رواية وصال مقطوع للكاتبة إيمان عادل الفصل الثاني
ثلاثة أيام مرت منذ أن تم إرسال تلك الرسالة إلى ريتال، لم تُجيب ولم تخبر أحدًا بشأنها فلقد اعتبرت أنها مجرد رسالة طفولية مُرسلة من فتاة ساذجة قد أعجبها فتى المدرسة السيء، تلك الحكايات المبتذلة المنتشرة بكثرة في أدب المراهقين والتي لم تنوي ريتال أن تكون جزءًا منها فحياتها تحوي من التعقيد ما يكفيها حتى لا تفكر في الإنخراط في أمر كهذا!
كانت تذهب ريتال إلى المدرسة على طريقة الإنسان الآلي، بالكاد تتجول في المكان، بالكاد تتحدث وبالكاد تستمع إلى أحاديث حنين وعالية الشيقة، لم يلاحظ أحدًا الهم الذي أطبق على صدرها والعبوس الذي لم يفارق وجهها منذ مكالمة والدها القاسية!
كانت تتجنب ريتال ذلك الفتى السيء المدعو تليد، لم تعد تجلس في المقعد الأخير كي لا يتخذ من ذلك حجة كي يذهب للتحدث إليها، على أي حال لم يكن هو من النوعية الملتزمة فلقد كان يختفي أثناء الشرح في معظم الأوقات.
في مساء يوم الخميس عادت ريتال من المدرسة لتنام لخمسة ساعات متواصلة ولم يوقظها من النوم غير موعد تناول العشاء والذي لم تكن لترفض تناوله بعد أن تجاوزت وجبة الغداء بسبب نومها.
ريتال يلا قومي مش هيبقى لا غداء ولا عشاء يعني، قومي جدتك عماله تسأل عليكي.
يووه، صحيت أهو، وبعدين نطلب دليفري يا ماما يعني لو فوت العشاء!
ياستي هطلبلك اللي أنتِ عايزاه لو جعتي تاني بس يلا عشان ناكل كلنا مع بعض وأبقي ألبسي الطرحة عشان صالح هيتعشى معانا.
صالح! صالح مين؟
مالك يا ريتال في أيه؟ صحصحي معايا كده، صالح ابن عمك.
اه صالح ابن عمي صح، أردفت بخمول وهي تحاول استيعاب من تكون وأين تكون وما طُلب منها، استقامت من سريرها وهي تحاول إعادة ضبط خصلات شعرها.
بعد خمسة عشرة دقيقة كانت ريتال مستعدة، ترتدي ثوب فضفاض باللون البنفسجي ووشاح رأس باللون الأبيض المنطفئ (أوف ويت) وقد كانت والدتها ترتدي ثياب مشابهة لخاصتها.
مساء الخير، أردفت ريتال بنبرة ناعسة وهو تحاول جذب الكرسي لكي تجلس في مكانها المعتاد.
يا أهلًا يا أهلًا بال sleeping beauty الجميلة النائمة بتاعتنا.
تمتم صالح ممازحًا فور رؤيته لريتال والتي انتفخت عيناها السوداء الواسعة بسبب تأثير النوم بالإضافة إلى الحمرة التي ملئت عيناها كذلك، أعتلت الدهشة تعابير وجهها مما قاله قبل أن تبتسم ابتسامة خجولة وهي غير مصدقة لما قاله حتى وإن كان على سبيل المزاح، ذهبت لتجلس إلى جانب والدتها وفي مقابلها جلست نانسي والتي بجوارها عطر ومن ثم صالح.
على فكرة يا ريتال لون الطرحة دي وحش أوي.
علقت نانسي بدون مقدمات لتُصعق ريتال وكأن أحدهم قد سكب ماء مثلج فور رأسها ومن ثم غلف الحزن وجهها وقد شعرت بأنها فقدت القدرة على الحديث فباتت لا تدري ماذا تقول ردًا على تلك الجملة اللاذعة، ساد الصمت لثوانٍ قبل أن تقطعه الصغيرة عطر وهي تدافع عن ريتال قائلة:
لا ده لون جميل أوي على فكرة.
هو اللون جميل في العموم اه بس مش لايق على ريتال يعني مغمقها أوي وهي مش ناقصة يعني.
عقبت نانسي على جملة عطر وهي تنهي حديثها بضحكة ساخرة مُستفزة ليُطالعها صالح بحنق بطرف عيناه قبل أن يحمحم وهو يرتاح أكثر في جلسته بينما يُردف الآتي: عارفة يا ريتال إن اللون ده شلكه حلو أوي عليكِ مخليكِ شبه الملايكة كده، ابقي فكريني اشتريلك دستة من اللون ده، وبعدين يا أستاذة نانسي لما تبقي تتحجبي إن شاء الله ابقي اختاري ألوان الطرح وقولي رأيك فيها لكن دلوقتي أظن إن رأيك ملهوش أي لازمة يعني.
تعمد صالح أن يقوم بإحراج نانسي وأن يرد الإساءة بدلًا عن ريتال والذي كان يعلم جيدًا أنها لم تكن لتنبس ببنت شفة، وعلى أي حال لم يكن صالح ليُعلق على أي شيء يخص نانسي أو اختياراتها لكنه قرر التدخل بنفسه هذه المرة لأنها لم تكن المرة الأولى التي تتفوه بها نانسي بشيء مسيء يخص ريتال.
أعتلت الدهشة وجه الجميع وبشكل خاص ريتال والتي منحت صالح ابتسامة إمتنان قبل أن تُخفض نظرها إلى طعامها بينما كانت نانسي تستشيط غضبًا ليس فقط من ما قيل بل بسبب القائل نفسه، صالح والذي لم يكن من صعب تخمين أن نانسي تعتبره هدف تحارب ريتال من أجله، والآن هو يدافع عن ريتال ويأخذ صفها أمام الجميع!
نظرت نانسي بنظرة جرو صغير بائس إلى والدتها لتضحك الأخيرة ضحكة صفراء قبل أن تمازح صالح وإن كانت نبرتها مزيفة قائلة: أيه يا واد يا صالح بتدخل في كلام البنات ليه؟ وبعدين بنت عمتها وبتهزر معاها فيها حاجة دي؟
أمتعض وجه صالح من ما قالته عمته لكنه حاول جاهدًا أن يُخفي ضيقه وعوضًا عن ذلك قام برسم ابتسامة مزيفة على ثغره وهو يُعقب على حديث عمته وهو يقوم بإحراجها بالأدب مُردفًا: أولًا يا عمتو أنا مش واد، ثانيًا بقى الكلام اللي بيدور في القاعدة دي الكل بيتشارك فيه ومش حِكر على حد، ثالثًا ما هي كمان بنت عمتي وبهزر معاها ولا الهزار ليها ينفع وليا مينفعش؟
خلاص خلصنا بطلوا لعب العيال ده، قوليلي يا زينة أخبار جوزك أيه؟ قاطعت الجدة النقاش الذي يدور بين الجميع والذي اتخذ منحنى لم يروق لها كثيرًا لذا قررت أن تقوم بتغير الموضوع لتسأل زينة حول الآتي: الحمدلله يا ماما كلمني وهو بخير.
أمم يعني أنتوا كويسين متأكدة؟ متخانقتوش كده ولا كده؟
سألت جدة ريتال بمراوغة تدل على علمها بالجدال الذي حدث بين زينة وبين ابنها الأصغر والأقرب إلى قلبها عبدالرحمن، كادت أن تُجيب زينة لكن سبقتها غادة شقيقة زوجها وهي تُردف:
أكيد لا يا ماما زينة عاقلة وأكيد مش هتزعل عبدالرحمن هي هتلاقي ضفره فين؟
أصل وصلني كلام من أخوكي أنهم اتخانقوا مع بعض وإن هي مقموصة عشان مش هيعرف ياخد اجازة الشهر ده زي ما كان وعدها.
قامت الجدة بثينة بسرد ما حدث بإختصار بين ابنها وزوجته أمام الجميع دون أن تراعي الخصوصية بل ولم تكتفي بذلك بل قامت بإستخدام تعبيرات ساخرة وكأنه تتفه من سبب حزن وضيق زينة.
معقول يا زينة الكلام ده؟ سألت غادة بضيق مُبتذل وهي تُطالع زينة والتي تركت الطعام الذي في يدها وابتلعت الطعام الذي في حلقها بصعوبة.
والله يا ماما بثينة طالما عبدالرحمن حكى لحضرتك كل حاجة يبقى مفيش داعي تسأليني،.
لا اسألك وأنتِ تجاوبي، أنا قولتها مرة وهقولها تاني أنا مش هسمح لأي حاجة أو أي حد يعكنن مزاج ابني حبيبي المتغرب بعيد عن حضني، جوزك ده لازم تعرفي قيمته وتقدري التعب اللي بيتعبه عشانك أنتِ وبنتك!
حاضر يا ماما هعرف قيمته وهقدره وكل اللي حضرتك تطلبيه، عن إذنكوا أنا شبعت.
نبست والدة ريتال بإستياء شديد ومرارة تفوح من حديثها، وضعت الملعقة خاصتها على الطبق بقليل من العنف لتتسبب في رنين بسيط على الطبق خاصتها قبل أن تستقيم من مقعدها، توترت الأجواء على الفور وأخذ الجميع يطالعون بعضهم البعض بحيرة عدا تلك المرأة العجوز والتي جاوز عمرها الستون عامًا والتي أمتعضت تعبيرات وجهها وأخذت تنظر إلى الأمام بجمود دون أن تنبس ببنة شفة.
استني يا ماما أنا طالعة معاكي. قطعت ريتال الصمت وهي تستقيم من مقعدها لكي تتبع والدتها التي همت بالرحيل لكن أوقفها صوت جدتها وهي تطلب منها الآتي بنبرة حازمة:
اقعدي كملي أكلك يا ريتال ولما تخلصي ابقي حصلي زينة.
بدت الحيرة على وجه ريتال لثانية قبل أن تنظر إلى والدتها التي لم ترحل بعض، أشارت إليها والدتها بالبقاء لتومئ ريتال وتعاود الجلوس في هدوء وإن كانت تعلم أنها في الغالب ستتقيأ ما ستتناوله الآن بسبب توتر الأجواء الذي حدث قبل قليل وفي تلك اللحظة وقعت عيناها على صالح والذي كان يطالعها في الوقت ذاته فمنحها نظرة وكأنه يخبرها أن تطمئن وأنه لا داعي للتوتر.
انتهى ذلك العشاء المشئوم بالنسبة إلى ريتال لتهرب على الفور بعد أن استأذنت جدتها في أن تصعد إلى والدتها بدلًا من قضاء السهرة معهم، وكان ما يدور في ذهن ريتال في تلك اللحظات هو أنها تود الإطمئنان على والدتها كما أن لا طاقة لها لسخافات نانسي وسخريتها المستمرة من أي شيء تقوم به ريتال حتى وإن لم يكن يدعو للسخرية.
غادرت ريتال الجزء المخصص من المنزل لجدتها كي تصعد إلى والدتها، ولقد كان المنزل يشبه إلى حدٍ كبير ?يلا كبيرة مكونة من أربعة طوابق، الأول حيث تقطن جدتها، الثاني عمتها، الثالث ريتال ووالدتها والرابع خاصة صالح وعطر ووالدهما، كان لكل طابق بابٍ خاص كنوع من أنواع الخصوصية بينما يوجد سُلم في أحد أركان المكان والذي يقود إلى الطوابق العليا وكان المنزل محاط بحديقة صغيرة نسبيًا لكنها تفي بالغرض.
ونظرًا لكونهم في المساء وكون جدتها تعشق الإضاءة خافته كانت ريتال تقترب من السُلم المُظلم في هدوء تام قبل أن يأتيها صوت صالح وهو يسألها:
أقفلك عالسلم لحد أما تطلعي زي زمان؟ انتفضت ريتال من موضعها وهي تضع يدها أعلى موضع قبلها قبل تضحك ضحكة صغيرة تُردف بعدها الآتي بخجل:
لا شكرًا، مبقتش أخاف من الضلمة.
ولا القطط؟ سألها بخبث وهو يضحك لتبتسم هي بتوتر واضح قبل أن تنبس بالآتي ممازحة:
ولا القطط بس إنك تيجي ورايا فجاءة وتكلمني بدون مقدمات كده هيجيلي سكتة قلبية!
بعد الشر عليكِ، يلا اطلعي اطمني على طنط وسلميلي عليها.
حاضر،.
صعدت ريتال سريعًا وبمجرد أن صعدت إلى مكان لا يمكن لصالح أن يراها فيه أطلقت تنهيدة طويلة وهي تضع يدها بالقرب من موضع قلبها لتشعر بمدى تسارع نبضات قلبها، بعد أن تأكدت من أنها هدأت تمامًا قامت بإستخدام المفتاح خاصتها لتدلف إلى داخل الجزء المخصص لها هي ووالدتها والذي امتاز بمساحة كبيرة.
كانت والدتها تجلس على الأريكة تنهمر الدموع من عيناها بصمت بينما تشاهد أحد الأفلام للرومانسية الحزينة وفي أحدى يديها تحمل لوح شيكولاتة كبير وأمامها طبق كبير من البشار المختلط بالكراميل ومن حولها أنواع مختلفة من الحلوى.
ماما أنتِ كويسة؟
أنتِ جيتِ أمتى؟ أتعشيتي كويس؟ سألت والدتها بإهتمام حقيقي لتجلس ريتال بالقرب منها وهي تضم والدتها من كتفها بينما تُجيبها قائلة:
أتعشيت يا حبيبتي متقلقيش، وريني كده بتتفرجي على أيه بقى؟
أهو فيلم كله نكد وخلاص، معرفش ليه لازم يموتوا حد من الأبطال في الآخر، يعني مينفعش يسيبوا الناس تتهنى حتى في الأفلام لازم ينكدوا عليهم ويفرقوهم عن بعض؟ مش كفاية الفراق اللي الواحد عايشه،.
كان حديث والدتها قد يبدو عشوائيًا بعض الشيء لكن استطاعت ريتال أن تستشعر الحزن والوحدة التي سيطرت على قلب والدتها، إنها تفتقد وجود زوجها الحبيب عبدالرحمن والذي أغرته أموال العمل بالخارج والسيارة الفاخرة والمنزل الجديد الذي سيستطيع شرائه وقد تخلى عن ما هو أقيم من كل ذلك زوجته وابنته الوحيدة وفي النهاية راحته الشخصية فالعمل بالخارج أشبه بحلبة المصارعة.
فراق أيه بس يا ماما ما أنا جنبك وفي حضنك أهو وبعدين كلها شهرين وبابا يرجع بالسلامة إن شاء الله ويتلم الشمل تاني.
إن شاء الله يا حبيبتي،.
ضمت ريتال والدتها بلطف وهي تداعب خصلات شعر والدتها الملساء، بقيت والدة ريتال بين أحضان ابنتها لبضع دقائق قبل أن تقطع ريتال الصمت وهي تسأل والدتها حول الآتي:
بقولك أيه يا مامتي هو أحنا معندناش كريم للبشرة؟ كريم تفتيح يعني.
كريم تفتيح؟ لا مظنش ليه؟
حاسة بشرتي أغمقت أوي وحاسه إنها باهتة كمان، شكلي بقى غريب.
نبست ريتال وهي تتحاشى النظر إلى وجه والدتها والتي عقدت حاجبيها بمزيج من الدهشة والإعتراض قبل أن تُردف مستنكرة:
أيه كل ده في أيه؟ مفيش حاجة من الكلام ده خالص أنتِ بشرتك باهتة عشان مش بتاكلي كويس مش أكتر وعالعموم لو في حاجة في بشرتك مضايقاكي حبوب مثلًا أو كده ممكن نشوف دكتور لكن لون بشرتك ملوش علاقة بالموضوع ده.
نفسي أعرف بابا أبيض أوي وأنتِ كمان بشرتك فاتحة أنا طالعة سمراء لمين؟ سألت ريتال بمرارة واضحة لتضطرب معالم وجه والدتها أكثر وهي تسألها بجدية:
وماله السمار بقى؟ ما أنتِ زي القمر أهو!
قمر اه، أمر بالستر، أنا هقوم أغير هدومي.
نبست ريتال بسخرية فهي لا تستطيع تقبل لون بشرتها أو هيئتها بشكل عام وحديث والدتها بالنسبة إليها هو مجرد محاولة بائسة منها لإدخال السرور على قلب صغيرتها الوحيدة، استقامت ريتال من مقعدها وهي تتجه نحو حجرتها وبمجرد أن فعلت نزعت وشاح الرأس الأبيض خاصتها بعنف وقامت بإلقاءه على الأرضية بحنق شديد وقد أخذت عهد على نفسها ألا ترتدي وشاح أبيض اللون مجددًا!
علي الرغم من دفاع صالح عنها إلا أن في قرارة نفسها قد صدقت ما قالته نانسي بكون ذلك اللون لا يليق بها وأنه يزيد من شحوب بشرتها وجعلها تبدو سمراء بشكل زائد، إن كانت هذه الجملة ذات معنى من الأساس!
مرت أيام الإجازة الرسمية أو إجازة نهاية الأسبوع بمعنى آخر، كان الهدوء يسود يومي الجمعة والسبت، تجنبت والدتها التحدث إلى جدتها وكانت التعاملات غاية في الرسمية، كما أنها لم ترى صالح قط ونانسي كانت في رحلة لمدة يومان برفقة والدتها لذا قضت ريتال اليومان برفقة والدتها وعطر.
في صباح يوم الأحد بداية الأسبوع ذهبت ريتال إلى المدرسة باكرًا بسبب وصول حافلة المدرسة في وقت سابق عن الميعاد المحدد، دلفت ريتال إلى داخل المدرسة لتجد أن طبور الصباح لم يبدأ بعد لذا صعدت إلى الصف خاصتها لتضع حقيبتها هناك، كان المكان فارغ فيما عدا ثلاثة فتيات لم تشعر ريتال بالإرتياح تجاههم، وضعت الحقيبة وجلست إلى جانبها بالقرب من نهاية الصف.
كان الصمت قد غلف المكان منذ أن حضرت ريتال وكأنه تم قطع الصوت عن المكان، بدأت الفتيات في التحدث بصوتٍ منخفض أقرب إلى الهمس وهن ينظرن إلى ريتال بطرف أعينهم، حمحمت ريتال بإستياء وهي تحاول أن تشيح بنظرها بعيدًا عنهم ولكن ذلك لم يكن كافيًا بالنسبة إليهم كي يصمتوا بل تجاهلها لهم جعلهم يرغبون في زيادة جرعة السخافة حيث تحدثت أحدى الفتيات مُردفة:.
أنا بصراحة مش قادرة افهم هما بطلوا يعملوا interview مقابلة شخصية للناس اللي بتقدم عالمدرسة ويختاروا ناس تليق بالمكان ولا أيه؟
مش عارفة يا بنتي ده حتى آخر ناس جت المدرسة بيئة أوي وشكلهم قديم كده كأنهم عندهم خمسين سنة مش 17 زينا.
عقبت الآخرى والتي كانت تُدعي چودي على حديث صديقتها الأولى والتي لم تكن تعلم ريتال ما اسمها أو اسم الثالثة، كانت الفتاة تتحدث بتعالي شديد وهي تضحك ضحكة مصطنعة بصوتٍ عالٍ وهي تعيد خصلات شعرها الشقراء الطويلة نحو الخلف.
على رأيك، ده حتى في واحدة فيهم بتلف الطرحة لفة شبه الخدامة اللي عندنا في البيت.
كان من السهل أن تستشف ريتال أن ذلك الحديث يخصها، هي الفتاة الجديدة الوحيدة في الصف، لا يوجد فتاة ترتدي الحجاب غيرها هي وحنين وعالية وكلتاهما لما يحضرا إلى المدرسة بعد كما أن هذه السنة ليست السنة الأولى لهم هنا ولم ينتقل أحدًا حديثًا إلى المدرسة غير ريتال، لذا فإن ذلك الحديث لا يعني أي أحد سواها هي...
شعرت بغصة في حلقها، نبضات قلبها تتسارع وكأنها فرس في حلبة سباق، قطرات العرق تعلو وجنتها بالرغم من أن الجو مائل إلى البرودة قليلًا، تمنت لو أن تنشق الأرض وتبتلعها لعلها تفقد القدرة على سمع ما يُقال وتفقد قدرتها على الرؤية كي لا تستطيع رؤية ابتسامتهم الساخرة ونظرات الإزدراء القاسية تلك وفي النهاية كي تكون في مكان مجهول سحيق لا يمكن لا أحد أن يعثر عليها أو يراها...
كم تمنت لو أن يظهر صالح من اللامكان الآن ويوبخ تلك الساحرة الشمطاء وصديقاتها ويقوم بإنقاذ ريتال من هذا الموقف السخيف لكن ذلك لم يحدث، عالية وحنين لا وجود لهم اليوم ليدافعو عنها أو على الأقل كي يجعلوها تنشغل بأي شيء حتى لا تستمع إلى ما يقال عنها لذا عليها أن تتحمل ما يحدث حتى يمر وينتهي ذلك الموقف السخيف التي وضعت به...
أيه الحفلة دي قاعدين كده ليه؟
سأل تليد الذي ظهر فجاءة من اللامكان لتبتهج الفتيات الثلاثة فجاءة وتختفي إمارات السخرية من على وجههم، استقامت الفتاة الأولى مجهولة الإسم وهي تسأل تليد بنبرة أقرب إلى الدلال قائلة:
تليد؟ وأنا أقول المكان نور ليه؟
كليشية أوي، حاولي تجددي كلامك شوية.
صُبغ وجه الفتاة بالحمرة بعد أن قام تليد بإحراجها وقد كانت ريتال تستمع إلى ما يقال دون أن ترفع عيناها نحوهم، أخذ أربعتهم في الثرثرة دون أن تهتم ريتال حتى اقترب تليد منها قليلًا بحيث يقف أمام مقعدها مباشرة وهو يُردف:
حد فيهم ضايقك ولا حاجة؟
لا محدش ضايقني. تمتمت وهي تستقيم من مقعدها وتبتعد عنه متوجهة نحو الخارج وقد كان التوتر باديًا عليها، ارتسمت ابتسامة جانبية على ثغره وهو يتبعها بخطوات سريعة قائلًا:
طب مش عيب يبقى حد بيكلمك وتسيبيه وتمشي ولا محدش قالك قبل كده؟
أنتَ سألتني سؤال وأنا جاوبت عليك والكلام خلص فين المشكلة بقى؟
لا الكلام مخلصش ولا حاجة ده لسه بيبدأ،.
أردف بنبرة لعوب وهو يتقدم بضع خطوات ليقف أمامها ويستند على السور المُطل على فناء المدرسة، ساد الصمت لثوانٍ وكاد أن يُكمل حديثه لكن لحسن حظها أن الجرس قد صدح صوته في المكان مُعلنًا عن بدء طابور الصباح ابتسمت ريتال بسعادة وقد وجدت حجة مناسبة لتنهي تلك المحادثة التي لم ترغب قط في أن تخوضها قائلة:
الجرس رن لازم انزل، عن إذنك.
ماشي يا أستاذة ريتال عرفتي تخلعي المرة دي بس لينا قاعدة تاني مع بعض.
تفوه بصوتٍ منخفض وبنبرة تفوح بالثقة الزائدة أو الأقرب لكونها غرورًا، لم تسمع ريتال ما قاله ولكنها توقعت أن يثرثر ببعض التراهات فور رحيلها لكنها لم تُعِر الأمر اهتمامًا.
صباح الخير يا عالية، عاملة أيه؟
الحمدلله بخير، مالك وشك أصفر كده ليه؟
لا مفيش حاجة، أومال فين حنين؟ الوقت اتأخر والطابور ابتدى كمان.
لا أصل حنين مواعيدها مضبوطة جدًا، هتلاقيها جاية كمان ربع ساعة كده وهتوقف تتذنب برا شوية وبعدين تدخلنا على نص الحصة الأولى.
اه هي متعودة على كده؟ طب مخدتيهاش معاكي ليه وأنتِ نازلة؟ مش أنتوا جيران برضوا؟
يا بنتي حنين دي لو البيت بيقع علينا مش هتقلق وهتحس بحاجة ولو اعتمدت عليها هتطرد معاها.
لا إذا كان كده يبقى عندك حق، بقولك أيه هو تليد مرتبط بواحدة من الشلة بتاعت البنت اللي اسمها چودي دي؟ سألت ريتال بفضول شديد لتعقد عالية حاجبيها قبل أن تسأل ريتال بطريقة درامية مُردفة:
أيه ده اشمعنا؟ هو عاجبك ولا أيه؟
لا طبعًا أنا مليش في الجو ده وبعدين ده عيل غتت كده وتحسيه مش مضبوط.
عالعموم يعني لا، تليد ده مش بيرتبط هو بيحب يقعد يرغي مع كل بنت ويثبتها شوية وبعدين يروح لوحدة تانية، يا حبيبي بيزهق بسرعة. أجابت عالية على تساؤلات ريتال ثم أنهت جملتها بنبرة ساخرة لتعتلي الدهشة وجه ريتال وهي تسأل عالية بإستنكار شديد:
وهما قابلين الكلام ده على نفسهم؟ فين كرامتهم بجد؟ وبعدين ده غلط وحرام،.
بصي في بنات كتير هنا في المدرسة أوفر أوي في موضوع تليد ده محسسينه أنه حاجة كبيرة وليه قيمة وبيجروا وراه وبتاع عشان كده شايف نفسه عالكل وفاكر إنه الواد الجامد اللي مفيش زيه، مع إنه انسان تافه وصايع.
أعوذ بالله بجد، الإنسان يبقى واقف في الطابور وملتزم كده وفي حاله ويلاقي الناس جايبين في سيرته بكلام وحش.
تحدث تليد والذي ظهر من اللامكان فجاءة وقد كان صوته مرتفع نسبيًا لتنتفض كلًا من ريتال وعالية قبل أن تطالعه عالية بإزدراء بينما تُتمتم:
يااه من أمتى وأستاذ تليد بيشرفنا في الطابور؟
لا مسمحلكيش، على فكرة يا، مش فاكر اسمك بس عمتًا أنا ملتزم جدًا متصدقيش كلام عالية هي غلاوية كده ومبتحبنيش.
أردف تليد وهو يبتسم ابتسامة جانبية صغيرة محاولًا لفت انتباه ريتال والتي طالعته بجمود لثوانٍ قبل أن تقول بتقطع:
هو أنا الحقيقة، مش مهتمة، يعني برا?و عليك خليك ملتزم، لنفسك!
عقبت ريتال بهدوء شديد لتضطرب معالم وجه تليد بعد أن قامت ريتال بإحراجه دون عمد، قهقهت عالية بصوتٍ مسموع لتأتي أحد المعلمات لتقوم بتوبيخ ثلاثتهم فيسود الصمت بينهم.
بعد صعود الجميع إلا صفوفهم وفي أثناء شرح معلم اللغة العربية دلفت حنين إلى الصف دون أن ينتبه هو، توجهت نحو ريتال وعالية لتجلس إلى جانبهم بينما تقول بصوت أقرب إلى الهمس:
مساء الجمال والكريستال يا عمي. قهقهت عالية بصوتٍ مسموع لتدعس ريتال على قدمها لتصمت عالية على الفور عندما ألتفت المعلم بحثًا عن صاحبة الصوت ولكنه لم يستطع معرفة من تكون.
منك لله يا عالية هنطرد بسببك. همست ريتال في أذن عالية لتعلق على جملتها قائلة:
يووه وأنا مالي حنين هي اللي بتضحكني!
بس اسكتوا بقى! صدرت هذه الجملة من حنين ليسود الصمت بين ثلاثتهم.
مر اليوم بسلام وإن كان تليد يسترق بعض النظرات نحو ريتال ولم تعلم ريتال سبب ذلك، مؤكد أنه يفعل ذلك من منطلق السخرية؛ هكذا كانت تظن لأنها لم تكن ترى نفسها بالجمال أو الجاذبية الكافية لتلفت انتباه أي شخص وخاصة فتى سيء ومشهور مثل تليد، حاولت ريتال تجاهل أمره فهي لا تهتم بشأنه على أي حال هي فقط تريد أن تقضي أيامها في هذا العام الدراسي في هدوء وسكينة.
بمجرد وصول ريتال والفتاتين إلى المنزل دلف ثلاثتهم إلى داخل، تقدمت عطر وهي تركض نحو الطابق الخاص بجدتها بحماس طفولي بينما وقفت نانسي وهي تُطالع ريتال بنظرات ثاقبة حادة كصقر ينوي الإنقضاض على فريسته، لم تنتبه ريتال لذلك إلا عندما قامت نانسي بجذب ذراعها بقوة وهي تسألها بنبرة حادة:
هو أنتِ عايزه أيه يا بت أنتِ؟
بسم الرحمن الرحيم، أنا جيت جنبك يا بنتي؟
سألت ريتال بحيرة وهي تضحك ضحكة ناجمة عن التوتر الذي تسببت به نانسي، أزداد حنق نانسي ظنًا منها أن ريتال تدعي البلاهة لذا أكملت أسئلتها ولكن بنبرة أكثر حدة هذه المرة مُردفة:
في البيت هنا لازقة في صالح وفي المدرسة هناك لازقة في تليد هو في أيه بالضبط؟ بتجربي حظك مع الكل ولا أيه؟
كانت كلمات نانسي جارحة وذات معنى سيء للغاية، اضطربت معالم ريتال وهي تشعر بنبضات قلبها تتسارع قبل أن تُردف بتلعثم ناجم عن الصدمة قائلة:
أنا مش هرد عليكِ يا نانسي، عشان أنا محترمة وأنتِ عارفة إن أنا مليش في الحركات دي،.
بلاش جو الصعبنيات ده، ياكل مع العيال اللي بتصاحبيهم في المدرسة ماشي، تمشي على زينة ماشي، على تيتة أحيانًا، على صالح ممكن لكن عليا أنا متحاوليش يا ماما!
أولًا عيب تقولي اسم ماما كده من غير ما تقولي قبلها طنط، ثانيًا بقى أنا مش عايزة حاجة من حد ولا بلزق في حد، صالح ده ابن عمي وزي أخويا الكبير ويعتبر متربيين سوا وأنتِ أكيد عارفة وتليد ده أنا مجتش جنبه أصلًا، هو اللي كل شوية ينط قدامي في كل مكان،.
صه! خلاص كفاية رغي أنتِ هتحكيلي قصة حياتك، أنا اللي عندي قولته وبراحتك بس يا ريتال متزعليش بقى من اللي هيحصل، بس لآخر مرة هقولك ياريت تبعدي عنهم أحسنلك!
صُعقت ريتال مما قالته نانسي، لقد كانت غاية في الوقاحة وكالعادة شعرت ريتال بضربات قلبها تتسارع وبموجة من الغضب والحزن تحتل كيانها لكن كالعادة لم تستطع أن تُبدِ أي ردة فعل على ما قالته نانسي بل قامت بكبح مشاعرها كما اعتادت أن تفعل.
رمقت نانسي ريتال بإزدراء وكأنها تنظر إلى حاوية القمامة قبل أن تتركها وحيدة تقف في صدمة، وفي الواقع لم تكن صدمة ريتال فقط بسبب وقاحة نانسي فلقد اعتادت على ذلك بل كانت صدمتها لأنها قد تفوهت بجملة تُشبه كثيرًا التهديد الذي وصلها في تلك الرسالة مجهولة المصدر!