المسدچات دي بس عايز لما تخرجي تشوفي إن أنا مش ناسيكي وإني بكلمك كل يوم ومستني منك رد، ).

قرأت ريتال عشرات الرسائل من تليد، دمعت عيناها رغمًا عنها شوقًا إليه وكذلك بسبب لُطف رسائلها، المسكين ظن أنه أغضبها وأخذ يعتذر دون أن يرتكب أي ذنب، لم تستطع الإنتهاء من قراءة رسائله وقررت أن تتابع القراءة حين عودتها من الجامعة لكن لفضولها أطلعت على الرسائل الآخرى والتي أُرسلت من نانسي أو، صالح! بأي عين يحاول التحدث إليها بعدما حدث في المرة الأخيرة؟ سألت ريتال نفسها وهي تقرأ رسائله والتي لم تكن سوى رسائل إعتذار ممزوجة بإلقاء اللوم عليها، ذلك الأبله كان يعتذر ومن ثم يلومها لأنها هي من تسببت في جعل الحوار بينهم من مجرد محادثة إلى جدال حاد.

(أنا مش عارف أنتِ مختفية فين يا ريتال كل الفترة دي ومحدش عايز يفهمني حاجة، أنا قلقان عليكِ وحاسس إنه مش مجرد زعل والسلام أنتِ فيكِ حاجة، طمنيني عليكِ، ) قرأت ريتال رسالته الأخيرة قبل أن تتنهد تنهيدة أخيرة وتُغلق الهاتف مغادرة المنزل بعد أن طبعت قبلة على جبهة جدها.

خدي بالك على نفسك يا حبيبة جدو.

حاضر يا جدو، متنزلش تجيب حاجة من السوق أنا هجيب الطلبات كلها وأنا جاية.

ماشي يا حبيبتي، الطماطم ناشفة يا ريتال علشان السلطة ها؟

حاضر يا جدو. قالت ريتال وهي تلوح له مودعة إياه قبل أن تتجه نحو الأسفل بعد أن قامت بكتابه كل ما ينقص المنزل في قائمة الهاتف خاصتها.

بمجرد وصول ريتال إلى الجامعة كان أول من قابلها هو مازن والذي رحب بها بحرارة قائلًا:
ريتال صباح الخير، حمدلله على السلامة.

أهلًا يا مازن صباح النور.

أنا عارف إنك طلبتي مني منتكلمش بس أنا كنت قلقان أوي عليكِ لما عرفت إنك واخدة اجازة مرضية، كان عندك كورونا ولا أيه؟ حاول مازن تبرير سبب حديثه معها بالرغم من أنها طلبت منه ألا يفعل في السابق، أتسعت أعين ريتال حينما خمن إصابتها بفيروس كورونا قائلة:
كورونا؟ لا لا، كنت بعمل اللوز.

اللوز؟

الزايدة الزايدة، بهزر معاك مفيش حاجة.

حاولت ريتال تدارك الأمر على الفور وهي تضحك ضحكة متوترة فهي لم تكن بارعة في الكذب، قاطع حديثها معه صوت رنين هاتفها ولقد كانت مكالمة صوتية من أحد التطبيقات ولقد كان المتصل هو تليد، أعتذرت ريتال من مازن وذهبت للإجابة على الهاتف ولقد فهم الأخير أنها تتحدث إلى حبيبها.

تليد عاملة أيه؟

ريتال! ريتال أنتِ كويسة؟ وحشتيني جدًا بجد طمنيني عليكِ أنا كلمتك أول لما لاقيت موبايلك واصله نت أنتِ بخير؟

واحدة واحدة بس براحة أنا كويسة الحمدلله مفيش حاجة.

أيه اللي حصل؟ مين زعلك بس؟ قوليلي وأنا لما أرجع هدشملهولك!

محدش زعلني أنا كنت مضغوطة ووصلت لحالة مش طبيعية أول مرة أوصلها، الدنيا صاعبة أوي يا تليد بجد وكمان أنتَ مش هنا أنا، أنا عارفة إني مش المفروض أقول كده بس أنتَ وحشتني أوي يا تليد بجد، كان نصف حديثها صدق والنصف الآخر كذب، لقد تعرضت للضغط مِن مَن حولها ولقد عصفوا بقلبها وعقلها عصفًا لكن في الوقت ذاته كان غياب تليد أحد محفزات شعورها بالوحدة التي أدت إلى إنهيارها في نهاية المطاف.

وأنتِ كمان يا ريتال، أنا عايزك تستحملي الفترة دي بس علشان خاطري وأنا راجع وهخطبك ومش هخليكي تزعلي تاني أبدًا وهحميكي من أي حد بيحاول يضرك أو يضايقك.

حاضر يا تليد صدقني هحاول، أنا لازم أقفل علشان عندي محاضرة.

لما تخلصي أبعتيلي مسدچ وأبقي قوليلي شوفتي الجواب ولا لا ده لو كنتِ لاقيتيه أساسًا. قال تليد مراوغًا إياها ظنًا منه أنها لم تجد لتُفاجئه هي بالآتي مُردفة مع ضحكة ساخرة:
شوفته وجده شافه معايا.

يادي الفضايح طب أقفلي ياختي أقفلي.

انتهت المحادثة بينهم وسط ضحكات ريتال، لقد استطاع تليد أن يؤثر عليها بالإيجاب ولقد كان قادرًا على إضحاكها وتحسين مزاجها الأمر التي عجزت عنه العقاقير، لقد كان تأثيره هو وجدها عليها أقوى من تأثير أي شخص آخر.

مر الأسبوع الأول بسلام شديد حتى حان موعد عطلة نهاية الأسبوع وبدلًا من أن تزور ريتال والدتها طلبت من جدها أن تزور شخصًا آخر...

جدو هو ممكن نسافر بكرة القاهرة؟

أكيد يا حبيبتي، عايزة تساعدي فريدة في شراء الحاجة ولا أيه؟

عايزة أزوره، قصدي، عبدالرحمن يعني،.

اه، ماشي يا حبيبتي مفيش مشكلة لو ده يعني اللي أنتِ عايزاه من غير ضغط ولا كلام من أي حد بس أهم حاجة الموضوع ده ميأثرش عليكِ بالسلب أنا ما صدقت تتحسني وتفوقي لنفسك.

حاول جدها إخفاء صدمته من طلبها وعلى الرغم من كرهه الشديد لعبدالرحمن إلا أنه كان مُدركًا للغاية أن مشاعره تلك لن تنفي كونه والد حفيدته في نهاية الأمر وأن لها كامل الحق في رؤيته وزيترته دي وإن كان يخشى عليها نتائج تلك الزيارة.

متخافش عليا يا جدو أنا رايحة بمزاجي مش بكلام من أي حد، عايزة أعمل اللي عليا واتطمن عليه، هتبقى الزيارة الأولى والأخيرة.

حاضر يا حبيبتي بكرة إن شاء الله بعد صلاة الجمعة نتحرك مع بعض.

وطلب كمان يا جدو، مش عايزة ماما تعرف أي حاجة عن الزيارة دي.

بس، مامتك من حقها تعرف أنتِ فين، أحنا برضوا مسافرين محافظة تانية ولازم تبقى متطمنة عليكِ وعندها خبر. لم يستطع إخفاء إعتراضه هذه المرة لكن ريتال تنهدت بضيق شديد قبل أن تقول الآتي بنبرة لا تخلو من الترجي:
لو سمحت يا جدو أنا مش عايزاها تعرف، أنا هقولها إني سافرتله بس بعدين الوضع دلوقتي مش أحسن حاجة بينا والكلام في الموضوع ده هيخلي المشاكل تكبر أكتر وأنا معنديش طاقة لكده،.

خلاص على راحتك يا بنتي.

وافق جدها على طلبها لكن بصورة نسبية حيث لم يُخبر والدتها بأمر سفرهم إلى القاهرة لكنه أخبر فؤاد تحسبًا لحدوث أي شيء ولكونه في مقام والدها، بالفعل بعد أن انتهت صلاة الجمعة اصطحب ريتال وفريدة إلى القاهرة، قام بإيصالها إلى منزل أبيها وجدتها قبل أن ينتظرها في مقهى قريب هو وفريدة فهو لم يستطع تركها بمفردها ولم يكن له الحق في دخول ذلك المنزل.

طرقت ريتال باب المنزل وانتظرت في الخارج، تقف وحيدة في انتظار أن يُفتح الباب لكي تنتهي من تلك الزيارة في أسرع وقت ممكن، أجل لقد جاءت إلى هنا طواعية دون ضغط أو إجبار من أي شخص - عدا نفسها - وفي غضون ثواني فُتح الباب من قِبل نانسي التي راقبت ريتال بدهشة وقبل أن تنطق بحرف واحد سبقها صوت ريتال وهي تقول:.

عايزة أشوفه. نطقت بإقتضاب دون أن تذكر من يكون الشخص الذي تريد رؤيته لكن لم يكن التخمين صعبًا، لقد جاءت من أجل والدها لكنها لن تنطق بكلمة بابا أو أي لفظة مشابهة.

تعالي هو في شقة تيته.

أومئت ريتال وهي تتجه نحو الداخل، خلعت حذائها بتلقائية شديدة فهي تعرف كم تكره جدتها دخول أي الشخص بالحذاء داخل المنزل وخاصة أن يسير على البساط، كانت جدة ريتال منشغلة في طهو الطعام في المطبخ ولم تنتبه لقدومها مما أراح قلب ريتال فلا طاقة لها بالحديث مع أي شخص، طرقت باب الحجرة الصغيرة التي خمنت أنها تنتمي لوالدها الآن ولقد كان تخمينها صحيحًا.

خطت ريتال بخطوات بطيئة مهزوزة نحو حجرة أبيها، ذلك الباب الخشبي يفصلها عن ذلك الرجل الذي كان يومًا ذو جبروت وقوة، قاسي جاحد يدعس ابنته دعسًا أسفل قدميه، الآن بات أقرب إلى جثة هامدة مُمدد أعلى فراش المرض ويجلس صالح بالقرب منه محاولًا إطعامه، كان النصف الأيمن من جسده متأثرًا بالجلطة أي لم يستطع تحريك ذلك الجزء من جسده مع وجوده صعوبة في الكلام نظرًا لتأثر عضلات وجهه.

مس، مساء الخير. نطقت بتعلثم وهي تحاول الحفاظ على تعبيرات وجهها، اندهش صالح لسماع صوتها وألتفت نحوها ناطقًا بدهشة:
ريتال؟

طمني صحته عاملة أيه دلوقتي؟ وجهت ريتال سؤالها لصالح متجنبة توجيه حديثها لوالدها الذي بدت عليه السعادة لرؤية ابنته وإن لم يكن قادرًا على التعبير عن فرحته بوضوح، تحاشت ريتال النظر نحوه وانتظرت رد صالح.

الحمدلله بدأ يتحسن وأكيد بقي أحسن بعد ما شافك، البيت نور يا ريتال. أجابها صالح بنبرة حالمة وسعادة لم يستطع أن يُخفيها لكن كل ذلك لم يؤثر بها فلقد كان عقلها منشغلًا بأبيها.

شكرًا، أنا مش هقدر أطول لازم أرجع اسكندرية النهاردة مع جدو أنا جيت بس اطمن على، با، جيت اطمن عليه.

لم تستطع ريتال أن تنطق بلفظة بابا وعلى الفور تجمعت الدموع داخل عيناها وهي تغادر الحجرة في تلك اللحظة حاول عبدالرحمن أن يستقيم من جلسته محاولًا اللحاق بها لكن جسده لم يُسعفه ولم يقوى على الحركة لتتجمع الدموع داخل عيناه ويتضاعف شعور القهر بداخله.

تمنى لو يُسعفه لسانة ليعتذر منها عن كل سوء قد إقترفه في حقها، تمنى لو أسعفه ذراعيه ليضمها في عناق قوي ولا يدعها تغادر جواره أبدًا، تمنى لو يعود به الزمن إلى الوراء فلا يُسافر تاركًا إياهم خلفه ولا يتزوج بسالي ولا يقسو على ابنته وزوجته حبيبته كما فعل لكن الزمن لا يعود والغفران هبة لا يحظى بها الجميع وهو لن يحظى به قط...

ريتال، ريتال أنتِ كويسة؟

آخر حد كنت أتوقع ألاقيه جنبه هو أنتَ.

ريتال أنا،.

أنا مش بلومك والله أنا مبسوطة إنه لاقي ناس تهتم بيه بعد كل اللي عمله، شكله تاب وقرب لربنا والحمدلله ربنا رزقه بناس تشيله في مرضه، خلي بالك عليه يا صالح.

ريتال استني بس، رايحة فين؟

راجعة البيت، راجعة اسكندرية عند جدو، البيت ده عمره ما كان ولا هيكون بيتي والناس اللي جواه ولا أعرفهم ولا يعرفوني، راجعة للمكان اللي حسيت فيه بالدفاء وسط الناس اللي بيحبوني.

بس أنا بحبك! نطق بها صالح بدون وعي، وقع الجملة كان صادمًا على كلاهما وساد الصمت لوقتٍ لم يحصيه أيًا منهما بل نظرت هي إلى عيناه في صدمة وفرغ ثغرها، كم تمنت في صغرها أن يُحبها صالح وكم دعت الله أن يجمعهما، وكم حلمت بسماع تلك الكلمات تنساب من بين شفتيه لكن الآن، الآن لم يعد لتلك الكلمات أي قيمة بالنسبة إليها.

أشوف وشك بخير يا صالح. نطقت بها ببرود تام قبل أن تغادر المكان وقد سحقت قلبه وما تبقى من كبريائه أسفل قدمها، في ظروف آخرى ما كانت ريتال لتفعل فعلتها تلك ولكانت على الأقل أظهرت بعض الإحترام لمشاعره لكن بعد أن تذكرت كلماته القاسية في المقابلة الأخيرة لهم قررت أن ترد الصفعة بواحدة أقوى منها.

في ذلك اليوم شعرت ريتال بشعور غير مفهوم وكأنها وُلدت من جديد، ريتال جديدة قد ظهرت في ذلك اليوم بعد ما مرت به من مصاعب ومشكلات في الآونة الأخيرة وقد ختمتها برؤية والدها ذو القوة والجبروت مُمدد على فراش المرض، ذلك الشاب الذي طالما أحبته قد أعترف بمشاعره بعد أن تخلصت هي من خاصتها، لقد جاءت إلى هنا بإرادتها التامة دون تدخل أي شخص آخر، لقد استطاعت إتخاذ القرارات وتنفيذها أخيرًا دون الرجوع إلى أحد، لقد أصبحت ريتال شخصية أقوى وإن كانت النيران قد أشتعلت داخل قلبها والرياح عصفت بها إلا أنها مازالت تقف على قدميها كجبل ثابت.

اثنى عشر شهرًا مرت في لمح البصر، الأيام مرت سريعًا ومعاناة ريتال أخذت تندثر بخطوات بطيئة كطفل تعلم المشي حديثًا لكن على الأقل كانت تتحسن ولو بنسبة، وضعت زينة مولودها والذي كان ذكرًا سُمي إياد، إياد فؤاد نور عين والديه وقلب أخته الكُبرى، لقد كبرت أسرة ريتال وأصبحت أخت كبرى لثلاثة أخوة ذكريين وأنثى (إياد، يوسف، فريدة).

انتهت ريتال من عامها الثاني في كلية طب الأسنان وقد تخرجت فريدة في الكلية ذاتها وقد سقطت داخل دوامة من المشاوير والسفر اللامتناهي لشراء كل ما ينقص عش الزوجية خاصتها هي وياسين وإن كان الزواج لن يتم قبل ستة أشهر آخرى على الأقل.

علي الرغم من تردد ريتال على القاهرة لبضع مرات برفقة فريدة إلا أنها لم تقوى على زيارة والدها مرة آخرى يكفي الآلم النفسي الذي تسبب به المرة الأولى، على الرغم من قسوة فعلتها تلك وتجاهلها لوالدها إلا أنها تصالحت مع كونها قاسية وأدركت أنها قد تغيرت للأسوء في بعض النقاط رغمًا عنها فبعض التجارب لا ننجو منها تمامًا كما بدأنها فكل شيء داخل تلك التجربة يؤثر على صاحبها سواء بالسلب أو بالإيجاب وفي حالة ريتال لقد كان خليط من الإثنين.

كانت تكتفي ريتال بمعرفة أحوال والدها عن طريق مهاتفة جدتها أو نانسي، أما عن يوسف فلم تراه منذ أن تحسنت أوضاع سالي فلقد صحبته معها للعيش في منزلها الجديد الذي إبتاعته بعد أن أجبرت والد ريتال أن يُطلقها وبالطبع لقد حظت بالكثير والكثير من الأموال التي أهدر والدها سنوات من عمره في الغربة لجمعها، كان أكثر ما يشغل بال ريتال هو حال شقيقها الأصغر والذي رفضت سالي السماح له بمقابلة شقيقته الكبرى وحينما أدركت ريتال أنه لا فائدة من محاولاتها تلك أكتفت بأن تكفله في دعائها كل ليلة وأن تسأل الله أن يجمعها بشقيقها في حالٍ أفضل.

أما عن صالح فلم يقوى أيًا منهم على التحدث إلى الآخر أو السؤال عنه بعد المرة الأخيرة حينما أعترف هو بمشاعره ورفضته ريتال كما رفضها العديد من المرات في السابق، لقد بقى صالح كشبح لصديق مقرب وحبيب الطفولة وليس أكثر من ذلك.

أبعدت ريتال ذكريات العام الماضي إلى مؤخرة رأسها وصبت جل انتباهها على الحاضر، وقفت ريتال داخل مطار القاهرة الدولي مُرتدية ثوب باللون الأرجواني مع حجاب رأس باللون الأبيض ذو شريط من الحرير، ترتدي في عنقها السلسال الذي أهداها إياه تليد قبل رحيله، تحمل في يدها باقة كبيرة من الزهور الحمراء تُقربها إلى أنفها كل بضع دقائق لتستنشق عبيرها قبل أن تنظر إلى ساعة يدها، لقد تأخر عن الموعد المحدد لوصوله بحوالي خمسة دقائق وثلاثون ثانية بالتمام.

ريتو! جاءها صوته المرح الذي اشتاقت إليه لترفع رأسها موجهة نظرها صوب المتحدث.

قلب ريتو.

همست بها رغمًا عنها وهي تبتسم ابتسامة واسعة كشفت عن أسنانها التي لمعت كالبرق في سماء ليلة مُظلمة، بادلها الإبتسام وهو يقترب وفي يده حقيبة سفره الكبيرة، لقد تبدلت هيئته عن المرة الأخيرة التي رأته فيها لقد أزداد وزنه بضع كيلوجرامات وقد أصبح جسده رياضي والأهم لقد ترك العنان لخصلات شعره المموجة الناعمة التي أصبحت تصل إلى نهاية عنقه مع لحية خفيفة.

بقى ينفع الورد يجبلي ورد؟

سألها تليد مغازلًا إياها بينما يتناول الباقة من يدها، ابتسمت ريتال بخجل وهي تحيد بنظرها بعيدًا عنه قبل أن تعاود النظر إلى عيناه بينما تقول بحنان:
حمدلله على سلامتك يا تليد.

حمدلله على سلامتي يا ريتال علشان أنا سلامتي جنبك أنتِ وبس، أنا مش تليد من غيرك، أنا مش عارف أنا ولا حاجة من غيرك، أنا بشوف نفسي فيكي وبعرف نفسي بيكي،.

لا يعلم تليد كيف نطق بتلك الكلمات وكأنها عبرت من قلبه على لسانه دون أن يبذل أي جهد، لكن ما كان يعرفه أن كلماته كانت صادقة تُعبر عن جزء ضئيل من مشاعره تجاهها، لم تجد ريتال كلمات مناسبة لتُجيب عنه لكن لمعة عيناها ونظراتها كانت أبلغ من أي كلمات يمكنها النطق بها.

بقول أيه، هي مبتجيش غير كده، تتجوزيني؟

الفصل التالي
جميع الفصول
روايات الكاتب
روايات مشابهة