قصص و روايات - روايات صعيدية :

رواية وخفق القلب عشقا (الدهاشنة 3) للكاتبة آية محمد رفعت الفصل الثامن

رواية وخفق القلب عشقا (الدهاشنة 3) للكاتبة آية محمد رفعت الفصل الثامن

رواية وخفق القلب عشقا (الدهاشنة 3) للكاتبة آية محمد رفعت الفصل الثامن

استغرقت العملية الجراحية عدة ساعات، فتم نقل فهد من الممر السري لأحدى الغرف المجهزة، بينما خرج سرير آسر و روجينا أمام العائلة بأكملها، فركضت رواية بقلبٍ مكلوم حائر يين أي سرير ستذهب أولًا، فتلك ابنتها وهذا فلذة كبدها، كل شيئًا يمر ويحُتمل الا وجع كهذا، لا تعلم بأن وجعها الحقيقي سيبدأ إن رأت زوجها ومعشوق روحها طريح للفراش، وقد تخلت عنه عظمته وكبريائه لينازع ذاك الألم القاتل الذي يفترس أنحاء جسده فور استرداده للوعي..

نُقلت روجينا لغرفة، و آسر لغرفةٍ أخرى، التهى الجميع بروجينا للاطمئنان عليها أولًا، فاستغل أيان انشغالهم وتسلل لغرفة آسر ، كان يبدأ باستعادة وعيه تدريجيًا، فبدت رؤيته مشوشة قليلًا إلى أن تمكن من الرؤية بوضوحٍ، فوجده يجلس على المقعد القريب منه، تحرر لسان آسر الثقيل من أثر المخدر الذي مازال منغمس بدمائه:
أنت بتعمل أيه هنا، مش قولتلك مش عايز أشوف خلقتك طول ما أنا هنا!

مرر عينيه على حالته فبدى له مريضًا، تعجب من شجاعته ومناطحته بالحديث حتى وهو شبه فاقدًا للوعي، فقال بالرغم مما يشعر به بداخله:
كنت بتتكلم عن الشرف والنزاهة ودلوقتي بقيت بتتصرف بيهم.
ابتسم وهو يجيبه ساخرًا:
هو اللي فيه حاجة بيشوف الناس زيه ولا أيه!
كسر حاجز غموضه الذي يختبئ من خلفه، وسأله بشكلٍ صريح:
فين ناهد يا آسر؟
ضيق عينيه بذهولٍ:
ناهد مين؟
اتاه ردًا متعصبًا:
بلاش تحور وقولي أختي فين!

احتدت نظراته الساخطة تجاهه، ثم قال:
لو بتفكر اني ممكن انتقم منك في واحدة ست تبقى أهبل وعبيط، وده ميدلكش المجال انك تفكر في غيري من ولاد عمي، لاننا متربناش زي ما خالتك ربيتك، احنا اتربينا على ايد رجالة مش على أيد واحدة ست.
زرعت كلماته بداخله غضبًا عظيم، وما يثير عاصفته بأنه يعلم بأن آسر لا يفعلها، ولكن من الذي سيفعل ذلك..

غادر أيان الغرفة شاردًا بمن خلف ذلك، فلم يهتدي تفكيره الا لسبيلٍ واحد جعل عاصفة جنونه تقذفه عائدًا للسرايا.

أمام غرفة ماسة
لحقوا به الى أن وصلوا أمام الغرفة، فقالت ريم من بين أنفاسها الملتقطة بعد صعودها الدرج:
ما تقولينا يا ابني مطلعنا على ملى وشنا ليه، هي ماسة كويسة ولا في أيه متكدبش علينا..
استدار يحيى تجاهها، ثم قال:
لا بس في حاجة عايزكم تشوفوها..
قطع عمر المسافة الصغيرة بينهما ثم قال:
يعني الحاجة دي مكنتش تستنى لحد ما نطمن على روجينا وآسر؟
هز رأسه بتأكيدٍ، فقال أحمد بشكٍ:
يحيى في أيه بجد أنت قلقتني!

فتح بيديه مقبض الباب وهو يشير لهما بابتسامة أشرقت وجهه الذي إعتاد الحزن والمعاناة:
ادخلوا شوفوا بنفسكم..

ولج عمر أولًا واتبعه ابنه وزوجته، فوقفوا جوار بعضهما البعض وكلًا منهم يتأمل ما يحدث في صدمة وعدم تصديق، وبالأخص ريم التي ترى ابنتها ترتدي اسدال الصلاة وتودي صلاتها بخشوعٍ، انتهت ماسة من صلاتها ثم رفعت يدها وهي تهمس بدعاءٍ لم يصل صداه اليهما، وحينما نهضت لتحمل سجادة الصلاة وجدت من يقف أمامها، امتلأت عينيها بالدموع وهي تدنو من ريم التي تقترب منها، فرفعت يدها تلامس خد ابنتها التي نطقت ببكاءٍ:
ماما.

ضمتها لصدرها بقوةٍ لا يعهدها سوى شعور الامومة النابع من القلب، وهي تردد بانهيارٍ يصاحبه شهقات:
بنتي، حبيبتي، والله كان عندي ثقة كبيرة في ربنا انك هترجعي زي الأول وأحسن..
تعلقت بها ماسة وهي تشم عبيرها المفتقد، وقالت بانكسارٍ:
وحشتيني اوي يا ماما..
ورفعت رأسها تجاه ابيها الذي يتأملها بعين دامعة يخفيها بصعوبة، وتركتها ودنت منه لتردد بدموعٍ منفطرة:
بابا عمر...

اشتاق لسماع ندائها المعتاد منذ صغرها كانت تتعمد ان تناديها بابي واسمه يتبع ندائها، ابتسم عمر ثم قال بصوتٍ خشن من فرط انخطاف احباله الصوتية:
حبيبتي حمدلله على سلامتك يا قلب بابا...
وضمها لصدره فانهمرت دمعاتها تأثرًا بكلماته، بكت بكاءٍ مرير، فأخرجها منه أخيها بمشاكسته التي اشتاقت لها:
أنتوا مطولين ولا أيه، مانا عايز أسلم برضه ولا مش بتسلمي على رجالة غير سي يحيى...
ثم أشار بيديه ليحيى بمزحٍ:.

تصدق سلمت على ابويا يعني تعليماتك هتبدأها من جديد يا خفيف..
ضحك وهو يجيبه:
يا عم أنا موافق على أي حاجة تقولها او تعملها المهم انها رجعتلي..
ضمها أحمد لصدره حينما اقتربت منه وهو يردد بحزنٍ نقيض فرحته:
رجعتلنا كلنا مش ليك لوحدك..
ثم رفع وجهها اليه ليخبرها بوجعٍ اتبعه:
وحشني منكفتك فيا، والاكتر كلامي واسراري اللي مكنتش بأتمن حد عليها غيرك.
ترقرقت الدموع بعينيها، فازاحتهما وهي تحاول رسم ابتسامة رقيقة:.

اديني رجعت اهو.
ثم مالت عليه لتهمس له:
بس انا فرحت انك اتجوزت اللي كنت بتحبها.
وغمزت له بمشاكسة فضحك وهو يضمها مجددًا، شوقًا لتلك اللحظات، ابعده يحيى عنها ثم قال بحدةٍ:
انت مش حضنت مرة، خلاص كفايا وفر الاحضان لعروستك وحل عننا شوية..
تعالت ضحكات ريم وعمر، فقال احمد بضيق لابيه:
شايف قلة ادبه يا بابا!
ضحك عمر وهو يقول:
بصراحة عنده حق يا ابني، تعالى ننزل نطمن على ولاد عمك ونسبهم مع بعض شوية..

تساءلت ماسة باستغراب:
مين!
قالت ريم بحزن:
روجينا وآسر يا حبيبتي بيعملوا عملية نقل نخاع، لما ترتاحي يحيى هيحكيلك كل حاجة..
ثم اتبعت زوجها للاسفل، فكاد أحمد بالخروج ولكنه توقف حينما أخبره يحيى:
أحمد الدكتور كتب لماسة على خروج ابقى اتصل بحد يجبلي عربيتي..
أجابه بابتسامة هادئة:
يا باشا انا اروحها بعيوني.
منحه نظرة صارمة، فابتسم وهو يسترسل:
هروحك معاها متقلقش مش هنسيبك هنا..

ضحك يحيى، واتبعه للخارج وهو يشير لها قائلًا:
شوية وجاي يا حبيبتي هشوف الدنيا تحت وراجع..
أومأت براسها بتفهمٍ، ثم استلقت على فراشها لشعورها ببعض الارهاق.

وصلت سيارة أيان للسرايا، فما أن توقفت حتى انخلع قلبه حينما تعلقت عينيه على الدرج الذي مازال يحمل ذكرياتها، ابتلع تلك الغصة العالقة بصدره، ثم هبط ليحارب تردد خطواته التي تمنعه من الدخول، فما أن ولج للداخل حتى أسرعت فاتن التي كانت تجلس أرضًا، هرعت اليه وهي تبكي وتنتحب:
الحقني يا ولدي، فهد بيردهالنا في اختك، اني اموت لو حصلها حاجة.

كان يطالعها بنظراتٍ باردة، جافة، فتركها تبكي واتجه ليجلس على أحد المقاعد وعينيه لم تتركها بعد، دنت منه وهي تردد بصدمةٍ:
كن اللي اتخطفت دي مش اختك، انت جرالك ايه!
أجابها بابتسامةٍ ساخرة:
مش لو كانت اتخطفت اصلا، ومكنش ده ملعوب منك عشان تضمني ان العلاقة عمرها ما هتصفى بينا.
واسند ظهره للخلف وهو يستطرد باستياءٍ:.

اطمني مستحيل يكون بيني وبين فهد اي ود ولا علاقة، ولا هيبقى بيني وبينك بعد اللي عملتيه أنا بسببك خسرت ابني.
ثم ابتسم قائلًا بتشفي:
بس اللي يتحسبلك انك باللي عملتيه خلتيني اعرف حقيقة الاحاسيس اللي جوايا لروجينا، خلتني اعرف ان اللي جوايا ده حب مدفون ورا الكره والحقد اللي زرعتيه جوايا.
بالرغم من صدمتها المؤلمة لسماع ما يقول، الا انها صرخت ببكاء:.

ايه اللي عملته! بتلومني اني خليتك تدافع عن شرف امك وتاخد بتارها يا أيان!
نهض عن الاريكة ليجيبها بكل ذرة غضب كبتها بداخله لاعوام:
لا، مبلمكيش على جريمة ارتكبتها ووقع فيها نسل الدهاشنة والمغازية، انا بلومك على تربيتك ليا وزرعك جوايا انتقام مرضي من بنت بريئة، بلومك انك مقولتليش انتقم من فهد وابنه وانا عيني في عينهم مش اضربهم في ضهرهم وانتقامي بالنهاية كان في واحدة ست..
قالت باستنكارٍ:.

واللي ماتت دي مش واحدة ست، مش امك وليها حق عليك..
اقترب حتى صار يقف أمامها، فظهر السخط والاستحقار لها بين حدقتيه كسطوع الشمس:
ليها حق، بس لما يتأخد صح كنت هحس بالارتياح مش بالظلم والقرف اللي بحس بيه كل ثانية بشوف روجينا واقفة فيه قدامي، وكل ده بسببك انتي ودلوقتي عشان عارفة اني هقف قدامك زي دلوقتي وهلومك على قتلك لابني بتفكري برضه ازاي تملي دماغي ضد فهد وابنه وانتي اللي ورا كل ده!

انهارت باكية، وسقطت اسفل قدمبه فقبلت يديه وهي تتوسل قائلة:
والله العظيم معملت في بنتي كده، بنتي اتخطفت يا ايان وقدام عيوني، اني مش بكدب، في عربية سدت علينا الطريق واني كنت بوصلها للمطار وخطفوها مني معرفتش احصلهم ولا حتى انجدها، ابوس ايدك يا ولدي انجدها وانجد شرفنا، متخليش اللي حصل لخيتي يحصل لبنتي..
منحها نظرة ساخطة اتبعتها قوله الذي صفعها:.

واشمعنا روجينا قبلتي عليها كده! محطتيش في دماغك ليه ان كما تدين تدان..
ابتلعت ريقها بصعوبةٍ، وهي تحاول ايجاد الكلمات المناسبة لقولها:
بس هي تستحق لان جدها هو اللي بدا وعمل كده في خيتي..
بنفس الابتسامة المؤلمة اجابها:
يبقى بنتك تستحق هي كمان عشان انا عملت كده في بنتهم.
صرخت بجنون:
لا بنتي لا محدش هيمسها بسوء ساااامع..

تركها تبكي وتصرخ وغادر للمشفى مرة اخرى، ولكنه لم يقف مكتوف الايدي فبالنهاية هي شقيقته ولن يرضى أن يمسها السوء، فقد امره رجاله بالبحث عنها، ومعرفة الخائن الذي فعلها.

انتباهه دهشة حينما استرد وعيه، فلم يشعر بأي ألمًا قد يشعر به شخصًا خضع لتو لجراحة خطيرة، فحاول جاهدًا ان يرفع اللاصق الطبي عنه ليرى ما أسفله ولكن لم يسمح له الطبيب بذلك، وفي تلك اللحظة دخلت تسنيم و رواية وعدد من افراد العائلة...

فكانت فرصة عظيمة لأيان ليسرع باجراءات نقلها من المشفى، لانه خشى أن تتوطد العلاقات بينهما، فيمنعوه من رؤيتها، حتى وان كانت مازالت على عصمته، لذا نقلها بحرص بسيارة مجهزة على أعلى مستوى، لينقلها للسرايا دون أن يشعر به أحدًا، فجن جنون رواية حينما عادت لغرفتها فاسرعت لغرفة آسر لتخبره بانهيار: .
أختك مش في الاوضة يا آسر!
رد عليها عمر بحزنٍ:.

وانتي كنتي متوقعة أيه يا رواية، أكيد الحيوان ده مش هيديها الفرصة انها تكون بينا..
جلست على المقعد باهمالٍ وهي تردد بانكسار:
بس أنا ملحقتش اطمن عليها، دي لسه حتى مفاقتش..
نهض آسر عن الفراش في وسط دهشة من الجميع، ثم اقترب منها ليضمها اليه وهو يهمس لها:
الدكتور طمنا عليها واكيد هتبقى احسن.
رفعت وجهها اليه ثم قالت:
بس اكيد هيرجع يأذيها تاني.
هز رأسه نافيًا:
مكنش جابها هنا ولا جالنا لحد البيت عشانها..

قال أحمد هو الاخر:
آسر بيتكلم صح، البني آدم ده تفكيره غريب بس معتقدش انه ممكن يأذيها..
أشار عمر لبدر وأحمد:
جهزوا العربيات عشان هنتحرك على البيت..
خرجوا معًا ليستعدوا للعودة للسرايا مجددًا.

كان عودة روجينا للسرايا ضربة قاتلة لفاتن الممزق قلبها قلقًا على ابنتها، وشكوكها تجاه فهد وعائلته كانت مؤكدة بجنون، رأته يحملها بين ذراعيه ويصعد بها الدرج للأعلى، فمرت اولى ذكرى لدخولها، فقد القت اول مرة اسفل قدميها والآن تصعد لجناحها محمولة بكل عزة بين ذراع زوجها..

وضعها أيان على الفراش بحرصٍ شديد، ثم ترك الأطباء الذين التفوا من حولها، ليضعوها على الاجهزة، ثم اقترب منهم احدًا وهو يدفع الكرسي المتحرك ليقدمه اليه، فضيق عينيه وهو يتساءل بذهولٍ:
ده لأيه هي مش العملية نجحت وانت قولت انها بخير!
أومأ برأسه، ثم أجابه قائلًا:
أيوه بس هي لازم تفضل فترة متتحركش كتير فالكرسي ده هيساعدها انها متملش من السرير، لكن هي وضعها كويس وشوية وهتفوق بإذن الله.

هز رأسه بتفهمٍ، ثم أخرج من جيب سترته السوداء مبلغ ضخم ليقدمه اليه، وأشار لهم الحارس بتتبعه حتى يخرج من السرايا باكملها، وفور عودته سأله أيان باهتمامٍ:
مقدروتش توصلوا لحاجة؟
أجابه الحارس:
لا يا باشا بس فعلا لما سألنا في المكان اللي قالت عليه الهانم ناس قالتلنا ان في عربية خطفت بنت بتفس التفاصيل اللي هي حكيتها..
كز على اسنانه بغضبٍ:.

والمفروض انك هتسمع لكلام الناس ومش هتتحرك، انت لازم تلاقيها في اقرب وقت سامعني..
هز رأسه في طاعة، ثم غادر سريعًا ليحاول الوصول لأي خيطًا قد يوصله للحقيقة، زفر أيان بضيقٍ مما يجتابه من قلقًا عليها، ولكنه انتصب بوقفته بفرحة حينما وجد روجينا تحرك رأسها يمينًا ويسارًا في محاولةٍ لاسترداد وعيها، على صوت اضطراب تنفسها، وهي تجاهد لان يخرج صوته ويكون مسموعًا فقالت والدمع حليفها:
ماما، آسر، سامحوني..

صوتًا سمعه أيان بوضوحٍ، فمسك يدها واصابعه تتحرك برفقٍ على أصابعها، شعرت روجينا بالدفء فظنت بأنها لم تتوهم وجود أهلها لجوارها، لذا فتحت عينيها والابتسامة مرسومة على وجهها، فانتزعها واقعها منها حينما وجدته هو من يجلس جوارها، جابت بعينيها الغرفة وهي تردد بصدمة:
لا، انا واثقة اني سمعت صوت آسر وهو بيكلمني، وكنت حاسة بماما جنبي طول الوقت مستحيل يكون ده وهم، لا ماما كانت جنبي وكانت بتكلمني على طول..

ربت أيان على يدها ثم قال:
لا مش وهم، فعلا مامتك كانت جانبك وتحنا في المستشفى..
تطلعت تجاه الباب وهي تتساءل بلهفة:
طب هي راحت فين؟
أجابها بهدوءٍ:
رجعت بيتها واحنا كمان رجعنا لبيتنا..
بكت بانهيار وهي تردد بضعف:
لا انا عايزاها جنبي، انا عايزة امشي من هنا عايزة ارجع معاهم، انا مش عايزة اقعد هنا..

انتباها جنون وهي تحاول النهوض، ولكن سرعان ما صرخت ألمًا لما تشعر به، حاول أيان تهدئتها ولكنها لم تهدأ الا حينما اخترق محقن الممرضة يدها لتنغمس بنومٍ اجباري، ولسانها مازال يردد باسم شقيقها ووالدتها..

عودة ماسة سالمة للسرايا كانت فرحة ازاحت حزن كان مازال بداخل كل فرد، كان الجميع يزورها بغرفتها، وبالاخص حور وتسنيم التي كونت صداقة لطيفة معها، ولكن الغير مفهوم للجميع غياب فهد الذي برره سليم بأنه سافر للاقصر واسوان ليتابع أخر التطورات بنفسه، ومر يومًا واتبعه الأخر حتى اتقضى اسبوعين متتالين، لم يعلم عنه أحدًا شيئًا، كل ذلك وآسر ينتابه شكوك عظيمة..

اما بسرايا المغازية، فكان الحال يعاكسهم تمامًا، انطفئت شعلة فاتن وباتت تترقب سماع خبر موت ابنتها، أما أيان فكان يعاني وهو يرى روجينا تكرهه أكثر من السابق وتمقت قربه منها، حتى وإن كان هو من يساعدها على التنقل بالمقعد المتحرك..

هبطت رواية للاسفل، فتعجبت حينما رأت حماتها تعد السفرة بذاتها، فاسرعت اليها ثم التقطت عنها طبق الجبن وهي تخبرها بدهشة:
بتعملي بنفسك يا ماما، طيب كنتي ناديلي وأنا كنت نزلت اعملك اللي عايزاه..
جذبت منها الطبق ثم قالت بابتسامة مشرقة وهي تضعه على المائدة:
لا محدش هيجهز فطور ضنايا غيري، اتوحشني جوي.
انكمشت تعابيرها وهي تتساءل بذهول:
مين!
قالت وهي ترتب الفطير الذي احضره لها الخادم:.

فهد ولدي، سليم رايح قالي انه رايح يجيبه..

توقف بها الزمان هنا، عند تلك الطاولة التي شهدت تقاسمهم كل شيء، الطعام والحب والحياة والروح، كل شيء تقاسماه ولكنها تراه الآن غير منصف بحقها، وحتى لم يهتم لما حدث مع ابنه وابنته واختار الهروب لعمله، حتى هي طوال تلك المدة لم تفكر به مثل السابق، فقد اتخذ ابنائها حيز كبير برأسها، وما زاد الامر سعادة معرفتها بحمل تسنيم، استدارت رواية للخروج للحديقة فتعلقت عينيها على من يقف أمامها بوجهًا منطفئ، وعابث، منحته نظرة حملت اللوم والعتاب قبل أن تمر من جواره لتتخطاه في سبيل الخروج، توقفت حينما قال بحزنٍ:.

مش هتسلمي عليا!
قالت دون ان تتطلع اليه:
مفيش حاجة تربطني بيك من اللحظة اللي قطعت صيلتك ببنتك واتخليت عنها..
وتركته وغادرت، تركت الخناجر تمزق أحشائه رغم وجعه السابق ومع ذلك ولج للداخل وجلس يتناول طعامه بصحبة والدته، راسمًا لابتسامة باهتة، ظلت على وجهه حتى صعد لغرفته، وحينما كاد باغلاق بابها وجد ابنه يقف أمامه ليسد عليه بابه، فولج ليغلقه هو من خلفه ثم تطلع له بنظرة مطولة صامتة، فتساءل فهد باستغراب:.

مالك واقف مبلم اكده!
كسر قاعدة صمته حينما قال بثباتٍ:
أنت غامض ومش مفهوم لكل اللي هنا الا أنا..
توترت نظراته تجاهه، فاتجه للمرآة ثم ادعى انشغاله بخلع ملابسه وهو يردد:
قصدك أيه؟
لحقه آسر ثم قال:
قصدي حضرتك فاهمه كويس، بس اللي انا مش قادر افهمه ليه، ليه تتفق مع الدكتور ان محدش يعرف انك انت اللي اتبرعتلها مع ان ده كان ممكن يحسن علاقتك مع ماما كتير!

جحظت عينيه حينما انكشف امره، فاستدار اليه وهو يتساءل بصدمة:
انت جبت الكلام ده منين، انا معملتش حاجة.
ابتسم وهو يقول:
بابا انا كنت حاسس بيك طول الوقت، حاسس بوجعك وحزنك لما عرفت باللي حصلها، ولما فوقت اتاكدت انك انت اللي اتبرعتلها مش انا..
تطلع له مطولا قبل ان يقول:
مينفعش يا ولدي تعمل حاجة زي دي وابوك عايش، اني راحت عليا خلاص لكن انت مستقبل الدهاشنة كله.
اقترب آسر منه ثم قال بحزن:
طيب ليه مقولتليش..

ابتسم وهو يجيبه: .
لاني خابرك زين، عنيد ودماغك ناشفة زي ابوك مش هترضى اني اكون بدالك..
ثم رفع يديه امام وجه ابنه وهو يردد بقسوة:
بس ده ميمنعش العداوة والكره اللي في قلبي ليها، قلبي لساته عضبان غليها وهيفضل اكده طول ماني عايش.

اخفى آسر ابتسامته على والده الذي يشبه في ذلك الموقف الطفل الذي يقسم بانه لن يتحدث مع ابيه حينما يقترف ذنبًا، وحينما يتحدث اليه يخبره بانه لن يفعل ذلك مجددا فمازال حزينًا، ترك كل تلك المخيلات من رأسه ثم قال:
طيب ليه معرفتناش كلنا وبالاخص ماما، خبر زي ده كان هيفرحها.
رد عليه بصرامة:
محدش عرف ولا هيعرف بالكلام ده لانك مش هتتكلم يا آسر، اني مش عايز حد يفكر اني سامحتها، غلطها كبير وميتغفرش..

كاد آسر بالحديث فاوقفه والده حينما قال:
مدامك عارف باللي بيا اخرج بقى وخليني ارتاح شوية والحديث نكمله بعدين..
ضحك وهو يشير اليه قائلًا:
حاضر هخرج..
وكاد بالخروج ولكنه توقف وعاد ليقف مقابله ثم انحنى ليطبع قبلة ممتتنة على كف يد أبيه الذي مسح على رأسه بحبٍ..

بمنزل مهران ..
كان يجلس بالخارج ويترقب عودة خادمه المخلص، فما أن عاد اليه حتى سأله باهتمام:
ها طمني عملت ايه؟
جلس على المقعد وهو يخبره بانفاسٍ لاهثة:
زي ما قولت بالظبط يا سيدي، دخلت لاسر بنفسي وقولتله عمك مهران عايز يشوفك ضروري في التو والحال...
لوي شفتيه بسخطٍ:
هيعمل زي كل مرة ومش هيجي..
قال الخادم بثقة:
لا المرادي اكدت عليه وقال جي..
ظهرت ابتسامة شيطانية على وجهه، ليهمس بمكرٍ:.

خليه يجي وبعديها قبره وقبر ابوه هيتفتح عليهم..
تساءل الخادم بفضول:
وانت هتستفاد من كل ده ايه يا سيدي..
رد عليه بابتسامة غرور:
غبي وعمرك ما هتفهم حاجة، بعد اللي اسر عمله عشان ينقذ اخته من الموت الدنيا هديت بينه وبين ابن المغازي وده مش في صالحنا لكن اللي اني هعمله دلوقت هينهي نسلهم خالص..

وقبل أن يطرح سؤالا اخر، أتى أحد الخدم ليبشره بوصول آسر الدهشان بالخارج، فنهض ليكن باستقباله بنفسه حينما قال بابتسامةٍ واسعة:
يا الف مرحب بابن الغالي..
جلس آسر على احد المقاعد، ثم قال بفتورٍ:
بقالك كام يوم طالب تشوفني، خير في أيه!
أتاه رده الخبيث يرفرف:
كل خير يا ولدي، انت عارف ان جدك الله يرحمه كان كيف شقيقي اللي مجبتوش أمي..
انتبابه الملل، فقال:.

عارف يا عمي، فمن فضلك خش في الموضوع على طول عشان صدقني مش فاضي..
كظم غيظة ورسم تلك الابتسامة التي تخفي كرهًا مخيف، ثم قال وهو ينهض عن مقعده ليدنو منه:
زي مانت عارف يا ولدي البلد دي مبيستخباش عنها حاجة، واللي حصل في فرح اختك الناس كلتها بتتكلم عنيه لحد اللحظة دي..
احتدت عينيه، ليتبعها نبرة صارمة:
محدش يجرأ يجيب سيرتنا في حاجة، واللي بيتكلم يوريني نفسه وأنا اقطعله لسانه.

جلس جواره وهو يخبره بكلمات تتلوى كالافعى:
لو مقلوش قدامك هيقولوا من وراك، عشان اكده لازمن يبقى في رادع، ورد قوي للمغازية على اللي عملوه عشان محدش منيهم يفكر يتعدى على حريمنا..
امتلأ رأسه بالشكوك، فآسر ذكي ولماح للغاية، لذا قال بحدة:
اوعى يكون لك يد في اللي حصل لبنتهم!

اتسعت ابتسامته الشيطانية، فغمز بعينيه لاحد رجاله الذي غاب عنه للدقائق ليعود بفتاة مقيد فمها ويدها، ثم القاها أسفل قدم آسر ، صعق آسر مما يراه، فوزع نظراته بين تلك المسكينة وبينه، فنهض مهران عن مقعده ليجذبها من شعرها وهو يقول:
أنت اللي هتعمل كده يا آسر، أنت اللي هتاخد حقك وحق اختك، لما تفضح الكلب ده زي ما عمل..

والقى الفتاة على الاريكة ثم اشار لرجاله، فاخرج منهما كاميرا وسلطها على تلك الفتاة، انصدم اسر حينما علم ما ينوي فعله ويتوقع انه من سيقوم بذلك، نهض عن مقعده ليقف مقابله وهو يردد بصدمة:
أنت عايزني انحط للمستوى ده!
ابتلع ريقه بتوترٍ، ولكنه حافظ على ابتسامته وهو يقول:
لو خايف عشان مرتك فاني عندي اللي يعملها.

وأشار لاحد رجاله، فأومأ برأسه واسرع اليها ليحاول تمزيق ثيابها أمام الكاميرا التي تسجل كل شيء، وقبل أن ينجح بخلع ثيابها كان رأسه يطقطق بين يد آسر الذي أعاد اليها ثيابها سريعًا ثم جذبها ليجعلها تقف أمام ظهره وهو يصيح بغضبٍ قاتم:
انت اتجننت، أي حد هيفكر يقربها هنيمه مكانه..

وجذبها بعيدًا عنهما ومازالت تبكي وعينيها تستغيث بذلك الرجل الشهم الذي خلصها من مصيرًا أسوء من الموت، اسرع اليه مهران ثم قال بذهول:
انت بتساعدها بعد اللي الكلب ده عمله فيك وفي اختك..
قابل جحيم نظراته ومن ثم صراخه الشرس:
أنت تخرس خاااالص، حسابك تقل أوي يا مهران ومحدش هيقفلك غيري..
ردد بصعوبة بالغة بالحديث:
مهران اكده حاف من غير عمي هو ده الاحترام يابن الاصول!
انطلق صوته يجلد خوفه الذي يرتعد:.

مفيش احترام لواحد زيك واوعى تنزل نفسك وتنسى اني بعد ابويا كلمتي مسموعة عليك وعلى الكل، ومن غير ده انا لو طلعت من هنا وقولت لكبيرنا وكبيرك اللي انت كنت بتعمله من ورا دهره عقابك وقتها هيبقى اسوء من الموت الف مرة، واوعدك ان محدش هيحقق فيك العقوبة غيري لانك تستحقها..
وأمسك بيد من تتشبث به ثم قال وعينيه تجابهه بقوة لا تتناسب مع شابًا مازال عمره لم يتعدى الثلاثون!

انا هخرج من هنا وهي معايا وهترجع بيتها معززة مكرمة ولو شايف نفسك انت ورجالتك تقدروا توقفوني اعملها وتبقى انت الجاني على روحك.

انقطع الهواء عنه وهو يراه يخرج بها دون أن يعبئ بأحدًا، يعلم بانه ان خرج حيًا سيشعل نهايته حينما يخبر ابيه بما حدث هنا ولكن لم يمتلك الجراءة لايقافه، حتى رجاله اهتزوا ضعفًا أمام شجاعة هذا الشاب، خرج بها آسر ولم يفكر للحظة ان يستغلها لأجل ثأره، خرج ليتجه بسيارته الى سرايا اعدائه، دون خوف بدخوله لذلك الوقر الممتلئ بالمخاطر، وجذبها للداخل حتى بات يقف مقابل أيان المغازي، الذي وزع نظراته بينه وبين شقيقته بذهولٍ، والصمت حليفهما الى ان مزقه صوت فاتن الذي يأتي من الخلف وهي تردد بفرحةٍ:.

ناهد بنتي..
هرعت الفتاة لاحضان والدتها، فانهارت بقهرٍ لما كان سيحدث لها، اشتعلت مقلتي فاتن وهي تتطلع لمن يقف أمامه، فقالت بعصبية وكره:
جالك كلامي يا ولدي، مش قولتلك ان فهد وابنه ورا كل اللي، حصل..
تركتها ناهد واسرعت لتقف جوار اخيها الذي يقف مقابله صامتًا:.

لا يا أيان آسر هو اللي انقذني من المكان الغريب اللي كنت فيه، الشخص اللي خطفني كان عايز يعمل معايا زي ما انت عملت مع روجينا بس هو مرضاش بكده وخرجني من هناك..

كانت صدمة لفاتن ولكنها لم تكن كذلك بالنسبة لايان، فبات على علمٍ كافي برجولة هذا الشخص الذي يقف من امامه، لم ينبس شفة لكل منهما، يتبادلان النظرات الصامتة وكل منهما يجري بداخله شكوك حول عداوتهم، وبالأخص ما حدث الآن، هناك من يرغب في ان تستمر عداوتهم، كسر صوت آسر الرجولي بلور الصمت الزجاجي حينما قال:
أختك عندك وسليمة، والغلط من عندنا بس بره بيت فهد الدهشان..

وتركه واستدار ليغادر ولكنه قبل أن يخطو خطوة واحدة تفاجئ بيد تتمسك بيديه، فالتفت ليجدها تجلس على الكرسي المتحرك وتتشبث بيديه، اهتز جسده بارتباكٍ وهو يراها تتطالعه بعينين تترقرق بالدموع، وصوت يتوسل اليه:
خدني معاك، متسبنيش هنا..
لمعت عينه بالدمع، فمن تلك الفتاة التي يشعر بانه يراها لاول مرة، هل حقًا تلك شقيقته العنيدة، اطبقت بيدها بقوة على يديه وكأنها تخشى ان يغادر دون ان يأخذها معه ثم قالت ببكاء:.

أنا عارفة انك تقدر تقف قدام بابا، عشان خاطري خدني معاك..

اخترقت كلماتها قلبه، فلم يسأل لاي شيء وانحنى ليحملها عن المقعد المتحرك ثم منح نظرة قاتمة للحارس الذي يقف من أمامه، ولكنه تنحى جانبًا حينما أشار له سيده بذلك، كانت صدمة لفاتن بسماح أيان لها بالذهاب، صدمة حتى لايان نفسه ولكنه لن يرغب في رؤيتها تعاني مجددًا، تركها لعلها تعود لتتفتح من جديد، فهنا لجواره تساقطت اوراقها وزبلت، فما اروع تلك البيئة النضرة التي تعيش بها بين أب كأبيها وأخًا كالآسر...

الفصل التالي
جميع الفصول
روايات الكاتب
روايات مشابهة