رواية وصال مقطوع للكاتبة إيمان عادل الفصل التاسع والعشرون
بعد مرور بضعة أيام وصلت زينة إلى المنزل في مساء يوم الثلاثاء، وعلى الرغم من أنها منذ أن كانت صغيرة لم تكن تفضل ذلك اليوم إلا أنه كان الميعاد الوحيد المتاح لدى الطبيبة النفسية الجديدة خاصتها هي وريتال، كانت هذه الجلسة هي الثانية بالنسبة إلى زينة وهذه المرة كانت أكثر راحة عن السابقة واستطاعت أن تتحدث عن مشاعرها ورؤيتها للأمور بصورة أفضل.
ريتال مريم هتيجي تتعشى معانا، أنا هعملنا بقى شوية بيض بالبسطرمة ولانشون بقى وجبن وطبعًا طبعًا شاي بلبن.
الله هو ده الكلام، هخلص مذاكرة وأجي أساعد معاكي ولا أنتِ وهي هتتكلموا في أسرار وتقعدوا لوحدكوا؟
هو في أسرار بيني وبينك؟ ده أنتِ بنوتي وأختي وصاحبتي كمان، لا هنتعشى كلنا بس جدك مش هياكل معانا لأنه هيسهر مع صحابه برا. تمتمت زينة وهي تعانق ريتال، سعدت الأخيرة كثيرًا من حديث والدتها والذي كان صادقًا بكل تأكيد فيما عدا الجزء الخاص بالأسرار فلقد كانت زينة تنوي التحدث إلى مريم في بعض الأمور الخاصة مثل الحديث حول فؤاد شقيقها على سبيل المثال.
بعد مرور ساعة ونصف تقريبًا وصلت مريم إلى منزلهم، جلس ثلاثتهم لتناول العشاء قبل أن تطلب ريتال الإذن منهم لتتابع المذاكرة في حجرتها، تنهدت زينة الصعداء وكادت أن تتحدث لولا أن قاطعتها مريم قائلة الآتي:.
طبعًا أنتِ عايزة تستجوبيني عن أخويا مش كده؟ أنا أسفة يا هانم أسرار بيتنا متطلعش برا. نظرت إليها زينة بمراوغة وهي ترفع أحدى حاجبيها لتتنهد مريم قبل أن تقول: بهزر طبعًا تحبي نبدأ من لما كان عنده سنة؟ أصل أنا مش هسيبك غير لما أخليكي توافقي عليه ما هو أصل بصراحة بقى أنا أخويا مترفضش يا ست زينة ده أحنا ابننا راجل ملو هدومه!
هو أنتِ بتقولي أيه؟ لا بجد أيه العبث ده؟ مين قال أصلًا إن أنا هسألك عن فؤاد. كذبت زينة كذبة غير منطقية فبمجرد أن ذُكر اسم فؤاد لمعت عيناها وتسرب الخجل إلى وجهها وكان من السهل ملاحظة ذلك، ضحكت مريم ضحكة صغيرة قبل أن تُردف: طبعًا أنتِ عايزة تعرفي عن مراته مش كده؟ بصي يا ستي مراته الله يرحمها كانت زميلته في كلية الطب، حب عصافير الكنارية بتاع الكلية أنتِ عارفة بقى الجو ده ولما اتخرجوا فؤاد أتقدملها على طول وفي خلال سنة تقريبًا أتجوزوا.
يعني كان جواز عن حب مش صالونات وبالعقل زينا يعني، عقبت زينة بغيرة واضحة قد أمتزجت بالحزن، وضعت مريم يدها أعلى كتف زينة بمرح قبل أن تقول: ومين قال إن جوازكوا بالعقل وصالونات؟ عرفتي منين يعني إن فؤاد معندوش مشاعر ناحيتك؟ أنا بس عايزة أفهمك حاجة، فؤاد لو مكنش حاسس بمشاعر ناحيتك عمره ما كان هيفكر يتقدملك، فؤاد قد يبدو شخص عقلاني تمامًا لكن في الحقيقة هو بيقدش مشاعره جدًا وعمره ما هيفكر يرتبط بأي واحدة هو مش بيحبها.
بس هو أصلًا ملحقش يعرفني قصدي،
الحب والإعجاب مش لازم يجوا بعد خروج كتير وفسح وكلام في السر، الحاجة الواضحة اللي في النور اللي غرضها الحلال هي الحب الحقيقي.
ويا ترى فؤاد حس بالمشاعر دي مع حد تاني غير مراته الله يرحمها؟
سألت زينة بعدم راحة وهي تتجنب النظر إلى عين مريم، ابتسمت الأخيرة ابتسامة صغيرة وهي تراقب تعبيرات وجه زينة التي تتبدل سريعًا كلما ذُكر اسم فؤاد أمامها قبل أن تُجيب عن سؤالها بصدق تام:.
لا، فؤاد طول السنين اللي فاتت مقدرش يحب أو يفكر في أي واحدة تانية غير مراته الله يرحمها، مش هكدب عليكِ أنا نفسي اندهشت لما عرفت إنه معجب بيكي وعايز يتجوزك.
أيه يا مريم هنعك في الكلام ولا أيه؟
مش قصدي والله أنتِ زي القمر وسكر بس الفكرة اللي بتكلم فيها إنه كان بيرفض كل الستات بكل شخصياتهم وجمالهم بس أنتِ كان فيكِ حاجة مميزة شدته ليكِ.
طيب هو مراته أتوفت ازاي؟ وأنا أسفة لو سؤال فضولي وقلة أدب مني يعني بس هو مش فؤاد كبير شوية على إن فريدة تبقى صغننة كده؟
هو عندك حق، مرات فؤاد الله يرحمها كان عندها مشكلة في القلب وهو كان خايف أوي عليها واتفق معاها على تأجيل الخلفة أو بمعنى آخر ميخلفوش يعني حرصًا على صحتها بس في الآخر هي نفضت لفؤاد وحملت من وراه.
اتخانق معاها؟ سألت زينة بفضول حقيقي وكأنها ستُحدد رؤيتها نحو فؤاد بالإجابة عن ذلك السؤال ولقد أدركت مريم ذلك لكنها أجابت بصدق دون تزييف أو تذويق حديثها.
اه بس بدافع الحب والخوف لكن من جواه كان مبسوط جدًا، فترة الحمل كانت صعبة عليها بس عدت وكان فؤاد عنده أمل إنها تبقى كويسة لأن الطب أتقدم وحالات كتير أصعب منها بيخلفوا مرة واتمني وبيبقوا زي الفل لكن هي مستحملتش ولدت فريدة وبعدها بكام يوم أتوفت. سردت مريم ما حدث بالتفصيل وقد دمعت عيناها رغمًا عنها وحدث المثل مع زينة التي تمتمت بالآتي بتأثر حقيقي: يا قلبي، لا حول ولا قوة إلا بالله،.
فؤاد أكتئب فترة طويلة وحس بالذنب بس بعد فترة فاق من اللي هو فيه وخد عهد على نفسه إنه يسعد فريدة بكل الطرق الممكنة وإنه يعيش حياته كلها علشانها.
هو بجد إنسان كويس أوي ربنا يخليهم لبعض.
ويخليكي ليهم أصل فريدة طول عمرها نفسها في أم زي باقي صحابها وفؤاد لسه شاب ونفسه في زوجة برضوا فا، هه!
ربنا يسهل يا مريم، فؤاد راجل مفيش منه اتنين أنا مُدركة لده كويس بس المشكلة فيا أنا بس بجد أنا بحاول أكون أحسن علشان ريتال وعلشاني ويعني، علشانه، تحدثت زينة بمشاعر صادقة لتبتسم مريم ابتسامة صغيرة وهي تُربت على يدها، لقد كانت مريم تتمنى أن تتم تلك الزيجة اليوم قبل الغد لكنها كانت تُريد منها أن تتعافى أولًا كذلك.
في مساء اليوم التالي كانت نانسي قد انتهت من درس الكيمياء أخيرًا بعد الجلوس لخمسة ساعات متواصلة من الثرثرة حول معادلات ورموز كيميائية يرفض عقلها استيعابها، كان الوقت متأخر نسبيًا فعقرب ساعتها أشار إلى الثامنة ومازالت هي تقف أسفل السنتر التعليمي في انتظار إيجاد سيارة لتُقلها إلى المنزل لكنها لم تجد واحدة بسهولة.
أخذت تتأمل الهاتف قبل أن يُخرجها من شرودها صوت بوق سيارة توقفت أمامها لتنتفض نحو الخلف كرد فعل تلقائي، غادر السائق السيارة وهو يعتذر منها على الفور قائلًا بحنان:
أنا أسف يا حبيبتي مكنش قصدي أخدك.
بابا؟
أيوا بابا، بابا يا حبيبتي. أبتلعت نانسي الغصة التي في حلقها حينما أدركت ما تفوهت به قبل ثوانٍ،
رفعت رأسها نحو الأعلى بشموخ وتحدٍ فهي لا تريد أن تدوم سعادته واللمعة التي في عيناه حينما لقبته ب بابا فلقد عاهدت نفسها ألا تُناديه على هذا النحو حتى تستشعر ذلك بداخلها وفي الوقت ذاته لتعاقبه على الفراق الذي دام لسنوات طويلة.
هو أنتَ أيه اللي جابك هنا دلوقتي؟ عرفت مكاني منين أصلًا؟
بصراحة أنا جبت مواعيد كل دروسك بس أتمنى إنك متضايقيش أنا عملت كده علشان عايز اتطمن عليكِ وعارف إنك هترفضي تجاوبيني على أي حاجة تخصك. أجاب بصدق وهو يتحاشى النظر إلى عيناها الشاخصة، حاولت أن تتحكم في غضبها لتطلق تنهيدة طويلة قبل أن تقول:
طيب أيه المطلوب مني دلوقتي؟
ولا أي حاجة، تعالي أركبي العربية وأنا هوصلك للبيت، بقولك أيه أنتِ جعانة؟
يعني مش أوي. كذبت فهي لم تتناول شيء منذ الثانية عشرة ظهرًا، ابتسم ابتسامة صغيرة حينما حكت أنفها دلالة على الكذب قبل أن يقول:
في محل مشويات وكده قريب من هنا تعالي ناكل بسرعة وبعدها أوصلك البيت.
بالفعل ذهبت برفقة والدها إلى ذلك المطعم الشهير، ساد الصمت طوال الطريق وحتى وصولهم إلى هناك حيث لم تجد نانسي ما يُقال ولم يعلم والدها كيف يبدأ حديثه معها.
مش حابة تسافري تكملي تعليمك برا يا نانسي؟ سأل والدها بغتة لتعقد حاجبيها قبل أن تُجيب قائلة:
مش عارفة، سؤال غير متوقع بصراحة، أكيد كان طول عمري نفسي في حاجة زي دي بس في الوقت الحالي مظنش هقدر أسيب ماما وأسافر.
بس دي هتبقى فترة مؤقتة يعني وهترجعي في الأجازة تزوريها.
هو أنتَ راجع برا وعايزني أسافر معاك مش كده؟ أصل لو الموضوع كده يبقى تشيل الفكرة دي من رأسك خالص. علقت نانسي على حديثه بنبرة لا تخلو من الهجوم ليتنهد قبل أن يقول:
لما بتتعصبي بتكوني شبه غادة أوي، على العموم يعني أنا ناوي استقر في مصر أنا كنت بقترح عليكِ علشان عايزك تكوني مبسوطة وتتعلمي في المكان اللي أنتِ نفسك فيه.
شكرًا بس أنا حابة أكون هنا، مش هقدر أقعد في بلد غريبة لوحدي ومع ناس معرفهاش، ممكن يعني أعمل كده علشان أتفسح لكن أعيش هناك أو أقعد شهور علشان الدراسة مظنش هقدر.
خلاص اللي أنتِ عايزاه، عدي السنة على خير وأنا هدخلك الكلية اللي أنتِ عايزاها هنا. حاولت أن تمنع نفسها من الإبتسام، فبغض النظر عن ملابسات الأمور إلا أنها لم تعد وحيدة بل أصبح لديها أب على أتم الإستعداد لتنفيذ جميع رغباتها في مقابل رؤية ابتسامة رضا على ثغرها.
هنشوف يمكن أجيب مجموع كويس وأدخل اللي أنا عايزاه من غير مساعدة منك.
وقتها ممكن نشوف عربية صغيرة كده على قدك أجيبهالك هدية نجاحك.
مظنش ماما هتوافق إن أنا أسوق، هي شايفة إن أنا متهورة. ابتسم ابتسامة صغيرة قبل أن يقول:
متقلقيش وقتها هبقى أجبلك سواق.
قضت نانسي ساعة كاملة برفقة والدها يتناولون الطعام ويثرثرون حول بعض الأمور العشوائية مثل كيف تعرف على زوجته، ماذا يعمل، ماذا ينوي أن يفعل في مصر وأين يقطن في الوقت الحالي.
أما بالنسبة إليها هي فأخذت تسرد له علاقتها بريتال لكن بالتأكيد لم تُخبره كيف كان الأمر قبل أن تتحسن العلاقة بينهم أي حينما كانت مجرد متنمرة سيئة بالنسبة إليها، تحدثت حول عطر وجدتها لكن لسبب ما لم تجد ما تقوله حول صالح.
مش خالك الكبير تقريبًا كان عنده ولد؟ ولا هما مبقوش ساكنين معاكوا خلاص؟
صالح؟ اه لسه عايشين معانا، بقى مهندس يعني فاضلة سنة تقريبًا ويتخرج ويبقى مهندس رسمي. أجابت عن سؤال والدها بتوتر واضح لم تعلم له سببًا فلقد كانت تتحدث عن صالح مع رفاقها طيلة الوقت إذًا ما الذي أختلف الآن؟
ما شاء الله ربنا يوفقه، عقبال كده بس لما تبقي دكتورة ما أنتِ علمي علوم بقى.
إن شاء الله، يالهوي ماما أتصلت خمس مرات وأنا عاملة الموبايل silent صامت أنا اتأخرت ولازم أروح بسرعة.
طيب خلاص متقلقيش إن شاء الله نص ساعة بالكتير وهنبقى قصاد البيت. أومئت مع ابتسامة صغيرة قبل أن يقوم والدها بدفع الحساب وتوصيلها إلى المنزل.
في تلك الليلة لم تستطع نانسي أن تنام بسهولة، لقد شعرت ببركان ثائر من المشاعر المختلطة والذي كان يثور أكثر وأكثر في كل مرة يظهر فيها والدها من العدم أمامها، جزء بداخلها كان غاضب متوتر وجزء آخر كان سعيد حتى وإن كانت تحاول إنكار ذلك، لقد كان ظهوره يُمثل الأمان بالنسبة إليه وبرحيله تشعر بالأمان يُحسب من داخلها...
بعد مرور أسبوع آخر وفي صباح اليوم المنتظر حيث ستجتمع ريتال بوالدة تليد للمرة الأولى، حاولت وضع عدة تصورات لكيف ستكون هيئتها والأهم شخصيتها والتصرفات التي قد تصدر منها وكلما أطالت التفكير في الأمر شعرت بالمزيد من القلق والتوتر حتى أنها قد طلبت من والدتها أن تذهب بمفردها بدونها لكن فريدة صرخت في وجهها موبخة إياها بإعتراض واضح حينما سمعت ما قالته.
يعني أنا بجد هشوف تليد؟ مش مصدقة نفسي، مستغربة الموضوع وحاسة، مش عارفة.
ريتال حبيبتي بعد إذن الحماس أنتوا مش رايحين تجيبوا الشبكة، الحكاية كلها هتقابليه هو مامته أنتِ وطنط زينة هتاخدوا الهدية وترجعوا.
طب فوفو بقولك أيه ما خليكِ جدعة كده وتعالي معايا؟ طلبت ريتال بنبرة أشبه بالترجي لتضطرب معالم فريدة قبل أن تقول بإستنكار شديد:
أجي فين؟ لا ياستي أنا مالي.
هو مش كان الموضوع بسيط من شوية؟
أيوا بس أنا هاجي زي قرد قطع كده مش هيبقى ليا أي لازمة.
أردفت فريدة وهي تحك مؤخرة عنقها، لقد تحمست لفكرة الذهاب برفقتهم لكنها مازالت تشعر بقليل من عدم الراحة فهي لا ترى فائدة حقيقية من وجودها، في النهاية وبعد عدة محاولات استطاعت ريتال أن تُقنعها بالقدوم، ارتدت ريتال ثوب فضفاض باللون الأبيض مُزين بحزام مُزركش حول الوسط مع وشاح رأس باللون الزهري متماشيًا مع لو الأزهار في ثوبها.
أما عن فريدة فأرتدت بنطال فضفاض من الجينز مع قميص طويل نسبيًا باللون الأسود ولقد زينت عنقها بعقد كان بالكاد ظاهرًا من خلال وشاح رأسها، دلفت زينة لتفقدهم لتقوم بإصدار صوت تصفير بينما تقول ممازحة إياهم:
يا حبايبي قمرات ولا كأنكوا هيتقري فتحتكوا، أيه الشياكة دي كلها؟
بعضًا مما عندكم يا زوزو وبعدين ده ريتال ملكة اليوم بقى وكده.
هو أنا مش هخلص من التحفيل بتاعكوا النهاردة صح؟ سألت ريتال بحنق طفولي لتقهقه فريدة قبل أن تقول الآتي بجدية تامة متعمدة إثارة غيظها:
لا يا حبيبتي دي فيها تحفيل لسنة قدام أو أقولك تحفيل لحد أما تتخرجوا وتتجوزوا. ختمت فريدة جملتها بغمزة من أحدى عينيها لتقلب ريتال عيناها بتملل قبل أن تذهب لإرتداء حذائها.
في غضون أربعون دقيقة تقريبًا وصل ثلاثتهم إلى الموقع المُتفق عليه، مقهى شهير يطل على مياه البحر الزرقاء الصافية في موقع متميز، جلست ريتال وحاولت أن تتنفس الصعداء سامحة لرائحة البحر المُنعشة أن تملأ رئتيها.
هما مش اتأخروا شوية ولا أيه؟
لا يا ريتال أحنا اللي واصلين بدري عن ميعادنا. أومئت بتوتر شديد وهي تعبث بأصابعها، لم تكن زينة متحمسة كثيرًا لتلك المقابلة لكنها تعلم مدى أهمية الأمر بالنسبة إلى ريتال كما أنها لم تستطع أن ترفض طلب والدة تليد، بينما كان ثلاثتهم مستغرقين في تفكيرهم صاحت فريدة قائلة الآتي حينما لمحتهم:.
وصل وصل وصل. انتفضت ريتال من جلستها وكادت أن تركض مبتعدة عن المكان لولا أن أمسكت بها فريدة وهي تطلب منها الجلوس والتحكم في ردة فعلها فلا داعي للفضائح.
كان تليد يسير في المنتصف على يمينه والدته وعلى يساره صديقه المُقرب ياسين، كان تليد يرتدي تي شيرت باللون الرمادي الداكن مما يتناسب مع لون عيناه بالأضافة إلى بنطال فضفاض نسبيًا باللون الأسود وقد قام بحلاقة لحياته تمامًا والتي لم تكن تكتمل تمامًا.
أما عن ياسين فلقد كان يرتدي بنطال من الجينز الداكن بالإضافة إلى قميص باللون الأبيض، بالنسبة إلى والدة تليد فلقد كانت ترتدي ثوب فضفاض نسبيًا باللون الأسود مع وشاح رأس مُزركش.
أتسعت ابتسامة تليد حينما لمح ريتال التي جلست تنظر نحوهم بتوتر واضح وهي تحاول جاهدة أن ترسم ابتسامة صغيرة على ثغرها، أقترب ثلاثتهم حتى توقفوا أمام الطاولة المقصودة، قامت والدة تليد بإلقاء التحية على والدة ريتال ومن ثم أقتربت من ريتال لتعانقها.
أهلًا يا ريتال ازيك يا حبيبتي؟ رحبت بها والدة تليد بلطف حقيقي وهي تعانقها، بادلتها ريتال العناق ليلفح أنفها رائحة عطر أنثوي مميز لكن في الوقت ذاته ليس فواح بدرجة مبالغ فيها أي عليها أن تكون على مقربة منها لكي تصل الرائحة إلى أنفها.
أنا بخير الحمدلله يا طنط شكرًا.
بجد طلعتِ قمر زي ما تليد قالي ما شاء الله، ربنا يحميها يا مدام زينة.
شكرًا ده من ذوق حضرتك. أجابت زينة بدلًا عن ابنتها والتي صُبغ وجهها بالحمرة ومن فرط الخجل وهول الموقف شعرت أنها على وشك الإصابة بنوبة هلع رغمًا عنها.
لم تُلقِ ريتال التحية على تليد أو ياسين بل أكتفت بالنظر نحوهم والإبتسام وعلى الرغم من أن تليد لم يكن من النوع الخجول بشكل عام إلا أن الوضع اليوم جعله يُصاب بالتوتر والخجل هو أيضًا، أما عن ياسين فألقى نظرة خاطفة على فريدة وفعلت هي المثل في الوقت ذاته ليشيح كلاهما بنظره بعيدًا عن الآخر بخجل حقيقي.
ازيك يا ريتال أخبار الدروس أيه؟ سأل تليد مع ابتسامة صغيرة لتبادله الإبتسام قبل أن تُجيب بتلعثم واضح قائلة:
الحمدلله تمام، أنتَ أخبارك أيه؟
والله مطلع عين باشمهندس ياسين في المذاكرة بس يعني الحمدلله. أجاب تليد ذاكرًا اسم ياسين وكأنه يقوم بتعريفه على فريدة الجالسة بجانب ريتال والتي تطالع ياسين بإهتمام شديد.
معلش الصحاب لبعضها بقى، أنا كمان على فكرة مطلعة عين دكتورة فريدة. ضحكت فريدة حينما كررت ريتال ما قاله تليد، في تلك الأثناء كانت والدة ريتال تثرثر مع والدة تليد في أمور عشوائية.
المدرسين هنا كويسين ولا بتوع القاهرة أحسن؟
كويسين أوي الحمدلله بروح لمدرسين فريدة كلهم ما عدا العربي علشان جدو بيقعد يذاكرلي وكده.
يبختك يا ست ريتال، الله يسهله. تمتم وهو يغمز بإحدى عينيه لتقهقه هي تلقائيًا قبل أن يتابع هو قائلًا:
عالية وحنين بيسلموا عليكِ وبيقولولك وحشتينا أوي، قصدي وحشتيهم يعني. عدل تليد من جملته سريعًا حينما دعس ياسين على قدمه وهو يهمس من بين أسنانه مُردفًا:
قدام مامتها؟
خلاص أسف أسف،.
اه كنت هنسى، بصي يا ريتال أنا جبتلك هدية صغيرة كده وأنا راجعة من السفر، أصل تليد مش بيبطل كلام عنك خالص. أردفت والدة تليد بنبرة لطيفة وهي توجه حديثها إلى ريتال التي أشتعل وجنتها حمرة مرة آخرى بينما حمحم تليد بحرج من حديث والدته، أخرجت والدة تليد علبة هدايا مزركشة متوسطة الحجم لتمنحها إلى ريتال والتي أخذتها منها بخجل شديد بينما تشكرها قائلة:
شكرًا جدًا يا طنط مكنش في داعي حضرتك تكلفي نفسك،.
مفيش تكلفة ولا حاجة دي حاجة بسيطة مش من مقامك بس أنا مكنتش قابلتك قبل كده فمكنتش عارفة أجبلك أيه. شكرتها ريتال مرة آخرى، لقد كانت والدة تليد غاية في اللطف وفي الواقع لم تكن ريتال متوقعة لذلك فلقد ظنت أنها بلا شك ستكون امرأة مغرورة متغطرسة لا ترى أن ريتال تلصح أن تكون صديقة لتليد أو أكثر من ذلك لكنها كانت عكس ذلك تمامًا.
سبحان الله شوف يا ياسين كل الحاجات اللي بحبها ومفضلة عندي متجمعة كلها في وقت واحد الشمس، البحر، الهواء، كوباية قهوة و، ريتو.
أردف تليد موجهًا حديثه لياسين وإن كانت عيناه تتأمل ريتال بينما يبتسم قبل أن يغمز بإحدي عينيه، استغرق الأمر بضع ثوانٍ بالنسبة لريتال قبل أن يقوم عقلها بترجمة واستيعاب ما قاله تليد للتو، بعد أن فعلت صُبغ وجهها بالحمرة وشعرت بقلبها على وشك أن يخترق قفصها الصدري من فرط تسارع دقاته.
أنا، بعد إذنكوا هروح ال toilet دورة المياه، فريدة تعالي معايا. وجدت ريتال حجة مناسبة للهرب من أعين تليد الشاخصة وكلماته المعسولة غير المباشرة، تبعتها فريدة على الفور وبمجرد ما غادر الفتاتين رمق ياسين تليد بنظرات حادة وهو يوبخه قائلًا الآتي:
أيه يا بني آدم أنت! مش اتفقنا مفيش معاكسة ولا نحنحة؟ وبعدين قدام مامتها!
مش أحسن ما يكون من وراها؟ وبعدين أنا قولت أيه يعني؟ هو أنا كده عاكستها؟
اه وبطل استهبال بقى، خليك مؤدب زيي كده.
اه وأقعد أبص من تحت لتحت يعني؟ فاكرني مش واخد بالك إن قريبتها عجباك؟ سأل تليد بمراوغة شديدة لتتسع أعين ياسين وتتوتر ملامحه قبل أن يحاول الدفاع عن نفسه مُردفًا:
محصلش! أنتَ بتجيب الكلام ده منين؟ طب بس بس علشان هما جم خلاص. أردف ياسين وهو يقوم برسم ابتسامة صغيرة على ثغره وفعل تليد المثل بينما تحاشت ريتال النظر نحوهم.
مقولتليش يا ريتال عايزة تدخلي كلية أيه؟
طب أو فنون جميلة.
أيه الكليتين اللي ملهمش علاقة ببعض دول؟ سأل تليد وقد رفع أحدى حاجبيه بتعجب لتضحك على ردة فعله قبل أن تقوم توضيح وجهة نظرها مردفة الآتي:
بص أنا علمي علوم وبحب ال science عمومًا فأكيد طب عاجبني وكمان ده شيء هيفرح ماما أوي وفي نفس الوقت أنا بحب أرسم وكده وفنون جميلة هتبقى حاجة حلوة وهدرس فيها بشغف.
طب حلو أوي بجد، بس طب سبع سنين يا ريتال يعني كده هتجوز وأنا عندي 26 سنة ده كتير أوي. تفوه تليد بتلقائية شديدة قبل أن يستوعب ما تفوه به للتو، عقدت ريتال حاجبيها قبل أن تسأله بدهشة حقيقية:
أنا مش فاهمة، هو أيه علاقة عدد سنين الكلية عندي بإنك تتجوز؟
بقولك أيه الكافية هنا بيعمل pasta معكرونة بال Shrimp جمبري تحفة تحفة! قام تليد بتغير حديثه على الفور خاصة بعد أن رمقته زينة بنظرة ثاقبة والذي لم يكن يعلم أنها سمعت ما قال من الأساس فلقد ظن أنها منشغلة في الثرثرة مع والدته، مرت نصف ساعة آخرى من الأحاديث الجماعية العشوائية قبل أن يحين موعد الرحيل.
أنا حقيقي مبسوطة جدًا إن أنا أتعرفت عليكِ يا مدام زينة وإن شاء الله الزيارة الجاية تبقى أطول من كده وفي مناسبة أحسن بإذن الله. قالت والدة تليد مع ابتسامة ذات مغزى بينما تعانق زينة، في البداية لم تستوعب زينة مقصدها لكنها سرعان ما أدركت ما تُلمح إليه لكنها إدعت أنها لم تفعل حيث قالت الآتي:.
أنا كمان اتبسطت أوي حقيقي، أكيد إن شاء الله نبقي نتجمع ونعمل احتفال بمناسبة نجاح الولاد آخر السنة. أردفت زينة مُتحدثة عن نجاحهم في هذا العام المصيري على الرغم من أن والدة تليد لم تكن تقصد ذلك بل كانت تعني شيء أكبر بكثير.
باي يا ريتال يا قمر، مبسوطة إن أنا شوفتك بعد كلام تليد الكتير عنك وأتمنى إن الهدية تعجبك.
أنا كمان اتبسطت أوي يا طنط، أكيد هتعجبني كفاية إنها من حضرتك. تمتمت ريتال بخجل وهي تبادلها العناق قبل أن تفصله وتوجه نظرها نحو تليد والذي طالعها بأعين لامعة قبل أن يقول الآتي:
باي يا ريتو، مبسوط أوي باليوم النهاردة وأصلًا لسه مش مستوعب إننا اتقابلنا وإنك أتعرفتي على ماما وإن شاء الله متبقاش آخر مرة تتقابلوا فيها.
أنا كمان مبسوطة أوي، أكيد إن شاء الله، ركز في مذاكرتك بقى ماشي؟
طلبتك أوامر، هركز وهجيب مجموع عالي كمان. تحدث بشغف شديد وكأنه يؤكد لها أنه سيفعل ذلك من أجلها وفقط من أجلها، ابتسمت بخجل قبل أن تقول الآتي منبهة إياه:
طيب قدم المشيئة.
إن شاء الله. نفذ طلبها مع ابتسامة صغيرة، لوح لهم ياسين مودعًا إياهم دون أن ينبس ببنت شفة قبل أن يخطف نظرة نحو فريدة والتي كان وجهها مُحمرًا بفعل أشعة الشمس ليبتسم هو تلقائيًا.
لم تغادر زينة والفتيات بعد رحيلهم مباشرة بل قرروا الجلوس لبعض الوقت وبالطبع لم تتوقف فريدة عن إلقاء تعليقات بحماس هستيري حول المقابلة وجميع التلميحات التي ألقاها تليد في وسط حديثه.
يعني أنتِ كنتِ مركزة في كل كلمة قالها تليد ليها ومخدتيش بالك إن ياسين ولا اسمه أيه صاحبه ده كان بيبصلك من تحت لتحت؟ سألت زينة بمراوغة لتحمحم فريدة بقليل من الخجل قبل أن تقول:
لا طبعًا الكلام ده محصلش، هو أصلًا مؤدب جدًا ومكنش بيحط عينه في عنينا ومكنش بيبصلنا.
يمكن، أنتِ أدرى ما أنتِ عينك منزلتش من عليه.
أنا يا زوزو؟ ازاي تتهميني بحاجة زي كده؟
سألت فريدة بنبرة درامية وهي تضع يدها أعلى رأسها بتأثر مبالغ فيه، لم تشارك ريتال في الحديث بينهم بل أكتفت بالضحك ومراقبة شجارهم الطفولي حيث بقي عقلها مع كل كلمة تفوه بها تليد، رائحة عطره، عيناه التي لمعت بفعل إنعكاس الشمس.
عادت ريتال برفقتهم إلى المنزل وكانت على الوضع ذاته، حالة من الصمت غير المبرر وكأنها فقدت النطق لكنها في الواقع كانت مازالت أسفل تأثير حديث تليد والتي لم تكن تعلم أن له تأثير من الأساس!
جلست ريتال في حجرتها بعد إلقاء التحية على جدها وأمسكت بدفتر مذكراتها الجديد وأخذت تدون كل ما حدث اليوم قبل أن تكتب رسالة صغيرة لتليد كما فعلت مع صالح في السابق، رسالة لن تقوم بإرسالها قط في حياتها.
مش عارفة أنا بكتب رسالة زي دي ليه ومعرفش إن كنت هقطعها لما أخلص ولا لا بس أنا قولت أكتب عن مشاعري زي ما الدكتورة قالت وخلاص بغض النظر إن كانت سلبية أو إيجابية، لأول مرة النهاردة أحس بالإنبساط ده لما أشوفك يا تليد، الموضوع كان غريب ومختلف عن كل مرة شوفتك فيها قبل كده، معرفش يمكن ده تأثير البعض لفترة أو يمكن وجهة نظري عنك أختلفت وبقيت بشوفك من منظور تاني مش قادرة أحدد لكن...
لكن أنا مبسوطة علشان أتقابلنا وفكرة إننا مش عارفين هنتقابل أمتى تاني مخلية عندي مشاعر بين الزعل والحماس، من الواضح فعلًا إن أنا مش متزنة نفسيًا، أنا زعلانة علشان هنقعد كتير بعيد عن بعض وفي نفس الوقت فرحانة ومتحمسة لأن أحلى حاجة بتيجي هي اللي بتيجي بعد شوق وانتظار طويل، بيكون ليها شعور مميز.
أتمنى المرة الجاية أشوفك سعيد وفرحان ومحقق كل أحلامك وأتمنى أكون جزء منها،.
كتبت ريتال ما سبق دون ذرة تفكير وكأنها قامت بصب مشاعرها المختلطة الغير مفهومة صبًا على الورق لكن أليس هذا مطلب الطبيبة على أي حال؟ أن تكتب كل ما تشعر به؟
حينما عاودت ريتال قراءة ما كتبته كانت على بعد خطوة أو اثنتين من تمزيق الورقة إلى عشرات القطع خجلًا من تلك المشاعر التي لم تكن تعلم أن لها وجود من الأساس لكن في النهاية استطاعت منع نفسها من ذلك وقامت بتخبئتها إلى جانب خاصة صالح، تنهدت تنهيدة طويلة وأغمضت عيناها لبرهة وهي تدعو الله قائلة الآتي:.
أنا عارفة إنه لسه بدري أوي على الكلام بس يارب لو موضوع تليد فيه خير ليا قربه مني في الوقت المناسب ولو فيه شر وأذى ليا بأي شكل أبعده عني خالص، لقد كان هذا ما تتمناه ريتال حقًا، إن كان في قربه خيرًا لها فليبقى وإن كان شرًا لها فليختفي تمامًا فهي ليست بحاجة إلى المزيد من الجرح أو الخذلان يكفي ما قام أبيها بكسره فقلبها لن يتحمل شيء كهذا مرة آخرى...
بعد أن فرغت ريتال مما تفعله أخذت تتصفح أحدى تطبيقات وسائل التواصل الإجتماعي لتجد أن تليد قام بوضع صورة شخصية جديدة من اليوم، كانت الصور قد أُلتقطت دون أن يكون منتبهًا أي بما يطلق عليه بين شباب هذا الجيل تغفيلة إلا أنها كانت جميلة إلى حدٍ كبير، يضع كلتا يديه أسفل وجنتيه ويبتسم ابتسامة واسعة وهو يتأمل شيء ما، في البداية لم تُدرك ريتال متى أُلتقطت تلك الصورة لكن بعد أن قرأت ما كُتب أعلاها أعتلتها الدهشة...
صورة أُلتقطت على غفلة وأنا بتأمل من أحب. لقد كانت ريتال هي الجالسة أمامه!
لقد قام ياسين بإلتقاط تلك الصورة لتليد أثناء تأمله لريتال وهي تتحدث حول شيء ما لا تذكر ما هو تحديدًا لكنها تذكر أنها توقفت عن الحديث حينما رأته يتأملها بهذا الشكل...
فريدة ألحقي بسرعة! صاحت ريتال وهي على وشك أن تصاب بنوبة هلع مما حدث.
أيه في أيه خضتيني؟ أوبا بقى أيه ده أيه ده، زي ما أكون شامة ريحة دبلة كده جاية في الطريق.
دبلة أيه بس! تليد ده بيستعبط بجد أفردي حد عرف ولا حس بحاجة!
وهو في حاجة أصلًا؟ وبعدين هيعرفوا منين يعني هو مش عاملك منشن مع إنها حركة ممكن نتوقعها منه هو مخه ضارب أصلًا.
أنا هعيط من التوتر والصدمة وحضرتك بتهزري!
ومهزرش ليه؟ أنا مليش دعوة. أردفت فريدة وهي ترفع كتفيها بلا مبالاة لتقوم ريتال بإلقاء أحدى الوسادات نحوها بغيظ شديد، أخذ كلاهما يمازح الآخر قبل أن تاتي زينة لتوبخهم قائلة أن صوتهم مزعج للغاية والوقت قد تأخر ليصمت كلاهما بعد محاولات عديدة لكتم ضحكاتهم قبل أن يخلدوا إلى النوم لينتهي ذلك اليوم الطويل السعيد.
بعد مرور بضعة أيام وبالعودة إلى القاهرة قام والد نانسي بمهاتفتها والآن أصبح رقم هاتفه بحوزتها ويمكنها أن تتحدث إليه متى تشاء لكنها لم تفعل فلقد كانت تنتظر منه على الدوام أن يُبادر بالإهتمام والإطمئنان على صحتها وسلامتها وبالفعل كان والدها يهاتفها بصورة شبه يوميه في مواعيد انتهاء الدروس خاصتها.
ولم يكتفي والدها بذلك فقط بل ذهب لإصطحابها من السنتر التعليمي مرتان في خلال أسبوع واحد وكأنه يحاول إقناعها أنه حقًا يهتم وأنه على أتم استعداد لإثبات ذلك، وبدلًا من أن يجعلها ذلك الأمر تشعر بتحسن، فعلى العكس تمامًا أصبحت تشعر بالمزيد من التيه ولم تستطع مصارحة أي شخص بما يحدث معها أو يجول في خاطرها كان ذلك قبل أن تُقرر مهاتفة ريتال وإخبارها بكل شيء قد حدث في الآونة الأخيرة بدءًا من ظهور والدها وحتى الآن.
مش عارفة بصراحة يا نانسي الموضوع مش سهل أنا حقيقي حاسة بيكي،.
كنت عارفة إنك أكتر واحدة هتفهميني أنتِ وحد واحد كمان، المهم أنا أعمل أيه دلوقتي؟
مش عارفة طب أيه رأيك لو تروحي لحد مختص يساعدك؟ ده الحل الوحيد اللي في دماغي في الوقت الحالي،.
أنا بصراحة أتصلت علشان اسألك على الموضوع ده، هي الدكتورة اللي أنتِ كنتِ بتروحي عندها هنا في القاهرة كان اسمها أيه؟ سألت نانسي بقليل من التوتر، تعجبت ريتال كثيرًا من طلبها لكنها أفاقت سريعًا من صدمتها حتى لا تجعل نانسي تشعر بعدم راحة لذا أجابتها على الفور قائلة:
اسمها مسك، بس هو أنتِ معاكي فلوس كفاية تروحي بيها الجلسة؟
لا ما هو أستاذ أشرف قالي إنه عنده استعداد يوديني لشخص مختص يساعدني فالموضوع جيه من عنده بقى، هاخد من فلوس.
أنتِ عادي بالنسبالك إنك تاخدي منه فلوس؟
اه عادي هو مش عامل فيها أبويا وعايش الدور من وقت ما جيه خلاص بقى يدفع. عقبت نانسي بمرارة واضحة لتتنهد ريتال وهي لا تعلم ماذا عليها أن تقول في مثل هذا الوضع.
طيب حاضر عالعموم أنا هقفل معاكي دلوقتي وهبعتلك اللوكيشن وكل التفاصيل.
شكرًا يا ريتال معلش هتعبك معايا، صحيح هو. أنتِ قابلتي تليد؟
سألت بفضول لتبتلع ريتال الغصة التي في حلقها فهي لا تدرِ من أين علمت نانسي بذلك الأمر فهي لم تقوم بنشر أي صورة تخص ذلك اليوم وفي الوقت ذاته لم تكن العلاقة بين نانسي وتليد جيدة كفاية في الوقت الحالي حتى يسرد لها ما حدث.
أشمعنا يعني؟ أيه السؤال الغريب ده؟
لا ده مجرد فضول أصل هو كان منزل صور في اسكندرية فقولت يمكن شوفتوا بعض.
أجابت نانسي ببساطة لتتنفس ريتال الصعداء قبل أن تفكر في إجابة منطقية فهي لا تريد أن تكذب لكن في الوقت ذاته لم ترى بُد من إخبارها بتلك المقابلة خاصة وأنها قد تُخبر صالح؛ الأمر الذي لا تريد ريتال أن يحدث.
معلش يا نانسي مضطرة أقفل دلوقتي علشان ماما بتنادي عليا بس متقلقيش هبعتلك كل حاجة ليها علاقة بالدكتورة. استطاع ريتال أن تتملص من ذلك الموقف السخيف وفي الواقع لم تُصر نانسي وأنها المكالمة بعد أن قامت بشكر ريتال مرة آخرى.
علي الفور قامت نانسي بمهاتفة والدها لتخبره بأمر زيارة الطبيبة ولم يتردد في إرسال المال لها وطلب منها أن يصطحبها إلى هناك لكنها رفضت قائلة أنها ترغب في الذهاب إلى هناك بمفردها، قامت نانسي بحجز أقرب موعد متاح.
بالفعل ذهبت نانسي بعد يومان بالتحديد، جلست في الآخر حتى سمحت لها المساعدة بالدخول وقد فعلت بخطوات واثقة على عكس الرجفة التي بداخلها، ابتسمت الطبيبة ابتسامة صغيرة مطمئنة حينما قرأت التوتر البادي من لغة جسدها.
مساء الخير يا، نانسي أتفضلي. تمتمت الطبيبة بعد أن قرأت اسمها من خلال ورقة البيانات التي وضعت أمامها، ابتسمت نانسي بتوتر وجلست أمامها.
مساء النور أهلًا بحضرتك، أنا مش عارفة أبدء منين ولا المفروض أقول أيه؟
طيب واحدة واحدة بس، قوليلي أنتِ عاملة أيه الأول وفي سنة كام يعني قوليلي معلومات عامة كده وحاجات كل الناس عارفاها. أومئت نانسي قبل أن تقوم بتنفيذ طلب الطبيبة وبعد التفوه ببضع جمل قامت نانسي بالحديث حول والدها مباشرة.
شرحت نانسي بإختصار ما حدث من وسط دموعها، لقد بكت، بكت كما لم تفعل من قبل لتمنحها الطبيبة مناديل ورقية وهي تحاول أن تجعلها تهدأ قبل أن تبدأ في إبداء رأيها أو سؤالها حول بعض الأشياء وحينما توقفت عن البكاء بدأت تسألها الطبيبة حول بعض الأشياء...
طب وأنتِ إحساسك كان أيه أول لما شوفتي باباكي وبرضوا كان شعورك أيه لما عرفتي يعني إنه باباكي؟ سألت طبيبة مسك وهي تدون بعض الملاحظات بينما تراقب تعبيرات وجه نانسي وهي تُفكر في الإجابة عن سؤالها، أخذت نفس عميق وهي تحاول البحث عن الكلمات المناسبة التي تعبر عن شعورها في الوقت الحالي.
حسيت كأني كنت بغرق وخلاص روحي بتتسحب مني وفجاءة لاقيت حاجة كبيرة أتسند عليها بس مش أرض صلبة لا، هقول تشبيه غريب بس يارب تفهميني، عارفة الرملة اللي بتبقى في نص البحر شوية بتعلى وتخليكي واقفة بس ممكن فجاءة تتسحب من تحت رجلك مع الموج وتلاقي نفسك بتغرقي أكتر من الأول، ده اللي حسيت بيه، كان وصف نانسي واختيارها للمثال دقيقًا للغاية كان هذا هو الوضع داخلها بالفعل، هي تحب وتكره وجود والدها في الوقت ذاته، وجوده يجعلها تشعر بالأمان والخوف في نفس اللحظات...
طب أنتِ مش بتقولي أنه أعتذر عن السنين اللي فاتت ووعدك أنه هيبقى موجود؟ سألت مسك وهي تنظر إليها بجدية تامة بينما تقوم بكتابة بعض الملاحظات في الدفتر الصغير الذين بين يديها.
مستحيل أثق في واحد مسألش فيا السنين دي كلها، رماني أنا وأمي ومفكرش حتى يرفع عليا سماعة التليفون وعمره ما صرف قرش واحد عليا، أيًا كانت ظروفه ال Social media مواقع التواصل الإجتماعي كانت ممكن تخلينا نتواصل بسهولة بس هو مكنش عايز!
أنتِ غضبانة منه ولا زعلانة ولا تقدري توصفي شعورك ناحيته ازاي؟ سألت مسك بينما تدون بعض الملاحظات في الدفتر الموضوع أمامها، تنهدت نانسي قبل أن تقول الآتي بحنق شديد:
بكرهه! أنا فضلت سنين بكرهه وكنت دايمًا بتخيل رد فعل عنيف وقاسي مني لما أشوفه بس في الواقع مش ده اللي حصل بس أنا لسه حاسه بطاقة غضب وحقد وكره ناحيته.
طب فكرتي في مرة إنك ممكن تسامحيه؟
لا طبعًا! أجابت نانسي بدون ذرة تفكير وبإنفعال واضح لتراقب الطبيبة ردة فعلها بدقة وانتظرت منها أن تهدأ لثوانٍ قبل أن تقول:
طب أنتِ عارفة إننا لما بنسامح الناس اللي آذونا أحنا بنعمل كده علشان نفسنا وصحتنا النفسية مذ علشانهم هما، طول ما أنتِ شايلة الطاقة السلبية دي جواكي يا نانسي عمرك ما هتقدري تتحسني ولا تاخدي خطوة لقدام. أردفت الطبيبة مسك بصدق شديد مع ابتسامة صغيرة.
أنا لو سامحت هنسى وأنا مش عايزة أنسى، عايزة أفضل فاكرة الوجع اللي هو أتسبب فيه وأفضل واخدة منه جنب وأعاقبه على كل تقصيره في حقي، أعاقبه على إن غيابه خلاني إنسانة مشوهة ومكروهه من الكل!
مفيش حد بينسى يا نانسي، كل حاجة بتفضل محفورة جوانا الفكرة كلها إننا نحاول بكل طاقتنا إننا نتخطى، نتغلب على الشعور البشع اللي خلفته التجربة اللي مرينا بيها وعلشان نقدر نكمل حياتنا.
طب وأنا أيه يضمنلي إن أنا لما أسامحه وأعامله كويس وأتعود على وجود أب ميسبنيش ويمشي تاني وألاقي نفسي لوحدي.
مفيش حاجة في الدنيا مضمونة يا نانسي، كلنا ممكن في لحظة منبقاش موجودين بس طالما هو موجود دلوقتي وبيعاملك كويس يبقى تحاولي تعيشي الفترة دي بكل راحة وسعادة وفي نفس الوقت لازم يبقى في جزء جواكِ متنبه إن ممكن أي حاجة مش متوقعة تحصل. كان حديث الطبيبة صادقًا إلى درجة كبيرة لكن نانسي لم تقتنع تمامًا، زفرت بضيق قبل أن تقول بيأس:
هحاول، دكتور هو أنا مش محتاجة علاج؟ يعني أنا مش مريضة نفسيًا؟
لا مش محتاجة علاج لحد دلوقتي، بصي أنتِ في الغالب مصابة بإضطراب نفسي لكن أنا مش هقدر أقولك تشخيص محدد من غير ما نطبق اختبارات معينة الأول. أعلنت الطبيبة لتُجبر نفسها على الإبتسام قبل أن تسأل الطبيبة عن بضعة أشياء وتحدد موعد الجلسة القادمة ومن ثم تغادر الحجرة خاصتها لتجد صالح يقف في انتظارها في الخارج وتعابير التوتر والقلق قد غلفت وجهه.
أنتَ، أنتَ جيت أمتى؟ وعرفت مكاني منين أصلًا يا صالح؟
يمكن علشان مثلًا بعتيلي Live location موقع مباشر بالغلط؟ أنا جيت على هنا جري أفتكرت حصل حاجة وطبعًا حاولت أكلمك مليون مرة وأنتِ موبايلك بيدي مقفول ومش عارف أوصلك، كنت هتجنن!
أعتلت الدهشة ملامح وجه نانسي فهي لم تتوقع قط رؤية صالح هنا وبكل تأكيد لم تتوقع سماع تلك الكلمات منه، لقد كان القلق الباديًا على وجهه حقيقي للغاية وكأنه كان بالفعل على وشك أن يُصاب بالجنون من فرط القلق.
أنا، أنا بعته بالغلط كان قصدي أبعته لواحدة من صحابي وأنا جاية هنا علشان يعني معرفش المكان وكنت قلقانة يحصل حاجة أو أتوه يعني.
هي دي الدكتورة اللي كانت ريتال بتيجي عندها مش كده؟ لسبب ما أختفت ابتسامة نانسي حينما ذكر ريتال وقد شعرت بغصة في حلقها، عقد صالح حاجبيه حينما لاحظ تغير في تعبيرات وجهها.
اه هي، أنا خلصت يلا نمشي.
طب أيه الدكتورة قالت أيه؟ طمنيني يعني أحجز أوضة في العباسية؟ سأل ممازحًا إياها بسخافة لتطالعه بإزدراء شديد من الأعلى إلى الأسفل.
لا هو أحنا لو هنحجز لحد هيبقى ليك أنتَ يا حبيبي، معاك العربية ولا هنركب تاكسي؟
عقبت نانسي ساخرة منه دون أن تلحظ أنها لقبته ب حبيبي بتلقائية شديدة، ختمت نانسي حديثها بسؤال ساخر وكأنها تحاول تدارك ما قالته قبل قليل.
معايا العربية يا ظريفة. قلبت نانسي عيناها وهي تسبقه نحو الخارج، جلست إلى جانبه في السيارة وساد الصمت لبرهة قبل أن تسأله عن الآتي:
أنتَ اتخانقت مع سارة تاني؟
أحنا مش بنعمل حاجة غير إننا بنتخانق من وقت الخطوبة والدنيا بينا بايظة خالص.
طب ما تفركش يسطا ده أيه وجع القلب وقلبة الدماغ دي؟
أنتِ شايفة إن الموضوع بالبساطة دي؟
اه. أجابته بلا مبالاة وبثقة تامة ليضحك رغمًا عنه قبل أن يُعقب على ردها قائلًا:
طيب هو الموضوع مش بالسهولة دي عامةً، أحنا مش اتنين متصاحبين أحنا مخطوبين وأهلي دخلوا بيتها وشبه بقينا عائلة واحدة.
هما مين دول اللي بقوا عائلة واحدة؟ أما أحنا شخصيًا عايشين كلنا تحت سقف واحد ومش عارفين نكون عائلة واحدة هما اللي لسه عارفينك من يومين بقوا جزء من العائلة بسهولة كده؟
سألت نانسي بإستنكار واضح ولقد كانت مُحقة تمامًا، فجميعهم يقطنون داخل المنزل ذاته لكن لا يوجد وصال بينهم ولقد كان الوضع على هذا منذ أن كانت ريتال وزينة وعبد الرحمن بينهم، لم تكن تلك العائلة عائلة قط لقد كان الوصال بينهم وصال مقطوع على الدوام، وكأنهم مُجرد غرباء أبتاعوا منزل مشترك لا مودة ولا رحمة ولا إهتمام، كلًا منهم في وادٍ غير الآخر وحتى من كان يُبدِ بعض الإهتمام كان دائمًا بدافع الشر لا الخير وربما الفضول كذلك.
العائلة مفهوم أكبر بكثير من مجرد مجموعة يسكنون داخل منزل مشترك ويحملون اللقب ذاته بل هم أُناس يُحبون بعضهم البعض حبٍ خالص دون مُقابل، حب ومودة بُنيت على الرحم الذي أمر الله به أن يوصل لكن للأسف الشديد لم يعد يُطبق أحدٍ ذلك قط فبدلًا من أن يكون الأقرباء هم حصن الأمان أصبحوا هم حصن الأعداء يقذفون بقنابلهم المميتة بأنفسهم قبل أن يُقدم الغريب على فعل ذلك...
أمتعض وجه صالح قليلًا وأخذ يحك شفتيه بإبهامه، لقد كان حديث نانسي منطقيًا بشأن عائلتهم وبشأنه هو وسارة كذلك ولربما كان والده محقًا حينما أخبره أن ما حدث كان تهور وحماس شباب لا أكثر فخطوة كتلك كانت بحاجة إلى المزيد من التريث والتفكير العميق لا تهور ومشاعر حب فياضة.
أنا أسفة لو الكلام اللي قولته ضايقك بس أنا مش عايزاك تبقى تعيس يا صالح أو تندم في يوم من الأيام إنك أتجوزتها وتخلف طفل وتسيبه وتمشي ويبقى زيي كده. تحدثت نانسي بمرارة شديدة وقد نمت على ثغرها إبتسامة تدل على حزن وآسى، طالعها هو بطرف عيناه قبل أن يقوم بإيقاف السيارة بالقرب من الرصيف قبل أن يلتفت نحوها ويقول الآتي بجدية وإنكسار واضح:.
أنا كمان أسف، أسف ليكِ على كل مرة قولتلك فيه كلام سخيف وأسف على كل مرة قولت كلام مش واضح لريتال وأسف على كل مرة وقفت قصاد بابا بدل ما أحاول أفهمه وأقرب منه وأسف على كل مرة أنشغلت فيها عن عطر، أنا إنسان أناني أوي يا نانسي،.
كلنا فينا عيوب يا صالح وكلنا محتاجين نتعالج من الجروح اللي حصلتلنا بسبب البيت اللي اتربينا فيه ده، أحنا مش وحشين، طول ما أحنا بنحاول نكون أحسن يبقى أحنا ناس مش وحشة.
عندك حق، تمتم صالح وهو يتنهد قبل أن يقوم بقيادة السيارة مرة آخرى حينما أدرك أن الوقت قد تأخر وأن عليهم العودة سريعًا فالوقوف بهذا الشكل في هذا الوقت غير مناسب بتاتًا.
ممكن لما يبقى عندك جلسة تاني تبقي تعرفيني، حتى لو مش هعرف أوصلك أبقى على الأقل مطمن عليكِ وياريت برضوا لما تقابلي عمو أشرف تبقي تديني فكرة.
أقولك أبقى هاتلي طوق معدن علشان لو روحت كده ولا كده تاخد بالك.
طب هو أنتِ مُدركة إنك بتتريقي على نفسك ولا مش واخدة بالك؟
تصبح على خير يا صلوحة، أبقى قولي هترمي لسارة الدبلة في وشها أمتى. أردفت غير مبالية بما يقوله قبل أن تغمز بإحدي عينيها وهي تتجه نحو الأعلى تاركة إياه يقف في حيرة من أمره.
في وقتٍ متأخر من مساء اليوم التالي دلفت سالي إلى حجرتها هي وزوجها وجلست بجانبه على الفراش وهي تقول الآتي بإمتعاض واضح:
عبدالرحمن أنا عايزة فلوس، أنتَ مديني مصروف البيت ناقص الشهر ده.
معلش أصل كنت مستلف من واحد صاحبي الشهر اللي فات ورجعتله فلوسه. كذب عبدالرحمن فلقد اتخاذ قرار بعد منحها كل الأموال التي في حوزته حتى يستطيع حفظ بعض المال لحدوث أي طوارئ.
مستلف منه خمستلاف جنيه مرة واحدة ليه يا حبيبي؟ كنت جبت بيهم أيه؟
هو مش أنتِ مخلصة على فلوس أول بأول أعملك أيه يعني؟ وبعدين ما كل الستات بتعرف تدبر نفسها حاولي تيجي على نفسك الشهر ده يا ستي.
صاح عبدالرحمن بحنق شديد فهو لم يعد يتحمل طمعها وإسرافها الشديد فزوجته الأولى لم تكن تفعل ذلك بتاتًا بل كانت تُدبر نفسها بأقل قدر ممكن من المال وعلى الرغم من ذلك كانت ترى والدته أنها مسرفة حينها.
لا أنا الجو ده مبيكلش معايا على فكرة، أنتَ عارف أنا عيشتي بتبقى ازاي من الأول يا حبيبي.
خلاص يا حبيبتي طلعي شوية فلوس من أرباح المشروع اللي أنا وأنتِ دخلنا فيه بفلوسي. أردف مع ابتسامة سمجة وهو يراقب ردا فعلها، عقدت حاجبيها بغيظ شديد قبل أن تتأفف بحنق ومن ثم تغيب عن عيناه لبضعة دقائق قبل أن تعود مرة آخرى وهي تحمل في حوزتها ظرف يحوي بداخله قدر لا بأس به من المال.
أقتربت لتجلس على الفراش بجانب عبدالرحمن وقد عاودت رسم ابتسامة مزيفة على ثغرها ظنًا منها أنه ما يزال ينخدع بتلك النظرات والضحكات المراوغة وقد كان الأمر عكس ذلك بتاتًا لكنه كان يحاول إخفاء ذلك.
بص يا بودي دول 7 آلاف جنيه علشانك، دول من الأرباح اللي أنتَ كنت لسه بتتكلم عليها، وعلى فكرة أنا خدت رقم أقل من ده بس قولت مش مشكلة أصل كده كده فلوسي هي فلوسك. قلب عبدالرحمن عيناه بتملل دون أن تراه قبل أن يسحب منها المال بعد أن طبع قبلة صغيرة على يدها، أمسك بالمال وقام بتقسيمه إلى جزئين أحدهما من خمسة آلاف والآخر من ألفان فقط.
خلي يا حبيبتي الألفين جنيه دول بقى معاكِ مشي حالك بيهم بقى مكان الخمسة. أردف بنبرة سمجة قبل أن يسحب ما تبقى من المال ويختفي عن عيناها لدقائق.
وأنا اللي قولت هتديني الظرف كل على بعضه وتقولي خدي يا مراتي يا حبيبتي بدل الفلوس اللي ناقصة؟ الظاهر مش الفلوس هي بس اللي ناقصة. تفوهت بالجزء الأخير من جملتها بصوت بالكاد مسموع لكنه استطاع سماعه ليجذب ذراعها بقوة على الفور بينما يصيح قائلًا:.
بقولك أيه يا بت أنتِ، أتكلمي معايا بإسلوب عدل بدل ما والله هتشوفي مني وش عمرك ما شوفتي ولا هتشوفي زيه في حياتك! كان الشرار يتطاير من أعين عبدالرحمن بينما كانت هي تحاول التملص منه وهي تتآوه بألم ولم يدرك كلاهما وجود يوسف الذي وقف يراقب ما يحدث من بعيد بأعين دامعة.
سيبني يا عبدالرحمن سيبني، حرام عليك الولد واقف ولا أنتَ عايز ابني يطلع معقد ومريض زي بنتك! لا يا حبيبي أنا مش زي الجارية اللي كنت متجوزها ولا ابني زي البت بنتك المجنونة اللي اسمها ريتال! صرخت في وجهه بعد أن استطاعت الإفلات منه، تبدلت تعابيره على الفور حينما نعتت ريتال بالجنون وقبل أن تُدرك ما يحدث أنهال عليها عبدالرحمن بعدة صفعات متتالية على وجهها مُخلفًا من وراءه كدمات وآثار لأصابعه على وجنتيها.
سيرة بنتي متجيش على لسانك، أنتِ سامعة ولا لا يا بت أنتِ! صرخ مُحذرًا إياها بغضب حقيقي وكأنه وحش ثائر، في تلك الأثناء هرول ابنهم الصغير نحو الباب وحاول فتحه بصعوبة قبل أن يركض نحو الطابق السفلي ليستنجد بأي شخص لكنه وجد جميع الأبواب مغلقة والجميع نيام لذا انتهى به الأمر وهو يجلس وحيدًا على السُلم يبكي في هلع.
بعد عشرة دقائق تقريبًا خمد الشجار بين عبدالرحمن وزوجته وقد انتبه لغياب صغيره لذا هرول نحو الخارج ليبحث عنه وقد وجده قد غفى على السُلم من فرط البكاء، حمله بين ذراعيه وهو يشعر بالذنب يحرق قلبه لقد أفسد نفسية طفله كما فعل مع ريتال من قبل والآن هي تبغضه وتراه أسوء الرجال ولم تعد بين أحضانه أو أمام عيناه...
في عصر اليوم التالي كانت زينة في انتظار قدوم فؤاد لإصطحاب فريدة لكنها لم تُصارح نفسها بذلك بل كانت تُنكر مشاعرها داخليًا ولم تقوى على التفوه به بصوتٍ مسموع، لسبب ما تأخر قليلًا عن موعده، وقد خشيت هي أن يقوم بإرسال شقيقة زوجته لإصطحاب فريدة بدلًا عنه فهي لم تراه منذ ما يقرب من الأسبوع تقريبًا ولم تعد تتحمل المزيد من الغياب وقد ازداد ذلك الشعور كلما تذكرت حديث مريم حول تفاصيل زواجه ورحيل زوجته والحب الكبير الذي كان أو ربما مازال يكنه لها في قلبه.
صدح صوت هاتفها مُعلنًا عن وصول رسالة ليخرجها من شرودها، كادت أن تقرأها لولا أن تشبث بها أحد الأطفال ليُشغلها عن قراءة الرسالة وبعد مرور خمسة دقائق تقريبًا جاءها مكالمة هاتفية من رقم مجهول لتُجيب على الفور ظنًا منها أنه أحد أولياء الأمور.
ألو مساء الخير، زينة رضوان مع حضرتك.
ازيك يا زينة أنا عبدالرحمن، وحشتيني أوي، جاءها صوت عبدالرحمن من خلال الهاتف بالتزامن مع وصول فؤاد إلى باب الروضة وهو يحمل في يديه باقة من زهور التوليب الحمراء في يده...