قصص و روايات - روايات صعيدية :

رواية وخفق القلب عشقا (الدهاشنة 3) للكاتبة آية محمد رفعت الفصل السابع

رواية وخفق القلب عشقا (الدهاشنة 3) للكاتبة آية محمد رفعت الفصل السابع

رواية وخفق القلب عشقا (الدهاشنة 3) للكاتبة آية محمد رفعت الفصل السابع

رسم على تعابيرهم علامات مختلفة ما بين الصدمة والدهشة لجراءة هذا الوقح الذي أتى لمنزلهم، وكأنه لم يفعل أي شيئًا، وحبس الشباب غضبهم الثائر تجاهه في حضرت الكبير، فكانوا ينتظرون ما سيأمرهم به، وما نجحوا بفعله فشل به آسر، الذي ترك الطاولة ثم اتجه ليقف مقابله وجهًا لوجه، ليكسر حاجز الصمت حينما قال بنبرته المتعصبة:
أنا قولتلك لو دخلت البيت ده برجليك تاني أنا اللي هقطعلك رقبتك.

ورفع يديه ليقبض على رقبته وجحيم غضبه يخيم على حدقتيه القاتمة، فكان على عبد الرحمن و أحمد الذي كان يجلس ليتناول طعامه بالتداخل على الفور، دفع عبد الرحمن أيان للخلف، بينما قيد أحمد و بدر ذراع آسر القوي، فصرخ به أحمد بضيقٍ:
اهدى يا آسر وإحترم وجود عمي!
مغيب هو عن وجود أي أحدًا لجواره، فكل ما تلتقطه عدسة عينيه هو صورة ذلك اللعين القذر، كاد بالهجوم عليه مجددًا فمنعه سليم ليأمره بصرامةٍ:.

كفياك يا آسر، خلينا نشوف جاي عايز أيه!
تركت راوية مقعدها بعدما التصقت به لفترة في محاولات مستميتة لأن تحرك ساقيها، فدنت منه ثم قالت بنبرة مهتزة أحبالها:
بنتي كويسة؟

كان يقف كالصنم، يتجاهل جميع من حوله، فنظراته لا ترى أحدًا سوى فهد الذي مازال يجلس على مقدمة طاولته ويتطلع له بسكونٍ مريب، قاطعه حينما نهض عن مقعده ليقترب منه بخطواتٍ بطيئة لا تليق سوى بهيبته، ليقف من أمامه ثم رفع عصاه الانبوسية المميزة ليضعها على كتف أيان رافعًا صوته بكل شموخًا:
جاي ليه يابن المغازي!
تحرر لسانه عن سكينته حينما قال:.

أنت عارف كويس يا فهد اني مستحيل هدخل بيتك وهقف قدامك كده غير وأنا مجبور..
ابتسم آسر ساخرًا:
ده لانك اتعودت تضرب من تحت لتحت زي الستات ما بتعمل بالظبط، فوضع الرجالة مش مناسبك في المواجهة.
تحمل غلظته وابتلع اهاناته التي كان مذاقها كالعلقم، واسترسل حديثه وعينيه مازالت تتطلع لفهد:
بنتك في المستشفى ومحتاجة نقل للنخاع الشوكي منك أو من ابنك، فكان لازم أجي وأعرفك...

اعتلت الصدمة وجوه الجميع، وانطلقت صرخات راوية لتعاون البعض في استيعاب تلك الكلمات الثقيلة، رددت ببكاءٍ ووجعًا:
بنتي، عملتوا فيها أيه، لأ..
تلك المرة فشل الشباب بأكملهم إيقاق آسر الذي انهال عليه بلكماتٍ افتكت بوجهه الذي نزف بغزارة أمام قوته، وشراسته بالهجوم، لم يتوقف تلك المرة الا حينما جذبه فهد وهو يصيح بانفعالٍ:
وبعدهالك! قولتلك متتدخلش في الموضوع ده، اتحكم في اعصابك.
رد عليه آسر باندفاعٍ:.

بعد اللي سمعته ولسه بتقولي أتحكم في أعصابي!
نهض أيان عن الأرض، ثم جذب جاكيته الملقي أرضًا ليرتديه باهمالٍ، وتحرك بخطواتٍ مجهدة تجاه باب الخروج وهو يقول بصوتٍ يكاد يكون مسموع:
أنت عارف طريق المستشفى كويس..
وقبل أن يخرج من الباب استدار برأسه تجاه كبيرهما وقال بكرهٍ نجح بزرعه في لهجته:
ومتفكرش مجيتي هنا معناها ان العداوة اللي بينا انتهت يا فهد، اللي بينا مش هينتهي غير بموتك أو بموتي.

وغادر تاركا النيران تنهش قلب تلك الأم المسكينة التي تتمزق على ابنتها بوجعٍ، فلم يعينها وجود تسنيم وحور وباقي النساء لجوارها، بل كل ما تراه هو زوجها، فأسرعت اليه لتقف من أمامه، قائلة بخوفٍ من هدوئه الغريب:
فهد، قولي انك مش هتتخلى عن بنتك وتسبها تموت!
شدد يديه على طرف عصاه ليجيبها ببرودٍ غامض:
بنتي! هو أنا ليا بنات!

حرصت بأن يصل الهواء لمجرى تنفسها، فهي بحاجة بأن تسترد وعيها سريعًا لأجلها، فقالت بدموعٍ ترقرقت بعينيها:
لا مستحيل تعملها، روجينا من لحمك ودمك يا فهد حرام عليك، هتقدر تعيش وانت شايل الذنب ده.
لم يهتز له جفن، ملأ السخط نظراته المتجهة إليه، فتراجعت للخلف بظهرها وهي تردد بصدمة:
مبقتش عارفة الانسان اللي عايشة معاه، بس لا يا فهد أنا مش هقعد وأتفرج على بنتي وهي بتموت، أنا وابني مش هنتخلى عنها سامع!

وجذبت الجلباب الأسود الذي تحمله تسنيم، ثم عقدت حجابها حول رأسها بإهمالٍ، لتتجه الخروج وهي تشير بيدها إليه:
يلا يا آسر.

تلك النظرة العميقة المتبادلة بين الأب وابنه غامضة حتى عليها، فكانت حائرة فيما يلقنه فهد من تعليمات غريبة اتنقلت لمن يتقبلها ويعلم بفك شفراتها، علاقتهما خاصة وفريدة من نوعها، يحترم بها الابن ابيه والاب يحترم ويقدر غضب ابنه وثورته، خشى سليم ان تزداد الامور سوءًا بين ابن عمه وزوجته، فظن كما ظن الجميع بأنه سيمنع آسر من الخروج، ولكن تبادل النظرات الصامتة بينهما جعل الجميع في حيرةٍ مما يحدث، حتى انتهى الأمر بينهما بإيماءة رأس آسر ليتجه للخروج وهو يشير لوالدته بأن تمضي لجواره، فاتبعه بدر و أحمد..

بسرايا المغازية
استمعت للمتصل بحرصٍ شديد، فامتعضت معالمها فور سماع هذا الجزء الغير محبب لها، ثم قالت بغضبٍ:
لسه عايشة! هي البت دي بسبع ترواح!
هدأت قليلًا وهي تضيف بابتسامةٍ شيطانية:
وتفتكر فهد هيرضى يتبرعها أو هيقبل يخلي ابنه يتبرع!
اليوم كان بالنسبة لها انتصارًا عظيمًا، فما يسعدها حقًا بأنها تخلصت مما تحمله بين أحشائها، لا تعلم بأن ما تحمله لم يكن عائقها أبدًا بل حبها النابض بداخل قلبه!

يا كسرة هذا القلب المسكين الذي يعاني منذ تلك اللحظة التي اشتد بها عود ابنتها، ليتها ظلت تلك الطفلة الصغيرة ذات الجدائل القصيرة، فلا شك بأنها كانت ترتكب الأخطاء ولكن على الأقل كانت تضمها لصدرها وتحتويها، ولكن الآن فشلت في ضمها اليها، فباتت ابنتها المدللة متمردة، عنيدة، تأبى الخضوع إليها، ولكن كل ما حدث معها لا يساوي وجع تلك اللحظة القاسية وهي ترى ابنتها تستلقى وسط عدد ضخم من الأجهزة، حتى لم تكن بحاجة لتسأل الطبيب عن حالها، فمن يرأها بتلك الحالة المذرية يقسم بأنها على شفى حفرة الموت، خرت قوة رواية لتصرخ باكية وهي تهرول لفراشها:.

بنتي، حبيبتي قومي يا نور عيوني، قومي يا حتة من قلبي، ليه تعملي فينا وفي نفسك كده، ليه يا بنتي أنا مربتكيش على كده والله ما أثرت معاكي، يا رب كله الا عيالي، خد عمري وهي لا...

وانحنت ساقيها أمام ذاك الفراش الذي تعيقه الاجهزة فتمنعها حتى من ملامسة يد ابنتها، ظلت معها بالغرفة بمفردها بينما لم يضيع آسر الفرصة فاتجه لمكتب الطبيب أولًا قبل أن يدخل إليها، فما أن ولج للداخل حتى وجد أيان يستلقى على المقعد باهمالٍ والطبيب يعالج جروح وجهه، فما أن تطلع اليه حتى رأى بوضوح عينيه التي تترقرق بالدموع، لم يعنيه الأمر كثيرًا فيكفيه نظرة الكره التي يسددها اليه، فبنهاية الامر هو الذي أوصل الأمور إلى هنا، سحب آسر نظراته ثم تطلع للطبيب ليقول بلهفة:.

أنا جاهز للاجراءات اللي حضرتك تطلبها يا دكتور.
حانت من الطبيب نظرة جانبية لأيان الذي همس بصوتٍ مرهق:
أخوها.
جذب الطبيب الملف الموضوع على سطح مكتبه ثم اشار لهما بتتبعه وهو يردد بعملية:
كويس انكم اتحركتوا بسرعة لان الحالة غير مستقرة، وللاسف الفحوصات والاشعات اللي هنعملها بتاخد وقت مش أقل من خمس أيام، فكل ما اتحركنا بسرعة كل ما كان أفضل للحالة..

اتجهوا سويًا خلفه حتى وصل لنهاية الرواق الطويل، ليصل لغرفة قريبة من الغرفة التي توجد بها روجينا، فما أن رأهم بدر الذي كان يقف أمام الغرفة ينتظر زوجة عمهم، فقال الطبيب على عجلة من أمره وهي يشير للممرضة بالانضمام اليه:
أستاذ آسر حضرتك بتعاني من اي أمراض مزمنة.
أشار له بالنفي فقال بابتسامة مصطنعة:
كويس، هنتحرك على طول.
وأشار للممرضة قائلًا:
اتفضل مع الممرضة عشان نبدأ الفحوصات.

ظل آسر محله، وقبل أن يتبعها اقترب من أيان وهو يحذرة بنبرة شرسة:
متقربش من الأوضة طول ما أمي جواها، فاهم!
منحه أيان نظرة متبلدة تعكس ما يشعر به في تلك اللحظة، فربت بدر على كتفيه وهو يشير إليه بتأهبٍ:
متقلقش أنا مش هتنقل من هنا، روح أنت، وشوية وأحمد هينزل من عند ماسة.
أومأ برأسه ثم غادر بهدوءٍ رغم اشتعال نظراته التي تراقبان ذلك النذل الكريه إليه.

طرق أحمد على باب الغرفة، ثم ولج يبحث بعينيه عن يحيى ، فوجده يجلس على المقعد المجاور لفراشها، وعينيه متورمة من فرط الإجهاد، فاقترب وانحنى بجسده ليطبع قبلة حزينة على جبينها، ثم قال وعينيه تتطلع اليها:
مفيش أي جديد يا يحيى!
هز رأسه نافيًا:
لا، لسه زي ما هي..
شفق عليه، فهو الوحيد بينهما الذي يملك حربًا دائمة مع الابتلاءات، لذا يتمنوا ان تطرق السعادة بابه، دنا أحمد منه ثم عاتبه قائلًا:.

كده تخبي عني اللي حصل، هي دي مش أختي برضه وأمرها يهمني..
اتجهت نظراته المحطة اليه، ليجيبه بابتسامة يجاهد لرسمها:
مكنش ينفع أقلقك في يوم زي ده يا عريس.
انكمشت معالمه بضيقٍ:
عريس!، أنا اختي عندي اهم من الدنيا كلها يا يحيى، انا فعلا زعلان منك ولولا حالتك دي أنا كنت عرفت أخد حقي منك وقتي.

ضحك وهو يعني بمقصده، فابتسم أحمد هو الأخر وهو يخفي حزنه وتمزق قلبه على ما يحدث له، فجذب جاكيته الملقي على الفراش ثم قدمه له قائلًا:
طب يلا ارجع البيت كده غير هدومك وريحيلك ساعتين..
التقط منه الجاكيت ثم أعاده لمحله وهو يقول:
لا مش هتنقل من هنا، ارجع انت يا احمد لعروستك ميصحش تسبها لوحدها من الاول كده..
رد عليه بتصميم:
يحيى انت مش هتقدر تقعد جنبها وأنت بالحالة دي، لازم على الاقل تاكلك لقمة...

ثم ربت على يديه:
يلا اسمع الكلام، وانا هفضل هنا مكانك لحد لما ترتاح وترجع.
منحها يحيى ابتسامة ممتنة، ثم انتصب بوقفته ليمنحها نظرة اخيرة تختم معالمها بداخله قبل أن يغادر..

ظلت رواية لجوارها حتى خيم الليل بجلبابه الأسود المعتم، مازالت تجلس على سجادة الصلاة، تدعو وتتوسل لله أن ينجد ابنتها مما تمر به..

بالخارج، أشار آسر لبدر بأن يدلف للداخل ليخبرها بأن عليهم الرحيل الآن، فما فعلته روجينا مازال يؤثر عليه، فمنع نفسه من الدخول، خشى أن يرأها في تلك الحالة فيجن جنونه ويقتل ذلك الأرعن في محله، فمازالت هناك حلقة مفقودة حول حادثها المخيف هذا، ولكن ما يجعله حائرًا حالة الحزن الغير مصطنعة على وجهه..

عادوا جميعًا للسرايا، فرفضت رواية الصعود لجناحها الذي يجمعها بزوجها القاسي ذو القلب الحجري من وجهة نظرها، لذا قطنت بأحدى غرف الضيوف، ابتعدت عنه لأول مرة منذ زواجهم، لعله يشعر بسوء ما ارتكب، ولكنها لا تعلم بأنه ينازع ألم لا يحتمله رجلين، ألمًا يمزق جسده لأشلاء، وكل جزء يكبت صراخاته خلف قناع البرود الزائف، فاكتفى بتحركاته السرية التي ظنها مخفية عن الجميع!

بجناح بدر
دنت من باب الجناح بخطواتٍ مترددة، حتى أنها فكرت كثيرًا قبل أن تطرق، ولكنها وجدته الأنسب لما تود قوله، طرقت عدة مرات حتى فتحت رؤى الباب، فابتسمت قائلة بترحابٍ:
تالين!، اتفضلي يا قلبي..
وجهها التعيس فشل برسم بسمة صغيرة، فقالت بجفاء:
بدر لسه صاحي يا رؤى؟
رغم دهشتها من تلك الحالة الغريبة التي تسيطر عليها الا أنها أشارت بيدها للداخل:
أيوه يا حبيبتي ادخلي.

ولجت تالين للداخل، فاستقام بدر بجلسته فور رؤياها، واستقبالها بابتسامةٍ هادئة:
يا أهلًا بعروستنا، ده أنا قولت انك نسيتنا..
جلست رؤى جواره، لتمازحها قائلة:
هي نسيتنا بس دي نست الدنيا مهو خلاص عبد الرحمن أكل دماغها.
بدت اليهما غير مرحبة بالمرة بالحديث وخاصة عنه، فقالت بجدية تامة:
ممكن أتكلم معاك شوية يا بدر.
شعر بأنها تود الحديث معه على انفراد، لذا كان ذكيًا في إبعاد زوجته عن المجلس حينما قال:.

معقولة تالين مجتلناش من زمان ونسيبها كده من غير واجب ضيافة.
نهضت وهي تجيبه بلهفة:
نسيت والله، حالا
وتركتهما ورحلت لتعد ما يناسب استقبال شقيقتها الحبيبة، فما أن ابتعدت عن الغرفة حتى تساءل بدر باستغرابٍ:
في أيه يا تالين، شكلك مش طبيعي خالص من لما دخلتي!
لعقت شفتيها بتوترٍ وهي تحاول ايجاد المناسب لقوله، وبعد فتره من الصمت قالت:.

بدر انا مش عايزة أكمل في العلاقة دي، أنا مش عايزاه ومش عارفة اتكلم مع مين لاني مش هقدر اقول اسباب، فملقتش غيرك انت جوز اختي وتعتبر أخويا، عايزاك تخلصني من الموضوع ده من غير ما حد يسالني أي اسئلة ملهاش لزمة.
كانت مفاجأة صادمة اليه، فقال وعينيه تتركزان على حركة أصابعها المتوترة:
طب أفهم بس، ليه عايزة تسبيه!
لمعت عينيها بالدموع، واحتبست الدماء بداخلها، فقالت بانكسارٍ:
عبد الرحمن بيشك فيا..

رفع حاجبيه بصدمة:
بيشك فيكي ازاي!
مسحت دمعاتها وحاولت السيطرة على شهقاتها المتقطعة، فانتظم تنفسها:
شاكك اني على علاقة بحد، وكلامه ونظراته كانت كلها اتهامات بشعة..
انكمشت حدقتيه بغضبٍ:
معقول! اتجنن ده ولا ايه.
خانها التعبير فباتت متخبطة بما تخفيه وما ستقول:
فاكرني غلطت مع حد زي ما رؤى عملت قبل كده وآ...
بترت كلماتها حينما علمت بما تفوهت، فقالت بحرجٍ:
أنا أسفة يا بدر، صدقني انا مقصدش إآ..

قاطعها حينما قال بنبرة لطيفة يخفي من خلفها غضب عظيم:
لا ولا يهمك، الغلط مش عليكي الغلط على الحيوان اللي فقد عقله ده..
ثم تطلع اليها وهو يسترسل:
عمومًا سبيلي أنا الموضوع ده متقلقيش أنا هتصرف..
نهضت وهي تودعه قائلة:
ياريت في اقرب وقت يا بدر، هرجع اوضتي تصبح على خير.
ودعها بابتسامة رسمها بصعوبة:
وانتي من اهله.

وما أن غادرت الغرفة حتى جذب ملابسه واتجه لغرفة ابن عمه، فدفع بابها بقدميه، لينتفض من يستلقي على فراشه بفزاعٍ، فهدأ قليلًا حينما تأمل من يقف أمامه، فصاح بعصبيةٍ:
أيه يا عم في حد يدخل على حد كده خضتني.
احتدت نظراته تجاهه، فاقترب ليقف من أمامه ليجيبه ساخرًا:
لا متتعصبش، سيب عصبيتك للي جاي.
واستعان بحديثه بلكمةٍ افتكت بالاخير وطرحته أرضًا، فمسح الدم العالق على شفتيه ثم قال بدهشة:.

أنت اتجننت يا بدر، بتمد ايدك عليا!
انحنى ليجذبه اليه، واخشونت نبرته بسخطٍ:
إحمد ربنا لو كنت حد غريب كنت قطعت رأسك ورأس أي حد يفكر يخوض في عرض مراتي.
جحظت عين عبد الرحمن في صدمةٍ، من بشاعة الاتهام الملقي على اعتاقه، فبصعوبة تمكن من استدعاء صوته:
أيه اللي بتقوله ده!
تركه بدر ثم كور يديه ليضعها اصبعه أمام وجهه:
عقاب اللي قولته واللي عملته كبير اوي عندي، وانسى ان تالين هتكونلك في يوم من الايام.

وتركه وكاد بالرحيل، فاتبعه عبد الرحمن ثم اوقفه وهو يتساءل بحيرة:
انا حصل سوء تفاهم بيني وبينها بس صدقني انا مقولتهاش حاجة عن مراتك ولا اقدر اعملها!
اشتعلت حدقتيه لسماع مبرر اقبح من ذنبًا، فثار به:
أنت عارف انت عملت ايه، وعارف برضه أني مش هتهاون مع أي حد يمس عرضي حتى لو كان الحد ده ابن عمي.
وتركه وغادر، فجلس عبد الرحمن على الفراش بصدمة مما تسبب بفعله دون قصدًا منه!

اليوم يمر والأخر يلحق به ومازالت فاتن تنتظر عودة أيان للسرايا ولكنه منذ لحظة دخول روجينا للمشفى يقضي جميع ساعاته لجوارها، وحينما يأتي آسر ووالدته ينتظر بسيارته فور مغادرتهما، ليس خوفًا منه ولكنه يحتمل لاجل ان يتم اجراء تلك الجراحة التي ستنقذ من أخبره قلبه بعشقها، فهمس له خلسةٍ بأنه خفق لها عشقًا!

ولكن اليوم ستنتهي تلك المعاناة وخاصة بعد ساعتين من الآن، فالاطباء يستعدن بعد تلك الايام من اجراء الفحوصات اللازمة للجراحة، فأبت تسنيم ترك زوجها في تلك اللحظة، فكانت تجلس لجواره ويدها تشدد على يديه بخوفٍ، عينيها تلمعان بالدموع التي تحتبسهما بصعوبة، فمال برأسه على جبينها ثم همس لها:
متخافيش يا روحي الموضوع بسيط خالص..

هزت رأسها والدموع تنهمر على خديها، فكانت بحاجة للانفراد به ولو لدقيقةٍ، فلا تمتلك الحق لايقافه عن هذا العمل النبيل الذي سينقذ به حياة انسانة وليست اي انسانة، بل شقيقته من روحه ودمه، لا، لا يحق لها ذلك ولكن يحق لها مجابهة الألم والخوف إلى أن تراه يقف من أمامها من جديد، استغل آسر التهاء الشباب بالحديث، فكان أحمد يحاول معرفة سر تطور العلاقة بينهما، فضمها لصدره ثم مرر يديه على جسدها وهو يهمس لها بصوته الرجولي الجذاب:.

ده بدل ما تقوليلي كلمتين حلوين يحمسوني ارجعلك، بتعقديني ينفه كده، المفروض انك تكوني في البيت، مش هنا، بعد كده مش هسمع كلامك تاني..
ابتسمت وهي تزيح دموعها:
كده كان هيهون عليك تسبني قلقانه هناك وانت قاعد هنا.
ضحك وهو يجيبها:
قاعد في الساحل وسايبك مثلا!

لكزته والضحك يضيء وجهها المطفي، كل ذلك ونظرات أيان تراقبهما، لا يعلم لماذا شعر بتلك اللحظة بندم يعتصر اضلاعه، كان من الممكن أن يعيش مثل تلك الحياة الهادئة مع من أحبها، ولكن ماذا فعل؟

دمرها أولًا ثم دمر نفسه بعدها، التقط نفسًا مطولًا وهو يحاول محاربة أوجاعه، كل وجعًا مسؤول عنه سبب يختلف عما يسبقه ولكن بالنهاية يصب بنفس الجسد الذي اعتاد على الألم منذ الصغر، ففتح عينيه وهو يتطلع لهما نظرة أخيرة، فوجد تسنيم تتعلق بيد زوجها والعشق يتربع بين اعينهم، وفوقه رأى جانب يتسم بالحنان والعشق من تلك الشخصية الهمجية التي لم يتبين منه اليه سوى الغلظة والتعصب، وليكن صادق الاحساس مع نفسه اعترف بنجاح فهد بتربية ابنه تربية لم ينالها هو على يد خالتها التي بات يمقتها في تلك اللحظة التي دخلت روجينا هذا المكان، ينتظر الوقت المناسب ليلقنها درسًا قاسيًا، ستعلم من بعده مع من اختارت اللهو.

افاقوا جميعًا من غفلتهم المختلفة على صوت الممرضة وهي تخبر آسر بأن يأتي للداخل، ففور سماع تسنيم لذلك تمسكت به بجنون، فربت بيديه على يدها المحتضنة له ثم قال بعتاب:
اتفقنا على ايه! أخلي أحمد يرجعك؟
هزت رأسها بالنفي، فقال بحزم:
خلاص اقعدي وخليكي هادية تمام؟

أشارت له بنعم، اتبع بدر اشارة آسر، فدنا ليجلس على مقربة منها حتى يكون حمى لها من هذا الحقير الذي لا يضمنه أحدًا، ثم اتبع الممرضة بذاك الممر الطويل ونظراتها تشيعه بلهفة وخوف وارتباك، تردد غريب ينتباها حول ما تود قوله له، ولكنها ترى بانها ليست اللحظة المناسبة، حاربت تسنيم تلك الجهتين المختلفتين ولكنها لم تستطيع، فنهضت عن محلها ثم اسرعت خلفه بخطواتٍ سريعة وهي تناديه:
آسر.

توقف عن المضي قدمًا ثم استدار للخلف، ليجدها تدنو منه وشفتيها ترتعش بشيئًا تود قوله، وعينيها تتطلع لمن يقف حوله بخجل، فاقتربت منه فعلم بأنها تود الهمس له عن شيئًا ما، لذا ضمها اليه ليجدها تهمس اليه بكلمة جعلت جسده يتخشب تدريجيًا محله، وحينما ابتعدت تطلع لها بصدمة، وكلمة واحدة يرددها:
بجد؟
أومأت برأسها بابتسامة صغيرة وهي تخبره:
كنت هقولك بس حسيت ان الوقت مش مناسب.
رفع احد حاجبيه ساخرًا:
وده المناسب!

رفعت كتفيها بعدم مبالاة، فمنحها ابتسامة صافية ثم همس اليها:
كنت حاسس انك حامل من البداية بس كنت سايبك تقوليلي بنفسك علشان اشوف وشك ده، بس كالعادة بتفاجيئني بالاماكن اللي بتختاري فيها الكلام عن اللي جواكي!
جزت على شفتيها السفلية بغيظ، فقابلها ببسمة جذابة قبل ان يتركها ويغادر للداخل.

بغرفة ماسة
مرت ستة أيام والابتسامة لم تزور وجهه، ومع ذلك لم يتركها بل يظل لجوارها طوال الوقت، ويديه لم تترك يدها لثانية، كأنه يكفر عن خطأ واحد ارتكبه وظن بأن تكفير ما يفعله مازال ضيئلًا، رغم انه يفعل المحال لاجلها، انحنى يحيى ليطبع قبلة على يدها المحقونة بالابر الطبية وهو يردد باشتياقٍ:
وحشتيني، وحشني صوتك وضحكتك وكلامك وكل حاجة فيكي، لحد امته هتختبري صبري يا ماسة، عشان خاطري فوقي..

ووضع رأسه على يدها تاركًا دمعاته تهبط على يدها لتستطيع ملامستها، تحرك جفن عينيها وكأنها تحاول فتحهما، فليته كان يجلس باستقامة ليرى تلك التغيرات الطارئة التي تحدث لحالتها، كسر حاجز الظلام ذاك الضوء الذي تسلل لعينيها العسلية لتخبرها بأنه استعادت مجدها اليوم، انطلق شعاع حياتها ليخرجها من ظلمة فقدان الوعي، بدى تنفسها ثقيل الى حدًا ما، ولكن لم يعنيها سوى التطلع لمن تشعر بوجوده بكل نفسًا تلفظه، فابتسمت وهي تحرر صوتها القابع بداخلها لفترةٍ:.

غريب انك المرادي متخلتش عني وسبتني!
فتح عينيه على مهلٍ والصدمة تطرحه أرضًا، فجاهد لرفع رأسه الذي اثقلته الصدمة، ليتطلع لها، بالبداية كانت صدمة استعادة وعيها والآن حينما نطقت قائلة:
مهربتش ليه يا يحيى المرادي ولا عشان الدكاترة طمنوك على اللي في بطني وقالولك انه بخير وكويس، يمكن لو كانت حالته خطر زي اللي قبله كنت هتسبني اوجه كل حاجه لوحدي..

ابتلع ريقه الجاف بصعوبة وهو يتطلع لها بابتسامة وسيل من الدموع تهبط في حماس غريب، فعادت لتسترسل والاخير يصمت ويصمت ليسمع صوتها الذي اشتاق اليه لاعوام:
أنا كنت بتعذب كل يوم انت كنت فيه بعيد عني، اترجتك انك ترجع وتكون جانبي بس انت كنت اناني يا يحيى، أنا، آآ، أنا مش مسمحاك سامع مش مسمحاك.

ووضعت رأسها بالاتجاه الاخر، فجاهد لرفع يديه الثقيلة ليحرك ذقنها اليه، فهز رأسه باشارة لها بأنه يسمعها فلتكمل ما تقول ولكنها تطلعت لها بنظرةٍ ملأها الغيظ، فابتسم وهو يقول بدموعٍ تلاحقه:
لا متسكتيش اتكلمي، قولي اي حاجة أنا استنيت اللحظة دي من كتير اوي، صرخي، اشتميني، عاتبيني، بس متسكتيش تاني، عاقبيني على اللي عملته بس بلاش عقاب السكوت ده، بلاش..

انهمرت دمعاتها حتى تحرر صوت بكائها فضمها اليه ومازال لا يصدق ما يحدث، فكان بين اللحظة والاخرى يبعدها عنه ليتأكد بانه لم يتوهم، وكانت من اعظم لحظاته حينما ولج الطبيب للغرفة ليطمئن عليها بعدما احدث الجهاز صوتًا بافاقة المريضة فوجد ماسته الغالية تتلمس حجابها المفقود، وتتخبئ به خجلًا من عدم وجوده، عادت ماسته اليه، عادت تلك النسمة الرقيقة التي تخجل من أقل شيء، سحب يحيى الغطاء الابيض الصغير ليضعه على رأسها وهو يتطلع لها بعينين اغرقتهما دموع الفرحة والهجر والشوق، دموع نقلت الى عينيها وهي تتلمس كل وجع اختبره يومًا، فشعرت بأنها طوال تلك الفترة الماضية المته ما يكفي، لا لن تعاقبه مجددًا فيكفيه ما لاقاه خلال تلك السنوات، يكفيها وجوده لجوارها حينما فقدت عقلها وكان بامكانه الزواج، يكفيها انه لجوارها حتى تلك اللحظة!

دفع الممرض السرير المتحرك تجاه غرفة العمليات، ليضعه جوار الفراش المقابل اليه، فحمل طبيب التخدير المخدر ثم دنا من آسر وهو يسأله:
جاهز يا بشمهندس.

مد يديه للسرير المقابل له ليلامس وجهها بين أصابعه بألم خنق أضلاعه، فبنهاية الامر هي شقيقته، فالدماء التي تجري بعروقه هي نفسها التي تجرب بعروقها، خانته تلك الدمعة القاسية حينما رآها بتلك الحالة، فود لو يتمكن من ضمها اليه، كان يرآها ابنته الصغيرة وليست شقيقته فما فعلته لم يكسر ظهر ابيه فحسب بل كسرته هو، ومع ذلك لن يتركها تصارع الموت، ابتسم اسر وهو يهمس اليها:.

مش هيجرالك حاجة، طول مانا وأبوكي عايشين وعلى وش الدنيا مش هيجرالك حاجة..
ثم أغلق عينيه وهو يشير لمن يقف خلفه ليحقن المخدر به، فاغلق عينيه استسلامًا له، ففور أن تأكد الطبيب من انه تم تخديره كليًا حتى سحب السرير برفقٍ للخارج ليسحب السرير الأخر ليضعه محله، ومن ثم انحنى ليخبر من يستلقي عليه:
أنا نفذت كل اللي حضرتك طلبته بالحرف وبسرية تامة بس كل ده ليه!
أتاه ردًا صارم لا يليق سوى بكبير الدهاشنة المصون:.

شوف شغلك يا دكتور من غيرك ما تتعدى على خصوصية الغير، ومتنساش اتفقنا.
بالخارج...
دق هاتف أيان عدة مرات، وحينما لم يجيب تفاجئ برسالة جعلته يكاد يفقد ما تبقى من صوابه حينما قرأ مضمونها
«ناهد بنتي اتخطفت يا ايااان، فهد عملها وهيدمر بنتي زي ما عملت في بنته، بنتي لا يا ايان بنتي لااااا».

الفصل التالي
جميع الفصول
روايات الكاتب
روايات مشابهة