رواية وصال مقطوع للكاتبة إيمان عادل الفصل الثامن عشر
علي الفور هاتف تليد ياسين بمجرد أن قرأ الرسالة، جاءه صوت ياسين من الطرف الآخر مرحبًا به لكن تليد لم يرحب به بل سأل الآتي: غادة؟ مين غادة؟ كان التعجب الشديد واضحًا من نبرة تليد فلا يوجد أحد من معارفه بهذا الاسم قط، لقد توقع أن يسمع اسم والد چودي مثلًا أو شخصًا يتعلق بها أو ربما اسم نانسي أو اسم والدها كذلك لكن اسم تلك الفتاة أو المرأة هو لا يدري...
تليد أنتَ سامعني؟
سامعك يا ياسين، هو أنتَ معرفتش تجيب أي معلومات تانية عن صاحبة الرقم ده؟
لا، ممكن تفهمني بقى أيه الموضوع ده؟ سأل ياسين وكاد تليد أن يُجيبه لكن قاطعه صوت شقيقته وهي تناديه كي يتوجه نحو الأسفل لتناول الغداء لذا لضطر إلى إنهاء المكالمة سريعًا مع ياسين قائلًا: هحكيلك لما أشوفك أنا لازم اقفل دلوقتي علشان خالتو وأختي جم وبينادوا عليا علشان اتغدى معاهم.
أنهى تليد المكالمة وتوجه إلى الأسفل وقد كان الحنق باديًا على وجهه لذا بمجرد أن لمحته شقيقته عقدت حاجبيها متعجبه وهي تسأله: مالك يا تليد مكشر كده ليه؟
مفيش حاجة حوار بسيط كده بس هيتحل إن شاء الله.
متأكد؟
اه يا تسنيم متأكد. أردف تليد بإقتضاب لتزم شفتيها وهي تحاول فهم مشكلة أخاها لكن سرعان ما تذكرت أنه في مرحلة المراهقة وبالطبع سؤاله حول أي شيء سيعتبره نوعًا من التدخل في حياته الشخصية ولن يسمح لها بتقديم أي المساعدة حتى وإن كان في حاجة ماسة إليها.
على فكرة يا تليد أسلوبك مع أختك مبقاش حلو والمفروض تعاملها بطريقة ألطف من كده متنساش يا حبيبي إنها أختك الكبيرة. تمتمت خالته بنبرة تجمع بين الحزم والحنان في الوقت ذاته ليتنهد الأخير قبل أن يعتذر من شقيقته قائلًا:
أنا مش قصدي أكلمك وحش يا تسنيم متزعليش مني أنا بس دماغي مشغولة بموضوع مهم، ليه علاقة بالمدرسة يعني ولما الموضوع يتحل هبقى أحكيلك كل حاجة.
هو المفروض يعني تحكيلي قبل ما يكون اتحل على أساس أساعدك وكده بس مش مهم المهم إنك تكون بخير ومتتصرفش بتهور. أومئ مع ابتسامة صغيرة دون أن يُعقب على جملتها، ساد الصمت في المكان أثناء تناولهم الطعام قبل أن تقطعه خالته وهي تُعلن الآتي:
على فكرة مامتك وباباك هيرجعوا من السفر في خلال الأسبوع الجاي إن شاء الله.
أخيرًا؟
أنتَ عارف إن كان عندهم شغل ضروري بس هما خلاص هيرجعوا يقعدوا شهرين أو تلاتة كاملين هنا وأنا هروح بيتي بقى وهريحك مني يا سيدي.
متقوليش كده يا خالتو، أنتِ غلاوتك من غلاوة ماما أنا بس حاسس إن بقالي كتير مش بقعد معاهم ووحشوني.
تمتم تليد وهو يعانق خالته بحنان شديد، فلقد كان يحبها كما يحب والدته فلقد كانت دائمة الإعتناء به منذ أن كان صغيرًا وحتى الآن حيث أن طبيعة عمل والديه تحتم عليهم السفر طوال العام وتركه هنا هو وشقيقته فكانت خالته تأتي لمجالستهم والإهتمام بهم ولم تكن تعترض أو تتذمر قط.
في صباح اليوم التالي توجهت ريتال إلى المدرسة ولحسن الحظ أنه كان نهاية الأسبوع لذا لا مزيد من الضغط النفسي الخاص بالمدرسة ولو لمدة يومان فهي يكفيها ما تتعرض له في المنزل، رحبت بعالية وحنين ترحيبًا حار أسفل أنظار الجميع لتسود الدهشة على وجوه البعض من أصدقاء چودي فلقد اعتقدوا أن تلك الصداقة الثلاثية كانت قد أوشكت على الإنتهاء لكن على ما يبدو أن أحدهم استطاع حل الخلاف الذي كان بينهم.
جلست ريتال إلى جانب عالية وهي تبحث بعيناها عن تليد فلقد قطع لها وعدًا بأنه سيخبرها بهوية صاحب الرقم لكنه لم يحضر إلى المدرسة بعد، قطع تفكير ريتال العميق صوت عالية وهي تقول بمراوغة: أهو حبيب القلب جيه أهو متدوريش عليه بقى.
لم تُعقب ريتال على جملتها الساخرة واكتفت بابتسامة صغيرة قبل أن تُشير إلى تليد بيدها بقليل من الخجل ليفهم هو على الفور ويقترب من مجلسهم وهو يرحب بهم قائلًا: صباح الخير يا عالية أنتِ وحنين، صباح العسل يا ريتال.
ده أنتَ عيل ملزق بشكل لا يطاق بجد. سخرت منه عالية ليرمقها تليد بإشمئزاز بطرف عيناه لتُردف ريتال بقليل من التوتر: استني يا عالية شوية لو سمحتِ، ها يا تليد قولي عرفت مين صاحب الرقم؟
اه ولا،
يعني أيه مش فاهمة؟
يعني أنا عرفت اجيب اسم صاحب الخط بس هو مش اسم حد أحنا نعرفه للأسف.
طب ما تقولها يا عم تشارلك هولمز الاسم يمكن هي تعرف صاحبه؟
يااه لو الإنسان يخليه في نفسه، على العموم يعني الخط باسم واحدة اسمها غادة، غادة محمد.
! اعتلت الصدمة ملامح ريتال وقد كاد ثغرها أن يلامس الأرض، اضطربت معالم أصدقائها لرؤية ردة فعلها والتي نمت عن كارثة بالرغم من أن ثلاثتهم لم يعرفوا صاحبة الاسم، ساد الصمت لبرهة قبل أن يسألها تليد بقلق:
ريتال هو أنتِ تعرفيها؟
يا بنتي ردي علينا مش ناقصين توتر.
غادة دي تبقى، تبقى عمتي! أجابتهم ريتال ببطء شديد وهي تحاول جاهدة ألا تبكي، ضرب تليد كفيه في بعضهم البعض بينما يُردف مستنكرًا: يا خبر أبيض على العائلة الزبالة دي! كلوا ورثكوا طيب ولا لسه؟
ده احتمال ياكلوهم هما شخصيًا! عقبت عالية ساخرة دون إدراك أن الوضع لا يسمح بذلك لتدعس حنين على قدمها قبل أن توبخها هي وتليد قائلة:
أنتوا شايفين إن ده وقت استظراف يعني؟ بصي يا ريتال أكيد في حاجة غلط، ممكن يكون تشابه أسماء مثلًا، أصل يعني عمتك هتبقى عارفة عننا منين وهتبقى عارفة التفاصيل دي كلها ازاي؟
حنين بتتكلم صح أنتِ كنتِ بتقولي إن علاقتك بيها سطحية يعني أكيد مكنتيش بتحكي معاها أو بتشاركيها حاجة.
أيوا أنا فعلًا مليش كلام مع عمتوا خالص،.
لا ثواني كده، هي عمتك دي اللي هي تبقى ميس غادة المديرة؟ سألت عالية فور أن استنتجت ما تقوله ريتال ليُعقب تليد على سؤالها قائلًا بحنق:
أم نانسي!
أنتَ بتشتم ليه دلوقتي؟
لا لا مش بشتم هي أم نانسي فعلًا، يعني ممكن تكون نانسي هي اللي بتتكلم من رقمها.
صح صح، هي أكيد نانسي لأنها الوحيدة اللي عارفانا كلنا وعارفة كل حاجة عن حياة ريتال لأنها عايشة معاها في نفس البيت.
أنا ازاي مفكرتش في كده، أخذت تلوم ريتال نفسها لكن أخرجها من شرودها صوت تليد وهو يصفع المسند الخشبي بيده بإستياء شديد بينما يتمتم من بين أسنانه:
ده لو طلعت هي بجد أنا هخرب بيتها!
اهدي بس يا تليد أكيد في حل منطقي من غير بلطجة.
من غير بلطجة ده أيه؟ يعني هي تعمل رعب لريتال طول الفترة اللي فاتت وأحنا هنطبطب عليها؟ أنا هوريها أيام أسود من قرن الخروب.
بس بس هبل شوية، أنا شايفة إن ريتال تشتكي لحد كبير عندهم في العائلة وهو يعاقب نانسي ويسحب منها التليفون والموضوع يتحل بهدوء.
والله لو ريتال حابة تعمل حاجة زي كده دي حاجة ترجعلها بس أنا بقى هعاقب نانسي بطريقتي علشان خاطر ريتال وعلشان خاطري أنا كمان لأنها كانت بتغلط فيا وبتقولني كلام مقولتوش وأنا بقى عارف كويس هضغط على نانسي هانم دي ازاي.
تحدث تليد بتوعد وجد قفزت إلى عقله فكرة بالطبع لم يشاركها مع الفتيات لكنه قد وجد شيء مناسب للغاية لجعل نانسي تندم أشد الندم.
في ذلك الوقت من اليوم في الإسكندرية توجهت زينة إلى عملها بعد أن اضطرت للتغيب ليومان بسبب سفرها وبعض الإجراءات التي كان يجب عليها فعلها من أجل مريم، دلفت زينة إلى الروضة مع ابتسامة صغيرة وهي ترحب بالجميع.
زوزو! تمتمت فريدة وهي تهرول نحو زينة لتعانقها عناق قوي ينم عن اشتياق كبير في حين أن زينة لم تتغيب عن العمل سوى ليومان فقط!
جثت على ركبتيها بحيث تكون في مستوى الصغيرة وهي تحاوطها بذراعيها بينما عقدت حاجبيها بقليل من التعجب كون فريدة دعتها ب زوزو وليس ميس زينة كما يفعل الكل، قبلت فريدة وجنة زينة قبل أن تسألها بعبوس:
أنتِ كنتِ فين؟
أنا كنت مسافرة علشان كان لازم اعمل حاجة مهمة بس أنا جيت خلاص أهو.
طب أنتِ هتمشي تاني؟
لا يا حبيبتي مش همشي تاني أنا هبقى معاكوا هنا كل يوم إن شاء الله.
اتفقنا، أنا خوفت تمشي خالص.
متخافيش مش همشي، تعالي بقى نروح نقعد مع صحابنا علشان هناخد كلمات جديدة النهاردة. أومئت الفتاة بحماس وهي تسحب زينة من يدها نحو الطاولة لتبتسم زينة بحنان وهي تسأل نفسها عن سر تعلق الفتاة الغريب بها.
في نهاية اليوم بدأ الأهالي في القدوم لإصطحاب ابناءهم إلى المنزل ولم يتبقى سوى فريدة وحدها، ظلت زينة برفقتها تلهو وتلعب معها لحين قدوم أحد أبويها لكن قاطع ما يحدث صوت المديرة وهي تطلب من أحدى العاملات في الروضة الآتي:
أم محمد معلش ممكن توصلي فريدة بيتها علشان باباها مش هيعرف يجي ياخدها دلوقتي.
حاضر يا أستاذة، يلا يا فريدة.
لا أنا عايزاها توصلني. تمتمت فريدة وهي تشير نحو زينة لتضطرب معالم الأخيرة قليلًا لا تعلم ماذا تقول، تنهدت المديرة قبل أن تعرض على زينة الآتي:
ميس زينة ينفع حضرتك توصليها لو مفهاش تعب أو إحراج يعني؟
أكيد مفيش مشكلة، أنا بس مش عارفة البيت بتاعها فين لو ممكن لوكيشن أو حاجة.
تمتمت زينة بقليل من الحرج لكن سرعان ما زال حينما تشبثت الصغيرة في يدها بحماس شديد، ساد الصمت لبرهة أثناء ارتداء الصغيرة لحقيبتها لكن قطعه صوت المديرة وهي تقول:
طب أم محمد خليكي معاهم علشان مدام زينة مش من هنا وممكن تتوه ولا حاجة.
عنيا يا أستاذة.
كانت تظن زينة أنها ستقوم بإيصال الفتاة سيرًا على الأقدام لكنها فوجئت أن العاملة تطلب منها أن تقوم بطلب سيارة أجرة فاخرة بواسطة أحدى التطبيقات.
هو البيت بعيد أوي كده؟
يعني مش أوي بس البيه الكبير والدها مش بيحب أنها تمشي في الشارع طالما مش معاه.
والله؟ وبالنسباله عادي يعني إن حد غريب يوصلها؟ طالما خايف أوي كده ما يجي ياخدها هو بعربيته مثلًا. سألت زينة مستنكرة وهي تداعب خصلات شعر فريدة التي غفت على الفور فور تحرك السيارة لتزم أم محمد شفتيها قبل أن تقول:
حق الله يعني هو مش مقصر معاها بس أصل هو عنده شغل ياما ومش طول الوقت بيبقى فاضي يجي يأخدها بنفسه.
أومئت زينة بتفهم وبعد مرور عشرة دقائق تقريبًا توقفت السيارة أمام ?يلا صغيرة مكونه من طابقين ومحاطه بحديقه صغيرة نسبيًا، كان تصميم المكان كلاسيكيًا قديمًا ولم يكن مبهر للغاية لكن الإبهار كان يكمن في أن ذلك المنزل يطل على الشاطئ أي يمكن رؤيته من أكثر من جانب من المنزل.
غادرت زينة السيارة وهي تحمل فريدة بين أحضانها بعد أن قامت بدفع حساب سيارة الأجرة وقد رافقتها أم محمد نحو الباب، طرقته زينة بخفة لتمر ثانيتين قبل أن يُفتح الباب بواسطة شابة مليحة الوجه رحبت بهم على الفور قائلة:
أهلًا وسهلًا، معلش تعبناكوا معانا، هاتي فريدة عنك. أعتذرت الفتاة بلطف وهي تأخذ فريدة من بين ذراعي زينة لتمنحها إياها الأخيرة قبل أن تهم بالرحيل لكن أوقفها صوت الفتاة وهي تسألها:.
هو حضرتك ميس زينة مش كده؟
اه أنا، هي فريدة كلمتك عني؟ سألت زينة بقليل من الخجل لتقهقه الفتاة قبل أن تقول:
في الحقيقة هي مبطلتش كلام عنك ليا أنا وباباها هي حبتك جدًا، هي كانت بترفض تروح الحضانة قبل كده دي حتى مش أول حضانة تروحها لكن من وقت ما حضرتك جيتِ الحضانة وهي حبتها وبقت عايزة تروح كل يوم.
دي حاجة تسعدني جدًا الحقيقة، فريدة من أجمل واللذ البنات اللي عندنا في الحضانة وربنا يعلم غلاوتها عندي أد أيه، ربنا يباركلكوا فيها، نستأذن أحنا بقى يلا يا أم محمد.
كانت زينة تتحدث مع ابتسامة واسعة فهي لم تسمع كل هذا القدر من الثناء من أحدهم من قبل خاصة وأنها لم تقوم بفعل شيء خارق للطبيعة لكن على ما يبدو أن حنانها وطريقتها اللطيفة مع الأطفال جعلتها صاحبة صورة جيدة أمام الجميع.
طب تعالوا أتفضلوا اشربوا حاجة.
لا ربنا يخليكي مرة تانية إن شاء الله.
هكذا انتهى الحوار لتعود زينة وبرفقتها أم محمد من حيث جاءوا لكي تعود كلًا منهم إلى منزلها وفي أثناء سيرهم بدأت زينة تسألها قليلًا عن فريدة وعائلتها والتي على ما يبدو أنها كانت تعرفهم جيدًا.
قوليلي بقى يا أم محمد بما إنك بقى شكلك تعرفي عنهم كل حاجة هي البنت دي عندها كام سنة؟ هي شكلها صغيرة أوي إنها تخلف فريدة.
لا لا يا ميس زينة أمها أيه بس؟ البنت اللي فتحت دي تبقى خالتها الصغيرة الهانم الكبيرة الله يرحمها أتوفت من كتير. عقبت أم محمد على حديث زينة وقد ضحكت ضحكة صغيرة بسبب سذاجة زينة، عبس وجه الأخيرة على الفور فور علمها بأمر وفاة والدة فريدة.
لا حول ولا قوة إلا بالله، يعني فريدة يتيمة الأم، علشان كده يا روحي مرتبطة بيا بزيادة،.
هو الوضع يحزن فعلًا بس بصراحة والدها مش حارمها من أي حاجة على طول دلع وخروج وفسح أنا عارفة الكلام ده علشان أوقات لما اسمها أيه، الست يعني اللي بتقعد معها مش بتبقى موجودة كنت بروح أنا أقعد معاها.
بس برضوا مفيش أي حاجة من دي تقدر تعوضها غياب مامتها بس الحمدلله إن باباها كويس على الأقل. تمتمت زينة بشرود شديد وقد ذهب عقلها إلى ابنتها والتي كانت الآن بدون والدتها وبرفقة أب قاسٍ لا يهتم سوى لنفسه ولزوجته الجديدة...
تُرى كيف حالها الآن؟ هل تحسن وضعها بعد لقائهم الأخير أم ساء الوضع أكثر؟ سألت زينة نفسها لكن لم تجد إجابة لذا قررت مهاتفة ريتال للإطمئنان عليها.
في ذلك اليوم بالعودة إلى القاهرة عاد صالح إلى المنزل قبل ريتال وقد استغل ذلك في محادثة جدته في أمور تخص ريتال كي يطمئن عليها أكثر خاصة وأن اليوم هو نهاية الأسبوع وسيتوجب عليه ترك المنزل ومقابلة رفاقه لإنهاء بعض المشاريع من أجل الجامعة وهو لا يأمن تفكير ريتال فقد يعود على خبر بشع لا يتمنى سماعه.
تيته هو ممكن أدخل أوضتك ثواني؟ سأل صالح جدته بعد أن رحب بها وثرثر معها في أشياء عشوائية لترمقه بقليل من التعجب قبل أن تقول:
اه، طبعًا يا حبيبي اتفضل. تمتمت بحيرة ليتحرك هو نحو الغرفة لكن توقف على باباها وهو يسألها سؤال كان أكثر غرابة من طلبه السابق مُردفًا:
هو ريتال هتنام معاكي في الأوضة هنا ولا هتنام في الأوضة الصغيرة؟
ما تفهمني يا صالح يا ابني أنتَ عايز أيه علشان أعرف اساعدك.
عايزة اعرف هي هتنام فين يا تيته علشان يعني ادخل الشنط في الأوضة ولو هشيلها حاجة لو مثلًا هي عايزاني انزلها المكتب من فوق كده يعني.
تدارك صالح الموقف وحاول سريعًا إصلاح جملته كي يبدو حديثه منطقيًا وغير مثير للريبة، فكل ما كان يريده هو التأكد من أن المكان الذي ستبقى فيه لا يحتوي على شيء قد تستخدمه في إيذاء نفسها كشيء حاد على سبيل المثال قد تستخدمه في جرح نفسها وكذلك أن يُبعد أدوية جدته عن عينيها بقدر الإمكان كي لا تُفكر في تناولها جرعة واحدة.
طيب تيته هو ينفع تخليها تنام جنبك علشان يعني هي بتفضل تشوف كوابيس طول الليل وممكن تتعب أو حاجة فا كده هيبقى أمان أكتر يعني.
هو في أيه يا ابني أنتَ قلقتني على الآخر.
ولا قلق ولا حاجة يا تيته هي بس طنط زينة طلبت مني ومنك إن عنينا تفضل على ريتال طول الوقت ونخلي بالنا منها وده اللي أنا بحاول أعمله.
ربنا يستر يا ابني ربنا يستر. أخذت تدعو بقلق واضح وبالرغم من أنها لم يخطر على بالها بالطبع أنها قد تحاول إنهاء حياتها إلا أن ذلك لم يمنعها من الشعور بالقلق والإضطراب الشديد.
بالفعل توجه صالح إلى الحجرة ليقوم بالتفتيش عن أي شيء قد يضر ريتال وبالفعل وجد بعض الأشياء التي كتستخدم لجرح نفسها لذا وضعها في جيوبه كي لا يشك أحدهم في أمره، قاطع إعادة ترتبيه للأغراض صوت ريتال في الخارج ليصيبه التوتر ويقوم عن طريق الخطأ ببعثرة كتب ريتال.
توتو أنتِ جوا هنا؟ سألت ريتال وهي تدلف نحو الحجرة ظنًا منها أن عطر تعبث في حجرة جدتها لكنها حينما رأت صالح شهقت بصدمة ليشير لها بأن تصمت وهو يتجنب النظر إليها لتقول:
أنتَ بتعمل أيه هنا؟ أيه ده؟ أنتَ بتقلبني يا صالح ولا أيه؟
بقلبك أيه بس؟ أنا، أصل يعني كنت، يالهوي أنا نسيت كنت المفروض ورايا مشوار مهم جدًا. أردف بتلعثم شديد قبل أن يهرول نحو الخارج وهو يمر بجانبها بحذر دون أن يصطدم بها لتقف هي تطالع الحجرة ببلاهة شديدة في الموضع الذي كان يقف فيه صالح قبل قليل.
هو في أيه الهبل ده؟ سألت بإستنكار وهي تُعيد ترتيب الأغراض التي بعثرها صالح دون أن تعرف الهدف وراء فعلتها الغريبة تلك لكنها على أي حال لم تلاحظ وجود أي شيء من أغراضها مفقود.
قضت ريتال ليلتها في ذلك اليوم برفقة جدتها وعطر وعمتها لكنها لم ترى صالح أو نانسي قط فلقد كانت الأخيرة منشغلة طوال الليل في التحدث في الهاتف في حديقة المنزل وبالطبع لم تستطع ريتال سماع ما تقوله لكنها استطاعت سماع ضحكاتها المبتذلة.
قضت ريتال يوم الجمعة في المذاكرة نظرًا لقرب الإختبارات الخاصة بنهاية الفصل الدراسي الأول، وفي مساء ذلك اليوم وبعد انتهاء ريتال من المذاكرة هرولت نحو الحديقة الخلفية للمنزل فور سماعها لصوت صالح في الخارج وقد عاد أخيرًا.
صالح أنا عرفت مين صاحب الرقم،.
رقم أيه مش فاهم؟ سأل ريتال وهو يعبث في الحاسوب المتنقل خاصته بنصف اهتمام لتقوم هي بإغلاق الحاسوب لكي ينتبه إليها بينما تُجيبه قائلة:
الرقم اللي سألتك عنه من كام يوم.
اه مش ده اللي رقم اللي جبتلك الاسم وقولتلك واحد اسمه تفيد، تيسير،.
تليد يا صالح تليد، اه هو الرقم ده بس هو مطلعش بتاعه يعني في حد سجل الرقم باسمه على الأبلكيشن بس في الحقيقة إن الخط متسجل في الشركة بإسم حد تاني.
هو الموضوع شغلك كده ليه؟ ما تفهميني يا بنتي الرقم ده عملك أيه وأنا هتصرف وهجبلك الواد ده من قفاه. تمتم بإستياء واحد لتزفر بضيق قبل أن تُردف الآتي:
يا صالح اسمعني بس الأول بقولك الرقم مش بتاع تليد الرقم متسجل بإسم واحدة ست، وليه شاغلة بالي بالرقم علشان كان في حد بيبعتلي منه رسائل تهديد وتنمر واسكرينات مش حقيقية بين صحابي علشان يوقع بيني وبينهم.
وازاي متقوليش حاجة زي كده يا بنتي؟
علشان الموضوع كان بشع يا صالح، الشخص ده كان بيدوس على قلبي حرفيًا وكان مسود عيشتي ومخليني مش عارفة افكر ولا عارفة اصدق حد، صاحب الرقم ده عارف تفاصيل كتير عني، تفاصيل عن كل حاجة في حياتي وتفاصيل مينفعش حد يبقى عارفها غير حد قريب مني أوي. أفصحت ريتال عن ما يجول في خاطرها وقد شعرت بحرقة في عيناها وقد حاولت جاهدة أن تحافظ على نبرتها دون أن تبدو مثيرة للشفقة.
طب براحة اهدي بس كده وفهميني واحدة واحدة، أنتِ تعرفي تليد ده منين الأول؟ والخط طلع بإسم مين؟
تليد ده زميلي في المدرسة، بس هو بجد جدع جدًا وبيدافع عني لما حد بيضايقني ولما كنت بتعب وبغيب كان بيجمع الحاجات اللي بتفوتني.
أجابته ريتال بصدق وهي تكفكف دموعها ليرمقها صالح بنظرات غير مفهومة والتي جعلتها تتعجب قليلًا خاصة وأنه ضم قبضته بقليلًا من ال، الغيظ ربما؟ على أي حال لم يكن هناك وقتٍ كافي لتتأمل ردة فعله على حديثه حيث أخرجها من شرودها صوتها وهو يقول:
كملي.
بس الرقم ده كان بيقولي إن تليد أصلًا بيتريق عليا مع صحابه وإنه عامل عليا رهن وجو الأفلام ده.
طب ما ممكن يكون عنده حق، أنتَ تعرفي تليد ده من أمتى يعني علشان تثقي فيه؟
هو ده رأيك يعني؟ طب ولو قولتلك إن الرقم ده كان بيتكلم عليك برضوا أنتَ وبنتين من صحابي هتقول نفس الكلام؟ سألته بمراراه وضيق ليعتدل صالح في جلسته وهو يحمحم بقليل من الحرج قبل أن يسألها مستنكرًا:.
هو كان بيقولك حاجات عليا؟ طب ممكن أشوف الشات؟ كان طلبه متوقعًا لكن ريتال لم تحسب حسابه، بالطبع لن تستطيع أن تُريه الرسائل والتي يُقال فيها بوضوح أن ريتال تكن المشاعر لصالح، بل ويقال فيها أنها تحاول الوصول إلى قلب صالح وتليد كلاهما في الوقت ذاته.
لا لا مش هينفع، ملهاش لازمة يعني.
ليه يعني هو في كلام مش كويس ولا أيه؟ سأل وقد عاد التوتر إلى ملامحه مجددًا لتضطرب معالمها أكثر وهي تشيح بنظرها بعيدًا عنه قبل أن تقول:
لا مش الفكرة بس هي كانت بتتكلم في أسرار وكلام مش حابة حد يشوفه،.
هي؟ هي طلعت بنت في الآخر؟
صالح الرقم ده طلع مستجل بإسم عمتو غادة، أنا مش عارفة ازاي بس هو الخط بإسمها شكل كده معاها رقم تاني غير اللي معانا. فجرت القنبلة ليسود الصمت للحظة حاول فيها صالح أن يستوعب ما قالته هي للتو، أعاد صالح خصلات شعره نحو الخلف بضيق قبل أن يقول:
نانسي، عمتو كانت حاطه خط قديم بتاعها في تليفون نانسي علشان خط نانسي كان فيه مشكلة من فترة بس أنا كنت فاكر إنها قفلت الخط بعد ما بتاع نانسي اشتغل.
أنا مش عارفة هي ليه بتعمل فيا كده بجد؟ أنا عمري ما أذيتها في حاجة،.
أهدي بس يا ريتال، أنا عارف إن الموقف صعب بس أحنا محتاجين نهدى ونفكر، بصي أحنا أولًا محتاجينها تعترف باللي عملته لأن لو واجهناها هتنكر وممكن تألف حوار إن الخط اتسرق منها أو إن حد من المدرسة كان بياخد موبايلها ويبعتلك منه أي أفلام يعني.
صالح هو أنا ينفع أحبسها صح؟ يعني اللي هي بتعمله ده يعتبر جريمة مش كده؟ استفسرت ريتال وبالطبع لم يكن ذلك في نيتها لكنها أرادت أن تتطمئن من أنها في موضع قوة هذه المرة ليرمقها صالح بتعجب قبل أن يُجيبها قائلًا:
اه أكيد، بس هو أنتِ ناوية تعملي كده؟
أكيد لا بس كنت بستفسر،.
تصدقي أنا جاتلي فكرة، أنا عرفت هخلي نانسي تعترف بنفسها ازاي وبعدها بقى نبقى نقرر هنقول لعمتو وتيته مثلًا ولا هنعمل أيه.
خلاص تمام أنا معاك في أي حاجة.
تمام متشغليش بالك بقى بالموضوع ده دلوقتي أنا عايزك تركزي في المذاكرة والامتحانات اللي جايه وخلاص هانت كلها أسبوع ولا أتنين وكل مشاكلك تتحل إن شاء الله.
يارب، تمتمت وهي تحاول جاهدة أن تبتسم قبل أن تستأذن منه لتتجه نحو الداخل لكنه أوقفها بصوته وهو يقول:
ريتال أنا كنت عايز أقولك على حاجة. توقفت على الفور وقد شعرت بنبضات قلبها تتزايد، هل حقًا سيعترف لها بمشاعره؟ أم أنه أدرك حقيقة مشاعرها ويريد أن يُشاركها في الأمر؟ لم تعرف لكنها استدارت لتعود أدراجها وتجلس أمامه بتوتر وخجل واضح.
أنا كنت عايز أقولك على الموضوع ده من بدري بس مكنش فيه فرصة يعني، ريتال أنتِ عارفة إنك من أقرب الناس ليا في الحياة وأنا أتعودت من زمان إننا بنشارك بعض كل حاجة علشان كده كنت عايز أقولك إن أنا، ابتسمت ابتسامه صغيرة وهي تشعر بقلبها على وشك أن يقفز من موضعه تُريد منه أن يُكمل جملته كي لا يزيد من اضطرابها وخجلها أكثر، همهمت هي ليتابع حديثه ليفعل مُعلنًا الآتي:.
ريتال أنا بحب سارة جدًا وخلاص قررت أخد الخطوة وأطلب إيديها رسمي. اختفت ابتسامتها على الفور وحل محلها تعابير الصدمة متبوعة بطبقة شفافة غلفت عيناها، عقد صالح حاجبيه حينما رأى ردة فعلها قبل أن يُعقب ممازحًا:
أنا طبعًا عارف إن الموضوع صادم شوية بس مش لدرجة إنك تعيطي من التأثر يعني.
ألف، ألف مبروك، ربنا يتمملك على خير. تمتمت وهي تحاول ابتلاع تلك الغصة التي في حلقها لكن الأمر ازداد سوءًا حيث صدر صوتها مبحوحًا يدل على مدى الآلم الذي تشعر به ليبتسم صالح قبل أن يجيب قائلًا:
هو لسه بدري على المباركة بس الله يبارك فيكي يا أختي يا حبيبتي.
هو عمو وافق ولا، لسه متكلمتش معاه؟
أهي دي اللي مش هتصدقيها بجد، أنا فعلًا كلمته في الموضوع وهو وافق على طول أنا استغربت جدًا في الأول بس قولت الحمدلله ربنا عالم بحالي أنا مش حِمل خناقات مع بابا تاني. قال بنبرة حالمة وهو يبتسم ببلاهة بينما يعيد خصلات شعره نحو الخلف.
طيب أنتوا، هتروحوا أمتى بقى علشان تطلبوا إيديها وكده؟
أول لما نخلص امتحانات الترم ده إن شاء الله على أساس نعمل الخطوبة في اجازة نص السنة.
طب وأنتَ جاهز للخطوة أصلًا؟ هو يعني مش المفروض تكون بتشتغل الأول وكده؟
كانت تسأله وهي تتمنى بداخلها أن تكون إجابته لا وأن يُخبرها بأنه مازال بحاجة إلى الكثير من الوقت وأنه ليس مستعدًا لخطوة كتلك لكن الإجابة كانت عكس ما توقعت تمامًا...
ما أنا نسيت أقولك إني بدأت شغل Part time دوام جزئي كده جنب الدراسة، يعني بسبب اللي حصل آخر فترة معرفتش أقولك.
عادي مش فارقة يا صالح، ألف مبروك تاني، أنا هقوم بقى علشان عايزة أنام، تصبح على خير.
حاولت الهرب من الموقف سريعًا وبالفعل نجحت، دلفت نحو الداخل ولحسن الحظ أن جدتها كانت منشغلة في مشاهدة أحدى المسلسلات الهندية فلم تلحظ عيون حفيدتها المُحمرة ويدها المرتجفة، دلفت ريتال إلى الحجرة ومن ثم أغلقت الباب من خلفها لتُلقي بجسدها على سرير جدتها وتجهش في البكاء وقد شعرت بأنها قد غاصت في أعماق الحزن والإكتئاب مرة آخرى...
لقد تدمر كل شيء بالنسبة إليها، أجل لقد كانت تعلم أن تلك هي خطة صالح ولقد سمعته يقول ذلك من قبل لكنها ظنت بأن عمها لن يوافق وأن الأمر برمته لن يكتمل لكن الآن أصبح علاقته بتلك الفتاة هو أمر واقع فلقد أفصح عن ذلك لها بكل وضوح، الآن فقط أدركت أنه لم تعد لديها أي فرصة مع صالح وأن عليها أن تمحيه من قلبها حتى وإن كان ذلك يعني أن تنتزع قلبها نفسه...
مر الأسبوع التالي بصعوبة بالغة، كانت ريتال تتجنب صالح قدر الإمكان وبالمثل والدها وزوجته وطفلهم، كانت نانسي منشغلة طوال الوقت بهاتفه في محادثة ذلك الشخص المجهول والذي على الأغلب حبيبها الجديد فلقد توقفت عن العبث مع صالح وتليد ولم تعد تبعث لها برسائل تهديد، كانت ريتال تنتظر أن ترى ما ينوي تليد فعله لكنه أخبرها بأنه يقوم بتجهيز مفاجأة من العيار الثقيل من أجلها.
في مساء أحد الأيام كانت ريتال تجلس برفقة نانسي وصالح وعطر يذاكرون جميعهم على الطاولة الكبيرة خاصة جدتها وبينما غلف الصمت المكان قرر صالح أن يقطعه وهو يقول دون مقدمات وهو يتظاهر بأنه يقرأ شيء في هاتفه:
عارفة يا ريتال مش في واحدة معانا في الكلية من دفعتي أتحبست.
يا ساتر يارب! أتحبست ليه يعني؟ أتخانقت مع حد ولا ضربت حد ولا أيه؟ سألت ريتال بجدية دون أن تفهم ما يرمي إليه صالح ليقهقه هو قبل أن يقوم بسرد ما حدث قائلًا:
لا مش للدرجة دي، دي كانت بتكلم واحدة تانية معانا في الدفعة من أكونت فيك وكانت بتهددها إنها هتفضحها وتحكي كل أسرارها للناس كلها.
هو ده كفيل إنه يحبس حد؟
اه طبعًا، الجرائم الإلكترونية عقوبتها كبيرة وناس كتير أوي اترفع عليهم قضايا بسبب الموضوع ده كانوا فاكرينه هزار وضحك ومكنوش يعرفوا إنه هيقلب جد. تمتم صالح بصوتٍ مسموع ليتأكد من أن حديثه جذب انتباه نانسي وقد نجح في ذلك حيث تركت ما في يدها وسألته بتوتر واضح:
هو ده بجد يا صالح؟ طب هو يعني اللي بيعمل كده بيتحكم عليه بإيه؟
حبس ميقلش عن سنة وغرامة متقلش عن خمسين ألف جنيه.
يالهوي! للدرجة دي؟ طب يعني ما في ناس ممكن تكون مش عارفة إن دي جريمة، كانت نانسي تتحدث بإضطراب واضح وهي تقوم بتحريك قدمها بصورة سريعة بحركة ترددية، نمت ابتسامة جانبية على ثغر صالح قبل أن يقول بجدية:
والضحية ذنبها أيه؟ هو ينفع يعني يا نانسي حد يبتزك ولا يبعتلك يشتمك ولما تيجي تعاقبيه على حاجة زي كده يقولك مكنش قصدي؟
أكيد لا طبعًا، بس يعني أوقات الصحاب بيعملوا حركات زي دي مع بعض على سبيل الهزار،.
مفيش هزار في الحاجات دي يا نانسي. أومئت الأخيرة برعب واضح وقد وصلتها الرسالة وإن كانت غير واثقة من أن صالح قد علم ما حدث لكنها شعرت بأن الحديث موجه إليها سواء كان ذلك عن قصد أو غير قصد...
ابتسمت ريتال بإمتنان شديد لصالح ليبادلها الأبتسام قبل أن يأتيه اتصال من سارة ليغادر المكان ليذهب للتحدث في الخارج، ابتلعت ريتال الغصة التي في حلقها وهي تحاول إعادة تركيزها في المذاكرة ومحو أمر صالح من رأسها، لقد قام بمساعدتها مشكورًا كأخ كبير وهي لن تطالبه بأكثر من ذلك...
في صباح اليوم التالي في الإسكندرية كانت مريم تجلس داخل المكتب خاصتها وهي تعمل على أحد القضايا بينما كانت تفكر في أنها بحاجة إلى تحديد موعد مع زينة لبدء الإجراءات الرسمية حيث أن المهلة المحددة التي منحتها لطليقها للإتفاق فيما بينهم قد مرت وهو لم يهاتفهم بعد، قاطع تفكيرها صوت رنين هاتفها برقمٍ لم تعرفه لتُجيب على الفور.
صباح الخير، مش ده تليفون أستاذه مريم؟
أيوا أنا اتفضل يا فندم تحت أمرك؟
أنا عبدالرحمن، عبدالرحمن محمد طليق زينة.
أهلًا يا فندم أي خدمات؟ خدت قرارك ولا لسه؟
يعني في الواقع أنا كنت بكلم حضرتك علشان أعرض عليكي حاجة، أنا مستعد أدفعلك مبلغ ضعفين اللي زينة هتدفعهولك أتعاب بشرط إنك تسيبي القضية دي خالص وتقدري تتحججي بأي حاجة هي مش هتعرف تلاقي بديل غيرك.
عرض عليها بسذاجة شديدة لتبتسم هي ساخرة حيث لم تتوقع أن حماقته ووقحاته قد تقوده إلى فعل شيء كهذا، قررت أن تُجاريه لكي تعرف إلى أين ستؤول هذه المحادثة.
اه ويا ترى هتعرض عليا مبلغ كام؟ أنا عن نفسي مش قبل برقم أقل من مية ألف جنيه مثلًا.
كام؟ مش كتير أوي الرقم ده يا أستاذه ولا أيه؟
هو كتير بس شوف بقى أنتَ هتفضل تدفع نفقة أد أيه ولسه في مؤخر بقى وترجعلها كل حاجة مكتوبة في القائمة يعني هتدفع أضعاف الرقم ده.
أنتِ بتتكلمي صح، خلاص شوفي تحبي تستلمي المبلغ أمتى وأنا جاهز.
أنتَ ساذج أوي يا أستاذ عبدالرحمن بجد، أنتَ فاكر يعني إنك ممكن تشتري ذمتي بالفلوس؟ تصدق يا أستاذ عبدالرحمن أنا بقيت مصرة أكتر إن أنا أكسب القضية دي وأدفعك دم قلبك علشان اللي زيك يستاهل كده وأكتر كمان. بصقت كلماتها بنبرة حادة جعلت قلبه على وشك أن يغادر ضلوعه من الرعب والندم، حاول أن يقوم بإقناعها أو تحسين الوضع قائلًا:
طب نتفاهم بس يا أستاذة حضرتك عصبية ليه؟
أقفل يا أستاذ عبدالرحمن بدل ما أجبلك مصيبة بالمكالمة دي وأعتبرها رشوة! ونتقابل بقى في محكمة الأسرة إن شاء الله، أحنا أدينا حضرتك فرصة إننا نحل الموضوع بصورة ودية بس أنت اللي اختارت، مع السلامة. أنهت المكالمة وهي تسبه أسفل أنفاسها قبل أن تتصل بزينة سريعًا لكي تخبرها بأنهم بحاجة إلى تجهيز جميع المستندات والإستعداد لرفع القضية فالتفاوض والتفاهم لا يفلح مع أمثاله وقد عاهدت زينة أنها ستستطيع الفوز بتلك القضية بسهولة بل وستعيد إليها كرامتها وحقوقها التي سلبها ذلك الوغد إياها.
بالفعل في خلال يومان بدأت الإجراءات القانونية اللازمة، وفي أثناء تناول ريتال وعائلتها طعام الغداء في أحد الأيام دق باب المنزل وقد كان مُحضر من المحكمة قد جاء ليمنح عبدالرحمن إعلان بالقضية التي قامت زينة برفعها ضده.
أمك رفعت عليا قضية يا ست ريتال، يارب تبقى مبسوطة بعد ما خربتِ البيت وقومتيها عليا، بقى أنا، أنا عبدالرحمن محمد اللي الناس كلها بتعملي ألف حساب يترفع عليا قضية؟
هي قضية رشوة يا عمي؟ دي قضية نفقة أنت مكبر الموضوع أوي والله. سخر منه صالح وهو يضحك ليزيد من حنقه ليقترب منه عبدالرحمن وهو يرفع أصبعه محذرًا إياه مُردفًا:
بس أخرس ياض أنتَ ملكش دعوة!
سيبك منهم يا عبدالرحمن يا حبيبي، ربنا ينتقم من الظالم، تعالى نطلع شقتنا فوق نتكلم ونشوف هنعمل أيه في الموضوع ده. تمتمت سالي مدعية الحزن ليومئ عبدالرحمن قبل أن يقول موجهًا حديثه لريتال التي جلست مكنمشة على نفسها:
يلا بينا، وأنتِ حسابك معايا بعدين يا بنت زينة.
بعد أن غادر والدها المكان ابتسمت ريتال بسعادة حقيقية وأخذت تتناول الطعام بشهية كانت قد فقدتها منذ مدة فما يحدث جعلها تشعر ببعض الأمل بأن والدتها قد تنتصر وأنها ستأتي لإصطحابها معها بعد أن تحصل على جميع حقوقها كاملة.
في عصر اليوم التالي وقرب انتهاء دوام زينة في الروضة وبينما كانت تقوم بتجميع أغراض الأطفال جاءها صوت رجل من خلفها يقول:
مساء الخير.
مساء النور يا فندم، أقدر أساعد حضرتك ازاي؟ رحبت به زينة بلطف ورسمية وهي تعرض عليه المساعدة لكنه بدلًا من أن يجيبها عن ذلك السؤال قام بتعريفها بنفسه مُردفًا:.
دكتور فؤاد طارق، متشرفتش بحضرتك؟ سأل بنبرة جمعت بين النبل والقليل من الغطرسة، صمتت زينة لثانية وهي تحاول أن تسترجع أين سمعت هذا الصوت المبحوح المميز وكذلك أين رأت تلك القامة الطويلة؟ لكنها في النهاية لم تستطع التذكر وقبل أن تُجيبه قاطعها صوت فريدة.
بابي! تمتمت فريدة وهي تركض نحو ذلك الرجل ذو القامة الطويلة، ابتسمت ابتسامة واسعة لم تظن زينة أنه قادر على أن يبتسم نظرًا لأنه كان ينظر إلى بقليل من التجهم، حمل الفتاة بين ذراعيه وطبع قبلة صغيرة على أحدى وجنتيها.
وحشتيني أوي، عملتي أيه النهاردة في الحضانة؟ أوعي تكوني عملتي أي شقاوة؟
لا لا أنا مؤدبة خالص، صح يا زوزو؟ سألت زينة ليرفع هو أحدى حاجبيه بتعجب كون ابنته تناديها ب زوزو وليس ميس زينة.
اه طبعًا، فريدة شاطرة ومؤدبة خالص.
بابي دي ميس زينة اللي قولتلك عنها.
بجد؟ طيب بقولك أيه يا زينة هتلاقي السواق برا روحي استنيني في العربية هتكلم مع ميس زينة شوية وهاجي على طول.
طلب من ابنته أن تسبقه نحو الخارج كي يتسنى له التحدث إلى معلمتها على انفراد لتومئ فريدة بعد أن قبلت والدها ثم هرولت نحو الخارج، تابعها بعيناه حتى تأكد من دخولها السيارة قبل أن يعاود النظر إلى معلمتها الشابة وهو يسألها:
حضرتك بقى ميس زينة مدرسة فريدة الجديدة؟
اه أنا المدرسة الجديدة، مدرسة الحضانة مش مدرسة فريدة بس. أجابته بحنق تعديلًا على جملته التي لم تروق لها ليحمحم قبل أن يقول:
أسف، طريقتي حادة شوية بس أنا مش قصدي حاجة أنا بس كنت عايزة أشوف مين زينة قصدي يعني ميس زينة اللي مخليه فريدة متعلقة بيها كده.
حصل خير يا فندم مفيش مشكلة.
طيب عن إذنك، لحظة أنا نسيت حضرتك دفعتي فلوس العربية اللي وصلت فريدة من يومين ممكن أعرف حضرتك أتكلفتي كام؟ سألها بلطف وهو يعبث في أحد جيوبه بحثًا عن حافظة النقود لتزم زينة شفتيها وقد شعرت بالقليل من الإهانة لتقول:
لا لا دي حاجة بسيطة أكيد حضرتك مش هتديني فلوس يعني.
ده حقك، أنا مش قصدي أي إهانة، أنا مش عارف كل لما أقول حاجة حضرتك تضايقي ليه؟
يا أستاذ، أقصد يا دكتور طارق دي حاجة يعني بسيطة خالص، فريدة زي بنتي مش مستاهلة. تمتمت دون أن تدرك أنها قامت بتبديل اسمه باسم والده ليضيق عيناه لثوانٍ وهو يقول بغيظ:.
فؤاد، فؤاد طارق، ولا طبعًا الموضوع مستاهل حضرتك دفعتي فلوس من جيبك على بنتي وأنا ملزم إن أنا أرجعلك الفلوس دي. أردف بإصرار شديد لكن لم يبدو على زينة الإقتناع وبينما كانت تنوي الإعتراض قاطعتهم فريدة وهي تركض نحو والدها بينما تحاول أن تجذبه من ذراعه بينما تقول:
يلا يا بابي بقى.
حاضر، عن إذنك يا فندم. أردف وفي طريقه نحو الخرج ترك ورقتان فئة المئة جنيه بالقرب من الحقيبة خاصتها دون أن تنتبه له.
وقفت زينة تراقبهم أثناء رحيلهم وهي تسأل نفسها ما خطب ذلك الرجل العجيب الذي يجمع بين الغرور واللطف في الوقت ذاته؟ كانت فريدة تشبهه إلى حدٍ كبير وإن كانت عيناه زاهية قليلًا عن خاصتها لكن أكثر ما جعلها تتعجب هو كونه يبدو كبير قليلًا في العمر أن تكون ابنته في مثل هذا العمر الصغير.
ولكن إن كانت أصغر أبناءه فقد يكون الأمر منطقي بعض الشيء، طردت زينة تلك الأفكار إلى مؤخرة رأسها وذهبت لحمل حقيبتها والتوجه نحو الخارج ذلك حين لمحت المال الذي تركه لتزفر بضيق وهي تضع المال في حقيبتها.
في مساء ذلك اليوم كانت ريتال تجلس على السرير في حجرة جدتها الكبيرة وقد وضعت أمامها ملازم الكيمياء وإلى جانبها كتاب يحوي أسئلة لمادة الأحياء وقد قامت بفتح كتاب اللغة العربية على أحد النصوص التي يتوجب عليها حفظها.
وبينما كانت تصب تركيزها كاملًا على المعلومات التي أمامها فُتح باب الحجرة بقوة لتنتفض من موضعها وقبل أن تُدرك ما يحدث وجدت نانسي تُلقي بنفسها أمامها على السرير بينما تقول من بين دموعها:
ريتال، ريتال إلحقيني أبوس إيدك!