قصص و روايات - روايات صعيدية :

رواية وخفق القلب عشقا (الدهاشنة 3) للكاتبة آية محمد رفعت الفصل السابع عشر

رواية وخفق القلب عشقا (الدهاشنة 3) للكاتبة آية محمد رفعت الفصل السابع عشر

رواية وخفق القلب عشقا (الدهاشنة 3) للكاتبة آية محمد رفعت الفصل السابع عشر

انفجار السيارة كان مخيفًا، فأحرقتها ألهبة النيران ونهشتها كالوحش المفترس الذي يتلذذ بأخر قطعة من ضحاياه، وبالرغم من ثبات آسر الإنفعالي، الا أنه كان يضمر من وراء ذاك الحادث المدبر إليه، وخاصة بعد تلقيه تلك المكالمة التي كشفت له المدبر، ومع ذلك كان صامدًا حتى لا يكشف آيان ما يفكر به، بل سحب هاتفه وهو يردد بصرامةٍ:
خلي حد من الرجالة يبعتلي عربية بالمكان اللي هبعتلك موقعه.

وأغلق هاتفه ثم استدار بجسده كليًا تجاه آيان الشارد، فظل الصمت حليفه لأكثر من ثلاثون دقيقة، يحاول بها التغلب على شكوكه حول هوية المجرم الذي ارتكب ذاك الحادث الدنيء، فما أن انتهى من جداله البطيء حتى اتجه ناحية آسر الجالس على أحد الأحجار القريبة من سيارته التي باتت خردة بالية، ثم قال بنظرة دفن بها الشك:
أنت عرفت منين أن العربية فيها قنبلة؟
قرص أنفه وهو يحاول ايجاد ما سيقول:
حسيت مش أكتر..

ضيق الاخير حاجبيه ساخرًا من إجابته الغير منطقية بالمرة، فزفر آسر بمللٍ ثم قال:
بنت خالتك اللي قالتلي..
هز رأسه والشرار يتطاير من عينيه بشكلٍ مقبض:
كده اللي في دماغي صح.
واتجه مسرعًا تجاه الطريق السريع، وعينيه تراقب أي سيارة أجرة قد تنقله للمكان الذي يود الذهاب إليه، فلحق به آسر راكضًا، ثم قال بتعصبٍ:
ممكن تفهمني أنت رايح على فين دلوقتي؟

تجاهله ومازال يراقب الطريق، فدفعه آسر بقوة جيده الجسمانية وهو يردد بضيقٍ:
اللي بتفكر فيه ده مش صحيح، خالتك مش ورا اللي حصل هنا ده، حكم عقلك وبلاش تكون متسرع.
ابتسم وهو يجيبه بسخريةٍ:
أمال مين اللي له مصلحة في اللي حصل غيرها؟
قال بدهاءٍ لم يكتسبه من العدم:.

خالتك مش غبية عشان تلعب لعبة ساذجة زي دي وهي متأكدة أنها بكده هتخسرك وكمان مش هتجازف وهي عارفة انك وارد تركب معايا، الموضوع أكبر منها، وأعتقد الإجابة عند ناهد..

لم يؤثر تحليل آسر المنطقي به، ربما لأنه لم يرى منها الا السوء والشر الذي تضمره لعائلة فهد الدهشان وبالأخص آسر، لذا ظل صامتًا والنيران تتمكن منه فتحرق ما تقابلها وتزيد أحطبة الغضب والحقد والاندفاع بداخله، وفي ذلك الوقت وصلت السيارة التي طلبها آسر، فاستغل آيان الفرصة وقبل أن يصعد آسر لمقعد القيادة صعد هو، فجلس آسر جواره ثم قال بيأسٍ وهو يتأمل الطريق الذي يسلكه:
مفيش فايدة فيك!

أتاه ردًا عنيف يسرب له ما يشعر به بتلك اللحظة:
هي أو غيرها أي كان اللي عمل كده لازم يتحاسب يا آسر، أنا مش هسمح أن العداوة تقوم بين العيلتين لأي سبب من الأسباب، لإني واحد من اللي دفعوا التمن ومرضاش لحد يعيش اللي أنا عشته..
إنصاع إليه آسر، ثم راقب الطريق بصمتٍ تام وهو يعلم بكناية المجرم الذي يجهله آيان، فربما ان تمكن هو من كشفه ومعاقبته أفضل من أن يعاقبه آسر بنفسه..

خرجت ماسة من غرفة العمليات، وحينما وصل سريرها المتحرك أمام الغرفة التي ستقيم بها، حملها يحيى ثم وضعها على الفراش، ومن ثم انحنى بجسده تجاهها، هامسًا بقلقٍ:
أحسن دلوقتي ولا لسه حاسة بوجع؟
فتحت عينيها اللامعة بالدموعٍ، ثم قالت بوجعٍ:
مش عارفة يا يحيى، بس في وجع رهيب في بطني، شكل البنج اللي أخدته معتش مأثر..
فرك يدها بحنانٍ ثم قال:
طب إهدي وأنا هخلي الممرضة تديلك المسكن اللي قالت عليه جوه..

أومأت برأسها بخفةٍ، فاتجه يحيى للخروج من الغرفة، فاوقفته حينما نادته بلهفةٍ:
عايزة أشوف تيم يا يحيى.
استدار تجاهها بدهشةٍ ثم ردد بحاجبي معقودان:
تيم!
كانت لحظة مربكة لحواسه، ليدرك هوية ذاك الضيف الجديد الذي زاد عدد عائلته الصغيرة، ارتسمت على شفتيه ابتسامة جدابة، ثم قال:
حاضر هشوف سي تيم ده فين وهجبهولك..
ابتسمت على كلماته المازحة لها، ثم ترقبت عودته بصبرٍ طال بها لتلك السنوات..
بالخارج..

اتجه يحيى للرواق الجانبي حيث كان يستقل أركانه أفراد عائلته، فخفق قلبه اضطرابًا حينما وجد والدته تحمل صغيره بين يدها، كاد بأن يصل إليها ولكن عمر أوقفه حينما أمسك بكتفيه وهو يتساءل بلهفةٍ:
طمني يا يحيى، ماسة كويسة؟
رد عليه ومازالت عينيه متعلقة بالصغير المختبئ خلف البطانية الصغيرة:
الحمد لله يا خالو، نقلوها من الباب اللي ورا لأوضتها.
ردد بفرحةٍ:
الحمد لله..

كاد بالانسحاب لوجهته المشوقة، فاوقفه والده جاسم تلك المرة حينما احتضنه وهو يهمس له بسعادة:
مبارك ما جالك يا ولدي، ربنا يجعله ذرية صالحة وبار بيك وبمرتك.
تعلق به بابتسامةٍ واسعة:
يا رب يا بابا يارب.
انتبهوا جميعًا لصوت فهد ونبرته التي يعظمها الضيق الشديد:
كفياكم عاد، وهملوا الواد يشيل ابنه ويشبع منيه، اتجمعتوا حوليه كيف الفريق!

تعالت الضحكات فيما بينهما، فتنحوا جانبًا ليلحق كلا منهما فهد الذي اتجه للخروج من المشفى ليعود للسرايا التي بحاجة لمتابعة حازمة منه، فما أن سمحوا له بالعبور، فاتجه لوالدته سريعًا وقبل أن يحمل صغيره أتى أحدًا من خلفه ثم انتشله من بين يد نواره ليتأمله بحبٍ وفرحة سرت لتنير وجهه، فعنفته ريم قائلة:
أحمد وبعدهالك ادي الواد لابوه..
هز رأسه نافيًا:.

لا مش قبل ما أشيله أنا الأول، عشان يتربى بعد اللي عمله معايا الصبح..
ضحكت حور ثم قالت:
ميبقاش قلبك أسود يابوحميد.
أجابها باستنكارٍ:
ده كحلي مش أسود، هي كلمة محدش هيشيل الواد غيري..
وطبع قبلات متفرقة على وجه الصغير وهو يردد بحبٍ:
مش كده يا حبيبي، اتكلم ياض وقولهم أنا مرتاح كده.

تعلق أحمد بالصغير لم يغضب يحيى، وعلى الرغم من تأكده بأنه يشاكسه كالمعتاد الا أنه كان سعيد بتعلق أحمد بالصغير، فحبه وما يكنه من معزة خاصة كان واضحًا على تعابير وجهه، لذا ربت على كتفيه وهو يردد ببسمةٍ هادئة:
عقبال ما نفرح بابنك يا أحمد.
منحه أحمد ابتسامة صافية، ثم قال:
يا ررب، وتكون بنوتة عسولة كده عشان يبقى عندي ولد وبنت..

وكان يشير على الصغير، ثم اقترب ليضعه بين يد يحيى الذي حمله بحنانٍ، فتعلقت عينيه على تفاصيل وجهه الصغير، فلمعت بدمعٍ يحفه الفرح والاطمئنان لوجوده بين يديه أخيرًا، ثم انسحب به تجاه غرفتها، فما أن فتح بابها حتى حاولت ماسة الاستقامة بجلستها التي بدت غير مريحة لها، فتأوهت من الألم الذي ضربها بقوةٍ، لذا مر أحمد من خلفه ثم عاونها على الاستقامة بجلستها لتتمكن من حمل الصغير من يحيى الذي يقدمه لها، فحاولت ماسة حمله، ولكنها شعرت بأنها لن تقوى على رفعه وضمه لصدرها بالرغم من أنه يشبه عقلة الإصبع بالنسبة لها!

ربما قيدتها الفرحة، أو ازداد ارتباكها فور رؤياه، فبالنهاية ما مرت به ليس سهلًا بالمرة، لذا كان على يحيى أن يقدم مساعدة أخرى صغيرة، محببة لقلبه، لذا حمله وقربه من أحضانها ومازالت يديه أسفله، فوزعت نظراتها بينه وبين الصغير ثم همست بصوتٍ باكي:
ابني!، ربنا عوضنا يا يحيى.
لف ذراعيه حولها، فضمها اليه وهو يجيبها بحبٍ:.

الحمد لله يا ماستي، قولتلك قبل كده هنتجمع تاني حتى لو واجهنا عواقب العالم كله هيجي اليوم اللي هنرجع فيه مع بعض من تاني...
اشتاقت لسماع كلمته المفضلة لها، فكان على الدوام يخبرها بأنها ماسته الخاصة، ألقت بثقل رأسها على كتفيه ثم ذهبت بسباتٍ بعد ارهاق وشقاء، وإي راحة ستشعر بها وابنها بين احضانها وزوجها لجوارها!

بسرايا المغازية
صف آيان السيارة باهمالٍ، متعمدًا تجاهل البواب الذي أسرع تجاهه بالترحاب بقدومه بعد فترة من الغيابٍ الملحوظ، اندفع بخطواته السريعة للداخل، باحثًا بعينيه عنها، وبالفعل اهتدت نظراته على ركنها المحبب لقلبها، والذي بات ظلمته بغيابه تجلد روحها بلا رحمة، اقترب ليقف خلفها وبصوتٍ مختنق بالعواصف قال:
منتظرة تسمعي خبر مين فينا، خبري ولا خبر ابن فهد؟

فتحت عينيها على مصراعها حينما استمعت لصوته، فنهضت عن مقعدها ثم أسرعت إليه لتلقي نظرة متفحصة على جسده بأكمله وهي تردد بقلقٍ:
آيان حبيبي أنت كويس، طمني؟
لمستها لوجهه جعلته يشعر بالنفور منها، فتراجع للخلف بضعة خطوات وهو يصيح بغضبٍ:
متلمسنيش، كان لازم من أخر مرة اتكلمنا فيها افهم أنتي بتفكري ازاي، وبالرغم من اني كلمتك بمنتهى الاحترام الا أن مفهوم كلامي موصلكيش ويمكن دلوقتي يوصلك كويس..

واستطرد بنبرة أشد قسوة:
نسيتي انك متملكيش حاجة وكل اللي الخير اللي أنتي عايشة فيه ده ملكي أنا، اعتبرتك زي أمي وسلمتك كل حاجة، ولحد النهاردة كنت في صفك وبدعمك في كل خطوة بتخطيها حتى وأنا عارف إنها غلط بس خلاص مش هسمحلك تدمري كل اللي أنا بنيته، سامعاني مش هسمحلك تدمري العلاقة اللي تعبت عشان أقويها، ومن النهاردة إنتي بره كل حاجة وأولهم السرايا دي.

ترقرقت الدموع من عينيها المحطمة، وجسدها بدأ يترنح من فرط كلماته القاسية، فسمح آسر لنفسه بالاقتراب، منح ذاته إذن التدخل، فببدأ الأمر كان يقف على باب المنزل رافضًا اقتحام خصوصياته، ولكنه رجل والرجل يأبى رؤية امرأة مسنة تهان حتى وإن كانت في موضع شك، لذا اقترب حتى وقف مقابله، ثم قال بصرامة وحدة:
أنت كده عاقبتها ولا بتعاقب نفسك، على الأقل اديها فرصة تدافع عن نفسها وتتكلم!

لوى فمه بتهكمٍ وهو يجيبه ساخرًا:
هتدافع وتقول أيه، مبقاش عندها اللي تقوله.
رد عليه آسر بثباتٍ وتصميم بأن ما يقول هو الصائب:
مش صحيح، اللي بيلعب ده بيلعب على تقيل ومستحيل تكون هي، وقولتلك قبل كده اجابتك مش عند خالتك لأنها هتتستر على اللي عمل كده لأنه بالنهاية من دمها.

توترت نظرات فاتن المعلقة عليه، فسماعها لما قاله آسر كان مربك، وكأنه يفكك ما تخفيه حتى لا تزداد أمور عائلتها سوءًا، فأتاه الرد يزف من أعلى الدرج حينما هبطت ناهد ابنتها، تخبره بدموعٍ تسبق حديثها:
كلام آسر مظبوط يا آيان، ماما هي اللي طلبت مني أكلم آسر وأنبهه ميركبش عربيته لانها عرفت بالمخطط اللي آآ..
بترت كلماتها حينما صعدت فاتن أول درجات الدرج وهي تصيح بها بتحذيرٍ:
ناهد.

اكملت حديثها متجاهلة نظرات والدتها الغاضبة:
مش هسكت وأسيبك تدفعي التمن يا ماما..
ثم التفت برأسها تجاه آيان لتستكمل بكره لكناية الشخص الذي ستخبره عنه:
خالو هاشم هو اللي ورا اللي حصل ده يا آيان..
عقد حاجبيه بدهشةٍ:
خالي!، طب ليه؟
جلست فاتن على الدرج، ووضعت يدها معًا فوق رأسها لتدافع عما يمزقها من صداعٍ يستنزف طاقتها الهزيلة، فدنا منها آيان ثم ردد بعدم استيعاب:.

صدقيني لو كنتي تعرفي حاجة أو بتداري عليه هتخسريني وللأبد، احكيلي اللي تعرفيه.
مضمون رسالته كان لأثره وجعًا خفق داخل صدرها، فقررت التشبث بأخر فرصة منحها لها، ربما لأن خسارتها تلك المرة ليست هينة، فخسارة فلذة كبدها موجعة كتمني موتة رحيمة في وسط صحراء قاحلة لا زرع بها ولا مياه، لذا شرعت بقص لقائها بأخيها في صباح هذا اليوم لتلقي على مسمعه كل حرفًا خرج على لسانه، وكأنه مازال يجلس أمامها..
##.

كانت تجلس على الأريكة الخشبية القريبة من الشرفة الجانبية، تتابع قهوتها باهتمامٍ حتى لا تفور على السبرتاية الصغيرة، فانتبهت للخادم الذي يدنو منها ليخبرها بوصول أخيها هاشم، فنهضت تهندم جلبابها سريعًا وهي ترحب به بابتسامةٍ واسعة:
يا مرحب ياخوي، اتفضل اقعد..

جلس هاشم على المقعد المقابل لها ثم استند بنصف جسده العلوي على عصاه الخشبية، وعينيه ترمقها بنظرةٍ محتقنة، تفهمتها فاتن جيدًا، فأجلت أحبالها المقطوعة حينما قالت:
بقالك كتير مبتجيش اهنه، زعلان مني في حاجة ولا أيه؟
أتاها رده المستنكر لسؤالها الغريب:
وه، بعد كل اللي ابن اختك عمله وبتساليني زعلان من أيه!، هتضحكي عليا ولا على روحك يابنت أبوي، أزاي تهمليه يحط يده في يد اللي جتل أمه وحط راسنا بالطين!

ابتلعت ريقها بارتباكٍ، بينما استرسل هو:
ومش بس اكده، لا كمان سايباه يخدم عليهم هناك ومش بس كده لا ده كمان بيساعدهم بفلوسه ورجالته..
وطرق العصا بالارض وهو يردد بعصبية:
كبير المغازية لو ضعيف للدرجادي يبقى مينفعش انه يكون كبيرنا، وقبل ما أسمع الحديت ده من حد كان لازمن اتخلص من اللي بيوزه على كل ده..
تساءلت بدهشةٍ:
تقصد مين؟
قال والحقد يتبع اجابته الوضيعة:.

واد فهد الدهشان، هو اللي بيملي رأسه عشان كده اني دبرتله موتة تليق بدماغه السم..
انتصبت فاتن بوقفتها، لتصرخ بصدمة:
عملت أيه يا هاشم؟
أعدل من عمته ثم رد عليها بشرٍ قد سكن حدقتيه ليجعلها مخيفة للغاية:
هتخلص منه ودلوقت، زرعتله قنبلة في عربيته مش هيقوم منها تاني..

ارتعبت معالمها فور سماعها لمخطط أخيها، بالطبع لم تكن أقل منه كرهًا واحتقانًا لفهد وعائلته، ولكن النيران التي تأججت بداخلها هدأت بعد انكشاف الحقيقة وخاصة بعد أخر مقابلة جمعتها بآيان.
منحها أخيها بسمة شيطانية تتبعها قوله بعنجهيةٍ:
اقعدي واستني موت ابن فهد بفارغ الصبر، عشان تعرفي ان خيك بيحققلك اللي كان نفسك فيه..

وتركها وغادر ومازالت تجابه صراع غير منصف لأعصابها، لذا هرولت سريعًا لغرفة ابنتها وطلبت منها أن تتصل هاتفيًا بآسر وتمنعه بشتى الطرق من الصعود للسيارة..
وفور انتهاء فاتن من قص ما حدث، التهبت أنفاسه الساخطة عليه، فكور يديه بقوةٍ جعلتها تبيض من فرط ضغطه الشديد عليها ثم صاح بصوت كالبرق:
نعمااان...
أسرع للداخل فور سماع نداء كبيره، فأمره آيان بصرامةٍ:
تروح بيت خالي ومترجعش غير، وهو في ايدك، فاهم؟

أومأ برأسه بتأكيدٍ:
حالا.
وبالفعل اختفى الرجل من أمام أعينه، فاتجه آيان تجاه آسر ثم قال بثباتٍ لا ينذر بما داخله:
كان عندك حق، اللعبة كبيرة عليها.

بالمشفى..
قضت ماسة الساعات الاخيرة بالمشفى تحت الملاحظة، وحينما اطمئنت الطبيبة عليها بشكلٍ كلي، سمح لها بالمغادرة، لذا استعدوا جميعًا للمغادرة، فحمل أحمد الصغير، وحمل يحيى ماسة، فما أن وصلت السيارات للمندارة، حتى امتلأت الغرفة التي وضع بها أحمد الصغير بالشباب، وكلا منهما يتصارع لحمل ذاك الصغير..

بسرايا المغازية.
وصل هاشم للسرايا بصحبة رجال آيان، فما أن ولج للداخل حتى سيطرت الصدمة على معالمه حينما رأى آسر يقف مقابله، ومع ذلك حاول التغلب على انفعالاته حتى لا يفتضح أمره، فوجه حديثه لابن شقيقته:
خير يا ولدي، باعت ورايا ليه؟
ارتسمت على زواية شفتيه ابتسامة ماكرة، فحك ذقنه بحيرةٍ:
اللي يسمعك يصدقك، بس اللي عاشرك وعارف طباعك مستحيل يعدي عليه اللي بتعمله ده..
بحدة تساءل:
قصدك أيه يابن ناهد؟

صاح بنبرةٍ غليظة أفزعت من يقف أمامه:
اسمي آيان المغازي، نسبي لابويا وأبقى كبيرك وكبير عيلتك كلها..
ضيق عينيه باستنكارٍ:
قوام اكده نسيت أمك، وأني هستغرب ليه مانت روحت ونمت في احضان اللي جتلوها ولطخوا شرفها..
تمرد الوحش عن صمته المطول، فخرج من بقعته الآمنة ليصيح به بانفعالٍ:.

اخرس، الرجولة اللي ناقحة عليك دي دي لو كنت تعبت نفسك زي تعبها ودورت كنت وصلت للي عمل كده، حتى لو كان من نسلنا كنا هنعرف نجيب حقك وأنت عارف كده كويس..
لم يمنع آيان آسر من استكمال حديثه، بل تركه يدافع عن عائلته، فربما الفترة التي قضاها بينهم جعلته يعلم بأن حديث السوء عنهما كأنك اشعلت فتيل عاصفة مختبئة خلف حاجز من زجاجٍ!
احتبس هاشم غيظه مطولًا، ولكنه لم يتمكن من السيطرة عليه طويلًا لذا صاح بهمجيةٍ:.

ليك عين تتحدت معايا وانت في وسط داري.
قاطعه آيان حينما قال:
الدار داره، آسر مش غريب عني..
ثم استكمل بنبرةٍ ساخرة:
هو انت متعرفش يا خال إنه يبقى نسيبي ولا أيه، وحاليًا بقى صديق وأخ يعني له هنا أكتر ما ليك، وبعدين انت سايب موضوعنا الاساسي وبتدور على الملاك!
بلل هاشم شفتيه بارتباكٍ، وخاصة حينما استطرد بحنقٍ:.

السؤال المهم هنا أنت كنت عايز تتخلص من مين فينا، أنا ولا آسر، ولا قررت تضرب عصفورين بقنبلة واحدة وتتخلص مننا سوا؟
تثاقلت أنفاسه، وبلل العرق جبينه من فرط توتره، فاستدار بوجهه تجاه شقيقته التي حكمت هذا البيت بقوةٍ وسيطرة كامنة، رأها تتحاشى التطلع له وكأنها تخبره بأنها فقدت كل شيء وأولهما التحكم بآيان، فدنى منه ثم قال بتريثٍ:
خليك معايا أحسن، لان للاسف محدش هينفعك..

ولف يديه حول كتفيه ثم قال بنبرة لم تفشل برسم الضحك على وجه آسر الذي يتابع ما يحدث بصمتٍ:
أنت غلطت يا خال ولازمن تتعاقب دي عوايدنا وسرونا ولا أيه؟
ثم تركه وتقدم عنه بخطواتٍ سريعة ليصبح مقابله بنظرات جامدة زرعت الخوف بأعينه وخاصة حينما قال:.

من هنا ورايح السرايا دي متخطاهاش برجليك، والصلة اللي كنت بتتمنظر بيها دي فأنا بقطعها من النهاردة، كمان الأرض اللي أنا سايبهالك بمزاجي دي تبقى باسمي وتلزمني لا مواخذة، وأنت عاقل يا خال وعارف ان اللي بيلعب مع كبير عيلة من كبار الصعيد مصيره بيكون أيه، وأنت يا حبة عيني لعبت مع عيلتين مش عيلة واحدة..
وغمز بعينيه باستهزاءٍ:.

تحب فهد الدهشان يوصله خبر باللي كنت ناوي تعمله في ابنه ولا نختمها خاتمة حسنة تليق بهيبتك؟
ازدرد ريقه المبتور بصعوبة، فحمل ما تبعثر منه ثم كاد بالخروج من السرايا، ولكنه توقف حينما ناداه آيان مجددًا، ثم مد يديه اليه وعينيه تحيط بجيب جلبابه:
مفاتيح عربيتك الجديدة يا خال، يرضيك نخسر الناس عربياتهم ومندهمش تعويض دي حتى عيبة في حقنا..

كز على أسنانه بغضب عظيم، ومع ذلك انخضع له وأخرج المفتاح من جيب سرواله، فسحب آيان يديه ثم أشار بعينيه لآسر، فتقدم هاشم تجاهه ثم قدم له المفتاح، فتناوله منه آسر ثم قال بغموضٍ يتركز بثبات نظراته:
لاعب حد قدك يا هاشم، لان ضربة الشاب بتجيب الأرض وأنت كبرت ومش حمل بهدلة، سكاتي رحمة بيك لكن عقلك يخونك وتفكر تدبر أي خطط تانية مش هتخسر أملاكك بس، جازف واوعدك هتشوف بنفسك اللي هتخسره.

تحجرت عينيه التي تقابل نظرات من جحيم، نظرات اوقعته ضحية ذكريات جمعته بفهد الدهشان، شعر وكأنه من يقف أمامه وليس ابنه، انسحب بهدوءٍ والخوف يطرق أبوابه، فمن العاقل الذي سيتصدى لكبير الدهاشنة والمغازية؟!
فمن المؤكد بأنه سيخرج من تلك الحرب خاسرًا لا محالة...

خرج ذاك المتعجرف سيرًا على الأقدام بعدما فقد هيبته وكبريائه، خرج وقد تمكن من رؤية المحال، بعدما اتحد الشابين وكلاهما يشكلان مستقبل عائلتين من كبار عائلات الصعيد، وبعدما كان يجمعهما الموت والانتقام جمعتهما شعلة الحب والمحبة وسرها كان فهد، الرجل العظيم الذي علم عدوه درسًا لن ينساه أبدًا، بل جعله تابع له دون أي مجهود منه، جعله بصفه يدافع عنه وكأنه تناسى بأي صفوف عليه أن ينضم!

الفصل التالي
جميع الفصول
روايات الكاتب
روايات مشابهة