رواية وصال مقطوع للكاتبة إيمان عادل الفصل الثالث عشر
معلش أنا أسف، بقولك يا صاحبي متعرفش فين أوضة الدكتورة ولا الممرضة اللي هنا؟ سأل الشاب بقلق واضح ليُجيبه تليد دون إستيعاب: عارف اه، بس أصلًا ريتال في مكتب المديرة مش في أوضة الممرضة. تمتم تليد دون إستيعاب قبل أن يُطلق سبة بصوتٍ منخفض وكاد أن يسير مبتعدًا عن صالح كما أخبرته نانسي بإسمه ولكن قبل أن يفعل أوقفه صوت صالح وهو يُردف:.
تسلم يا، ثواني كده، هو أنتَ عرفت منين إن أنا هسأل عن ريتال؟ أطلق تليد سبة آخرى وهو يصك أسنانه بضيق قبل أن يطالع صالح بطرف عيناه ثم يُجيب قائلًا: ريتال معايا في الفصل وهي تعبت من شوية ولما وأنتَ سألت على العيادة قولت شكلك كده بتدور على ريتال. لم يبدو حديثه مقنعًا للغاية بالنسبة إلى صالح والذي وقف يرمقه من الأعلى إلى الأسفل قبل أن يُعقب ساخرًا:
لا شكلك لماح ما شاء الله.
طب أنا بقترح يا صاحبي أنك تروح تطمن عليها عيب يعني تسيبها وتقف ترغي معايا، عن إذنك. بصق تليد كلماته ببرود ليثير غيظ صالح لكن تليد لم يمنحه الوقت الكافي للرد على جملته حيث أنه ذهب نحو السُلم متجهًا إلى الصف.
لم يعلم صالح لماذا شعر بالضيق من ذلك الفتى، ربما لأنه كان يشبه تمامًا نموذج الفتى السيء من الأفلام الإنجليزية خاصة المرحلة الثانوية أو ربما لأنه تحدث عن ريتال بالرغم من أنه لم يتفوه بشيء خاطئ إلا أن الأخير لم يشعر بالراحة تجاهه، نفض صالح تلك الأفكار إلى مؤخرة عقله وشرع يبحث عن ريتال.
ريتال أنتِ كويسة؟ سأل صالح بقلق بمجرد أن لمح الفتاة الممدة على الأريكة في مكتب عمته وقد خُلع عنها وشاح رأسها نسبيًا لكي تقدر على التنفس بصورة أفضل ولكن قبل أن يقترب خطوة أخرى نحو الداخل منعته المعلمة وهي تقف أمامه بينما تصيح قائلة الآتي:
أيه ده في أيه؟ اتفضل برا بعد إذنك.
أنا بس عايز أتطمن عليها،.
مين أنتَ أصلًا؟ أنا شوفتك هنا قبل كده صح؟
أنا أخوها،.
أخوها شقيقها يعني ولا متربين سوا والجو ده؟
أنا ابن عمها ياستي، هتطلعيلنا سجل للعائلة ولا أيه مش فاهم؟
ما تتكلم عدل يا بني أدم أنتَ! الفكرة كلها إننا فكينا الطرحة علشان تعرف تتنفس فأنت مينفعش تدخل المكتب بس كده!
أنا أسف، أنا بس أتخضيت عليها لما عرفت من عمتو اللي حصل،.
عمتو؟ سألته نادين مستنكرة قبل أن يزفر صالح بضيق شديد ثم يُجيبها قائلًا: أيوا ميس غادة المديرة تبقى عمتي وعمة ريتال.
لم تستطع المعلمة منع تعابير الدهشة من الظهور على وجهها، لقد كانت هذه المعلومة صادمة وغير متوقعة بتاتًا حيث أنه في مثل تلك الحالات عادة ما يتباهى
الطلاب بمنصب أقربائهم بل ويحصلون على مميزات لا يحصل عليها أقرانهم أما في حالة ريتال لم يكن الوضع كذلك بل على النقيض تمامًا لقد كانت غادة تقسو على أبنة أخيها بل وتتعمد إحراجها في كثير من الأحيان.
هي عمتو بتعمل معاها أيه بالضبط؟ لو سمحتِ لو في حاجة قوليلي علشان أعرف أتصرف.
هنتكلم بس مش وقته دلوقتي، هي مامتها فين؟
في الطريق المفروض أنا جاي على هنا من الكلية مش من البيت فمعرفش حاجة هي عمتو أتصلت بيا وأنا جيت على طول.
هي عالعموم فاقت بس كانت منهارة وأنا واتنين من صاحبها كنا بنحاول نهديها لحد لما حد من أهلها يوصل ويوديها المستشفى لو أحتاجت.
طيب ممكن أدخل أتكلم معاها؟ أنا هستنى هنا لحد لما تعدل الطرحة وكده قوليلها بس صالح عايز يتكلم معاكي وهي هتقوم على طول.
أومئت نادين وهي تُضيق عيناها بينما تحاول تكوين صورة في عقلها عن شكل العلاقة التي تجمع صالح وريتال، لقد شعرت المعلمة بفضول مدفوع برغبة حقيقة لتقديم المساعدة لتلك الطالبة التي من الظاهر أنها تعاني وبشدة.
أحييه يا حنين ده صالح! تمتمت عالية بعد أن طالعت صالح بثغرٍ مفتوح لبرهة لتسألها حنين بتيه كالمعتاد قائلة:
صالح مين؟
بس وطي صوتك، ده صالح قريب ريتال اللي هي كانت هتقع عليه عالسلم، الواد اللي هي بتحبه، ده طلع أمور أوي بجد!
ششش بس كده هتفضحي الدنيا! خلاص خلاص أفتكرته، بسم الله ما شاء الله تبارك الخلاق!
شوفتي طلع عندها حق بصراحة، ده الولد طول الباب ما شاء الله.
هو أنتوا بتتكلموا في أيه؟ سألتهم ريتال بوهن وهي تحاول تنظيم أنفاسها قبل أن تُجيبها عالية قائلة بينما تحاول مساعدتها على الإعتدال: قومي قومي، صالح ابن عمك اللي بتحب،.
بس بس بتقولي أيه أنتِ؟ قومي يا ريتال علشان نلبسك الطرحة. أصلحت حنين الموقف سريعًا وهي تساعد ريتال في ارتداء وشاح رأسها.
خطى صالح بضع خطوات أكثر نحو الداخل ليرى ابنة عمه المريضة، كان وجه ريتال شاحب تمامًا كشبحًا في ليلة باردة وقد زين وجهها خصلات مجعدة والتي هربت من داخل وشاح رأسها، أما عن عيناها فقد كانت حمراء كالدماء، أقترب صالح منها أكثر ليجلس على كرسي مقابل للأريكة التي كانت تجلس عليها وبمجرد أن وقعت عيناها عليه انهمرت دموعها من جديد لتضطرب معالمه.
ممكن تقوليلي أيه اللي حصل؟ لم تستطع ريتال التفوه بجملة مفهومة لذا أخذت تُحرك رأسها يمينًا ويسارًا وكأنها تود أن تُخبره بأنه لم يحدث شيء.
هو أيه اللي لا؟ يا بنتي فهميني حد زعلك طيب؟
محصلش حاجة، همست ريتال من بين شهاقتها ليزفر صالح بضيق وهو يعيد خصلات شعره الناعمة نحو الخلف قبل أن يستفسر منها عن سبب ما حدث ولكن نبرته كانت أقرب إلى الإستنكار: أنا برضوا مش فاهم حصلك أيه الساعة 8 إلا ربع الصبح يوصلك للمرحلة دي؟ لم تُجيبه ريتال ليحك صالح ذقنه بيديه بضيق شديد قبل أن يوجه سؤاله إلى صديقتيها هذه المرة صائحًا:
طب حد فيكوا أنتوا يجاوبني، أي حاجة!
أنتَ بتزعق ليه يا أستاذ؟ أحنا والله ما نعرف حاجة أحنا جينا لاقيناها كده. صاحت عالية به في المقابل نتيجة لفزعها من صوته العالي، لم يروق ردها بالنسبة لصالح ليُردف الآتي مستهزءًا:
من الباب للطق يعني حست إنها زهقانة قررت يغم عليها؟ ما هو أكيد حد ضايقها!
هو من الواضح كده إن ريتال تعبانة أو بطاريتها خلصت فبقت بتطفي لوحدها كل يومين تلاتة. كان تعليق حنين غير متوقع تمامًا ونبرتها كانت جادة وهادئة كالمعتاد والتي كانت توحي وكأنها على وشك أن تتفوه بتفسير طبي ما وليس تعليق ساخر، ساد الصمت لثوانٍ بينما يطالعها ثلاثتهم بتعجب قبل أن تنفجر ريتال ضاحكة بقدر ما تبقى من طاقة ضئيلة في جسدها وتفعل عالية المثل أما صالح فقد غطى وجهه بكفيه وهو يهمس:.
استغفر الله العظيم يارب، يارب هتشل من ريتال هي وسرحان ونفيسة دول،.
قاطع المشهد الكوميدي وصول والدة ريتال المنهارة كالعادة، حاول صالح وحنين تهدأتها أما عن عالية فأخذت تتأمل والدة ريتال والتي كانت تبدو وكأنها شقيقتها الكبرى وليست والدتها.
شكرًا يا بنات أنكوا ساعدتوا ريتال مش عارفة من غيركوا كان هيحصل أيه.
العفو على أيه بس يا طنط؟ حضرتك كمان ممكن تدينا رقمك علشان لو حصل أي حاجة نعرف نوصل لحضرتك على طول.
خلاص تمام.
في غضون عشرة دقائق كانت ريتال مستعدة للعودة إلى المنزل، كانت تسير والدة ريتال إلى جانبها في صمت تام فلقد اضطربت مشاعرها والتي كانت مزيج
من القلق والغضب، القلق حول ابنتها ريتال وصحتها النفسية والجسدية، والغضب من شقيقة زوجها والتي لم تتكبد عناء الإطمئنان على ابنة أخيها فلقد أكتفت بسماحها لهم بدخول مكتبها وقامت بمهاتفة صالح مكتفية بذلك حتى أنها لم تتصل بها بل صالح هو من فعل ذلك.
أيه رأيكوا منروحش البيت؟ تعالوا أعزمكوا على فطار في كافية حلو أوي عالنيل. اقترح صالح قاطعًا الصمت الغير مُريح أثناء مرورهم في ساحة المدرسة لتُجيبه زينة على الفور بإعتراض:
مش عارفة مظنش ريتال هتبقى قادرة تروح حتة بعيد دلوقتي هي أكيد عايزة ترتاح وبليل هنشوف دكتور إن شاء الله.
لا لا مش عايزة أرجع البيت، أنا اه مش قادرة أكل حاجة بس حاسة إني محتاجة أغير جو. بالرغم من الإرهاق الشديد الذي كانت تشعر به ريتال إلا أنها كانت تشعر بنفور شديد من المنزل، فبعدما كانت تهرب إليه وإلى حجرتها تحديدًا بغرض الإختباء من وحشة العالم الخارجي أصبح منزلها أكثر وحشة.
جرت تلك المحادثة أثناء مغادرتهم للمدرسة ونظرًا لإنهماكهم في الحديث لم يلحظ أحدًا منهم ذلك الواقف يراقبهم من بعيد رغبة في الإطمئنان على ريتال، نمت ابتسامة صغيرة على ثغره حينما لمحها تبتسم أثناء تحدثها مع تلك السيدة والتي لم يكن يعرف قرابتها إلى ريتال ربما والدتها ربما شقيقتها لكن ما لاحظه هو ارتياح ريتال أثناء وجودها أما عن ذلك البغيض ذو الشعر الأسود المدعو بصالح.
لم يشعر تليد بالراحة تجاهه ولم يعلم السبب لكنه لم يحبذ وجوده حول ريتال، الآن بات في حيرة من أمره بعد رؤيته للمرة الثانية برفقة ريتال هل هي حقًا تحبه كما أخبرته نانسي أم أنه مجرد أخٍ لها؟
بالفعل بعد ساعة ونصف تقريبًا كان صالح يجلس أمام ريتال ووالدتها يثرثر حول شيء ما لم تسمعه ريتال فلقد كانت منغمسة داخل دوامة أفكارها التي لا تنتهي بينما تتأمل بعيناها الداكنة الواسعة مياه النيل والتي أكتسبت بريقًا بسبب إنعكاس أشعة الشمس عليها وبينما كانت تتأملها ريتال أخذت تسأل نفسها متى عساها تلمع كتلك المياه؟ متى عساها تصبح بهذا الجمال الجذاب؟ متى عساها تصبح ساكنة غير مضطربة كتلك المياه؟
أنا مش عارف هل بابا هيوافق إن أنا أخد خطوة زي دي ولا لا؟ خاصة إن أنا يعني لسه مش بشتغل شغل ثابت ولسه قدامي سنة كمان عالتخرج ده لو عديت صافي طبعًا، صدرت هذه الجملة من صالح وقد بدت نبرته مضطربة قليلًا، لم تسمع ريتال الجمل التي سبقت تلك لذا لم تستطع إبداء رأيها لكنها ودت أن تشجعه لذا أردفت دون وعي منها:.
أنتَ شاطر وطموح هتعرف تحقق كل اللي نفسك فيه يا صالح وهتقدر تعمل اللي أنتَ عايزه حتى لو الدنيا كلها وقفت ضدك، أنا واثقة فيك.
تمتمت ريتال ليرمقها صالح بقليل من الدهشة قبل أن تنمو ابتسامة صغيرة على ثغره تليها ضحكة تدل على الدهشة قبل أن يُردف الآتي:.
بجد تفتكري كده؟ أنا مبسوط أوي بكلامك ويعني بصراحة متوقعتش خالص إنك تقولي كده، لم تفهم ريتال سر دهشته وسعادته الرهيبة لقولها ذلك وأيضًا لم تفهم سر نظرات والدتها الغير مريحة، هل اخطأت ريتال فيما قالته؟ أم أنها كانت من المفترض ألا تشجع صالح على تلك الخطوة التي يُريد أن يُقدم عليها والتي لم تعلم ريتال تحديدًا ما هي.
طيب ممكن بقى نطلب الأكل ونأجل الكلام في الموضوع ده بعدين يا صالح؟
حضرتك عندك حق يا طنط أنا أسف، أنا فعلًا مش من الذوق أتكلم في موضوع زي ده في الظرف اللي حاصل، حقك عليا.
مش مستاهلة إعتذار يا صالح أنتَ ملكش دعوة كده كده باللي بيحصل بيني أنا وعبدالرحمن أكيد أنتَ مش هتوقف حياتك علينا.
هو في أيه؟ أنا مش فاهمة حاجة،.
بصي كده يا ريتال في ال Menu قائمة الطعام في حاجات هتعجبك أوي. أردفت والدتها بنبرة صوت تفوق نبرة ريتال وكأنها تمنعها من الإستفسار وتمنع صالح كذلك من الإجابة عن تساؤلاها عن طريق تغير الموضوع تمامًا.
في حوالي الساعة السادسة مساءًا اجتمعت العائلة كلها لتناول الطعام بطلب من الجدة، حاولت ريتال أن ترفض لكنها لم تقدر على المقاومة بعد إلحاح جدتها الرهيب، جلست إلى جانب والدتها وتجنبت الجلوس بالقرب أو في مواجهة والدها فهي أصبحت تشمئز من فكرة وجوده بالقرب منها، كان الصمت مخيمًا على المكان مع وجود شعور بالإضطراب وعدم الراحة في الهواء من حولهم، لم يصدر أي صوت غير صوت اصطدام الملاعق بالأطباق قبل أن يقطع الصمت صوت غادة وهي تقول:.
أيه يا زينة مش هتاخدي ريتال تكشفي عليها ولا أحنا كل يوم بقى هنمشيها من أول حصتين بسبب الدلع والمياصة دي؟
لما يبقى يحصل لنانسي زي ما بيحصل لريتال يا غادة أبقي سبيها يا حبيبتي تكمل اليوم الدراسي عادي من غير ما تروحيها البيت.
يا ستار يارب بعد الشر عن بنتي حبيبتي، وبعدين أنا الله أكبر بنتي صحتها حلوة وببتغذى كويس لكن ريتال بقى، كادت أن تُكمل سخريتها من ريتال لكن أوقفتها والدتها وهي تصيح قائلة الآتى مدافعة عن زينة وريتال:
غادة! خليكي في حالك وفي بنتك، ملكيش دعوة بريتال زينة أمها وهي أدرى بمصلحتها أكتر منك.
شايف يا عبدالرحمن أهي ماما دايمًا تنصر مراتك عليا أنا وأخوك. بنبرة مُزيفة لا تخلو من الصعبنية تحدثت غادة لكي تجذب الأنظار، لم تستطع ريتال كتم ضحكتها الساخرة التي لا تخلو من الغيظ وكادت عمتها أن توبخها لولا أن قاطعها صوت ريتال وهي تُعلن الآتي:
أنا شبعت الحمدلله، ماما لو خلصتي أكل تعالي نطلع فوق.
لا أطلعي أنتِ يا حبيبتي أنا ومامتك هنقعد نتكلم شوية وبعدين هنطلعلك. لم تُجيبه ريتال ولكنها قامت بصفع الملعقة خاصتها بقوة على الطاولة وهي تتحاشى النظر إليه ثم تُضيف أثناء وقوفها:
خلاص لو كده بقى أنا هستنى معاكي يا ماما، أنا لازم اسمع الكلام اللي هيتقال.
أنا قولت تطلعي فوق يا حبيبتي، اللي هيتقال ده كلام كبار مينفعش تبقي قاعدة.
ما هو اللي حضرتك مش واخد بالك منه إن أنا خلاص مبقتش صغيرة.
ريتال، اسمعي الكلام واستني فوق، بصي ممكن تاخدي عطر معاكي وتقعدوا تذاكروا شوية.
حاضر يا ماما.
تحبي أجي معاكي يا ريتال؟ عرضت نانسي بنبرة مراوغة لترمقها ريتال بإزدراء قبل أن تزفر بضيق ثم تسحب عطر من يدها ويتجه كلتاهما نحو الخارج دون أن تُجيب على نانسي.
غادة لو أنتِ وبنتك خلصتوا أكل خديها وأطلعوا على شقتك فوق. تحدثت بثينة بنبرتها التي لا تخلو من الوقار، تركت غادة الطعام الذي كان في يدها وهي تُردف الآتي مستنكرة:.
أيه يا ماما هو أنا كمان عيلة ومش المفروض إن أنا أحضر طلاقهم ولا أيه؟ ما أنا كبيرة لا وحضرت نفس الموقف قبل كده بس الفرق إن أنا كنت مكان زينة. كان تعليقها بغيض إلى درجة كبيرة حتى أن معالم والدتها اضطربت لسماعه ومن ثم هذبتها قائلة الآتي ببعض الإنفعال:
أعوذ بالله منك يا شيخة، مين قالك بس إن هما هيتطلقوا؟ مش يمكن يصطلحوا مع بعض؟
وأنتِ فكرك زينة اللي دماغها أنشف من الحجر دي هتوافق تعيش معاه بعد اللي حصل؟ أكيد لا طبعًا لازم تهد البيت اللي أخويا شقي فيه.
كانت تتحدث غادة بغلٍ شديد كانت تعرف زينة سببه وإن كانت لا تدرِ ما ذنبها في وضع شقيقه زوجها فيه إلا أنها كانت تعلم أنها تغار منها كثيرًا، لم تكن ترغب زينة في قول شيء قاسٍ لكن أسلوب غادة الساخر أثار غيظها حتى أنها تفوهت بالآتي دون تفكير طويل أو ذرة تردد:.
ولما أنتِ عاقلة كده يا غادة يا حبيبتي أطلقتي ليه؟ لا ثواني أنا أسفة، نسيت إن هو اللي كان عايز يطلق مش أنتِ، هل كانت رد زينة قاسٍ؟ نعم، هل كان عليها التفوه بمثل تلك الكلمات؟ لا، لكن هل كان الوضع وأسلوب غادة يستدعي أن ترد زينة مثل هذا الرد القاسي؟ الإجابة هي نعم.
في بعض الأحيان يضطر المرء على استخدام سلاحه المُدمر وهو لسانه، فلا يوجد سلاحًا أكثر فتكًا أو أشد تدميرًا من الكلمات الجارحة والمهينة، لم تتعمد زينة إهانة أو دعس كبرياء غادة طوال السنوات الماضية ولقد تحملت كل الإساءات منها ولكن الآن قد حان الوقت لتصفية جميع الحسابات ونظرًا لأن زينة على بعد خطوة من ترك هذا المنزل نهائيًا فلا بئس من هجوم فجائي لم يحسب أحد حسابه.
شوفتي يا ماما اللي بتيجي عليا علشانها بتقول أيه؟ شكرًا أوي يا محترمة وعلى العموم متتريقيش أوي ما خلاص يا حبيبتي بقى الحال من بعضه.
أنتِ فاكرة إنك بتذليني يعني أو بتهينيني؟ أنتِ كده بتهيني نفسك يا حبيبتي مع إن أنتِ مفيش أي حاجة في وضعك مهينة أصلًا، مش حاجة تعيبك إنك تبقي مطلقة يا غادة، الطلاق أحسن من إنك تبقي عايشة تعيسة. أوضحت زينة وجهة نظرها بصدق ووضوح وبالرغم من أن حديثها كان صحيحًا ولم يحمل أي نوع من أنواع الإهانة إلا أن غادة كانت تود أن توبخها وتعترض على حديثها.
أنا بقول بقى نسيبنا من الكلام الهايف ده بقي ونتكلم في الجد شوية، زوزو حبيبتي قوليلي أنتِ قررتي أيه في موضوعنا؟ أنهى عبدالرحمن الجدل بين شقيقته وزوجته قبل أن يوجه نظره نحو زينة ويستخدم نبرة صوته الدافئة الحنونة والتي كانت مصطنعة بالمناسبة في محاولة منه لتلطيف الأجواء.
ضحكت زينة ساخرة من سذاجته لكونه يظن أنه يستطع إصلاح الوضع عن طريق مناداتها بإسم التدليل خاصتها مع خفض درجة صوته، أخذت نفس عميق قبل أن تتنهد بعمق ثم تُجيبه بثبات:
فكرت يا عبدالرحمن ولسه عند قراري، أنا عايزة أتطلق وأخد بنتي من هنا وأمشي.
يعني برضوا مفيش فايدة؟ سألها بنبرة حنونة محاولًا استعطافها ولقد أستوعبت زينة ذلك لذا أشاحت بنظرها بعيدًا عنه وهي تُجيبه بثقة:
متحاولش يا عبدالرحمن.
خلاص طالما أنتِ قررتِ إنك خلاص هتطلقي بقى وكده فأنا موافق بس عندي شرط. سرعان ما تبدلت نبرة صوته لتصبح أكثر قسوة وحدة، ضحكت زينة ساخرة قبل أن تسأله مستنكرة:
كمان ليك عين تحط شروط؟ هو أنتَ بجد جايب البجاحة دي منين يا عبدالرحمن؟
احترمي نفسك يا زينة وزي ما بتكلم معاكي بالأدب ياريت بعد إذنك تعملي نفس الشيء معايا، بصي أنا موافق إننا نطلق وهديكي حقوقك بس بشرط إن ريتال هتعيش معايا.
هو أنتَ في حاجة في دماغك يا عبدالرحمن؟ هو أنتَ بجد فاكر إن أنا هتنازل عن بنتي في مقابل شوية عفش وكام جرام دهب وكام حتة خشب؟
ما هو أنا لما سبت البنت معاكي سنتين ولا تلاتة شوفتي أخلاقها بقت عاملة ازاي؟ أومال لو سبتها معاكي بقيت العمر هنلمها من الشارع ولا أيه؟ كان يتحدث بأشياء غير منطقية محاولًا أن يظهر زينة على أنها مقصرة وأم غير صالحة، حاولت زينة تمالك أعصابها لكنها فشلت في النهاية لتنفعل عليه قائلة:.
احترم نفسك أنا مسمحش إن حد يغلط في بنتي ولا في تربيتها أيًا كان مين الشخص ده، أنا بنتي اتربت أحسن تربية، اه هي غلطت لما أنفعلت عليك وأنا أتكلمت معاها في الموضوع ده لكن تقول إنها مش متربية مش هسكتلك! أنا بجد مش فاهمة أنا ازاي اتخدعت فيك السنين اللي فاتت دي كلها، عمري راح مني عالفاضي،.
ما هو أنا برضوا مش هسيب بنتي تروح تعيش في الحتة اللي أبوكي وأختك عايشين فيها وبعدين قوليلي بقى، هتصرفي عليها منين؟ معاش أبوكي هيكفي؟ ولا هتاخدي بنتي تمسح وتكنس معاكي البيوت؟ كان عبدالرحمن يتحدث ساخرًا قاصدًا إثارة غضب الجالسة أمامه ولقد نجح في ذلك بالفعل لكن شعورها بالإهانة والإنكسار كان يفوق بكثير شعورها بالغضب، كادت أن تُعقب على حديثه لكن سبقها صالح صائحًا:.
في أيه يا عمي حضرتك زودتها أوي! عيب كده ميصحش دي لسه مراتك وعلى ذمتك وفي النهاية أم بنتك متصغرش نفسك بالكلام ده! ولو هتذلهم عالفلوس أنا مستعد أسيب الجامعة وأروح أشتغل وأصرف عليهم ولا أنهم يسمعوا كلمة ذل منك أو من أي حد!
مبقاش إلا العيال الصغيرين هما اللي يتدخلوا كمان! ما تلم ابنك يا أحمد هو في أيه؟ صاح عبدالرحمن بإستياء شديد لأن صالح عرض على زينة المساعدة في حين أن عبدالرحمن كان يستخدم هذا التهديد لتطبيق الضغط النفسي على زوجته كي تغير وجهة نظرها عن أمر الإنفصال وأخذ ابنتهم بعيدًا.
تسلم يا صالح ربنا يخليك ويرحم والدتك اللي عرفت تربيك، وأنتَ بقى يا عبدالرحمن بعد إذنك سيبك من صالح وبطل تتهرب من الكلام وتتحجج وقولي كل اللي عندك خلينا نخلص. شكرت زينة صالح وقد قصدت أن تذكر فضل والدته المتوفاه لأنها السبب الرئيسي في نشأته الجيدة.
طيب أنا هقولك على اتفاق حلو أوي هيريح جميع الأطراف، أنتِ يا حبيبتي معكيش شهادة تعليم عالي ومعندكيش شغل تصرفي منه على ريتال وأنا بنتي متعودة على نظام معين، أردف بنبرة باردة وهو يبتسم لتضم زينة قبضة يدها في غيظ شديد وهي تحاول جاهدة أن تستمع إلى بقية حديثه ليتابع هو بالنبرة ذاتها:.
ريتال هتفضل معايا، لآخر الترم وهيبقى قدامك فرصة شهرين ونص، شهرين ونص يا زينة تدوري فيهم على شغل ومكان عدل بنتي تسكن فيه والله لاقيتي مكان هديلك البنت ملقتيش هتفضل عايشة معايا، اه صحيح في الفترة دي هي هتعيش معايا أنا ومراتي وابني.
أنتَ بجد انسان مش طبيعي يا عبدالرحمن، أنا مستحيل اسيب بنتي تحت أي ظرف من الظروف أنتَ سامعني؟ صرخت زينة في وجهه وهي غير مصدقة للذي تسمعه أذنها، كيف لزوجها الذي أحبته لسنوات والذي قضت معه أجمل أيام شبابها، كيف أصبح بهذا الجحود والقسوة؟ كيف لم تنتبه يومًا للوحش الكامن بداخله؟
طب بصي بقى يا بنت الناس أنا هجبلك من الآخر أنا زي ما قولت من شوية ريتال هتقعد معايا ومع أخوها فترة والله قدرتي إنك تلاقي شغل وتضبطي
الدنيا هتاخدي بنتك معاكي معرفتيش هطلعك من هنا بشنطة هدومك ومش هتشوفي بنتك تاني. كانت تستمع زينة إلى عرضه بينما تنهمر دموعها دون إرادة منها، توقف عبدالرحمن لثوانٍ ليلتقط أنفاسه ويعيد ترتيب أفكاره قبل أن يُضيف:.
وأقولك حاجة كمان؟ طلاق مش هطلق ولو ناوية بقى إنك ترفعي قضية والكلام ده خليكي عارفة إن الموضوع حباله طويلة لسه عقبال ما تلاقي محامي وتلاقي فلوس للمحامي وترفعي قضية، ملهاش لازمة كل البهدلة دي وأنا بقدملك حل يرضي جميع الأطراف، فكري يا زينة وأنا هستنى رد منك بكرة إن شاء الله وريتال متوديهاش المدرسة بقى لحد لما نشوف مالها. لم تدرِ زينة ماذا تفعل سوى أنها وقفت أمام عبدالرحمن وبصقت عليه بكل قوتها قبل أن تغادره وتصعد إلى الطابق العلوي.
كانت ريتال تنتظر والدتها في الداخل ولكنها كانت تقف بالقرب من الباب وبمجرد أن وصلها صوت خطوات والدتها المميز قامت بفتح الباب وهي تسألها بقلق شديد:
بابا قالك أيه يا ماما؟ لم تُجيبها زينة بل جذبت ابنتها في عناق قوي ثم انفجرت باكية بينما تهمس:.
حسبي الله ونعم الوكيل، يارب جبلنا حقنا منه يارب أحنا ملناش غيرك، أخذت تدعو وتناجي ربها من بين شهقاتها وهي تشعر بقهر شديد لم تشعر بمثله من قبل، لم تعرف ريتال ماذا حدث لكن من الحالة التي كانت عليها والدتها لم يكن من الصعب عليها التخمين...
في صباح اليوم التالي استيقظت ريتال في العاشرة صباحًا، نظرت إلى الساعة في الهاتف خاصتها لتُدرك أنها قد تأخرت على موعد المدرسة لتتجه نحو غرفة والدتها، بمجرد أن دلفت نحو الداخل وجدت والدتها تجلس على السرير وإلى جانبها أربعة فناجين فارغة من القهوة، كانت عيون والدتها محمرة ووجهها غاية في الشحوب.
ماما أنتِ كويسة؟
صباح الخير يا حبيبتي تعالي اقعدي.
أنا كنت جاية أشوفك علشان أقولك إن راحت عليا نومة ومروحتش المدرسة النهاردة.
ما أنا عارفة، أنا سكت المنبه بتاعك قولت يعني إن الأفضل إنك ترتاحي في البيت النهاردة.
ماما هو في أيه؟ أنتِ منمتيش من امبارح صح؟
مجاليش نوم، فضلت سهرانة طول الليل بفكر في اللي جاي وفي اللي راح، حينما قالت والدة ريتال عبارتها الأخيرة وقعت عين ريتال على نهاية السرير والذي كان مُغلفًا بصور حفل زفاف والديها بالإضافة إلى صور ريتال في طفولتها.
طب فهميني يا ماما حصل أيه ونفكر مع بعض يمكن أنا أقدر أساعدك.
ريتال أنا وباباكي هننفصل،.
طب فين المشكلة؟ ما أنا أكيد متوقعة حاجة زي دي يعني بعد كل اللي حصل.
تحدثت ريتال بنبرة ساخرة بينما كانت تراقب تعابير وجه والدتها والتي ازدادت إضطرابًا بينما أخذت تفرك كفيها معًا متجنبة النظر إلى وجه ابنتها.
ماما هو في أيه؟ قولي كل اللي عندك مرة واحدة أنا مش حِمل توتر أكتر من كده.
ريتال باباكي وافق يطلقني بشرط إنك تفضل هنا لمدة شهرين ونص ولو قدرت أوفر سكن ومرتب نعرف نعيش بيه أنا وأنتِ هيسبني أخدك معايا ولو معرفتش،.
أيوا؟ لو معرفتيش أيه يا ماما؟ هيجبرك تسبيني أعيش معاه هنا؟
أنا مش عارفة أفكر، مش عارفة أتصرف ازاي يا ريتال، الوضع اللي أنا فيه صعب أوي، أنا مفيش قدامي أي حال تاني،.
يعني أيه يا ماما؟ يعني قصدك إنك هتتخلي عني وهتوافقي على عرضه؟ مش هتحاربي علشاني يا ماما؟ أيه يضمنلك أصلًا إنه مش بيكدب وبيضحك عليكي؟ هتسبيني هنا معاه هو ومراته وابنه علشان معتمدة على كلمتين قالهم واحد كداب!
كانت تصرخ ريتال بطريقة هستيرية وهي تبكي دون توقف، حاولت والدتها أن تضمها لعلها تهدأ لكن ريتال دفعتها بعيدًا وهي تهرول نحو حجرتها ثم أوصدت الباب بواسطة المفتاح متجاهلة طرقات والدتها بهلع.
أطلقت العنان لشهقاتها ودموعها وهي تشعر بروحها تحترق من الداخل بينما تسارعت نبضات قلبها مرة آخرى، الغرفة من حولها تدور ولم يعد الآلم الذي بداخلها يُحتمل...
لم تشعر ريتال بذاتها سوى وهي تتجه نحو المكتب خاصتها وتبحث بين أغراضها عن أي شيء حاد في النهاية وجدت شيء مناسب لإحداث قطع في بشرتها الرقيقة، عاودت ريتال الجلوس على الأرضية الباردة وهي تُقرب الآلة الحادة من معصمها، دموعها تنهمر بغزارة أكثر ومعظل نبضات قلبها يزداد، قربت الآلة الحادة أكثر وبدأت تشعر ببرودتها ولكن قبل أن تُحدث القطع الأول جاءها صوت صالح من الخارج لتقوم بقذف تلك الآلة بعيدًا عنها.
ريتال أفتحي الباب بعد إذنك، ريتال أنتِ كويسة طيب؟ لو سمعاني أفتحي وتعالي نتكلم تحت. كفكفت ريتال دموعها سريعًا وهي تنهض من جلستها بحثًا عن وشاح للرأس قبل أن تفتح الباب، كان صالح يقف متكئًا على الحائط بالقرب من الباب يطالعها بمزيج من الحزن والقلق.
ينفع اللي أنتِ بتعمليه ده؟
وفر نصايحك لنفسك يا صالح بعد إذنك أنا مش مستحملة اسمع كلمة من حد،.
طيب البسي چاكت علشان الجو بارد وتعالي على تحت أنا هستناكي في الجنينة.
تمام. أردفت ريتال بنبرة أقرب إلى الهمس، قبل أن تُحضر المعطف خاصتها وفي طريقها نحو الخارج لمحت والدتها لكنها تجنبت النظر نحوها وغادرت المكان سريعًا وهي تلحق بصالح.
عايز أيه يا صالح؟ سألته بمجرد أن لمحته يجلس في الحديقة ليطلق تنهيدة طويلة قبل أن يقول:
طب اقعدي نتكلم، هنتكلم عالواقف يعني؟
أنا معنديش طاقة يا صالح لو سمحت انجز،.
طيب، أنا عارف الموقف ازاي صعب عليكي بس يا ريتال لازم تراعي إن زي ما الوضع صعب عليكي هو صعب كمان على طنط زينة ويمكن أكتر منك ومش من المفروض تاخدي منها موقف هي مفيش في إيدها حاجة تانية تعملها. كانت قد توقعت ريتال سماع ذلك الموشح، بالطبع سيدافع صالح عن والدتها وستظهر هي بمظهر الفتاة العاق السيئة التي لا تقدر الظروف من حولها.
اه طبعًا كالعادة لازم اطلع أنا الشريرة، خلاص يا صالح أنا أسفة، أنا سبب المشاكل كلها لو مكنتش كلمت بابا مكنتش هسمع صوت ابنه، ولو مكنتش رديت لما اتصل بليل مكنش ابنه هيكلمني ومكنتش هعرف حاجة، ياريتني ما عرفت يا أخي،.
يعني أنتِ رأيك كده؟ الأحسن إنك تبقي مغفلة وسعيدة أحسن ما تبقي عارفة الحقيقة وتعيسة؟ أثار سؤال صالح غيظها وضيقها أكثر لتصرخ فيه من بين دموعها وشهقاتها:
اه يا صالح، ياريتني فضلت مغفلة وسعيدة عالأقل بابا مكنش هيقل من نظري وماما مكنتش هتبقى في الحالة اللي هي فيها دي ومحدش كان هيتخانق ولا كنا هنسيب البيت ولا أي حاجة بس طبعًا أنا السبب، أنا سبب كل المشاكل وكل حاجة وحشة بتحصل أو هتحصل.
كانت تتحدث من بين دموعها دون تكبد عناء مسحها أو محاولة أن تُخفيها، نظر إليها صالح بحزن شديد وتعاطف كبير مما جعل قلب ريتال يؤلمها أكثر، ساد الصمت لبرهة قبل أن تقطعه ريتال وهي تُردف بكل جدية بينما تحاول مسح دموعها:
خلاص يا صالح قول لماما إن أنا موافقة على قرارها، خليها تاخد حاجتها وتمشي وأنا هستناها بس مش عارفة يوم لما ترجع هتلاقيني ولا لا،.
لم يفهم صالح مقصد ريتال من هذه العبارة لكنه شعر بإنقباض في قلبه وكأنه يُنذره أن عبارتها تلك مؤشر لشيء سيء على وشك أن يحدث، لم تنتظر ريتال سماع ردًا منه على حديثها بل تركته جالسًا واحده واتجهت نحو الداخل.
مر يومان كانت تتجنب فيهما ريتال التحدث إلى أي شخص حتى والدتها، حتى أنها قضت معظم ساعاتها داخل حجرتها الصغيرة وكانت بالكاد تتناول كمية ضئيلة من الطعام حتى ازداد وجهها شحوبًا وجسدها ضعفًا عن المعتاد.
لم تذهب ريتال إلى المدرسة بالطبع ولم تُجيب على رسائل ومكالمات عالية وحنين فهي لا تملك أي طاقة للتحدث أو لتفسير ما يحدث في حياتها الآن، كما أنها كانت في حاجة إلى الراحة عل تلك الأصوات داخل رأسها تهدأ لبعض الوقت، على الجانب الآخر كان تليد يشعر بقلق شديد بسبب اختفاء ريتال وعدم معرفته لم حدث معها بعد ذلك اليوم المشئوم في المدرسة، أخذ تليد يعبث في هاتفه بوجه مكفهر بحثًا عن أي حساب يخصها أو لعلها قامت بوضع حالة جديدة على تطبيق الواتساب.
مالك يا تليد في أيه؟ سأله صديقه ياسين وهو يجلس إلى جانبه ليزفر تليد بضيق شديد قبل أن يُجيب صديقه قائلًا:
هتجنن يا ياسين، عايز اتطمن على ريتال، من وقت اللي حصل في المدرسة من يومين تقريبًا وأنا معرفش عنها أي حاجة ومش عارف أبعتلها مسدچ لأنها طلبت مني مكلمهاش وأنا أحترمت طلبها،.
طب خلاص أهدى إن شاء الله محصلهاش حاجة يعني هي بس ممكن علشان كانت زعلانة، أقولك حاجة بقى أنتَ بصراحة غلطان إنك صدقت نانسي دي من الأول مع إنك عارف إنها كدابة وبتاعت حوارات بس اللي حصل حصل بقى.
نانسي دي ليها روقة هي وچودي، هخلي اللي ما يشتري يتفرج عليهم هما الإتنين. أردف تليد من بين أسنانه بغيظ شديد وهو يتوعد لكل من ساهم في إحزان ريتال، لم تروق لياسين نبرته لذا علق بالآتي ناصحًا إياه:
غلط يا تليد، مينفعش تصلح حاجة غلط بغلط أكبر منه، يا سيدي هما سلوكياتهم أو تصرفاتهم مش تمام ده لنفسهم ربنا يهديهم ملكش أنتَ دعوة متنساش إنك ليك أخت بنت برضوا.
أنتَ عبيط يا ياسين؟ هتقارن أختي المحترمة المتربية بالأشكال دي؟ سأل تليد بإستنكار شديد غير مدركًا لمقصد ياسين ليتنهد الأخير قبل أن يقوم بتوضيح وجهة نظره مُردفًا:
كل إنسان ليه غلطات وذنوب سواء كان متربي أو لا، أكيد طبعًا التربية الكويسة بتقلل كتير من فرص الوقوع في الغلط بس في ناس بتتعثر يعني. صمت تليد لبرهة في محاولة بائسة منه لفهم مقصد ياسين لكنه في النهاية استسلم وعقب على جملته مستهزءًا:.
أنتَ على فكرة بتقول كلام كبير أوي يصعب على أمثالي فهمه، شوية شوية هتكلمني باللغة العربية وشغل كابتن ماجد ده.
والله أنا غلطان بجد إن أنا بتكلم معاك.
خلاص بهزر معاك، بص أنا هبعت مسدچ لميس نادين المدرسة الجديدة دي مش فاكر هي بتدينا مادة أيه أصلًا بس هي رقمها موجود على جروب الدفعة وهطلب منها تطمن على ريتال.
اه وأنتَ بتطمن بصفتك مين بقى؟
هي مش هتبقى عارفة أنا مين يا ذكي أنتَ، هعمل نفسي واحدة صاحبة ريتال بقى وخلاص. انفجر ياسين ضاحكًا من فكرة تليد ليضربه الأخير في كتفه بخفة قبل أن يُضيف:
أنا غلطان إن أنا بحكيلك على حاجة بجد. تمتم تليد بغيظ وهو يذهب للجلوس بعيد عن ياسين بينما يكتب الرسالة التالية ويُرسلها إلى المعلمة:.
السلام عليكم ورحمة الله وبركاته يا ميس نادين، بعد إنك أنا بحاول أتواصل مع ريتال علشان اتطمن عليها ولكن هي مش بترد ممكن حضرتك تكلميها وتطمنيني عليها لأني قلقانة خالص.
كان يشعر تليد بالخزي من نفسه لفعلته تلك لكنه قام بالضغط على زرار الإرسال على أي حال بينما يهمس بصوتٍ بالكاد مسموع:
علشان خاطرك أنتِ بس يا ست ريتال.
في مساء ذلك اليوم وداخل منزل عائلة ريتال كانت تقف هي وراء الحائط داخل شقة جدتها وهي تنظر إلى والدها ووالدتها اللذان جلسان على الأريكة ذاتها تاركين مسافة كبيرة بينهم وفي الكرسي المقابل جلس المأذون الشرعي والذي سيتولى القيام بعملية الطلاق، كانت جدتها تجلس إلى يمين والدتها بينما تُربت على كتفها في حزن حقيقي وللمرة الأولى ترى ريتال جدتها بهذا الحزن والإستياء في الوقت ذاته.
أستاذ عبدالرحمن، مدام زينة، لسه في فرصة قدام حضراتكوا تراجعوا نفسكوا كويس، أنتوا بينكوا عشرة طويلة بلاش تخلوا الشيطان يفرق شملكوا والبيت يتهد.
فكري تاني يا زينة شيخنا معاه حق، بلاش تخلي لحظات غضب تهد كل حاجة حلوة بينا. أردف عبد الرحمن بنبرة مُزيفة لتطالعه زينة بنظرات حارقة قبل أن تُشيح بنظرها بعيدًا عنه حتى لا يرى الضعف والدموع داخل عيناها، تابع الشيخ حديثه قائلًا:
استعيذوا بالله من الشيطان الرجيم وحاولوا لآخر مرة تراجعوا نفسكوا قبل ما ناخد الخطوة دي.
أتكل على الله يا شيخنا القرار أتحسم خلاص. أردفت زينة بنبرة حاسمة قوية تتنافى تمامًا مع الضعف والإنكسار الذي شعرت به بداخلها وبعد تلك الجملة قام المأذون ببدأ إجراءات الطلاق لإنهاء تلك الزيجة التي استمرت ما يقرب من الثمانية عشر عامًا.
خارت قوة ريتال لتجلس على الأرضية الباردة تراقب المشهد من بعيد بينما بللت دموعها وجنتيها، الآن باتت هي على بعد خطوة أو اثنتين من بداية فصل جديد في حياتها، لا تدرِ ماذا تُخبيء لها الأيام أو الليالي القادمة، لا تدرِ أي طريق ستسلك، حتى أنها لا تدرِ كيف عليها أن تشعر...
هل عليها أن تشعر بالغضب تجاه والدتها لأنها قررت أن تُعلن استسلامها وتركتها هنا وحيدة؟ أم تسخط على والدها جاحد القلب الذي تسبب في حدوث كل هذه الفوضى أم تبغض ذاتها لأنها ضعيفة وهشة لا تقوى على الإعتراض وحتى وإن فعلت فهي ليست سوى نكرة بالنسبة لوالدها بل بالنسبة لمن حولها جميعًا، الآن باتت ريتال على بعض خطوة أو اثنتين من الجنون والإنهيار...